أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 304366 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 199 )           »          5 أفكار لدمج ورق الحائط فى ديكور البيت.. موضة 2025 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          لنوم هادئ ومريح.. 8 نباتات احرص على شرائها فى غرفة نومك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          طريقة عمل سلطة البطاطس المقلية بالصوص والأعشاب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          لو عندك برطمانات زجاجية.. اعرفى إزاى تنضفيها فى 5 خطوات سهلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح البشرة بخطوات بسيطة.. من الكركم للعرقسوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          5 طرق فعالة تخلى غسيلك الأبيض مزهزه.. بعضها مكونات طبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          8 عادات مسائية ابعد عنها لو نفسك تكون ناجح.. السهر العشوائى الأسوأ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          7 حيل لمكياج ثابت فى الحر.. حضرى بشرتك صح وما تنسيش بودرة التثبيت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-12-2023, 03:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,064
الدولة : Egypt
افتراضي أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب

أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب (الجزء الأول)
يحيى بن حسن حترش

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفرهن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فيا أيها المسلمون عباد الله، في ظل هذه الأحداث المتلاحقة، وهذه الأخبار المتكاثرة، في ظل طغيان الماديات، والملهيات، والمغريات، وانشغال الناس عما هو آت، دعونا اليوم نترك الدنيا وراء ظهورنا، ونبعد الأخبار، والأوضاع، والأحداث من أذهاننا، ونقف مع أوضاع، وأهوال، ومشاهد لطالما نسيناها، وتغافلنا عنها، من خلالها تحدد السعادة الأبدية، أو الشقاوة السرمدية.

دعونا نقف مع الأهوال، والشدائد التي تحصل في ذلك اليوم العظيم، مبتدئين ذلك بالنفخ في الصور، بتلك النفخة التي تفك أواصر هذا الكون، وتدمر عراة، يوم يأمر الله ملكًا يُدعى إسرافيل أن ينفخ نفخة عظيمة من خلالها يصاب الكون كله بخلخلة عنيفة، تنحل بها كل الروابط التي كانت تربط بين أجزاء هذا الكون، فينفخ في الصور نفخاته التي بها يموت الناس ويبعثون.

ونفخاته قيل: هما نفختان، وقيل ثلاث، والذي رجحه كثير من المحققين أنها ثلاث نفخات، النفخة الأولى هي نفخة الفزع، يقول - سبحانه وتعالى-: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87]، إلا من شاء الله، من هذا الذي لا يفزع؟ الله أعلم؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وهذه هي النفخة الأولى.

فقد روى الإمام أحمد، وحسنه الألباني رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم؟! – أي: كيف أهنأ، ويطيب عيشي في هذه الحياة-؟ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!»[1].

وفي رواية عند الحاكم، وصححها الألباني رحمهما الله، قال: «إن طرف صاحب الصور منذ وكِّل به ينظر نحو العرش؛ مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان!»[2].

هذه النفخة الأولى-يا عباد الله- تمتلئ منها القلوب رعبا، وفزعا!

وتأمل إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].

تصور يا عبد الله، ثم تأمل أمًّا تنسى رضيعها، بل وتلقيه على الأرض من هول ما تسمع، وهو أحب الناس إليها، وهي من أرحم الناس به، لكنها تنشغل عنه في حال إرضاعها.

وتضع كل ذات حمل حملها، ثم تأمل إلى المرأة كيف تسقط جنينها من بطنها؛ لهول الرعب الذي سيطر على قلبها! نسأل الله أن يهون علينا تلك الشدائد، والأهوال!

قف بقلبك، وكيانك- يا عبد الله- وتأمل ما الذي سيحصل لهذا الكون؟ تأمل إلى هذه السورة التي تقرؤها، وترددها، وتحفظها، فلقد روى الإمام أحمد، وصححه الألباني رحمهما الله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1][3] يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾؛ أي ذهب ضياؤها، وراح نورها، و﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [التكوير: 2] تناثرت، وأظلمت، وسقطت في البحار فتصير معها نيرانًا، و﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 3] تدك في الأرض تدك دكًّا، وتنسف نسفًا، وتصبح الجبال كالعهن المنفوش، بعد أن كانت حجارة صلبة، تصبح كثيبًا مهيلًا، تكون هباءً منبثًّا وسرابًا، ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ [التكوير: 4]، العشار هي خيار الإبل، عطلت، أي: انشغل الناس عنها بعد أن كانت من أحب الأشياء إليهم، ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 5] جُمعت وهي مرعوبة، وفزعة، بعد أن كانت ترعب الناس، وتخوِّفهم، ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ [التكوير: 6]؛ أي: تأججت نيرانًا، وقيل: غار ماؤها وذهب.

﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [التكوير: 7]: عادت الأرواح إلى الأجساد، أو رجع كل شيء إلى نظيره على أحد التفسيرين.

وبعد أربعين من هذه النفخة، هل هي يوم؟ الله أعلم، شهر؟ الله أعلم، سنة؟ الله أعلم. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون». قيل - يا أبا هريرة-: أربعون يومًا؟ قال: أبيت! أربعون شهرًا؟ قال: «أبيت، سنة؟ قال: أبيت» [4]، أي: أبيت أن أسأل النبي عليه الصلاة والسلام. وبعد أربعين لا يعلم حقيقتها إلا رب العالمين، يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور، نفخة الصعق؛ وهي النفخة الثانية، ومن العلماء من جعلها ونفخة الفزع نفخة واحدة، لكن الذي رجَّحه كثير من المحققين أن هناك فرقا بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق. يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68].

فعند أن يصعق من في السماوات ومن في الأرض، ويهلك كل شيء إلا وجهه سبحانه وتعالى، وفي وسط هذا السكون المذهل ينطق صوت جليل ومهيب، ينادي الله في عليائه ويسأل ويجيب، ويقول: ﴿ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، ثم يجيب نفسه سبحانه وتعالى ﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾.

ويقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وفي لفظ مسلم: «أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»[5] وبعد أربعين لا يعلم حقيقتها إلا رب العالمين، يرسل الله تبارك وتعالى ماءً ينزل على الأرض مطرًا - أي: كالطل - كما عند مسلم، وهو كمني الرجال، فتنبت منه أجساد الناس، وفي لفظ، فينبتون منه كما ينبت البقل، فتنبت الأجسام تحت الأرض، أو في القبور بعد الصعق، فإذا أراد الله أن يُحيي خلقه أحيا إسرافيل، وأمره أن يلتقم الصور، وأن ينفخ فيه النفخة الثالثة، ألا وهي نفخة البعث من القبور. فيؤتى بالأرواح تتوقد، أرواح المؤمنين نورا، وأرواح الكافرين تتوهج ظلمة، فتعاد الأرواح إلى الأجسام، فيخرج الله كلَّ مخلوق من لدن آدم - عليه السلام - إلى تلك الساعة. ويُنبت الله أجساد الناس من عظمة دقيقة جدا تسمى عجْب الذنب!

تأمل معي ما رواه البخاري، ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو الذي لا ينطق عن الهوى - قال: «ليس من الإنسان شيء إلا ويبلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» [6].

وهذا العظم هو أول ما يخلق من الإنسان، ومكانه في أسفل الصلب، وعظمه لا يزيد على حبة العدس، وهذا لم يكتشفه العلماء إلا في السنوات المتأخرة.

لا إله إلا الله! تخيل ثم تخيل يا عبد الله هذا المشهد الرهيب، ها هي القبور تنشق في كل أنحاء الأرض، وهاهم الخلق يخرجون من تلك القبور الموحشة، كل واحد يخرج من قبره، وينفض التراب من على جسده، وهو يشخص ببصره في اتجاه واحد، إلى الملَك الذي يقودهم إلى أرض المحشر للحساب، والوقوف بين يدي الله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108].

أيتها العظام البالية، أيتها الأجساد العارية، أيها الناس، لقد حان وقت القيام للوقوف بين يدي الله - عز وجل- هذا الموقف الذي لطالما ذكرتم به، وخوفتم منه، ها هو الكون كله يتجه إلى أرض المحشر للوقوف في تلك الأرض لانتظار بدء الحساب. ها هم الخلق يخرجون من قبورهم، ويبعثون على ما ماتوا عليه، ها هو المجاهد يخرج من قبره، وجرحه ينبعث دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك! ها هو الحاج يخرج من قبره وهو يقول: لبيك اللهم لبيك!

