فوائد من حديث - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         غزة في ذاكرة التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 14761 )           »          الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني.. راوٍ ماجنٌ وليس بمؤرخ مدقق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          أثر العربية في نهضة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 16388 )           »          العقيدة اليهودية والسيطرة على العالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 2239 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 66 - عددالزوار : 43545 )           »          من أخطاء المصلين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 597 )           »          فوائد من حديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 807 )           »          من مائدة الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13 - عددالزوار : 6802 )           »          "ليبطئن"... كلمة تبطئ اللسان وتفضح النية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          لطائف من القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 123 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-04-2025, 12:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي فوائد من حديث

فوائدُ من حديثِ: «قد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءة»

محفوظ أحمد السلهتي


الحديث: عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْخِرَاءَةَ. قَالَ، فَقَالَ: أَجَلْ. لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أوَ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِاليَمِينَ، أَوْ أَنْ نسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ. أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ. رواه مسلم في باب الاستطابة من كتاب الطهارة من «صحيحه» برقم (262).

الراوي: سيدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البارزين وأعلام الأمة الكبار. وهو يلقَّب بـ «حكيم الأمّة». فهو الذي اقترح بناء الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقترحه في غزوة الخندق. وقد روى ستين حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في «أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد» (ص 37)، لابن حزم الأندلسي.


كم عاش سلمان الفارسي رضي الله عنه؟
تذكر بعض كتب السير أن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- عاش 250 عامًا، فقال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- في «سير أعلام النبلاء» (1 /556): «وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَارِيْخِي الكَبِيْرِ أَنَّهُ عَاشَ مَائتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً، وَأَنَا السَّاعَةَ لاَ أَرْتَضِي ذَلِكَ، وَلاَ أُصَحِّحُهُ». وقد فصل الذهبي قائلًا: «وَقَدْ فَتَّشْتُ، فَمَا ظَفِرْتُ فِي سِنِّهِ بِشَيْءٍ، سِوَى قَوْلِ البَحْرَانِيِّ، وَذَلِكَ مُنْقَطِعٌ لاَ إِسْنَادَ لَهُ. وَمَجْمُوْعُ أَمْرِهِ، وَأَحْوَالِهِ، وَغَزْوِهِ، وَهِمَّتِهِ، وَتَصَرُّفِهِ، وَسَفِّهِ لِلْجَرِيْدِ، وَأَشْيَاءَ مِمَّا تَقَدَّمَ يُنْبِئُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَمَّرٍ، وَلاَ هَرِمٍ، فَقَدْ فَارَقَ وَطَنَهُ وَهُوَ حَدَثٌ، وَلَعَلَّهُ قَدِمَ الحِجَازَ وَلَهُ أَرْبَعُوْنَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ سَمِعَ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هَاجَرَ، فَلَعَلَّهُ عَاشَ بِضْعاً وَسَبْعِيْنَ سَنَةً، وَمَا أَرَاهُ بَلَغَ المَائَةَ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُفِدْنَا». ولكن الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- خالف الإمام الذهبيَّ هنا، حيث قال في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة» (3 /119): «لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوّجه امرأة من كندة وغير ذلك، مما يدلّ على بقاء بعض النشاط، لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك، فقد روى أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيين» من طريق العباس بن يزيد، قال: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيها».

الفوائد: على الرغم من وجازة هذا الحديث، فهو زاخر بالدروس العلمية والعملية، وحافل بالمواعظ والعبر التي يمكن أن نستفيد منها في مجال تعليم الدين والدفاع عن تعاليم الشريعة. فالحديث يتناول مباشرةً أحكامَ الاستنجاء، ولذلك أخرجه الأئمة مسلم وأبو داود والترمذي -رحمهم الله تعالى- ضمن أبواب الطهارة في كتبهم. وقد أفاض الفقهاء في شرح هذه المسائل الفقهية في كتب شرح الحديث وكتب الفقه المعتمدة لدى مختلف المذاهب.

وفي هذا المقال، لا أهدف إلى تكرار الشروحات لهذه القضايا الفقهية، بل أسعى إلى قراءة هذه القصة بتأنٍّ وتدبر لاستخلاص بعض الفوائد والأسرار التي يمكن أن تعيننا على فهم الدين بشكلٍ أعمقَ وأشملَ، وتساعدنا في التصدي لشبهات المعاصرين حول تعاليم ديننا الحنيف.

وفيما يلي أربعة دروس استخرجتُها من هذا الحديث، وعرضتها في دروسي على «جامع الترمذي» و«سنن أبي داود» في مدرستَي المدني وقوة الإسلام (معهدين شرعيين) في لندن:

الدَّرس الأوَّل من قولهم: «قَدْ عَلَّمَكُم نَبِيِّكُم كُلَّ شَىءٍ»

هنا اعترف غير المسلمين –بغض النظر عن كونهم اليهود أو المشركين- في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا جادين أو ساخرين، بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم المسلمين كلَّ شيءٍ. وكان المشركون يستخدمون هذا كوسيلة للسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلين إنه يدعي النبوة الخاتمة ومع ذلك يعلِّم الناس أمورًا بسيطة مثل تطهير وتنظيف أنفسهم بعد قضاء الحاجة، وينشغل بمثل هذه الأشياء التافهة.

للأسف، نحن المسلمون اليوم نفشل في فهم هذه النقطة المهمة جدًّا، وهي أن الإسلام يتجاوز مجرد أداء الصلوات الخمس اليومية، وإخراج الزكاة مرة في السنة، وأداء الحج مرة في العمر. فالواقع أن الإسلام يمتد ليشمل متجر الإنسان، وتجارته، وطعامه، وحياته الزوجية، وحياته الاجتماعية والعائلية. لقد حصره الكثيرون في بعض الطقوس والممارسات، معتقدين أن الإسلام يقتصر فقط على بعض الطقوس والممارسات.

لقد اندمج المسلمون في ما يسمى بـ «المجتمع المتطور»، وهو مجتمع يعاني أفراده من الانتحار والاكتئاب والمشاكل النفسية الأخرى في هذه الأزمنة المتأخرة، بينما نتجاهل نحن أن الإسلام قد علّمنا كل شيء. فالإسلام يحتوي على تعليمات وأحكام وتشريعات تنظم كل لحظة وكل جانب من جوانب حياتنا، إلى درجة أن حتى الكفار أدركوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلّم الصحابة رضي الله عنهم فقط كيفية الصلاة وأداء الحج، بل إنه صلى الله عليه وسلم وضع لهم حتى طريقة الأكل والشرب وما إلى ذلك.

وهنا أريد أن أعرض دراستَيْ حالةٍ لشرح هذه النقطة أكثر:
الأولى: دراسةُ حالةٍ من خلفية غير مسلمة: تشارلز هاميلتون، مستشرق يهودي، عمل لصالح الإمبراطورية البريطانية في الهند وتوفي عام 1792. وكان أول من ترجم أحد الكتب المهمة في الفقه الإسلامي «الهداية» إلى اللغة الإنجليزية. عندما جاء المستعمرون البريطانيون إلى الهند، أرادوا اختراق عقول المسلمين لجعلهم يتوافقون مع أخلاقهم وأيديولوجياتهم. ولتحقيق ذلك، احتاجوا إلى الوصول إلى الكتب والتعليمات الإسلامية، فقاموا بترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية لزيادة فهمهم للإسلام. فشرعوا في ترجمة كتابين رئيسيين: «الهداية» و«الفتاوى الهندية» المعروفة أيضًا بـ «الفتاوى العالمكيرية».

فكان تشارلز هاميلتون مكلَّفًا بمشروع ترجمة «الهداية»، وكانت في ترجمته بعض سقطات نظرًا لأنها كانت ترجمة غير مباشرة حيث ترجمها من الترجمة الفارسية للكتاب بدل العربية. فقد حذف العديد من المناقشات الهامة من الكتاب ولم يتضمن الأدلة الشرعية للأحكام. ومع ذلك، فإن مجرد محاولة البريطانيين فهم هذا النص تشير إلى مدى إعجابهم بتعاليم الإسلام.

