|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مقدمة في فن التذوق الجمالي الإسلامي هشام محمد سعيد قربان تخنقنا زحمة الحياة، وتُلهينا متاهة مشاغلها الكثيرة، ودوَّامة همومها الصغيرة والكبيرة، فيتسلَّل الحزن -بلا استئذان- ضيفًا ثقيلاً على قلوبنا المُنهكة، ويحاصر القلق رؤوسنا المُثقلة، فيقل إحساسنا وتنعُّمنا بالجمال الكامن، الذي أبدعه الله -جلَّت قُدرته- وأوْدعه في المخلوقات التي تُحيط بنا، ونشاهدها صباحًا ومساءً. لا تُعد هذه الظاهرة أمرًا مُقلقًا إذا كانت حالة عارضة استثنائية ومحدودة، ولكنها بلا شكٍّ تُصبح ظاهرة ضارَّة بالصحة النفسية والجسدية، إذا طال أمدُها واعتادها أصحابُها؛ لأنها تُولِّد الكآبة في النفس، وتخطُّ خطوط الحزن مُبعثرة على وجه الحياة. إن من نِعَم الله -سبحانه- التي نَغفل عنها أنه أضفى الكثير من الجمال على مخلوقاته، ووزَّعها بحكمته؛ لتحيط الإنسان وتُرافقه في كل مكان وزمانٍ بصورها المختلفة؛ ليتأمَّلها، وينعمَ بها، فينشرحَ صدره، وتهْدَأ رُوحه، وترتاح نفسه. إن تأمُّل الجمال -ليس كما يظن الكثير منا- أمرًا طبيعيًّا وعفويًّا، بل هو عادة حميدة ينبغي تعلُّمها وتعليمها بطُرق مُمنهجة ومدروسة، ومراعاتها وصَقْلها، وفي بعض الدول يَحرص المربون على غرْس بذور هذه العادة الجميلة في سنِّ الطفولة المبكرة، وتعليم الأطفال مهارةَ التأمُّل والتذوق الجمالي، وكما تُخصِّص المعاهد الفنية الراقية لطُلابها ومُنتسبيها موادًا علمية تطبيقية، ترتقي بحِسِّهم الفني، وتُثري فَهمهم وتَثمينهم للأعمال الفنية المتنوعة، ولعل هذه المعلومة تُزيل تعجُّب بعضنا، وسخرية الآخرين من مرأى بعض الزائرين للمعارض الفنية، وطول مُكثهم وتأمُّلهم العميق للوحة فنية. إن الفن بصُوَره المختلفة مرآة تعكس بعضًا من خلجات الرُّوح وألوان المشاعر، وتأمُّل الفن شبيه بتلك التموُّجات البديعة والانعكاسات الرائعة على صفحة الماء، وما الفن إلا رسالة من المؤلف إلى الناظر والمتأمِّل، تزداد بهاءً وتتعدَّد زواياها الجمالية بالمزيد من التأمل العميق، والحِسِّ الرقيق والتذوق اللطيف. ما أجملها وما أعجبها من رسالة رقيقة، تَفتح نافذة إلى عالم التأمل الواسع، الذي لا يعرف الحدود ولا يُقِرُّ بها! وكم من تأمُّل فاق في جماله ورِقَّته وعذوبته جمالَ الصورة الأصلية، والفضل لمن قدَح زناد التأمُّل، وأجهد نفسه، ورسَم لنا أو نحَت، أو ألَّف أو صنَع بعضًا من نزف رُوحه ومكنون وِجدانه. إن تأمُّل الجمال حسًّا ومعنًى، ليس أمرًا دخيلاً على حضارتنا الإسلامية؛ فهو من أصول هذا الدين الحق، وكتاب ربِّنا -عز وجل- مملوء بالحث على التعبُّد بالتأمل والنظر: أفلا ينظرون، أفلا يتفكرون، وزينة، وجمالاً حين تُريحون، وفي سُنة المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأعطر السلام-: ((إن الله جميل يحب الجمال، وحُبِّب إليّ من دنياكم الطِّيب والنساء، وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة، زيِّنوا القرآن بأصواتكم)). وعائشة أم المؤمنين تتَّكئ على الرسول الأعظم، وهي تشاهد عرضًا