ها هم أكلة الربا يقومون وبطونهم منتفخة، إذا أراد الواحد منهم أن يقف، أو يمشي لا يستطيع، بل يقع على الأرض، يقول - سبحانه وتعالى-: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]، ها هم أكلة أموال اليتامى، ها هم أهل الغدر، ها هم أهل السرقة، وقطاع الطرق، كلهم يبعثون على اختلاف جرائمهم، ومعاصيهم، يبعثون في هذا اليوم، وما أدراكم ما ذلك اليوم؟! يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الزلزلة، والواقعة، والراجفة، يوم الغاشية، والآزفة، والحاقة، والطامة، والصاخة، يوم القرار، إما إلى جنة، وإما إلى نار!

نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم!
™˜™˜
(الخطبة الثانية)
الحمد لله العزيز الحميد، كتب الموت على العبيد، وتعالى أن يفنى، أو يبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

وما زال للحديث بقية في مشاهد يوم القيامة، وبعد أن تنشق القبور بأهلها، وتُخرج الأرض كل من فيها، يبعث الله الخلائق كلها، و يا ترى من هو أول المبعوثين منها؟ إنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، روى الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع»[7]، بأبي هو وأمي وروحي عليه الصلاة والسلام.

وأول من يُكسى هو نبي الله إبراهيم عليه، وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وحين أن يبعث الناس؛ يخرجون من قبورهم حفاة، عراة، غرلًا- أي: غير مختونين - كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104].

تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: يا عائشة: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك!

يا رب، سلم! سلم! ها هي البشرية تجمعت خلف ملَك من ملائكة الله، يقودهم إلى أرض المحشر، قال -تعالى-: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].

عند ذلك يبدأ الناس بتصنيف عجيب، فيحشر صنف على قدميه، وصنف عندما يبعث من قبره يرى الملائكة تستقبله، وتنتظره وقد هيأت له من ركائب الآخرة ما لا يعلم جمالها إلا الله، قال سبحانه وتعالى ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 85، 86]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 31]، ويُحشر صنف من الناس على وجهه، لا إله إلا الله!

تخيلوا يا عباد الله، مشهد يخلع القلب، وجهه على الأرض، ورجله في السماء، قال - سبحانه وتعالى-: ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الإسراء: 97]، قال رجل - كما في الصحيحين -: كيف يحشر الكافر على وجهه رسول الله؟ قال «أليس الذي أمشاه على رجليه قادرًا على أن يمشِّيَه على وجهه يوم القيامة؟!»[8] قال قتادة: «بلى وعزة ربنا!».

فإذا وصلت الخلائق جميعا إلى أرض المحشر، وأرجو أن نتدبر بقلوبنا، وأسماعنا، وعقولنا ونحن نرى البشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة، يحشرون في أرض بيضاء، عفراء كقرص النقي، - أي: كالدقيق الأبيض الشديد البياض - والأرض حينئذ ليس فيها معلَم لأحد، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، ويقول - سبحانه وتعالى-: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47].

وفي ذلك اليوم تقترب الشمس من الناس حتى تكون منهم على قدر ميل، يقول العلماء: إن بيننا وبين الشمس في الدنيا ثلاثة وتسعون مليون ميل، ومع ذلك انظروا كيف يحصل لبعضنا من الحر والضيق في وقت الظهيرة. والناس في ذلك الوقت على قدر أعمالهم - أي: عندما تكون الشمس على رؤوسهم - منهم من يكون عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يصل عرقه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا؛ وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فمه، ثم يزداد الكرب، والهم بعد ذلك، حين يؤتى بجهنم تزفر، وتزمجر غضبًا منها لغضب ربِّها؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 23، 24].

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «يؤتى بجهنم يومئذ ومعها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها».