بالإضافة إلى ذلك، قام هاميلتون بإضافة تعليقات خاصة به في بداية كل فصل. ففي بداية كتاب النكاح يقول هاميلتون ما ملخصه: حتى اليوم، يُدهش السياسيون والقادة الأوروبيون كيف أن الإسلام قد وضع قبل 1300 عامٍ جميع أحكام الحياة الأسرية بشكل جميل. لقد أعطى الإسلام حقوقًا كثيرة للنساء، والتي في أوروبا لا يمكن إلا أن يحلمن بها. فالمرأة المسلمة يمكن لها أن تملك الأموال والعقار، فهي التي التي تستلم المهر من زوجها عند الزواج ولها الحق كاملا في التصرف في مهرها وغير ذلك، بينما المرأة الأوربيية لا حق لها في التملك، فقبل زواجها كل أموالها تعود إلى أبيها أو أخيها، وبعد الزواج إلى زوجها أو ابنها. فهذا التعليق -من هاميلتون- وحده يوضح أن تعاليم الإسلام ليست مقتصرة على مجموعة من الطقوس فقط، بل هي شاملة لدرجة أنها يمكن أن تُستفاد منها حتى في العصر الحديث.

الثانية: دراسة حالة من خلفية مسلمة: ذكر شيخنا العلامة المحدِّث المفتي محمد تقي العثماني -حفظه الله تعالى- قصة رائعة في مقدمة كتابه القيِّم «فقه البيوع» (ص 12). يقول متذكرا أيام عمله كقاضٍ في المحكمة العليا لدولة باكستان: «وفي خلال عملي ذلك، كثيراما أحتاج إلى مناقشة ذلك القانون مع رفاقي في المحكمة الذين كانوا مؤهلين في القوانين الوضعية، وطالت تجربتهم في ذلك. ومرارًا في أثناء هذه المناقشة، كنتُ آتي بتفسيرٍ للقانون يخالف الظاهر، وإنهم بعد سماع كلامي، يقرّون ما فسَّرتُه به. فقال رئيس القضاة مرَّة: إن هذا الرجل ربما يسرع في فهم القانون أكثر منَّا. فأجاب أحدهم بأنه درس الحقوق بمرتبة الشرف. فأجبتُ قائلًا: إن فهمي للقانون لا ينبثق من دراستي للحقوق، وإنما هو ناتجٌ من دراستي للفقه الإسلامي. وكان هذا الجواب حقيقةً أجزم بها حتى الآن».

مؤخرًا، أكد شيخنا العثماني -حفظه الله تعالى- أن دراسة الفقه والاستفادة من تراثنا يمكن أن تساعدنا على فهم الإسلام بشكل أفضل وتعريف الآخرين به. ومع ذلك، فإننا نحصر الإسلام داخل المساجد والمدارس الإسلامية فقط، وعندما نخرج إلى العالم، تختفي آثار الإسلام منا.

فهذه الأمثلة توضح وتؤكد أن الإسلام نظامُ حياة متكاملٌ، يعالج قضايا البشر عبر الزمن. فاعتراف المشركين واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بشمولية تعاليم الإسلام يؤكد أن هذا الدين لا يقتصر على الطقوس، بل يقدم نهجًا شاملًا للحياة السعيدة والمجتمع السليم.

الدَّرس الثَّاني من قولهم: «حَتَّى الخِرَاءَة»
انتقد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه علَّم أمته أمورًا صغيرة مثل كيفية دخول الخلاء والخروج منه وكيفية استخدام المرحاض. لكنهم لم يدركوا أن هذا الدرس الصغير الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ 1400 عام يمكن أن يكلف الباحثين مئات الآلاف من الجنيهات للوصول إلى نفس النتيجة.

في أكتوبر 2018، نُشرت مقالة حول «استخدام المناديل في المرحاض» في جريدةٍ بريطانيةٍ، ذكرت أن الباحثين في أمريكا استنتجوا «أن الاكتفاء باستخدام المناديل فقط لا يكفي لتنظيف الشخص تمامًا، لأن جزيئات النجاسة تبقى». وأوصى هؤلاء الباحثون باستخدام المناديل المبللة، وهي ممارسة مستوحاة من الثقافة اليابانية -كما زعموا-. في حين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى باستخدام الماء منذ 1400 عام، حتى في ظل الظروف الصعبة التي كان يعاني فيها الناس -بما فيهم المسلمون- من نقصٍ في الماء الحلو في جزيرة العرب.

أحيانًا نعتبر بعض الأمور تافهةً وبسيطةً، ولكن عندما ننظر إلى فوائدها وآثارها، ندرك أنها جوانب أساسية ومهمة لحياتنا اليومية. وما يبدو بسيطًا قد يكلف الكثير من المال والجهد للباحثين المعاصرين للوصول إليه.

الدَّرس الثَّالث من رد سَلْمَان بقوله: «أجَل»
واجه سيدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- انتقادات وإهانات من الناس، لكنه لم يتفاعل معهم بغضب. في بعض الأحيان، من الأفضل ألا نرد على الانتقادات، بل أن نتعامل معها بروح خفيفة. إذا فقدنا أعصابنا، فلن نتمكن من عرض تعاليمنا بشكلٍ صحيحٍ، ولن نستطيع إبراز الطبيعة الحقيقية والجمالية الرائقة للإسلام للناس.

فعلى المرء أن يرد على الانتقادات بالحكمة، كما قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾ [النحل: 125].

وما أحسن ما قاله الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في مقدمة «صحيحه» (1 /29): «الإعراض عن القول المطرح، أحرى لإماتته، وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه».

كما أن تصرفات سيدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- تُعلِّمنا أنه إذا كنَّا في موقف يتعرض فيه الناس للإسلام بالنقد، ويحاولون جعلنا نشعر بالخجل من إرثنا، فلا ينبغي لنا أبدًا أن نشعر بالتصاغر أو الإحراج، بل يجب علينا أن نكون فخورين بتعاليم ديننا الحنيف، وننشر محاسن الإسلام بكل ثقةٍ ويقينٍ واعتزازٍ.

الدَّرس الرَّابع:
وقد علَّق البروفيسور محمود أحمد غازي - رحمه الله تعالى - تعليقًا مثيرًا للاهتمام على الافتراض بأن اليهود هم الذين طرحوا هذا السؤال على الصحابي سلمان الفارسي -رضي الله عنه-. حيث قال في كتابه «محاضرات في الحديث» (ص 392) -باللغة الأردية- ما ملخصه: إن هذا يشير إلى أن الذين يرفضون الحديث النبوي ويعترضون على حجيته ويشككون في صحته -حتى في هذا العصر- يمتلكون «عقلية يهودية» وينتمون إليها.

وينطبق هذا التعليق على ما نراه من العدد الكبير من المستشرقين الحاقدين على الإسلام، الذين ينحدرون من خلفيات يهودية، سواء من ألمانيا أو غيرها. لذا، يجب على الباحث المسلم وطالب العلم النابه أن يكون على حذر من هؤلاء الذين يشككون في السنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; يوم أمس الساعة 10:05 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-07-2025, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي فوائد من حديث

فوائد من حديث: «ولم يكمل من النساء إلا...»

تأملات تربوية في نماذج نسائية خالدة

محفوظ أحمد السلهتي


الحديث: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». أخرجه البخاري (3411) ومسلم (2431).


ما المراد بالكمال في هذا الحديث؟
المراد من الكمال في هذا الحديث الشريف: بلوغ الغاية الممكنة من التُّقى، والفضائل، والأخلاق، والخصال الحميدة. وهو كمال بشري نسبي، لا الكمال المطلق الذي لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى. قال الإمام النووي رحمه الله: «والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل، وخصال البر والتقوى». «شرح صحيح مسلم» (ج15 ص 198).

وقال الأمير الصنعاني رحمه الله: «قوله: «كمل من الرجال كثير»: أي في الدين، إذ هو الكمال الحقيقي. ويقال: كمال المرء في سنن العلم والحق، والعدل والصواب، والصدق والأدب، والكمال في هذه الخلال موجود في كثير من الرجال، بفضل العقول وتفاوتها». «التنوير شرح الجامع الصغير» (ج8 ص 239).

وقال الإمام القرطبي رحمه الله: «ولا شك أن أكمل نوع الإنسان: الأنبياء، ثم يليهم الأولياء، ويعني بهم: الصديقين، والشهداء، والصالحين». «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (ج6 ص 332).

ولا ريب أن هذه المرتبة من الكمال قد بلغها كثير من الرجال، بخلاف النساء. فالرجال كان منهم الأنبياء والرسل، وأعداد لا تُحصى من الشهداء والصديقين والأولياء، وقد بلغ كثير منهم الغاية في الكمال ضمن هذه المراتب. أما النساء، فمع وجود الصديقات والصالحات منهن، إلا أن من بلغ منهن هذه المرتبة من الكمال قليل، كما دلَّ عليه هذا الحديث النبوي الشريف.

ليس في الحديث حصر ولا نفي لإمكان الكمال في نساء الأمة:
ومع هذا، فليس في الحديث نفي لإمكان كمال نساء هذه الأمة، بل قد وقع التصريح بعدم الحصر في مواضع أخرى. فقد جاء في «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (ج7 ص440) للقاضي عياض رحمه الله: «وليس يشعر الحديث بأنه لم يكمل ولا يكمل ممن يكون في هذه الأمة غيرهما، أي: مريم وآسية». وكذلك قال الأمير الصنعاني في «التنوير شرح الجامع الصغير» (ج8 ص 239): وليس في الاقتصار عليهما حصرٌ للكمال فيهما؛ فقد ثبت أن فاطمة رضي الله عنها أكمل النساء على الإطلاق».


تأمل جديد في حديث مألوف:
غالبًا ما يتناول شُرّاح هذا الحديث الشريف مسألة «الكمال» من زاوية العقيدة، أو النبوة، أو الخصائص الفطرية بين الجنسين، غير أننا نحاول تأمله من زاوية تربوية وإنسانية مختلفة تمامًا:
لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء النسوة تحديدًا؟
ما الرسالة التي أراد إيصالها من خلال تقديمهن كنماذج؟
وهل يقتصر الاقتداء بهن على النساء، أم أنهن قدوات صالحة للرجال أيضًا في بعض الجوانب؟

ورغم أن الرواية المشهورة اقتصرت على ثلاث نساء، فإن روايات أخرى في كتب الحديث والتفسير أضافت إلى هذه القائمة وفي مناسبات عدة: هاجر زوجة إبراهيم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وهكذا، فإن الحديث بمعناه الأوسع يفتح أمامنا أفقًا غنيًا بنماذج نسائية خالدة، كل واحدة منهن تمثّل جانبًا مضيئًا من جوانب الكمال الإنساني، يستفيد منه الرجل والمرأة على السواء.

تنوع الزمان والمكان: القدوة لا يُقيدها عصر ولا بيئة
فلنتأمل كيف أن النساء المذكورات في الحديث الشريف جئن من بيئات متباينة وأزمنة مختلفة: فمريم بنت عمران من بني إسرائيل، نشأت في بيئة يهودية، وآسية زوجة فرعون، في قصر طاغيةٍ وثنيٍّ، وعائشة بنت أبي بكر، في عصر النبوة، وسط مجتمع إسلامي يتشكل. وهذا التنوع يبعث برسالة واضحة أن القدوة ليست حكرًا على عصر معيّن، أو ثقافة معيّنة، أو بيئة مثالية. بل يمكن لكل امرأة – بل وكل إنسان – أن يجد في هؤلاء النسوة أسوة في الثبات والطهر والعلم والتوكل والعطاء.


مريم بنت عمران: الطهر والثبات في وجه القذف والابتلاء
تمثّل مريم بنت عمران رمزًا خالدًا للعفة، والطهارة، والثقة بالله في أحلك الظروف. فقد حملت بعيسى عليه السلام بمعجزة إلهية خارقة، لكنها وُوجهت مع ذلك بالقذف والاتهام من قومها، في مجتمع لا يرحم ولا يفهم المعجزات. ومع هذا الابتلاء العظيم، لم تنكسر، بل سلّمت أمرها لله، وقالت: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، فاكتفت بالإشارة إلى ابنها، فكان في كلامه وهو في المهد آية تُثبت براءتها وتؤيدها تأييدًا ربانيًّا باهرًا.

ورغم أنها كانت أمًّا وحيدة، بلا زوج، في بيئة قاسية، فقد ربّت ابنها تربية نبوية سامية، وكان من أولي العزم من الرسل. لذلك، كل امرأة مطلقة، أو أرملة، أو أُمّ بلا معين، لها في مريم عزاء وأمل؛ فالثبات على الطهر والإيمان هو الشرف الحقيقي، لا مجرد وجود الرجل في حياتها. فمقام المرأة لا يُقاس بالزواج، بل بصدقها مع ربها، وصبرها في البلاء، وثباتها على العفاف والتقوى.

وكان العلامة منظور أحمد النعماني رحمه الله يقول لطلبة العلوم الشرعية: لا بد أن تكونوا محررين في طلب العلم وخدمة الإسلام، كما قالت امرأة عمران (أم مريم): ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾ [آل عمران: 35].

آسية بنت مزاحم: الإيمان تحت القهر:
أما آسية، فهي زوجةُ طاغيةٍ جبارٍ لا مثيل لجبروته، لكنها رغم ذلك لم تخضع لإرادته أو قهره، بل كان إيمانها صلبًا لا يلين. فالقرآن الكريم جعلها مثالًا لكل المؤمنين والمؤمنات: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ﴾ [التحريم: 11].

إن من تعيش في بيت ظالم أو بيئة خانقة تجد في آسية قدوة في الصبر والثبات، فصبرها لم يكن بدون مخاطرة، بل كان في بيئة يحيط بها الظلم والقهر والخطر على حياتها، ولم تستسلم.

وفي زمننا الحالي، قد نشتكي من صعوبة الظروف أو عدم ملاءمة البيئة لتطبيق الأحكام الإسلامية، لكن هل تساءلنا يومًا: هل يمكن أن تكون بيئة أكثر فسادًا وظلمًا من بيت فرعون؟

رغم ذلك، حافظت آسية على إيمانها، وتمسكت بقيمها، وساعدت النبي موسى عليه السلام في مواجهة ذلك الطغيان. ولذلك، جعلها الله سبحانه وتعالى نموذجًا لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من البيئة المحيطة به، يستلهم منها القوة والعزم على الثبات والإيمان رغم كل الصعوبات.

هاجر: مدرسة في التوكل والثقة بالرحمن:
حين تركها إبراهيم عليه السلام في وادٍ غير ذي زرع ولا ماء، نادت بقلق وحيرة: «يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟» فكررت عليه سؤالها مرارًا، وهو لا يلتفت، حتى قالت له: «آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟» قال: «نَعَمْ»، فردّت بثقة: «إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا» (صحيح البخاري: 3364).

بذلك اليقين في وعد الله، نشأت مدينةُ مكة، وبفضل هذا التوكل تفجّر ماء زمزم.

تُعلِّمنا هاجر من خلال قصتها أن التوكل الحقيقي ليس استسلامًا سلبيًا، بل هو حركة إيجابية، وثقة راسخة بالله، وبناء حياة جديدة من رماد الفراغ والضيق.

وكل امرأة تواجه القطيعة أو الغربة أو الوحدة تجد في هاجر أنموذجًا راقيًا للتسليم، والتوكل، والصبر، والاعتماد على الله في أحلك الظروف.

خديجة بنت خويلد: الثروة والبصيرة وسكينة النفس:
كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها سيدة ذات مال وفكر، لكنها استخدمت ثروتها وبصيرتها لخدمة الحق ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم.

حين نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة، لم يذهب إلى أحد من أصحابه، بل ذهب إلى خديجة، فكانت له السند والملجأ، كما وصف القرآن الكريم الزوجة المثالية: ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ [الروم: 21]. وقالت له كلمتها الخالدة: «كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»، (صحيح البخاري: 3).

ولم تكتفِ بالدعم النفسي، بل أخذت به إلى ورقة بن نوفل، رجل العلم والحكمة، مما يدل على حكمتها وفطنتها في مساعدة زوجها في أصعب المواقف. وتذكّر محاسن زوجها تعكس أيضًا أخلاق النبي الكريم، الذي قال: «خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي» (أخرجه الترمذي في «جامعه» 3895).

عائشة الصديقة: العلم والذكاء والحياء:
صارت سيدتنا عائشة، رغم صغر سنها، من أعلام العلم في الأمة، إلى حدّ «لو جمع علم نساء هذه الأمة، فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن علم عائشة أكثر من علمهن».

لم تنجب عائشة أبناء، لكنها أنجبت أجيالًا من العلماء، مما يدل على أن فضل المرأة لا يُقاس فقط بالإنجاب، بل بالعطاء العلمي والأخلاقي.

وتجدر هنا الإشارة إلى أن سيدتنا عائشة لم تكن نسوية -معاذ الله- كما يتخيلها بعض النسويين لكونها قد روت أحاديث للرجال. وهذا زعم خاطئ نشأ من عدم الاطلاع على منهجها في التعليم والتدريس. يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: «روى عنها عدة من التابعين، وما رأوا لها صورة قط». «سير أعلام النبلاء» (ج7 ص 38). كما أن الثلاثة الذين أكثروا من الرواية عنها اثنان منهم من محارمها، فعن ابن عيينة قال: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد [ابن أخيها]، وعروة بن الزبير [ابن أختها]، وعمرة بنت عبد الرحمن. انظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، ج1 ص 45. فهذا يقطع الطريق أمام أي محاولة لاستغلال سيرتها في ترويج الاختلاط بلا ضوابط.

وكانت كذلك مثالًا في الصبر على الابتلاء، فقد نالها ما يُعرف بحادثة الإفك التي ظُلمت فيها، لكنها ثبتت بقوة إيمانها حتى أنزل الله براءتها في القرآن، وفضح المنافقين، وقال تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «كفضل الثريد على سائر الطعام» فيقول العلامة فضل الله التوربشتي رحمه الله: «إن الثريد مركب من الخبز واللحم، ولا نظير لهما في الأغذية، ثم إنه جامع بين الغذاء واللذة والقوة، وسهولة تناوله، وقلة المؤنة في المضغ، وسرعة المرور في المرئ من غير ما غصة، فضرب لها المثل به ليعلم أنها أعطيت مع حسن الخلق حسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها، والإصغاء إليها، وإلى غير ذلك من المعاني التي اجتمعت فيها، وحسبك من تلك المعاني أنها عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تعقل غيرها من النساء، ورون عنه ما لم يرو مثله من الرجال». «الميسر في شرح مصابيح السنة»، ج4 ص 1341.

فاطمة الزهراء: التواضع في أعلى المقامات:
كانت فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وزوجة علي رضي الله عنه، نموذجًا للتواضع رغم مكانتها العالية. لم تتكبّر على أعمال بيتها، بل كانت تقوم بها بنفسها.

وحين طلبت خادمًا من أبيها، قال: « ألا أَدُلُّكم على خيرٍ مما سألتُماه ؟ إذا أخذتُما مضاجعَكما فكبِّرا اللهَ أربعًا و ثلاثين ، و احمدا ثلاثًا و ثلاثين ، و سبِّحا ثلاثًا و ثلاثين ، فإنَّ ذلك خيرٌ لكما من خادم». أخرجه البخاري (5361) ومسلم (2727). ومن هنا جاء ما يُعرف بـ«التسبيح الفاطمي»، وهو درس في الرضا والتواضع والروحانية.

كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عدله وإنصافه في قوله: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (رواه مسلم 1688)، وهو مبدأ يؤكد أن العدل فوق النسب، والحق فوق العاطفة.

المفاضلة بين خديجة وعائشة وفاطمة:
وقد سُئل الحافظ ابن تيمية رحمه الله عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين رضي الله عنهما: أيهما أفضل؟ فأجاب بـ «أن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشاركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم ما لم تشاركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها». «مجموع الفتاوى لابن تيمية»، ج4 ص 393.

وقال ابن القيم رحمه الله في مبحث التفضيل بين عائشة وفاطمة: «فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم، فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل: فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص؛ لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح. وكم من عامليْن أحدهما أكثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة.

وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.

وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب: فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها. وإن أريد السيادة: ففاطمة سيدة نساء الأمة». «بدائع الفوائد»، ج3 ص 682-683.


الفروقات لا تعني تفاضلًا مطلقًا: تأملٌ في قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36].

في سياق الحديث عن الكمال البشري وتميّز النماذج النسائية، من المهم أن نستحضر قاعدة قرآنية عظيمة جاءت في قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]. هذه الآية تُثبت حقيقة فطرية واضحة، وهي أن الذكر والأنثى مختلفان في التكوين والتكليف، دون أن يعني ذلك تفاضلًا مطلقًا لأحد الجنسين على الآخر.

فالاختلاف بينهما هو اختلاف تكامل، لا تصادم، وتنوع، لا تضاد. فالرجال خُلقوا بخصائص تؤهلهم لأدوار معينة، والنساء كذلك، وكلٌّ منهما يُكمّل الآخر في مسيرة الحياة. والكمال الحقيقي لا يتحقق بتشابه الأدوار، بل بحُسن أداء كل طرف لما قدّره الله له من مهام.

ومن هذا المنطلق، لا داعي للوقوع في فخ النسوية المتطرفة التي تسعى لمحو الفوارق، ولا في براثن الميسوجينية التي تحتقر النساء وتقلل من شأن أدوارهن. فكلّ من هذين الاتجاهين انحراف عن الفطرة وانفصال عن روح القرآن والسنة.

إن الكمال الحقيقي – كما بيّن الحديث الشريف – يُقاس بالإيمان والعمل والصبر والعطاء، لا بالجنس. ومن هذا المنطلق، كرم الله نماذج نسائية عظيمة في القرآن والسنّة، تفوّق كثير منهن على رجال في ميدان الفضائل. فلا حاجة للجدل العقيم حول من الأفضل، بل الحاجة إلى الاقتداء بالأفضل، رجلاً كان أو امرأة.

خاتمة: هؤلاء نساء... ولكنهن قدوات للإنسانية:
ما يجمع بين هؤلاء النسوة الفاضلات هو أنهن نماذج إنسانية خالدة، لا مجرد رموز نسائية. ففي مواقفهن الطهر، والإيمان، والعلم، والتوكل، والسخاء، والتواضع، نجد قِيَمًا تصلح للجميع.

لقد قدّم النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الحديث خريطةً هاديةً للمرأة المؤمنة، بل لكل إنسان، في طريقه إلى الكمال الإيماني: فالكمال لا يُقاس بالجنس، بل بالقِيَم والمواقف.

وهكذا، نستمدُّ من هذه النماذج دروسًا لا تنضب، ونقتدي بها في ثباتها وصبرها وإيمانها، لنرتقي بأنفسنا وأمتنا إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; يوم أمس الساعة 10:05 PM.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم يوم أمس, 10:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فوائد من حديث

فوائدُ من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن

دروسٌ في الدعوة والتعليم والتربية

محفوظ أحمد السلهتي


الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ». أخرجه البخاري (1496) واللفظ له، ومسلم (19).

دزوسٌ وعبرٌ:
هذا حديثٌ عظيمٌ مباركٌ، وتربيةٌ نبويةٌ حكيمةٌ، يحوي بين طيَّاته فوائدَ وفرائدَ جمةً. وقد تناول العلماءُ من محدثين وفقهاءَ هذا الحديثَ باهتمامٍ بالغٍ، وشرحوه بالبسط والتفصيل، واستدلُّوا به في قضايا فقهيةٍ متنوّعةٍ، مثلا: هل الكفار مخاطبون بالأعمال؟، وهل يجوز نقل الزكاة من بلدٍ إلى آخر؟، وغيرها من المسائل التي ناقشها الفقهاء بعنايةٍ فائقةٍ.

ولكنَّ هذا المقال لا يهدف إلى إعادة مناقشة تلك المسائل الفقهية المدروسة والمبحوثة في كُتُب العلماء، بل يسعى إلى لفت نظر القارئ الكريم إلى دروسٍ وعبرٍ تربويةٍ، وفوائد دعويةٍ ثمينةٍ نستطيع أن نتعلمها من هذا الحديث النبوي الرائع. وقد استخرجتُ هذه الدروس والفوائد من هذا الحديث، استنادًا إلى ما درَّستُه من كتب الحديث الشريف التي ورد فيها، ومنها: «صحيح مسلم»، و«سنن أبي داود»، و«جامع الترمذي»، و«مشكاة المصابيح». والحمد لله على توفيقه وفضله.

الدرس الأول من قوله: «حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ»
الفائدة الأولى:كان سيدنا معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري رضي الله عنه من شباب الصحابة، وقد امتاز بذكائه وفقهه وورعه. قيل: إنه شهد بدرًا وهو ابن عشرين أو إحدى وعشرين سنةً. ومع قصر عمره، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا وأميرًا على اليمن، مما يدل على ثقة النبي العميقة بأصحابه، بصرف النظر عن أعمارهم.

وهذا يُبرز جانبًا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وبُعد نظره، فقد كان يُحسن اختيار الرجال، ويُقدّر طاقات الشباب، ويُعِدّهم لتحمل المسؤولية والقيادة. ولهذا نراه كثيرًا ما يردف الشباب خلفه، كعبد الله بن عباس، والفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، ويُقرّبهم منه، ويُعلّمهم، ويُؤهلهم للمستقبل. وهذه سنة نبوية في تمكين الكفء، وتربية القيادات منذ نعومة أظفارها.

الفائدة الثانية: لا يستطيع قائدٌ واحدٌ أنْ يباشر كل المهام بنفسه، أو يتواجد في كل مكانٍ، أو يخاطب كل الناس مباشرةً، ولذلك فإن من سنن القيادة النبوية تفويض المهام وتوزيع المسؤوليات، بإرسال الدُّعاة والعلماء إلى البلدان والأمصار. فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن، وأرسل غيره إلى مناطق أخرى، كما أرسل رسائلَ إلى الملوك، وبعث الوفود إلى القبائل.

وهذه السنة النبوية تؤصل لمبدأٍ مهمٍّ في العمل الإسلامي والدعوي، وهو التنظيم والتوزيع والاعتماد على أهل الكفاءة في تبليغ الرسالة. وعلى القادة والعلماء أن يحيوا هذه السنة في واقعهم، فيُخرجوا من بين صفوفهم من يحمل العلم والدعوة والفقه، ليكونوا سُفراء للهداية في شتى البقاع.

الدرس الثاني: من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ»
الفائدة الأولى: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا بأن أهل اليمن من «أهل الكتاب»، تمهيدًا له ليستعد نفسيًّا وفكريًّا لطبيعة المخاطَبين، فمخاطبة أهل الكتاب تختلف عن مخاطبة غيرهم من عبدة الأوثان، لِما لدى أهل الكتاب من بقايا علم ومعرفة سابقة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «فتح الباري» (3/358): «هي كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب أهلَ علمٍ في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهّال من عبدة الأوثان».

ومن هذا نفهم أن من الحكمة في الدعوة والتعليم والتربية: معرفة حال المخاطَبين، والتأهب لمخاطبتهم على قدر عقولهم ومداركهم وواقعهم، كما في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ». رواه أبو داود (برقم 4842).

فمن مقاصد هذا التوجيه النبوي: تهيئة الداعية ليعرف جمهورَه، فيتحدث إليهم بما يناسب مستواهم وفكرهم، مما يضمن بإذن الله حُسن التلقّي والفهم.

الفائدة الثانية: يتجلى في هذا الحديث جانبٌ تربويٌّ بالغُ الأهمية، وهو ضرورة إعداد الدُّعاة وتوجيههم قبل إرسالهم للميدان. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بتكليف معاذٍ، بل أوصاه بوصايا شاملةٍ تمسّ جوهر مهمته الدعوية، وتُرشده إلى أسلوب التدرج، وترتيب الأولويات، ومراعاة الأحوال. وقد جاءت هذه الوصايا النبوية مبثوثةً في كتب الحديث، وهي بمثابة «دليل إرشادي» للداعية. وهذا يدلنا على أهمية التكوين العلمي والتربوي للدُّعاة، فلا يخرج أحدٌ إلى الدعوة قبل أن يتلقى العلم والتجربة من أهل الخبرة.

ولذلك يجب على الدُّعاة الجدد، خاصة من الشباب، أن يطلبوا التوجيه من العلماء الربانيين والدعاة المجربين، حتى ينطلقوا في دعوتهم على بصيرةٍ، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108].

الدرس الثالث: من قوله صلى الله عليه وسلم: «فادعهم إلى أن يشهدوا» إلى قوله: «قد فرض عليهم صدقة»
الفائدة الأولى: في هذا التوجيه النبوي الكريم لمعاذ رضي الله عنه، نرى منهجًا تربويًّا واضحًا في الدعوة، يقوم على التدرج في التعليم والتكليف. فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بدعوتهم إلى التوحيد، وهو أصل الدين، ثم إلى الصلاة، ثم الزكاة. وهذا الترتيب يدلُّ على أدب الدعوة وحكمتها؛ إذ لا يُطلب من الناس الالتزام الكامل دفعةً واحدةً، بل يُؤخذ بهم خطوةً فخطوةً، حتى يرسخ الإيمان، ثم تُبنى عليه بقية الأحكام.

وهذا يشبه حال الإنسان عندما يأكل؛ لا يمكنه أن يبتلع الطعام دفعةً واحدةً دون تقطيعٍ ومضغٍ، وإلا اختنق. وكذلك الداعية الحكيم لا يُحمّل الناس ما لا يطيقون، بل يراعي استعدادهم النفسي والعقلي، ويُقدّم الأهم فالمهم.

وقد عبّرت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن هذا المعنى بقولها: «ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا» رواه البخاري (4993). وهذا أصل عظيم في الدعوة، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون بتدرجٍ وتعليمٍ رحيمٍ، لا بتعنيفٍ وفرضٍ مفاجئٍ.

الفائدة الثانية: دلالة الترتيب في هذا الحديث على البدء بالشهادة، توضح أن العقيدة هي الأساس الذي تُبنى عليه بقية أركان الدين. فلا يُطلب من الناس أداء الفرائض أو ترك المحرمات، ما لم يُصحَّح أولًا إيمانهم بالله وتوحيدهم له.

وهذا مبدأ أصيل في الدعوة الإسلامية: ترسيخ الأصول قبل مناقشة الفروع، فمتى ما استقام الأصل، زالت كثير من الشبهات والاعتراضات تلقائيًّا. وهذا ينعكس في مواقف معاصرةٍ، كمسألة عمر عائشة رضي الله عنها عند الزواج، فإن الاعتراض عليها غالبًا ما يأتي ممن لم يفهم أصول الدين ولا سلّم بمنهجه، فلو صلحت العقيدة، لانزاحت هذه الإشكالات من تلقاء نفسها. ففي الدعوة العامة، ينبغي للمرشد أن يُراعي هذا التسلسل، ويُقدّم الأهم فالأهم، اقتداءً بسيد الدُّعاة صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الثالثة: كثيرٌ من الآيات القرآنية ورد فيها الأمر بإقامة الصلاة مقترنًا بإيتاء الزكاة، كما قرن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في أحاديثه. وذلك لأن الصلاة تُعد رمزًا لصلاح النفس وتزكية الفرد في حياته، بينما الزكاة تُعد رمزًا لكون المسلم جزءًا من ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، إذ تعبّر عن أداء مسؤولياته تجاه الأمة والمجتمع. فالإسلام دينٌ يهتم بإصلاح النفس والعناية بالمجتمع في آنٍ واحد.

الدرس الرابع من قوله: «تُؤْخَذ من أغنيائهم فَتردُّ على فُقَرَائِهِمْ»
الفائدة الأولى: يبين هذا الجزء من الحديث عظمة النظام الاقتصادي في الإسلام، القائم على التكافل والتراحم، لا على الجشع والاحتكار. فالإسلام لا يشجع العقلية الرأسمالية التي تُركّز على جمع الثروات الفردية وتجاهل حاجات المجتمع، بل يؤسس لمجتمع يشعر فيه كل فرد بآلام إخوانه ويسعى إلى إعانتهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون كرجلٍ واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله». رواه مسلم (2586). وهذا المعنى يتجسد في نظام الزكاة، إذ تُؤخذ من الأغنياء وتُعاد إلى الفقراء، تحقيقًا للعدالة الاجتماعية ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ﴾ [الحشر: 7]، وسدًّا لحاجات المحتاجين، وتقويةً للروابط بين المسلمين.

الفائدة الثانية: نلحظ في هذا الحديث الفرق الجذري بين نظرة الإسلام للبلدان التي يدخلها، ونظرة القُوى الاستعمارية الحديثة. فالإسلام يُعلم أن الأرض لله، وأن المسلم أينما حلَّ اتخذ تلك الأرض دارًا له، وسعى لإصلاحها، وتطويرها، وخدمة أهلها. قال الله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ الله ﴾ [البقرة: 115]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَجُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا». رواه البخاري (438).

فالمسلم إذا انتقل إلى بلدٍ جديدٍ، انتقل بروح البناء لا الهدم، وبالرحمة لا السيطرة. وقد انعكست هذه القِيم في التاريخ الإسلامي؛ فحيثما حلت الخلافة الإسلامية، تركت أثرًا حضاريًّا وروحيًّا باقيًا. في الأندلس، بنى المسلمون جامع قرطبة وقصر الحمراء، وفي الهند شُيّد تاج محل، وهذه اليوم من أبرز المعالم التي تُدرُّ على تلك البلاد دخلًا سياحيًّا واقتصاديًّا ضخمًا، وهو من ميراث الحضارة الإسلامية.

أما في المقابل، فقد دخل الاستعمارُ الغربيُّ بلاد المسلمين بالقهر والنهب: بريطانيا استعمرت الهند ونهبتْ ثرواتها الضخمة من الذهب، والقطن، والشاي، والمعادن، واستخدمتها لتطوير لندن، بينما تركت الهند في فقرٍ مدقعٍ. وفرنسا احتلت الجزائر والمغرب وتونس لعقودٍ، وقتلت الملايين، وسرقتْ خيرات هذه البلدان، ولا تزال آثار النهب تُزين شوارعَ باريس حتى اليوم. والولايات المتحدة الأمريكية شنت الحرب على أفغانستان والعراق تحت ذرائع واهية، لكنها لم تترك خلفها إلا الخراب والدمار والتشريد. والاحتلال الصهيوني لفلسطين مثالٌ حيٌّ ومعاصرٌ على استعمارٍ مدعومٍ، سلب أرضًا، وشرد شعبًا.

إذًا، الفارق واضحٌ: المسلم إذا دخل أرضًا، طهّرها من الظلم، وأقام فيها العدل، وطوّرها كأنها وطنه. وقد شرح الدكتور عبد الحكيم مراد في كتابه الممتع «Traveling Home» أن المسلم لا يرى الأرض مقسّمة بين «نحن» و«هم»، بل يراها أرض الله، ويتحرك في العالم كمسافرٍ يحمل رسالة الخير والنور، لا الاستغلال والدمار.

الفائدة الثالثة: طبق معاذٌ رضي الله عنه تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم خيرَ تطبيقٍ، حتى تحسنت الأحوال الاقتصادية في اليمن في عهده. وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في «كتاب الأموال» (ص 710) قصةً فريدةً، قال فيها: إن معاذًا لما استقر في اليمن مرة أخرى في عهد عمر بن الخطاب، وجمع الزكاة، بعث بثلثها إلى عمر، فأنكر عليه ذلك، وقال: «لم أبعثك جابيًا ولا آخذَ جزيةٍ، إنما بعثتُك لتأخذَ من أغنيائهم وتردَّ على فقرائهم». فردَّ معاذٌ: «ما وجدتُ أحدًا يأخذ مني شيئًا». ثم في العام الثاني، بعث بنصف الزكاة، ثم في الثالث بعث بها كلها، وكان الرد نفسه: «ما وجدتُ من يقبل الزكاة، فقد استغنى الناس».

وهذه الحادثة تثبت عمليًّا أن تطبيق فريضة الزكاة كما شرعها الله كفيلٌ بالقضاء على الفقر أو التخفيف الكبير من آثاره، إذا ما تم توزيعها بعدلٍ، وصدقٍ، وإخلاصٍ. كما أنها تظهر لنا الفرق الكبير بين نظام الخلافة الإسلامية القائم على الرحمة والتكافل، وبين الأنظمة الاستعمارية الجشعة التي امتصت خيرات الشعوب وخلّفتها خرابًا بعد رحيلها.

الدرس الخامس: من قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»
يحمل هذا الجزء من الحديث النبوي توجيهًا نبيلًا إلى حُسن التعامل مع الناس عند أخذ الزكاة، حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا ألا يأخذ من الناس كرائم أموالهم، أي أفضلها وأحبّها إليهم. وهذا يُظهر رعاية الإسلام لمشاعر الناس وممتلكاتهم حتى وهم يؤدّون واجبًا شرعيًّا.

وفي هذا التوجيه قاعدةٌ تربويةٌ مهمةٌ، وهي أن العدل لا يكتمل إلا بمراعاة المسؤوليات المتبادلة. ففي مجتمعاتنا اليوم، اعتاد كثيرٌ من الناس المطالبة بحقوقهم بإلحاحٍ، دون الالتفات إلى مسؤولياتهم تجاه الآخرين. أما في الهدي النبوي، فالفوز الحقيقي يتحقق حين يعرف كل طرف مقامه، وواجباته قبل أن يطالب بحقوقه.

وقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله تعالى إلى أن من أدب الزكاة أن يختار المسلم أحب أمواله للإنفاق، مستندًا إلى قوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]. لكن هذا الأدب موجه للمعطي طوعًا، لا لمن يأخذ قهرًا. فالمعطي مأجورٌ على الإحسان، لكن من يجمع الزكاة (المصدّق) لا يجوز له ظلم الناس أو إجبارهم على إعطاء أفضل أموالهم، لأن ذلك يعدّ تعديًا لا عدلًا. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه النقطة في حديثٍ آخرٍ فقال: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ». رواه مسلم (989). فبهذا التوازن، يضمن النبي صلى الله عليه وسلم عدم ظلم الأغنياء، وفي الوقت ذاته حفظ حقوق الفقراء، وهو توازن قلّ أن يوجد في الأنظمة الاقتصادية الحديثة.

وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنصاف بين الأطراف المختلفة نجده أيضًا في مواقفَ عديدةٍ، منها: أمره صلى الله عليه وسلم الرجال بألا يمنعوا نساءهم من الذهاب إلى المسجد، ثم بيّن في الوقت نفسه أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها. وقد أكّد صلى الله عليه وسلم على النساء طاعة أزواجهنّ، لكنه في المقابل لم يُهمل حقوقهن، بل أوصى بالرفق بهن، وأوصى الرجال بهن خيرًا مرارًا، ومنها قوله في خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرًا». وهكذا نجد أن الهدي النبوي يُوازن دائمًا بين الطرفين، ويربي الأمة على العدل والرحمة والاحترام المتبادل، لا على الاستغلال أو الغلظة أو الغبن، سواء في الزكاة أو غيرها.

الدرس السادس: من قوله صلى الله عليه وسلم: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»
ختم النبي صلى الله عليه وسلم وصاياه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بهذه العبارة البليغة، التي تُعدّ من أعظم ما قيل في التحذير من الظلم، والتنبيه إلى عاقبته. فالنبي صلى الله عليه وسلم يُذكّر معاذًا، وهو ذاهبٌ ليكون حاكمًا وقاضيًا في اليمن، أن السلطة مسؤوليَّةٌ لا امتيازٌ، وأن العدل أساسُ الحكم، وأن الظلم أسرعُ طريقٍ إلى الهلاك، في الدنيا والآخرة. فإن دعوة المظلوم، وإن كانت من شخص بسيطٍ ضعيفٍ، لا يملك شيئًا من القوة أو الوسائط، فإنها تصل إلى الله بلا حاجزٍ ولا تأخيرٍ. فإذا لم يُرَ أثر الظلم في حياة الظالم، فإنه قد يظهر في ذريته، أو يُؤخّر عنه ليُجازى به في الآخرة، لأن هذا وعدٌ من الله، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].

وقد قرَّر ابن خلدون في «مقدمته» (ص 353) قاعدته الشهيرة: «الظلم مؤذنٌ بخراب العمران». أي أن الظلم لا يفسد القلوب فحسب، بل يؤدي إلى انهيار الدول والحضارات. فكم من دولةٍ عظيمةٍ سقطت حينما ساد فيها الظلم، واستبيحت فيها الحقوق.

ومن هنا، نفهم أن الإسلام لا يكتفي بالدعوة إلى الخير والعبادة، بل يرتكز على تحقيق العدل الاجتماعي، ونشر الرحمة، وإصلاح أحوال الناس. فإن العدل قيمة مركزية في الشريعة الإسلامية، حيث يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90].

وهذا التحذير النبوي هو درسٌ خالدٌ لكل من يتولى منصبًا عامًّا، أو مسؤوليةً مَهْمَا صغرتْ، أن يتقي الله في الناس، ويحرص على العدل، ويتجنب الظلم بكل صورهِ، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وإن المظلوم لا يحتاج إلى ترجمان بينه وبين ربّه.

الخاتمة:
وعليه، فإن هذا الحديث الشريف الذي وجّه فيه النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، ليس مجرد نصٍّ تاريخيٍّ، بل هو منهاجٌ دعويٌّ، وتوجيهٌ تربويٌّ، ودستورٌ عمليٌّ للأمة في شؤون الدين والدعوة والتعليم والتربية والحكم والعلاقات الاجتماعية. لقد تضمن وصايا عظيمةً تؤسس لقِيَمِ العدل، والتدرّج، والرحمة، والوعي بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، وتقديم العقيدة على الفروع، واحترام الحقوق، والحذر من الظلم. وكل واحدةٍ من تلك الوصايا تصلح أن تكون قاعدةً تُبنى عليها مشاريع إصلاحية كبرى في مجالات الدعوة، والإدارة، والاجتماع، والسياسة.

وينبغي العناية بهذا الحديث بالشرح والتبليغ، وتنظيم دروسٍ ودوراتٍ متخصصةٍ فيه، لا سيما جمع كل الروايات الحديثية التي تتناول وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه عند وداعه إلى اليمن، وبيان قيمتها وأبعادها، حتى نستفيد منها بأكبر قدرٍ في تطوير منهجنا الدعوي والتربوي. ونسأل الله تعالى أن يرزقنا فقه هذا الحديث، وحسن العمل به، وأن يجعلنا ممن يسيرون على درب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ورحمته وعدله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم يوم أمس, 10:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فوائد من حديث

فوائد من حديث: أتعجبين يا ابنة أخي؟

محفوظ أحمد السلهتي
الحديث: أخرج الإمام الترمذي بسنده (برقم 92) عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حُميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أنَّ أبا قتادة، دخل فسكبتْ له وَضوءًا، فجاءتْ هرةٌ فشربتْ منه، فأصغى لها الإناء حتى شربتْ، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلتُ: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليستْ بنجسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوَّافات». كما أخرجه أبو داود (75)، والنسائي (340)، وابن ماجه (367)، وأحمد (22580).

الفوائد: كنتُ أشرح هذا الحديث النبوي ضمن دروسي في «جامع الترمذي» بمدرسة قوة الإسلام، وفي «سنن أبي داود» بكلية المدني الإسلامية في لندن، حيث بَيَّنتُ أقوال العلماء في مسألة سُؤر الهِرّة، وهي المسألة التي أدرج المحدثون هذه الرواية تحت بابها في كتب الحديث. غير أنّني -كعادتي المتواضعة- حاولتُ أن ألفت الأنظار إلى دروس مهمةٍ، وعِبَر نافعةٍ، وفوائدَ لطيفةٍ يمكن أن نتعلمها من هذه الرواية الرائعة، دون الخوض في المسألة الفقهية. وفي هذه السطور أُشارك بعضًا من تلك الفوائد العلمية والتربوية مع القراء الكرام، سائلًا المولى تعالى أن ينفعنا بها.

وقفاتٌ مع السند: في هذا السند امرأتان فاضلتان: حُميدة وكبشة. أما حُميدة فهي ابنة عبيد بن رفاعة الأنصارية، روى عنها زوجها إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وولدها يحيى، وذكرها ابن حبان في «الثقات». وأما كبشة فهي بنت كعب بن مالك الأنصارية، وزوجة عبد الله بن أبي قتادة، روت عنها بنت أختها حُميدة، وذكرها ابن حبان في «الثقات»، وقال: «لها صحبة»، وتبعه على ذلك المستغفري والزبير بن بكار وأبو موسى المديني كما في «الإصابة»، و«تهذيب التهذيب».

وهنا نقف عند أمورٍ:
الأول: نرى أن حُميدة يروي عنها زوجها إسحاق، وهي تروي عن خالتها كبشة، وكبشة تروي عن والدِ زوجها. وهذا يعني أن هذا الجزء من السند عائلي، فهو إذنْ من الأسانيد العائلية. ويوحي ذلك بأهمية التعليم والتربية داخل الأسرة عند السلف، وحرص أفراد العائلة بعضهم على بعض في شؤون العلم والدين؛ فلا يستنكف الزوج من التعلّم من زوجته، ولا المرأة من التعلم من خالتها أو والد زوجها. ومِن ثَمّ، لا يليق بالمسلم أن ينشغل بتعليم الناس ويُهمِل أهله وعياله، بل عليه أن يُولِيهم عنايةً بالغةً. وقد قال تعالى: ﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6].

الثاني: يظهر هذا النمط من الأسانيد العائلية بكثرةٍ في القرون الهجرية الأولى، على خلاف ما هو عليه الحال في العصور المتأخرة. ويُعزى ذلك إلى أن انتقال العلم آنذاك كان يتمّ في نطاق الأسرة بدرجةٍ أوضحَ من انتقاله عبر المجالس العلمية العامة؛ إذ لم تكن حلقات العلم قد اكتسبتْ بعدُ طابعها المنهجي والمؤسّسي الذي استقر لاحقًا. ومع ترسّخ البنية المؤسسية لمجالس العلم في المساجد وغيرها من المراكز العلمية، تراجعت الحاجة إلى الدور التعليمي الذي كان يقوم به كبار الأسرة -كالآباء والأمهات والأجداد والجدات- تجاه الأبناء والأحفاد، لِما أصبح هؤلاء يجدونه من إمكان التلقّي المباشر للعلم في تلك الحلقات المنظمة.

الثالث: يُلاحَظ أن حضور النساء في الأسانيد الحديثية كان ظاهرًا في العصور الأولى، ثم أخذ يتراجع تدريجيًّا في القرون اللاحقة. ويعود ذلك إلى السبب نفسه المشار إليه في النقطة السابقة؛ إذ إن مجالس العلم اكتسبتْ مع مرور الزمن طابعًا منهجيًّا ومؤسّسيًّا، وأصبحتْ تُعقد في المساجد وخارج نطاق البيوت. كما ازدادت الحاجة إلى الرحلة في طلب العلم إلى مختلف أمصار العالم الإسلامي، قصدَ اللقاء بالمحدّثين والرواة. وهذان العاملان كانا -في الغالب- مما يشقّ على النساء بالنظر إلى أوضاعهن الجسدية والشرعية والاجتماعية. وقد نبّه إلى هذه الظاهرة الدكتور أحمد صنوبر في كتابه القيّم «من النبي صلى الله عليه وسلم إلى البخاري» (ص 74–77).