عسكريًّا فنيًّا للأحباش يُقام داخل المسجد، نعم داخل المسجد! وأحسنُكم أحاسنكم أخلاقًا. ارتقى الإسلام بالتأمل الجمالي، فلم يجعل التأمُّل غاية ومطلبًا في ذاته، بل زاده شرفًا حين جعله وسيلة لأعظم غاية وأشرف مقصود، فتأمَّل جمال الصنعة الحسي والمعنوي من المنظور الإسلامي؛ ليبلغ أبهى صوره، ويَلبس أجمل حُلله، حينما يُدِلُّ صاحبه ويُذكِّره بعظَمة الصانع، ويَملأ قلب المتأمِّل توحيدًا وإجلالاً، وخضوعًا وحبًّا لمن خلَق فسوَّى وأبدع، وأحسن كل شيء خلَقه، ثم هدى، إجلال يملأ المتأمِّل حبًّا وتأدُّبًا مع الله -عز وجل- في اتِّباع ما أمَر، والبعد عما نهى عنه وزجَر، إجلالاً للمعبود يُصفي نيَّة العامل، فيتعبد الله بعمله، ويرتقي في مدارج الإتقان والإحسان. إن للجمال ضوابطَ ومقامات ودرجات ومُفاضلات، فحب الجمال الأعلى يُبعد المؤمن عما دونه، فجمال الروح وصفاؤها ونقاؤها، مكسبٌ أعلى وأغلى من نظرة عابرة، إلى جمال لم تتوفَّر شروط حِلِّه، والكبر والمَخيلة وغَمْط الحق، قُبح لا يستقيم معه جمال، وجمال روح الصائم التقي النقي، لا يَكمُل إلا بترْك قول الزور والعمل به، وجمال الصيام والصدقة والعبادة، يزول ويَضمحل ويخبو حين يُزاحمه قُبح المعصية في قول فاحش، وإيذاء جار، وخصومة وغشٍّ وقطيعة رحِمٍ. يا لها من عادة جميلة، ويا ليتنا نتعلمها بآدابها وضوابطها الشرعية، فهي كفيلة بأن تُنسي الإنسان بعض همومه، وتُروِّح عن قلبه، وتجعل ابتسامة الأمل والرضا تُشرق على وجهه، وحَرِيٌّ بكل إنسان -مهما ادَّعى التشاغل أو اعتذر بالمشاغل- ألا يَحرم نفسه من هذه التأملات الجميلة المُبهجة. يا لها من حسرة، وما أعظمه من حِرمان حينما يمر أحدنا مسرعًا مشغولاً مهمومًا بجوار الزهور والزنابق الحمراء والصفراء، ولا يَلحظها ولا يكاد يراها، وهي تتراقص فوق العُشب الأخضر. لِم لا يقف لمدة نصف دقيقة ويترجل فيها عن عجَلة الحياة اللاهثة، بل يوقف فيها العالم أجمع؛ ليتأمَّل الزهرة، ويستمع إلى نعومتها ورِقَّتها وهي تدعوه بصوت هامس أن يبتسم؟! إن هذه التأملات المُفرحة لا تنحصر في الزهور والورود والرياحين، بل تشمل كل المخلوقات، ولكن على المرء أن يتعلَّم كيف يحرِّك ويستثير حواسَّه كلها؛ ليبحث عن الزوايا الجميلة في كل ما يُحيط به، وعندئذ سوف يُمتع ناظِرَيه بزُرقة السماء، واللون الخشبي على مكتبه، ونعومة الجلد المدبوغ في محفظة نقوده، وانعكاس الصور على زجاج سيارته، وتمايُل الاغصان، ونقوش الظلال، ورائحة القهوة، وطعم الحلوى، وبسمة صديق، وانحناءة جميلة في توقيعٍ، وصورة بلاغية ورمزية مدهشة، وضحكة بريئة، وغناء عصفور. ابحث عن الجمال حولك، وانْعَم به في وقفات قصيرة، واهْده وانْثِره على من حولك؛ لتزور فيها بسمة الرضا والأمل نفسك المُتعبة، فتُروِّح عنها لبعض الوقت، وتُذكِّرها بأن الحياة ليست -كما نتوهَّم أحيانًا- صحراءَ جامدة قاحلة، فهي ملأى بالكثير والكثير من ينابيع السعادة وواحات الأمل، ولا يهتدي إليها إلا من تعلَّم فنَّ التأمل، واستمع إلى همسات الزهور.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |