السراج المتقد من مشكاة المعتقد - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح البخاري كاملا الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 641 - عددالزوار : 74674 )           »          الحج والعمرة فضلهما ومنافعهما (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 33 )           »          ٣٧ حديث صحيح في الصلاة علي النبي ﷺ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          قوق الآباء للأبناء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          حقوق الأخوّة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          دفن البذور عند الشيخ ابن باديس -رحمه الله- (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الاغتراب عن القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          آخر ساعة من يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          هاجر… يقين في وادٍ غير ذي زرع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          الغش ... آفة تهدم العلم والتعليم والمجتمعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-02-2022, 04:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,734
الدولة : Egypt
افتراضي السراج المتقد من مشكاة المعتقد

السراج المتقد من مشكاة المعتقد (1)
محمد صادق عبدالعال



نظرات في الربوبية الحَقة


الحمد لله رَبِّ كل مربوب، وكلنا لذاته مقهور ومغلوب؛ فلا المحلق في جو السماء بمستغنٍ عن فضل جوده، أو خارج عن طَوع أمره ومُدوده، ولا المكين المطاع بأرض ملك بمستكفٍ بأشياعه وجنوده، وكل له راغبون رغبة المفتقر لذي العزة والمجد، وحاجة العائذ المستجير لمن يجير ولا يجار عليه؛ وكل له خاضعون خضوع الربوبية الحَقة المستحِقة لكل تقديس وعبادة ويقين بأنه رَب الناس ملك الناس إله الناس"، فاطر الفطرة الأولى وجابل الأفلاك والأملاك لذاته تسخيرًا ومثولًا، فما من دابة تتحرك ولا ساكنة تتفتق ولا جامد يتشقق إلا وعنده المستقر والمستودع، كلٌّ في إمام مبين، ومهما راوغ الملحدون تنصلًا منها ومناصًا أركسوا فيها إركاسًا، وأزهقت أرواحهم لذلك زهوقًا، وصاروا كما الأنعام وقد نفقت نفوقًا إن لم يُقروا بوجود الله إلهًا معبودًا، ونصلي ونسلم على واسطة عِقد الفرائد ودُرة المكارم والمحامد سيدنا محمد، أما بعد:
فقد اجتهدت الأقلام وآراء العلماء على القول بأن الربوبية هي: "‏الاعتقاد بأن الله رب كل موجود؛ أي خالق كل موجود ومدبر أمر الوجود، فلا يشغَله خلق عن خلقِ وهو من التعريفات الشرعية الأصولية".

من اجتهادات الخلق في تفسير معني الربوبية:
وبادئ ذي بدء نستفتح بالمبحث اللغوي لمفردة "الرب"، فاللغة مفتاح لكل مبهم ومسلك، استدراك المراد من الكلام والاستقراء المختصر، ولا يستطيع دارس أن يخوض في دراسة أدبية أو نقدية وهو غير مُلم بمعنى المفردة من الناحية اللغوية، وتَعدُّد مفرداتها ومتشبهاتها وتطابق حروفها جناسًا تامًّا غير منقوص، ويمثل التشكيل والضبط وعلامات البناء والإعراب معايير الفهم لمعنى المفردة المستخدمة، أو محل الدراسة وماهية المعنى العام والخاص لها، وفي معجم المعاني بالبحث عن معانٍ لمفردة (رب) وجدنا:
((والرب: المالك - الرب: السيد - رب الأرباب: الله تعالى، ولو أردنا بعون الله أن نسترسل في لغويات مفردة الربوبية، لبرزت لأقلامنا فيوضات لا حصر لها ولا جسر، لكنها الومضة السريعة التي تعطي إضاءة نيرة وقد صَححت مترادفًا غير معروف، وكشفت من اللغة الغنية بالجمال بديع الحروف. و(رَب الولدَ رَب رَبًّا: ولِيَه وتعهَّده بما يغذيه وينميه ويؤدبه، رَب رَبًّا فهو رَاب، وهو مَرْبوب، وربيب، رَب: (فعل)، رَب رَبًّا فهو رَاب، وهو مَرْبوب، وربيب، رَب رَبًّا، ورِبابًا، وربَابَة، رَب الوَلَدَ: رَباهُ، تَكَفلَ بِغِذَائِهِ وَلِبَاسِهِ، أدَّبَهُ -رَب القَوْمَ: كَانَ رَئِيسَهُمْ وَسَائِسَهُمْ، وبالإجماع على تعريف كلمة رب تكون الربوبية على مثل ذلك من التقديس))، وكلمة ((رَب - تعني السيد المالك المصلح المعبود بحق جل جلاله / رب العالمين، مربيهم ومالكهم ومدبِّر أمورهم، ربب الرب في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام، ويقال: ربَّه، وربَّاه، فالرب مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال الرب مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، نحو قوله: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ﴾ [آل عمران: 80]؛ أي: آلهة، وتزعمون أنهم الباري مسبب الأسباب، والمتولي لمصالح العباد، وقوله: ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 26]، ويقال: رب الدار، ورب الفرس لصاحبهما، وعلى ذلك قول الله تعالى: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 42]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]، قيل: عنى به الله تعالى: وقيل: عنى به الملك الذي رباه، وهو قول أكثر المفسرين، ويرجِّحه قوله: (أكرمي مثواه)، (منسوخ) من قاموس المعاني مفردات القرآن.

رأي اجتهادي:
وتعريفات الربوبية كثيرة ومتعددة تنصرف كلها أن الرب هو السيد والمسوَد رب أسرة كان أو رب عمل، أو قائم على شأن من الشؤون، وعلى هذا الأثر الجليل نقول: إنه من الممكن تقسيم تعاريف الربوبية على معنيين:
الأول: دنيوي، وهو ما يصنع على أعين الناس كرَب لأسرة بحيثيات الوالدية أو الأبن الأكبر أو الأم المعيلة أو صاحب العمل أو المصلحة...... إلى غير ذلك مما يرفع الفرد قَيمًا له حق الطاعة وعليه الكفالة والرعاية، وإن كان ذلك مؤقتًا بإذن الله رب العالمين.

الثاني: ديني: وهو ما حوله ندندن، وهو المنحى الشرعي الفقهي الأعلى، وهو الاخلاص التام لرب لا يفنى، ولا يجار عليه وهو الجائر والمجير والمنصف والنصير، لا يشاركه مشارك ولا ينازعه منازع في واحدة من صفات الربوبية الحقة، وأن ظن جاهل بقوة سلطان وبطش وأعوان أنه مشابه، فقد خاب وخسر!

ومفردة الربوبية الحقة التي يجتهد في سياقها بشكل أفضل وأقدس، كل من تعرَض لمعناها دون إقلال أو تقصير نستطيع الإقرار اجتهادًا بأنها "تمام الكفالة مع ثبات ودوام العناية جبرًا وقهرًا، أو تمام العناية مع ثبات الولاية، وجميعهم يمر بشكل منظم ومرتَّب، ويتنوع ويختلف بمراد صاحب الهَيمَنة تبارك وتعالى عما يصفون علوًّا كبيرًا"، وموجبات كل واحدة منهن بحساب ومقدار سبحانه، والله أعلم بمقصوده، بل إن القرآن الكريم "قد صاغ للربوبية الحقة معنًى عامًّا أعظم شمولًا واتساعًا وأقدس كلامًا"، بمطلع سورة الأعلى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 1 - 3]، إلى آخر الآيات، ومن مجادلة فرعون لنبي الله موسى وأخاه هارون حين سألهما بتهكُّم عن ماهية الرب لديهما ومعطيات وبراهين الانصياع له كمعبود، ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾ [طه: 49]، فكان رد نبي الله الكليم فصيحًا عظيمًا: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50].

إذًا يُمكننا القول: إن الربوبية هي تمام الخَلق مع التقدير والهداية، كل ذلك مقيد بالاستطاعة والقدرة التي لا قِبل لبشر بحدها ولا إحصائها، فما من واحدة من أولئك الثلاثة في يد بشر أو إنس أو جن، ومن يجادل في ذلك نسأله: لو قدر لك أيها الإنسان المعاصر أن تبتغي صناعة أيَّةِ آلة أو تقنية من تقنيات العصر الحديث أو حتى البسيط، ومنعَت عنك أسباب الاستطاعة بفقْد مطلوبات وعناصر تلك الأشياء، أو نقصان مورد من الموارد التي تتطلبها، أو غياب عامل من العوامل المعِينة على إتمام تلك الصناعة، فماذا أنت فاعل؟!

فمن آلية الربط بين هذين التعريفين نستطيع القول اجتهادًا واستنادًا لمنقول رباني: إن الربوبية الحقة هي منح كل مخلوق حقَّه في التكوين والتمكين، ثم الهداية لما جُبل عليه وإليه، وعزَّز هذا الرأي القرطبي رحمه الله وأعلام تفاسير القرآن الكريم بذكر المخلوق ونظيره، أو بذكر الذكر والأنثى عنصري الحياة والإنماء، فمثلًا: الدواب خُلقت لتمشي على أربعة أقدام والطير على اثنتين، ومنهم من يمشي على بطنه، وسبحان الله لم يولد واحد منهم يخالف ما هدي لأجله، ولا يستسيغ طعامًا غير الذي فُطِرَ عليه بأمر خالقه تعالى، فهدى كل مخلوق لما فطره وجبله عليه.

دواعي التعَرض لإشراقات الربوبية الحقة:
إن الدافع الأقوى لتلك الاشراقة التي مَنَّ الله عليَّ بها من نظرة لمعنى الربوبية الحقة، وما أنا بمن تفرَّد بها كتابةً أو دراسة، فأرباب العلم والفقه من قديم وحديث ومعاصر، قد قطعوا فيها أشواطًا، وتقلدوا بما قدموا أنواطًا شرفية مازالت حيةً بحياة هذا الدين الغَض المتجدد الجامع لكل الفضائل، المحيط بكل ثوابت الحق والخير والجمال، وتفاسير علماء الأمة للمفردة من بين إشراقات القرآن الكريم كلما مرت على الأبصار ومَحَّصتها البصائر، فنقَّبوا في القلوب مع العقول عن مَفاد للمفردة، وتوظيف النص القرآني العظيم لها، ولما بدأت حركات التفسير والتأويل للقرآن الكريم تتنامى، والمصنفات فيه تتسامى، وأُتيحت فرصة الاجتهاد المشروط بتقديس النص القرآني عن كل شبيه، والتنزيه لمعانيه وآياته عن أي مناظر أو منافس، فضلًا عن قواعد ثابتة تقطع بأنه لا اجتهاد مع نص، ولعل ذلك ديدن كل غوَّاص في أنهار العربية العذبة حينما تتفتق لرأسه الأفكار النيِّرة التي تجلب القضايا المحيِّرة، وتشغل الأدمغة وهي ذاهبة مع هبات الصفاء الربانية التي تثبت حقيقة جديدة ومعانٍ طال الاستغراق في كنهها زمنًا حتى تشرق الومضة البراقة؛ لتضيء ما بين السماء والأرض، وتَمنحنا معنًى جديدًا من معاني المفردات القرآنية، واِختيارًا فاق تصوَر البلغاء والمعجميين، ومعلوم أن حركات التفسير سَلكت سبلًا فِجاجًا، وتخصَّصت بقدر اجتهادات أربابها، حتى أصبح ذلك ضرورة ملحة بعدما تحركت نوازي الشر والبغضاء ممن في قلوبهم ضب وغِل تجاه هذا الإعجاز اللغوي المتفرد عن أية مشابهة أو مقابلة، فضلًا عن تشعَبات الحياة وتعدد المطالب وتزاحم الرؤى المستقبلية لقضايا الدين، ومحاولات الملحدين المدابرَة بين "العقل والوجدان" في قضايا الاعتقاد، والاعتماد على الجوانب العقلية فقط زعمًا كاذبًا بأن ثمة تنافرًا بين الجانب الوجداني النازع للوشيجة والعاطفة والجانب العقلي المستقر على منطق الحجة والبرهان، فكان جديرًا بأقلامِ العلماءِ الثقاتِ أن تضرج بأحبار الانصاف والإيضاح لكل مُبهم في نظر قليلي الفَهم وكل متربص بالدين ترَبص المناهض والمتتبع لخطوات الملحدين قبل المشركين، وسوف نسعى جاهدين وبما أفاء وسوف يمنن علينا به الله من إنعام وتنوير نتريض بجنان المفردة "الرَب" بعديد من الرؤى لها، واقتباس بعض سطوعها في نورانيات الكتاب الكريم، ولا أظن أنني سوف أستطيع لغيضها حصرًا، ولكنه كما يقولون التعرُّض للنفحات الرائعة في ماهية الربوبية ذات التقديس والإجلال الحق.

وعلى عدة مباحث أو أعمدة نورانية سوف نستشرف من أنوارها الحَقة: وهي اجتهاد وبعض استناد وتَفَرس في إعجاز الأكوان.

المبحث الأول: أزلية التأمين الإلهي على الخلائق كافة: أدلة بالعقل والنقل.
وبمنطق العقل قبل النقل الذي ترفضه الملاحدة وذوو القلوب الجامدة القاسية، فأمثال هؤلاء يرفضون الأدلة النقلية من قرآن وسنة، ويصدرون الأدلة العقلية المرئية بحواس الإبصار والسمع، بغيًا بالغ الجحود بتعارض العقل مع النقل سوف يركس قضية الإيمان بالله وتوحيده والتعزيز لفكر الالحاد والوجودية، لكنهم يبهتون بهوتًا حينما تتراءى لأعينهم ذوات العمى والعمه أن الأدلة النقلية المقدسة من قرآن كريم وأحاديث قدسية ونبوية للنبي المعصوم، لها الغلبة دائمًا حتى ولو لم ينعم الله علينا بالكشف لها في حينه، فيرى أ/ أحمد حسن الباقوري "رحمه الله في كتابه "العودة إلى الإيمان" أن الوجود الإلهي قائم في الذهن السليم من الآفات على التقاء الفكر مع الوجدان التقاءً تنشأ عنه حقيقة هذا الوجود الأعلى وجودًا لا يخالطه ريب، "ويدَلل بأنه لم يكن الوجدان ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان القلب سليمًا، فإياك أن تذهب إلى ما يعتقده بعض السذج من أن ثمة فرقًا في الوجهة مع العقل بمعنى الفكر وبين الوجدان بمعنى القلب"[1].

مثل من الحياة المعاصرة:
ولو أنك أيها الانسان تعمل لدى مؤسسة حكومية قطاع عام أو خاص بقطرك أو ببلد آخر خارج وطنك، فإنه أصبح مألوفًا لديك ما يسمى (بالتأمين)؛ حفاظًا على حقوقك المادية، وضمانةً لك من أية نوازل قد تعتريك مستقبلًا، يكون التأمين الضامن والمطمئن لنفسك ولأسرتك حال وقوع ما لا تشتهي السفن، وهذا في منطق المعاصرة وقوانين العمل المتجددة التحول والتغير بالتأمين الاجتماعي، أو كل ما يقاس على وتيرته من بنود آمنة ومحافِظة على كافة حقوق العامل أو المواطن، ببلد يقطن فيه كفل له دستور المعيشة كثيرًا من ضمانات اجتماعية يلوذ بها وقت احتدام أمره لخطر قادم وداهم، وهذا ما عالج به البشر أنفسهم تشريعاتهم ومسارات حاجاتهم، فما بالنا بتأمين وضمانات الله تعالى لعباده لا للمؤمن به وفقط، بل للعالمين كافة، ولا يشترط في هذا التأمين اختيارًا ولا تميزًا ولا أفضليةَ لأحد على أحد، بل هو مكفول للناس عامة؛ كرسالة النبي للناس عامة لا فرق بين أبيض ولا أحمر أو أصفر، فالأرض كلها بما رحبت تخضع لهذا التأمين والضمان الإلهي جبرًا وقهرًا، ولقد ساق القرآن العظيم مثلًا ممن سبقت لهم من الله الحسنى من أنبياء الله وخليله "إبراهيم عليه السلام"، حين لاذ بملاذه جائع بليل، فآواه وأطعمه فلم أبصره يعبد النار طرده غيرة منه على قضية التوحيد، فعاتبه رب كل المخلوقات، وحتى حين دعا وأراد أن يقتصر فضل الله على جملة أو ثلة المؤمنين راجعه ربه قال: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126]، والشاهد أيضًا بثبوت لربوبية أزلًا من قول الجليل تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

هامش من تفسير الامام ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وتفسير الإمام بن كثير رحمه الله والطبري وغيرهما من أعلام التفسير العظام أن المقصد هو إقرار الوحدانية، وأخذ العهد والميثاق من البشر عامة بأنه الله المعبود بحق والمستحق للعبادة والتقديس، وقوله تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]، استشراف للقادم الذي لا يعلمه إلا الله بأنهم سوف ينكرونه أو يتنصلون منه.

وأسلوب الاستفهام في قوله: ألست بربكم؟ والجواب بنفي النفي للإثبات: قالوا بلى، وبالاتفاق مع تفاسير الأعلام من المسلمين حول معنى الآيات وتفسيرها يشرق لنا جليًّا معنى آخر من معاني الربوبية الحقة المستحقة للنظر والإمعان، وهو إقرار ذراري "آدم عليه السلام" كافة من قبل خَلقه بزمن لا يعلمه إلا الله، وكفى بربك هاديًا ومربيًا ونصيرًا لمن يخشى نوائب الفقر والضياع، فلم يقل الله: "ألست بمِلككم"، أو "ألست بإلهكم"، بل قال: وهو أعلم بما يكفل للخلق جميعًا الأمن والاستعمار بغية الاستقراء الجاد في نظرية الوجود والإله المعبود لشتى صور الإنعام، ومعطيات الربوبية قبل المساءلة بمعطيات الألوهية، وفي هذا الإقرار حجة لله على الخلق قبل أن تكون شهادة له بالوحدانية، والشاهد النقلي من حديثه القدسي الشريف: (عَنْ أَبِي ذَر الْغِفَارِي - رضي الله عنه عَنْ النبِي صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنهُ قَالَ: يَا عِبَادِي! كُلكُمْ ضَال إلا مَنْ هَدَيْته، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلكُمْ جَائِع إلا مَنْ أَطْعَمْته، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْته، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، حتى قوله: يَا عِبَادِي! إنكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُري فَتَضُرونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أَن أَولَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَن أَولَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَن أَولَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُل وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِما عِنْدِي إلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إنمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُم أُوَفيكُمْ إياهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلا نَفْسَهُ"))[2]؛ خلاصة القواعد والفوائد من الأربعين النووية /الحديث الرابع والعشرون.

ولعل إيراد هذا الحديث القدسي الشريف من الحكمة البالغة في مثل هذا المقام، والذي نثبت فيه ونؤكد أن الربوبية الحقة المطلقة لله سواءً تكلم الملاحدة والوجوديون بغير ذلك، فالله أعلى وأعلم سبحانه عما يصفون علوًّا كبيرًا.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19-02-2022, 04:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,734
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السراج المتقد من مشكاة المعتقد

ثانيًا: الترهاتُ الوجودية والحجة الإبراهيمية العليا:
الحكمة والفلسفة تنبعان من عقل رشيد وقلب مطمئن؛ لترتقي نفس صاحبها في فضاءات التفكر، "فما ذكرنا بعاليه أن نبي الله ابراهيم الخليل عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام، قد أعملَ العقل والوجدان معًا، ونشب صراع فطرى بين ما هو محسوس قلبي من أن هذا الكون العظيم له رب أعلى لا يرى، وبين ملموس عقلي من أنجم وكواكب سيارة، فتتبع القرآن مسارات التحول للهداية الإبراهيمية واليقين الأكبر بوجود الله؛ ليثبت لذاته الراشدة وجود رب عظيم لا شبيه له، ولينذر قومًا عبدوا الحجارة، واتخذوها أربابًا من دونه تعالى، فصادف القلب السليم والعقل الرشيد اليقين الصادق، فكان من المرسلين!

وانحدارًا إلى الملاحدة ومدعي الوجودية عن جهالة الذين يروِّجون لسلعتهم العفنة في أسواق العقول الخربة المغبونة في نِعم الفراغ العقلي التي لم تباشر معنًى للإيمان بالله الواحد الحق، وأنه مسير الكون وبارئ كل شيء وخالقه بقدر يقدره ومراد يدبره، وإن تسمع لهم وكأنهم خُشُب مسندة، ترى الواحد منهم يتحدث بصلف أنه لا يعبد من لا يرى رأي العين، وأنه غير خاضع لنواميس الكون التي هي من سلطان الله العظيم ببجاحة يدعي:
أن الظواهر الكونية التي يراها من مطر وبرق أو تحولات فصول أو زلازل وبراكين... إلى آخره، هي حركات طبيعية للكون لا يسيِّرها مسيِّرٌ، ولا يتحكم فيها من لا يرونه، وبحق أريد به باطل يقولون: إن الانسان هو سيد هذا الكون، وأنه وحده المالك لتلك البسيطة بما وسعت، وتلك منحة ونعمة ربانية قد أولاها المولى عز وجل لعباده؛ حيث جعل الآدمي سيدًا لتلك البسيطة منذ أن أسجدَ لآبيه الملائكة سجود تكريم لمخلوق سيكون في الأرض خليفة يستطيع بما أتاه الله من عقل وقلب يلتقيان عند نهر الإيمان، ليغسلا أيَّ أَدران قد عَلِقت بواحد منهما.

ولقد أفاض علماء السلف في ذلك الأمر فيضًا كثيرًا، وردوا الحجة الداحضة على أصحابها، فنالت منهم منال من يقذف السماء بحجارة، فكانت وجوههم الباسرة مستقرًّا لها حين هبطت بفعل جاذبية الحق!

وفي شرح موجز لقضية التوحيد والربوبية الحقة للشيخ برهان الدين إبراهيم بن حسن اللقاني المتوفى 1041هـ، والصادر عن أزهرنا الشريف / لجنة إعداد وتطوير المناهج للمرحلة الثانوية الأزهرية، وبعد تقسيمه مبادئ التوحيد العشرة؛ حيث قال فيما يخص الدليل على وجود الله تعالى وفي شأن الافتراء: "إن الكون قد قام على التسلسل والتوالد؛ أي إن مترادفات الطبيعة من كائنات حية ونباتية وجمادات تتحرك بنمطية التوالد والتسلسل، لا شيء يسيِّرها ولا شيء يوقفها، وما أقرب تلك الفرية لقول الملاحدة بأن الكون صار مصادفة وبتلقائية نمطية فرد العلامة إبراهيم البيجوري بإبطال القول بالصدفة والطبيعة، فنقلت عنه ذلك: ((وهذا الكون الذي نراه في جملته إنما هو من نوع الممكن، أي إن العقل يجزم بأنه لا يترتب أي محال على فرض انعدامه، ويرى أنه من الممكن أن توجد أسباب تعدمه من أصله دون أن يستلزم ذلك محالًا لا يقبله العقل، وكل ما هذا شأنه فلا بد له من مؤثر خارجي يرَجح فيه إحدى جانبي الإمكان على الجانب الآخر، فالعَالم لابد له مِن مؤثر خارجي عنه وقوة عظمى أوجدته، وهي قوته وسلطانه سبحانه وتعالى[3].