مشاهد - أيها الناس - والله لو تأملنا فيها لطار النوم من أعيننا! الشمس فوق الرؤوس، والناس غارقة في العرق، وجهنم تزفر وتزمجر لغضب ربها، مشاهد رهيبة لا يستطيع بليغ ولو ألقت إليه البلاغة أعنتها؛ أن يصفها، حتى إن الكرب، والهم، والغم، يلحق حتى الرسل عليه السلام فقد روى البخاري، ومسلم، - في حديث الشفاعة- عن أبي هريرة رضي الله عنه... وفيه: أن الناس يأتون إلى الأنبياء، وكل واحد يعتذر ويقول: «نفسي نفسي، اذهبوا إلى فلان، ثم يذهبون في الأخير إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسألون منه أن يشفع لهم عند ربهم»، فيقول عليه الصلاة والسلام: « أنا لها! أنا لها! قال: فأنطلق فأسجد تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي، ويلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعطى، واشفع تُشفع. وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأنبياء، فماذا يقول الرحيم؟ فماذا يقول الكريم؟ ماذا يقول الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟ يقول: اللهم أمتي أمتي! اللهم أمتي أمتي!»[9].

ثم بعد ذلك تتنزل الملائكة لتحيط بالخلائق من كل جانب، ثم يتنزل حملة العرش، فيقول أهل الأرض للملائكة: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، هو آت، هو آت! يقول سبحانه وتعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22].

ثم ينادي الله على آدم فيقول - كما في الصحيحين -: يا آدم فيقول: « لبيك، وسعديك، والخير في يديك، قال: يا آدم، أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟! قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وواحد في الجنة، فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد»! قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ أي: الذي سيدخل الجنة، قال: «أبشروا فإن منكم رجلًا ومن يأجوج ومأجوج ألفًا»، ثم قال: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة!»، فكبرنا، قال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود!» [10].

ثم ينادي الله نوحًا - كما في صحيح البخاري- قال عليه الصلاة والسلام: «يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول لأمته: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول الله: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، قال عليه الصلاة والسلام: فتشهدون أنه قد بلغ»[11]، فذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

وفي رواية ابن ماجه بسند صحيح: قال: «وما عِلمُكم بذلك؟ - أي وما أدراكم يا أمة محمد أنه قد بلغ؟ قال: فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك فصدقناه. يعني: آمنا بكل ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم » [12].

ثم ينادي الله على عيسى؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، ثم ينادي الله على جميع الرسل في ذلك اليوم فيقول: كما قال في كتابه الكريم: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109]؛ قال الحسن، ومجاهد، وغيرهما: «إنما قالوا ذلك من الهول، والفزع، والرعب»!

ثم في ظل هذا الرعب، الرهيب، وأمام هذا الموقف المهيب، لا توجد بحار، ولا أنهار، ولا أشجار، وإنما أرض بيضاء مثل الدقيق الأبيض الصافي، ينادي الله في هذا الموقف، والشمس فوق الرؤوس على مجموعة من الخلائق ليظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فمن هؤلاء؟ من هؤلاء؟ إنهم: «الإمام العادل، والشاب الذي نشأ في عبادة الله، والرجل الذي تعلق قلبه في المساجد، والرجلان تحابا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» [13].

وكذلك ورد هذا الفضل في أحاديث أُخر، كمن أنظر معسرًا، أو وضع عنه، ثم يبدأ الحساب وهذا المشهد من أصعب مشاهد يوم القيامة، لكنا سنؤخر الكلام عنه إلى الجمعة القادمة إن شاء الله، ونسأل الله أن ييسر حسابنا، ويُيَمن كتابنا، ويرحم ضعفنا، فهو أرحم بنا من أنفسنا.......

[1] رواه أحمد (3008)، والترمذي (2431).
[2] رواه الحاكم (8676).
[3] رواه الترمذي (3333).
[4] رواه البخاري (4814)، ومسلم (2955).
[5] رواه مسلم (2788)
[6] رواه البخاري (4935)، ومسلم (2955).
[7] رواه مسلم (2278).
[8] رواه البخاري (4760)، ومسلم (2806)، عن أنس رضي الله عنه.
[9] رواه البخاري (3340) ومسلم (193).
[10] رواه البخاري (3348)، ومسلم (222).
[11] رواه البخاري (3339).
[12] رواه ابن ماجه (4284).
[13] رواه البخاري (660)، ومسلم (923).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-12-2023, 03:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,064
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب

أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب
يحيى بن حسن حترش

(الجزء الثاني)



الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفرهن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله، لقد كان تحدثنا معكم في الجمعة الماضية عن بعض ما يحصل من أهوال يوم القيامة، وكنا قد توقفنا، وانقطع الحديث بنا عند مشهد عظيم، من مشاهد ذلك اليوم العظيم ألا وهو مشهد الحساب؛ نسأل الله أن ييسر حسابنا، ويعفو عنا!

ويبتدئ هذا المشهد بتطاير الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14]، فتعالوا بنا لنتأمل في هذا الموقف العظيم، ولكن قبل أن يبدأ الحساب ستحصل هناك كرامة لهذه الأمة المحمدية المرحومة، فسيدعى فريق من أمة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ليدخلوا الجنة بغير حساب، ولا عذاب. فلقد روى الإمام أحمد، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن ربي وعدني أن يُدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا، لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا، وثلاث حثيات من حثيات ربي»[1].

نسأل الله من فضله!

وفي لفظ عند ابن حبان: «ثم يُتبع كل ألف بسبعين ألفًا»، وهؤلاء السبعون، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون؛ كما قال عليه الصلاة والسلام

فاللهم لك الحمد على هذه الكرامات، وهذه الرحمات، وهذه البشريات.

ولابد أن نعلم - أيها الناس- أن هذه الكرامات ينبغي ألا تملأ قلوبنا جرأة على الله، بل تملأ قلوبنا رجاءً في الله، وسعة رحمته سبحانه.

وبعد أن تدخل هذه الزمرة الكريمة إلى الجنة بغير حساب؛ يبدأ الحساب بالعرض، ويبدأ بتطاير الصحف، فلك الآن أن تتصور، وتتخيل هذا الموقف، ولكن قبل ذلك نقول: هل قد حضرنا يومًا محاكمة في محكمة من محاكم الدنيا؟ ورأينا ذلك الرجل يصرخ قبل الحاكم بصوت عال، ويقول: محكمة، والكل ينصت لقوله، وتدخل هيئة المحكمة، ويتوسط الهيئة رئيس المحكمة، وبعد جلسات، ومداولات، ومرافعات، يبدأ رئيس المحكمة في النطق في الحكم، ونحن نرى وجوه الحاضرين؛ منهم من تسيل دموعه على خدوده، ومنهم من تندى العرق من جبينه، ومنهم من قد تملكه الخوف والقلق، واستحكم عليه الفزع والأرق، وترى أبصار الحاضرين شاخصة، وأسماعهم مصغية، ومنتظرة إلى حكم رئيس المحكمة، إلى حكم هذا الحاكم الضعيف، الذي لاحول له ولا قوة، وهذا كله في محكمة من محاكم الدنيا الدنيئة.

بالله عليك يا عبد الله، وقل لي بربك هل تصورت هذه اللحظات وأنت واقف بين يدي الله، وعار كما خلقك الله، تتقدم لتقف بين يدي الله، وتسوقك الملائكة سوقا إلى الله، يقول الله: ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21]، تساق سوقًا إلى الله، وينادى عليك باسمك الذي كنت تعرف به في الدنيا: يا فلان يا فلان بن فلان، أقبل على العرض بين يدي الله، فيقرع هذا النداء قلبك، وترتعد منه فرائصك، وتضطرب جوارحك، فتقبل ليكلمك الله؛ كما روى البخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان! فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة!»[2].

فان كنت يا عبد الله من السعداء -ونسأل الله أن يسعدنا جميعًا في الدنيا والآخرة-، فيضع عليك رب العزة ستره، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، أي: سترة، فيستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: إي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكافر، والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين!»[3].

فينطلق المؤمن في أرض المحشر وكتابه بيمينه، وهو يبحث عن أهله، وأحبابه ويقول لهم هاؤم اقرؤوا كتابيه.

وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله، ثم يقول: يا ليتني لم أُوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه.
يا حسرتا من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه




فيا عباد الله هل تفكرنا في هذه المواقف؟ وهل تفكرنا في هذه الأحوال، وهذه الأهوال؟
يأيها العبد العاصي: أتدري أنك ستقف بين يدي الله، أتدري يا من أنت غارق في بحار هذه الدنيا الدنيئة أنك عما قريب ستتركها، وعما قريب ستودعها، فإنك إذا مت فقد قامت قيامتك، هل جلست مع نفسك يومًا، ونظرت في أيام عمرك، وحياة شبابك ماذا فعلت فيها؟ أين صرفتها، وقضيتها؟ ماذا قدمت لنفسك في صحيفتك التي ستؤمر بقراءتها، وتجد كل ما عملت فيها؟!
تذكر وقوفك يوم العرض عريانًا
مستوحشا قلق الأحشاء حيرانَا
النار تلهب من غيظ ومن حنق
على العصاة وتلقى الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهَل
فهل ترى فيه حرفا غير ما كان
لما قرأت ولم تنكر قراءته
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
وامضوا بعبدي إلى النيران عطشانا

أيها المسلمون عباد الله، إن الإنسان مهما عمل في هذه الدنيا من عمل فسيجده مسطرًا في كتابه، ولو كان مثقال ذرة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، مهما غاب العبد عن أنظار الناس، مهما عصى وبغى، وتعدى وطغى فسيجد ذلك كله في يوم القيامة حاضرًا: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

وفي ذلك اليوم سيظهر لك شهود - يا عبد الله - ما كنت تتوقع أنهم سيشهدون عليك، وأنت الذي لطالما كنت تمتعهن، وتدافع عنهن، إنهن أعضاؤك، وجوارحك، سينطقهن الله ويكن عليك شهودًا، فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: «هل تدرون مم أضحك؟» قلنا الله ورسوله أعلم! قال: «من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، فيقال: لأركانه انطقي. قال: فتنطق بأعماله، ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول بُعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أدافع! فعنكن كنت أناضل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]»[4].

ويقول - سبحانه وتعالى-: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 19، 20].

ومن رحمة الله بهذه الأمة - أمة محمد عليه الصلاة والسلام - أنها أول من ينادى عليها بالحساب، وأول أمة تدخل الجنة؛ فلقد روى الإمام ابن ماجه، وصححه الألباني رحمهما الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون»[5].

فأمة محمد عليه الصلاة والسلام هي أول من تحاسب.

ومن أول من يحاسب من هذه الأمة؟ من أول من ينادى عليهم للحساب؟ هل هم أهل الكبائر؟ هل هم أهل القتل والجرائم؟! لن تصدق إن قلت لك: إنهم قراء القرآن؟! إنهم الشهداء، إنهم الأسخياء الكرماء.

روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء؛ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!»[6].

تخيل هذا الرجل الذي سال دمه، وقطعت رقبته، اغبرت قدماه، قدم نفسه، وروحه، لكن من أجل من؟ في سبيل من؟ انظروا إلى عظم وقدر الإخلاص لله عز وجل، «ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!»

اللهم استرنا ولا تفضَحنا يا رب العالمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا يا رب العالمين، تأمل ثم تأمل، عالمًا ملأ الدنيا ضجيجًا، وكلامًا وعلمًا، عالمًا دخل علمه لكل بيت، ولكل مسجد، عالمًا تسابق الناس وتزاحموا على شراء كتبه، وسماع محاضراته، يُجر على وجهه في النار، يا رب سلًّم سلِّم، وارزُقنا الإخلاص يا رب العالمين! قال: «ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار!».

نعوذ بالله من غضب الله، وأن تكون أعمالنا لغير الله!

يأيها المقاتل، يا أيها المجاهد: إن لم تقاتل من أجل الله فلا تتعب! يأيها العالم، يا صاحب المؤلفات يا قارئ القرآن ويا صاحب القراءات، إن لم يكن حفظك للقرآن، وطلبك للعلم من أجل الله فلا تتعب! يا أيها التجار، ويا أصحاب الأموال، يا أصحاب المشاريع الخيرية، ويا أصحاب الأعمال الإغاثية، إن لم تكن أعمالكم لله فلا تتعبوا! لا إله إلا الله!

وبعد مشهد الحساب هل يا ترى انتهت مشاهد يوم القيامة؟ لا، وكلا، فبعد الحساب تنصب الموازين. فالحساب لتقرير الأعمال، والموازين لبيان مقدارها، ليكون الجزاء على حسبها.

فالميزان أيها الناس قضية خطيرة، وجليلة، ونحن المؤمنون نؤمن بالميزان، ونعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا يعلم عظمته، وحقيقته إلا الله، فقد روى الحاكم في مستدركه وصححه الألباني رحمهما الله، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزنت فيه السماوات والأرض لوسعهما، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك!»[7].

وقد أثبت الله الميزان في غير ما آية من كتابه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 103].

وقد اختلف العلماء في الذي يوزن، هل هي الأعمال؟ أم الأجساد؟ أم هي الصحف؟ بكلٍّ قال العلماء، وقد يشكل على بعض الناس كيف توزن الأعمال وهي أعراض وليست أجسامًا؟، فالجواب: أن الله قادر على كل شيء، قادر على أن يحول الأعراض إلى الأجساد، كما أنه سيجعل الموت بصورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، كما قال عليه الصلاة والسلام.

فالميزان سينصب وستوزن فيه أعمال العباد، ولا يظلم ربك أحدًا: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 9]؛ يقول ابن كثير رحمه الله: « فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ».

وما هذه الواحدة؟ الله أعلم، قد تكون بسمة ابتسمتها في وجه أخيك أو أختك، أو في وجه زوجتك وأولادك، قد تكون صدقة تصدقت بها على جيرانك، قد تكون سجدة سجدتها، أو محاضرة حضرتها أو سمعتها، فلا تحتقر من الأعمال شيئا فإنك لا تدري أية حسنة سيرجح بها الميزان، وتكون سببًا في دخولك الجنان، بإذن الكريم المنان.

نسأل الله الكريم من فضله، وأن يرحمنا برحمته! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور!

الخطبة الثانية

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أيها المسلمون عباد الله، بعد أن توزن أعمالنا كلها، ستظهر معاييرنا الحقيقية عند ربنا، فهناك لا نوزن بجمالنا وأحسابنا، ولا بأموالنا وأنسابنا، وإنما بأعمالنا، وطاعتنا لربنا، ستظهر قيمتكم أيها المصلون الساجدون، ستثقل موازينكم أيها المحسنون المتصدقون، ستعلو مكانتكم أيها العلماء العاملون، ستسعدون سعادة لا شقاوة بعدها، وستدخلون جنة طابت وطاب نعيمها، بإذن الله تعالى.

وهنا سؤال في غاية الأهمية، ما هو وزني ووزنك عند الله؟ أقول لك: ما قاله رسول الله، فيما صححه الألباني رحمه الله: «إذا أردت أن تعرف ما عند الله لك؛ فانظر ما لله عندك»، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هناك أعمالًا تثقل الميزان، فمن ذلك سبحان الله، والحمد لله، كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى لرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!

فثقل ميزانك وأنت جالس على فراشك، وأنت تمشي في طريقك، قض أوقاتك بطاعة ربك، اشغل حياتك بما يقرِّبك إلى خالقك، فالعمر قصير، والموت قريب: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8].

كذلك مما يثقل الميزان، بل لا يثقل معه شيء، كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! قال ألك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل! فيقول: لا يا رب! فيقول بل إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وسط البطاقة، قال: ولا يثقل مع اسم الله شيء!» [8].

سبحانك! ما أعظمك! ما أرحمك! ما أكرمك! ما أحلمك! هنيئًا ثم هنيئًا لكم أيها الموحدون أن أكرمكم الله بالتوحيد! هنيئًا لك أيها المسلم على نعمة الإسلام، وعلى العيش في بلاد الإسلام!

عش فقيرًا أيها المسلم في بلاد الإسلام، عش مريضًا مدينًا، كئيبًا، يكفيك نعمة الإسلام، وأنعم بها وأكرم، فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.

ثم بعد الميزان يكون الحوض، وما أدراكم ما الحوض؟! وهنا تظهر منقبة عظيمة، ومنزلة شريفة لأهل اليمن، وأصحاب الإيمان والحكمة، فهم أول من يشرب من حوض نبيهم عليه الصلاة والسلام، وتعظم منقبة أهل اليمن والإيمان عند رسول الله عليه الصلاة والسلام حين يطرد الناس ويذودهم عن حوضه؛ من أجل أن يشرب أهل اليمن، كما قال عليه الصلاة والسلام.

فإذا فرغ الحق تبارك وتعالى من الحساب، وتقرر الجزاء للعباد، أمر الملَك بأن ينصب الصراط على ظهر جهنم، يا رب، سلم! سلم! وهل هناك صراط بعد الميزان؟ نعم، سيُضرب صراطٌ على متن جهنم، فتكون جهنم تحت الصراط، والكل وارد عليه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، وقد اختلف العلماء في المراد بالمرور، فقيل: الدخول؛ أي: إن كل واحد سيدخلها، لكنها ستكون بردًا وسلامًا على المؤمنين، ولكن قول جمهور العلماء: أن الورود بمعنى المرور، وقد يكون الورود للكفار دخولا، وللمؤمنين مرورا.

وأول من يمر على الصراط هو نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكل واحد منهم يقول: اللهم سلم سلم! وعلى الصراط كلاليب تخطف الناس على حسب أعمالهم.

فتخيل نفسك يا عبد الله إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقَع بصرك على سواد جهنم، ثم قرع سمعك شهيقُ النار وتغيُّظُها، وقد أمرك الله أن تمشي على هذا الصراط، هل تستطيع أن تمشي؟

يا قاطع الصلاة، يأيها الظالم، ويا من تسعى في الأرض الفساد، يا من ثقلت بالذنوب وبمظالم العباد، يا له من مظهر ما أفظعه! وما أصعبه!

قال الحسن البصري رحمه الله: «قال رجل لأخيه: يا أخي، هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: «فهل أتاك أنك خارج منها؟»، قال: لا، قال: «ففيما الضحك؟» قال: فما رئي ضاحكًا حتى مات[9].

وعن قيس بن حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعًا رأسه في حجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، فلا أدري أننجو منها أم لا؟!»[10].

فيمر الناس على الصراط على حسب أعمالهم الصالحة، منهم من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كالطير، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يتعثر ثم يقوم، ومنهم من يُكب على وجهه في النار؛ أعاذنا الله وإياكم من النار!

وبعد أن يمر من خلصهم الله من جسر جهنم، يبقى أمر عظيم قبل دخولهم الجنة، إنه القصاص في القنطرة بين الجنة والنار، فقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا، ونقوا، أُذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أعرف بمنزله الذي كان له في الدنيا»[11]؛ أي: إنهم يعرفون منازلهم أكثر من معرفتهم لمنازلهم في الدنيا».

فلا بد من القنطرة، وإن عبرت جسر جهنم، وان خُلِّصت وظننت أنك قد نجوت منها، إلا أن حق العباد باق عليك، إلا أن المظالم تبقى حائلًا بين يديك،

فما دمت يا عبد الله في هذه الحياة، فانتبه لنفسك، ولا تظلمن من سيكون لك خصمًا عند ربك، وإن ظلمت وأخذت حق غيرك؛ فتحلل منه مادامت روحك في جسدك!

وبعد القصاص ورد الحقوق تكون الشفاعة العظمى للشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، سيد الأولين والآخرين، ومن أرسله الله رحمة للعالمين، وهي شفاعة دخول أهل الجنة الجنة التي أشار الله إليها في كتابه الكريم بقوله: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].

وقوله: (وفُتحت) يدل على أن هناك من تقدمهم ليفتح لهم الجنة. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فآخذ بباب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. فيفتحون لي، ويرحبون، فيقولون: مرحبًا فأخر ساجدًا،

الجنة وما أدراكم ما الجنة موضوع حديثنا في اللقاء القادم بإذن الله تعالى.

أسأل أن يجعلنا من أهلها، وأن يهون علينا مواقف القيامة وأهوالها.......».

[1] رواه أحمد (22303).

[2] رواه البخاري (6539)، ومسلم (1016).

[3] رواه البخاري (4421).

[4] رواه مسلم (2969).

[5] رواه ابن ماجه (4290).

[6]رواه مسلم (1905).

[7] رواه الحاكم في مستدركه (7839).

[8] رواه الترمذي في سننه (2639).

[9] الزهد لابن المبارك (311).

[10] رواه الحاكم في مستدركه (8809).

[11]رواه البخاري (6535).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 94.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 92.56 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.29%)]