القضاء بين الكفار إذا جاءوا يتحاكمون إلينا

[ابوالوليد المسلم]

القضاء بين الكفار إذا جاءوا يتحاكمون إلينا

عيسى بن سليم العوفي

صورة المسألة: إذا تقدم الكفار للمسلمين لطلب الحكم بينهم بشرع الله، فهل يجب علينا الحكم بينهم؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، وإن حكم بينهم حكم بينهم بما في كتاب الله، وبه قال عطاء ومالك[1]، والشافعي[2]، وأحمد[3].

القول الثاني: قالوا: بل التخيير منسوخ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم،وبه قال: أبو حنيفة [4]والشافعي في قول[5] ويزيد النحوي [6]وعكرمة [7]والحسن البصري [8]ومجاهد[9].

دليل أصحاب القول الأول:
قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [المائدة: 42].


وجه الدلالة:
أي:إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم، فجعل الله له في ذلك رخصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم [10]، وإن حكم يحكم بينهما بحكم الإسلام [11]لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [المائدة: 42].

أدلة أصحاب القول الثاني:
1- قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [المائدة: 42]، قال عكرمة والحسن البصري: هذه الآية نُسِخَتْ [12] بقوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49].


2-قوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49].

وجه الدلالة:
القياس؛ وذلك أن دفع الظلم عنهم واجب، والحكم طريق له، فوجب كالحكم بين المسلمين [13].

الترجيح:
الذي يظهر- والله أعلم- هو رجحان القول الأول؛ وذلك لقوة ما استدلوا به من الأدلة.

وأجيب على الدليل الأول من أدلة أصحاب القول الثاني:
أن حكم هذه الآية ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49] ثابت لم ينسخ [14].

ويجاب على الدليل الثاني من أدلة أصحاب القول الثاني:
1- يرد عليه أنه قياس مع الفارق؛ لوجود النص في التخيير بين القضاء بين الكفار أو الإعراض عنهم.

2- أن علينا أن نمنع عنهم أنفسنا، وليس علينا أن نمنع عنهم غيرنا [15].

أثر الخلاف وثمرته:
يترتب على الخلاف بناءً على القول الأول أن يُخيَّر الحاكم بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم، وإذا حكم يحكم بينهم بحكم الإسلام.

وبناءً على القول الثاني يجب على الحاكم الحكم بينهم.

[1]البيان والتحصيل (4/ 186)، (9/ 376)، الذخيرة (3/ 458)، (8/ 280)، الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 484).
مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر أبو عبدالله، ولقبه إمام دار الهجرة. من شيوخه: نافع، وسعيد المقبري. من تلاميذه: ابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان. ولد بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، وتوفي بالمدينة لعشر مضت من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، ودفن بالبقيع، وقبره بباب البقيع، وعليه قبة، من أبرز مؤلفاته: كتابه الموطأ؛ انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (1/ 154)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 19)، (1/ 47)، (2 / 75 – 76).

[2] الأم للشافعي (4 / 222)، المهذب في فقه الإمام الشافعي (3/ 316).
محمد بن إدريس بن العباس الشافعي، أبو عبدالله، ولُقِّب حين قدم العراق بناصر الحديث. من شيوخه: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، حَدَّث عنه أبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل. ولد بغزة وقيل: بعسقلان، سنة خمسين ومائة، ونشأ بمكة، وتوفي بمصر يوم الخميس، وقيل: الجمعة، آخر يوم من رجب، سنة أربع ومائتين، برز في علم اللغة والنحو والتفسير والأصول والفقه والأدب، من أبرز مؤلفاته كتابه الأم، وكتاب الرسالة؛ انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات (1/ 19)، (1/ 44 – 53)، البداية والنهاية (10/ 251 – 253).

[3] الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 181)، منتهى الإرادات (2/ 246)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/ 603).
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله، ولقبه إمام السنة. ولد ببغداد في ربيع الأول، سنة أربع وستين ومائة. من شيوخه: سفيان بن عيينة الهلالي، ومحمد بن إدريس الشافعي، وحدث عنه علي بن المديني، ويحيى بن معين، برز في علم الحديث ومعانيه والفقه. من أبرز كتبه كتاب المسند. توفي ببغداد يوم الجمعة، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى (7/ 253)، وتذكرة الحفاظ (2/ 15-16)، والبداية والنهاية (10/ 325-326)، (10/ 340).

[4]بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 311)، المبسوط للسرخسي (5/ 38).
أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، ولد في سنة ثمانين. أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل: وغيره، روى عن جماعة من التابعين؛ منهم: عطاء، وقتادة، وروى عنه جماعة؛ منهم: ابنه حماد، وزفر بن الهذيل التميمي الفقيه، برز في علم الفقه والحديث، وتوفي سنة خمسين ومائة، وصُلِّي عليه ببغداد، وقبره هناك رحمه الله؛ انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 216)، وسير أعلام النبلاء (8/ 239)، والطبقات الكبرى (6/ 348).

[5] الحاوي الكبير للماوردي (9/ 307)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (6/ 300).

[6] يزيد بن أبي سعيد النحوي، أبو الحسن القرشي مولاهم، روى عن عكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر المكي، وروى عنه: حسين بن واقد، وأبو عصمة نوح بن أَبي مريم، برز في الحديث، قتله أبو مسلم سنة إحدى وثلاثين ومائة؛ انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (11/ 332)، وتهذيب الكمال (32/ 143-144).

[7] عكرمة أبو عبدالله القرشي مولاهم، قيل: كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس، حدث عن: ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة، وحدث عنه: إبراهيم النخعي، والشعبي - وماتا قبله - برز في علم التفسير وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، توفي بالمدينة سنة خمس ومائة، وقيل: غير ذلك. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (1/ 73-74)، والبداية والنهاية (9/ 244-246).

[8] الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وقيل: مولى جميل بن قطبة، ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسمع منه وروى عنه، وروى عن عمران بن حصين. من تلاميذه: مجاهد، وعطاء، برز في الفقه والتفسير، توفي ليلة الجمعة في رجب، سنة عشر ومائة، وصلوا عليه عقيب الجمعة بالبصرة؛ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى (7/ 114-120)، (7/ 132)، والبداية والنهاية (9/ 266-267).

[9] مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبدالله بن السائب القارئ، ويقال: مولى قيس بن الحارث المخزومي، ولد سنة إحدى وعشرين، روى عن ابن عباس وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وعن أبي هريرة، وحدث عنه عكرمة، وطاووس، برز في علم القرآن والتفسير والفقه،توفي مجاهد سنة أربع ومائة، وقيل: غير ذلك؛ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى (6/ 19-20)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 83).

[10] تفسير الطبري (8/ 441)، المغني لابن قدامة (9/ 82).

[11] المغني لابن قدامة (9/ 82).

[12] تفسير الطبري (8/ 441)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 311).

[13]الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 181).

[14] تفسير الطبري (8/ 444).

[15] الحاوي الكبير للماوردي (9/ 306).