وبعد هذا التحقيق أُكِّدَ بطلان القول بأن هذا العالم قد وجد هكذا بدون حاجة إلى موجدِ، أو وُجِدَ بطريق الصدفة المحضة، فبطلان ذلك واضح للعيان، ولا يحتاج فيه لبرهان على حد قوله رحمه الله.

ومثل تلك القضايا قتلت بحثًا وتمحيصًا، وباءت محاولات المستشرقين والمستغربين فيها بالفشل الذريع، بل لم تقف عند حد هزيمتهم النكراء بفضاءات التوحيد لله، بل انقلب السحر على الساحر وصارت شواهد للوحدانية والربوبية الحقة لله عز وجل من قلب قضايا المماراة في وجود الخالق العظيم سبحانه، ومن أمثال من تصدروا هذا المشهد الإلحادي الوجودي "جان بول سارتر وديكارت الفرنسي"، وكثير ممن على شاكلتهم، ما هم بأصحاب هِمم عالية قدر ما هم متربصون بهذا المخلوق الآدمي الدوائر، يدابرون المحسوس والملموس، ويصنعون بكل اتفاق بين القلب والعقل مؤامرة التنافر، ولا يريدون لإشراقات النور أن تسطع في جبين مخلوق إلا بما يرى عيانًا بيانًا أنهم ليكفرون بالرحمن تعالى عما يصفون علوًّا كبيرًا.

وآراء هؤلاء (جان بول سارتر ومارتن هايدغر) وغيرهما، فضلًا عن الماركسية الوجودية التي سعى بول سارتر للتوفيق بينها وبين فلسفته الوجودية، كلها وبشكل عام لا تضر مع اليقين الصادق بالله العظيم ربًّا له الربوبية الحقة، وما هي إلا حركات تعبيرية تطفو على أسطح البرك العفنة بسوءات القائمين على أمورهم في بلادهم، ظنًّا منهم أن مثل تلك الروى سوف تأتي لهم بحقهم المهضوم، واعتقادًا منهم في الحرية المطلقة التي لا يقيدها مقيد هو في الأصل مانحها للعباد جميعًا.

فمثلًا لو تطرَّقنا لنظرية من نظريات الوجودية "جان بول سارتر" التي يرى فيها أن الوجود سبق الماهية وأن كل فرد حر فيما يختار غير مقيد بضوابط دين أو شرع، أو قوله: إن إحساس المرء أنه مسؤول عن المجموع يعد ذلك من موجبات "القلق والجزع" لديه فيما أسماه "نظرية الجزع"، وذلك بخلاف ما قال به غيره، واتَّفقوا جميعًا على تعزيز نظرية الوجودية الإلحادية إثباتًا لذاتهم المعقدة غير القويمة، وأيضًا (مفهوم اللاهوتية)، الذي يقضي ويثبت بأن وجود الله غير صحيح لكونه غير مرئي".

ولا أجد من نفع في الاطلاع أو النسخ لما افترت به أقلامهم وأحبارهم، وانحدرت إليه أدمغتهم من نظريات حطت من وظائف العقل العليا، فحفظت بين طيات الكتب وفي أسفارهم، وعبر مواقع المتصفحات العالمية، فليس الأمر بعسير أن أقوم بنسخ مقاطع "لجان بول سارتر أو ديكارت الفرنسي أو أنجلز أو الماركسية أو الفاشية"، ثم أفَخم بها من دراستي تلك، فغاية ما في الأمر هو أن هؤلاء ليسوا على ملة الإسلام الحنيف هذه واحدة كفيلة وكافية، علاوة عن مراوغات تنَصل هؤلاء من اليقين بالبعث والحساب والجزاء؛ حتى لا تصير هناك روابط أو قيود تمنعهم من الموبقات والفتن!

وفي مناقشة طيبة مع صديقي الأديب والشاعر والمحاضر المركزي بقصور الثقافة بمحافظة الدقهلية والمنصورة" السيد عبد الصمد حول تلك القضية قال لي قولًا أعده حكمة غالية تستدعي الحذر؛ حيث أسَرَ لي قائلًا: "إذا كان الاستشراق مسعى للاحتلال والغزو بكافة صوره، فكذلك الثرثرة الوجودية تعد تمهيدًا للإلحاد والتنصل من مناط التكاليف السماوية بذرائع الحريات.

وأمثال تلك الآراء فقد درست بعضًا منها للأسف في المرحلة الثانوية العامة، وكنت أفزع منها، ولَما تقدمت بي السن للرشد والفهم، أيقنت أن كافة المذاهب الوجودية من لدن "بول سارتر"، ومن على شاكلته جميعها تدور في مدارات ودوائر مفرغة ليس لها من مركز انطلاق سوى الإلحاد لأجل الإلحاد والخلوص بالمتابع لهم والموالي لأفكارهم بالضلال البعيد.

وما أسرده ليس محض افتراء ولا طبل فارغ، بل هو الدهشة ممن أساؤوا لمباحث الفلسفة التي يجدر بمتبعها أن يزداد إيمانًا مع إيمانه، ويقينًا على يقينه، كما أحسن ذلك الصنيع "الإمام أَبْو حَامِدْ الغَزالِي الطوسِي النيْسَابُوْرِي الصوفِي الشافعِي الأشعَرِي، أحد أعلام وفلاسفة عصره، وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، وانتقل من الشك لليقين الصادق، فصار مثلًا للفلاسفة المسلمين الذين يضرب بمنهجهم القويم المثل في مناهضة أفكار الإنكار للوجود الإلهي والربوبية الحقة، والوصول والتلذذ بعذوبة الانتماء لهذا الدين الذي يجبل عليه الناس، ولا يعلم أنه دين القيمة، إلا من أنعم الله عليهم بفيوضات الرضا وكمالات الإيمان.

وحقيق على ألا ننسى أن ننوه لجرم عظيم يرتكبه الوجوديون، ولا زال من على شاكلتهم المأفونة يستند على شفا جرف هار لهم برفضه أدلة النقل القرآنية التي يحار العلم في شأنها كل يوم؛ ليثبت القرآن حقيقةً طمست عن أعينهم، فاستبقوا صراطها وما هم بمبصرين لها ما داموا في غيِّهم وعنادهم يترددون؛ لهم حجة داحضة أن العقل هو وحده أداة الحكم على معايير المعرفة والوجود، وأن كل غير موجود لا يعترف به، فكيف ذلك أيها الأغبياء وأنتم مَن آمن سلفًا بوجود بقانون ونواميس "الجاذبية الأرضية، وعلى مثل ذلك اليقين سرت تجارب العلم ومستحدثات التقنية بناءً على ذلك اليقين غير المرئي؟! فترفضون الأدلة النقلية، وهذا ما يميز المؤمن من الضال الملحد، فالمؤمن كما ذكر القرآن الكريم إذ تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون، والمؤمن الحق يؤمن بالكتاب كله، وإذا قرأ عليهم القرآن يستمعون له إنصاتًا ويزيدهم خشوعًا، على خلاف أولئك الملاحدة ذوي القلوب الجامدة التي أعياها الصلف والكبر والبطر، فلجوا في طغيانهم يعمهون.

إن الأوائل من مسلمي الأمة قد آمنوا بالقرآن الكريم كله برغم اشتماله على نظريات علمية لازال العلم الحديث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يحفد إليها، برغم أنهم لم يلتفتوا لمناحي الإعجازات العلمية فيه بقَدرِ الاستجابة لمطلوبات التوحيد والعبادة في زمانهم، يقينًا منهم أن في هذا الدستور الجديد المناص والخلاص من براثن الشرك والعبودية لغيره سبحانه، وبما أن القرآن الكريم معين لا ينضب ونهر عذب لا يُصيبه جفاف ولا يعتريه نقصان، ففي سابق مقال بعنوان: "الصور الصادمة في أي الذكر المحكمة"، وفَّقني الله عز وجل لتناول ولو بشكل مبسط التفاتًا لتصوير القرآن أعمال الكافرين والأخسرين أعمالًا بملكوت البحار الغائب عن كثير من الخلق كنهه ومترادفاته، فلم يسبق للعلم الحديث معرفة طبقاته ومنازله إلا قريبًا، مما أذهل الباحثين والدارسين ديمومة هذا القرآن في محاكاة ومناظرة كل مستحدث في العلم.

وقد أدرجت ذلك في دراستي الطيبة بشبكة الألوكة النيرة ((ومع كل هذا يمكننا القول: إن السابقين من المسلمين الأوائل لم يعاصروا اكتشافات العلم الحديث والمعاصر لأشياء تحدث القرآن في نصوصه عنها منذ نزوله منجمًا، وذهل المتنطعون بأسبقية الاكتشاف إلى الاعتراف بمصداقية القرآن الكريم في الكشف، وفتح مجال التعلم والاستقراء لهم، حتى ولو لم يسلموا بذلك علنًا أو إنصافًا، فنستطيع القطع بأن السلف من المسلمين قد أخذوا القرآن الكريم جملة واحدة على الصدق لما وجدوه محضرًا في زمانهم من صدق ناقله محمد صلى الله عليه وسلم: "والإيمان المطلق بالله العظيم فضلًا عن فيوضات واتحافات التحقق والصدق في حياتهم اليومية، وفي غزوات النبي والحديث عن الفرائض والعبادات، أيضًا تعد فصاحة العرب اللغوية من العوامل التي لم تجعلهم يلتفتون للتفسير سريعًا، فضلًا عن اهتمامهم البالغ بالتطبيق قبل التفسير، فمما يذكر أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ قوله تعالى: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ [عبس: 31]، فقال: الفاكهة فهذه نعرفها، فما الأب ولم يلتفت لمعناها، ولنستكمل باقي الصور والتشبيهات والكنايات التي عزز بها النص القرآني العظيم معالجة قضايا الشرك والتوحيد، فنذكر منها:
(البحر ومفرداته): فنقول بعد بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجي يَغْشَاهُ مَوْج مِنْ فَوْقِهِ مَوْج مِنْ فَوْقِهِ سَحَاب ظُلُمَات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور40][4].

وهذا الخطر الوجودي الذي يشيع في الناس، ولمواقع التواصل ومنصاته دور كبير في سرعة انتشاره، وإيقاد نار تلك الفتنة، لذا فلن أكون ظَهيرًا لأولئك المسرفين، ومن على هذا النحو الإلحادي أبدأ من نسخ ولصق لآراء وجودية بغية الرد عليها، فكما فعل "الفاروق عمر الخليفة الراشد رضي الله عنه"، والذي نزل في حقه قوله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]، فحري بنا أن نستَن بقوله: أميتوا الباطل بالسكوت عنه، وكما فعل بحرق أشعار كانت تتشح بالإساءة للنبي الكريم، فلم يفتش فيها رضي الله عنه ولم يطلب نشرها للرد عليها، ودحض مضامينها غير الحقيقية ومفتراة؛ يقينًا منه الفاروق عمر بقوله: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]!

وليس هذا هروبًا أو خلوصًا من الدفاع والذود عن قضية الوجود، فإن أعين "الوجوديين" التي طمست بغياهب الباطل، فسَيرتها بمسارات الإلحاد المطلق هروبًا وخلوصًا من الالتزام بالآداب والتشريعات السماوية لكافة الأديان، فكل الديانات مقاصدها واحدة، فمالم تتطرق إليه ديانة من فضيلة بالتفصيل نبهت إليه الأخرى، فجمعت كلها كافة في وعاء "القرآن الكريم" الذي جمع نبأ السابقين واللاحقين؛ ليكون الحجة الكبرى يوم العرض العظيم.

ولا أطيل لكنني سوف أقتدي بمثل عظيم فلم يعثر عليه بكتابات متفيهق قديم أو فيلسوف يوناني، أو روماني أو حتى متنَصِّر، أو مسلم حاد عن جادة الصواب، وانتحى نحو الشهرة مسلكًا يظهره على غيره، بل سأنظر والله المستعان في قضية الفكر التي سطَّرها القرآن الكريم عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، "في واحدة من أكبر سورة القرآن، وهي الزهراء الأولى سورة البقرة"؛ حيث سجَّل القرآن العظيم تلك الاجتهادات الإبراهيمية في الوصول بالعقل والقلب معًا للمفهوم العام المقدس للربوبية، وقد رصد ذلك في آيات محكمات بدءًا من أن جنَّ عليه الليل ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 76 - 79]، والآيات لا تستدعي من المطلع إفهامًا أكثر من القراءة بعين العابد الممجِّد لربه الأعلى، فها هو خليل الله إبراهيم النبي الأمة مكتمل الفضائل والمكرمات، تتبع خطوات عقلية ومرئيات محسوسة، رافضًا أن يكون للإله أفول، فنفى ألوهية وربوبية القمر والكواكب حتى نظر في نجم الشمس، وقد وجد فيه كنهًا عظيمًا من نور ونار، فضلًا عن سطوع وإشراق بتوقيتات محسوبة ومعاصرة كل يوم، بيد أن غروبها جعلها تنجدل في قائمة الموجودات التي لابد لها من مسيِّر أكبر وهو الله رب العالمين.

إنها مرحلة انتقال لرشد عظيم بخليل الله إبراهيم؛ حيث انصرف كليةً عن الاعتراف بعبادة إله يرى وينخسف أو ينكسف، فهداه الله عز وجل للسر الأعظم بوجوده الأزلي رب العالمين.


وبنفس المنطق العقلي والقلبي السليمَين توَصل الخليل إبراهيم للذات العلية حين حاجه النمروذ، فادعى أنه يحيي الموتى، فقطع عليه إبراهيم الطريق بقضية الإشراق والغروب، فبُهت الذي كفر، وللمقال بقية والله المستعان.


[1] سلسلة كتابك / العودة إلى الإيمان / أحمد حسن الباقوري / العدد/36/ ص 16.

[2] شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم حديث /شرح حديث: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم / الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح.

[3] شرح جوهرة التوحيد للشيخ البيجوري / لجنة إعداد وتطوير المناهج بالأزهر الشريف ص/47.

[4] الصور الصادمة في آي الذكر المحكمة (3) ذكرًا وليس حصرًا / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة.. والقلم / الوعي اللغوي / محمد صادق عبد العال.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 80.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 78.79 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]