الرابع: وعليه، تُبرز هذه الرواية جانبًا من دور المرأة في نقل السنة النبوية، إذ كان لجهود النساء في خدمة الحديث مكانة معتبرة لدى المحدّثين. وما أجمل ما قاله الإمام الذهبيُّ رحمه الله تعالى في فصل النساء المجهولات من كتابه «ميزان الاعتدال» (ج4 ص 604): «ما علمتُ في النساء من اتُّهِمتْ ولا من تركوها». وهذا القول -وإن لم يُرَد به قاعدة مطّردة في جميع الحالات- يدلُّ في الجملة على تقدير الأئمة لجهود النساء ومشاركتهن في نقل الحديث.

ومع ذلك، ينبغي التنبيه إلى أن النساء اللاتي شاركن في الرواية لم يكنّ يختلطن بالرجال الأجانب على النحو الذي تتصوّره بعض الاتجاهات النسوية المعاصرة؛ بل كانت تلك الراويات الفاضلات يروين عن محارمهن أو يروي عنهن محارمهن في غالب الأحيان، كما نرى في هذه الرواية: كبشة تروي عن والد زوجها، وحميدة يروي عنها زوجها. وإذا روَيْنَ عن رجال أجانب، فإنهن التزمن بآداب الحجاب الشرعي وضوابطه التزامًا تامًّا يليق بمقام العلم وأدب النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فوائدُ من هذه الرواية: يمكننا أن نستخرج ونستلهم بعض الفوائد العلمية والعملية، بالإضافة إلى الدروس المتعلقة بآداب ومكارم الأخلاق، من هذه الرواية النبوية المباركة:
أولًا: تحتوي هذه الرواية على سبب إيراد الحديث أيضًا. وسبب الإيراد يُقصد به العوامل التي دفعت الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو التابعين من بعدهم، إلى نقل الحديث وما قالوه أثناء نقله، وهو يختلف عن سبب الورود الذي يشير إلى الأسباب التي أدّت إلى قول الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المراجع المهمة في هذا المجال كتاب الأستاذ الدكتور بكر قوزودشلي المعنون: «أسباب إيراد الحديث».

والاطلاع على سبب إيراد الحديث -إذا وُجد- أمرٌ بالغُ الأهمية لفهم الحديث فهمًا صحيحًا، والوقوف على الخلفية التي ورد في سياقها، وما يترتب على ذلك من منافع علمية كثيرة وقيمة.

وعند دراسة المصادر الحديثية الثانوية، ينبغي ملاحظة ما إذا ذُكِر سبب الإيراد أو سبب الورود أم حُذِف. فقد لاحظتُ أثناء قراءتي وتدريسي لـ «مشكاة المصابيح» أن المؤلِّف، الخطيب التبريزي رحمه الله، لم يذكر سبب الورود أو الإيراد أحيانًا؛ رومًا للاختصار، ولكن بالرجوع إلى المصادر الأصلية لتلك الأحاديث نجد ذكرًا لأسباب الورود والإيراد، وما فيها من منافع علمية وفوائد نادرة وفرائد لا ينبغي لنا تفويتها.

وعلى سبيل المثال: راجِع حديث جابر رضي الله عنه في صفة حَجّة النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث طويل- في «مشكاة المصابيح»، ثم قَارِن بين ما في «المشكاة» وبين روايته في «صحيح مسلم» أو «سنن أبي داود» أو «سنن ابن ماجه»؛ تُدرِك تمامًا ما أشرتُ إليه هنا.

ثانيًا: قولها: «أن أبا قتادة، دخل فسكبت له وضوءا» يشير إلى أن كبشة بادرتْ إلى خدمة والد زوجها، وهي مبادرةٌ حميدةٌ من امرأةٍ طيبةٍ. وكان العلّامة السيد أبو الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى ينصح خرّيجي المدارس والمعاهد الشرعية بقوله: «أينما تعمل اعتبرْ نفسك خادمًا لا مخدومًا».

ومن المؤلم أننا نرى في هذه الآونة الأخيرة قلَّة الاهتمام بخدمة الآخرين، ولا شك أن سبب ذلك يرجع إلى الأنانية والانفرادية التي يعيشها الناس في العالَم المعاصِر، حيث يُقاس كل شيء بمعيار المادّية لا الروحانية.

وكذلك بعض النساء خاصةً قد ابتُلين بالنسوية الهدّامة، فلا يرين حاجةً إلى القيام بالخدمة داخل البيت، وإن كانت إحداهنّ مرتاحة في خدمة الآخرين في العمل خارج البيت. وللأسف الشديد، قد اغترّت بهذه الفكرة السيئة بعض النساء المسلمات أيضًا.

ولكن كبشة رضي الله عنها بادرتْ بالخدمة من نفسها، دون أن يطلب منها أبو قتادة شيئًا، وهذا دليلٌ على صفات المرأة المسلمة المثالية. أما الجانب الفقهي لمسألة خدمة الزوجات لأزواجهن فلا أريد التصدي له هنا، ويمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب الشيخ الدكتور يوسف شبير البريطاني حفظه الله تعالى، المسمّى «السِّراج الوهّاج في خدمة الأزواج».

وما أحسن ما قاله المحدث الشيخ محمد عبد المالك الكُمِلَّائي كما ورد في «كفاية المغتذي» للمحدث الشيخ عبد المتين حفظهما الله تعالى (ج1 ص462): «خدمة الزوجات لآباء وأمهات أزواجهن، طلبًا للسعادة، ورجاء البركة في ذريتهن، ولكن ذلك أمر يحسن من قِبَلهن، ولا يحسن للأزواج وآبائهم المطالبة بذلك».

ثالثًا: قولها: «فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت» يدلُّ على رحمة أبي قتادة رضي الله عنه بالحيوان أيضًا، ولا شكَّ أن ذلك من أثر توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه الإيمانية؛ فإنه لم يكن رحمةً للمسلمين أو للناس فحسب، بل كان رحمةً للعالمين. وقد علَّمنا كيف نُظهر رحمتنا بالحيوان من خلال سنّته الحكيمة الراشدة، ومن ذلك: أحاديث نجاة المرأة بسقيها الكلب، وتعذيب المرأة بسبب حبسها للهِرّة ومنعها الطعام، وكذلك الحديث المعروف: «إذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة…» وغيرها من النصوص الدالَّة على وجوب الرفق بالحيوان وحسن معاملته.

رابعًا: «قالت كبشة: فرآني أنظر إليه»: من هذا الموقف نتعلم أن إبداء العجب -بأسلوبٍ مهذب ومحترم- للكبار حين يصدر عنهم ما لا نعرفه ليس من سوء الأدب. فنظرة كبشة كانت نظرة تساؤلية، وتدل ضمنيًّا على اهتمامها بالنظافة والطهارة، وهو ما ينبغي للمسلمين أن يولوه عنايةً بالغةً. وعلاوةً على ذلك، فإن هذه النظرة التساؤلية كانت سببًا في ذكر أبي قتادة لهذا الحديث النبوي الشريف، مما يؤكد أهمية السؤال العلمي وفائدته، إذ يُقال: «السؤال نصف العلم»، وطالب العلم ينبغي أن يكون له قلبٌ عَقولٌ ولسانٌ سَؤولٌ.

خامسًا: «فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟» فهذا يبيّن حسن تعامل أبي قتادة مع زوجة ابنه، إذ أولًا اعتنى بنظرة كبشة التساؤلية ولم ينكر عليها، وثانيًا خاطبها بكلمة «يا ابنة أخي» التي تدل على شفقته وإحسانه إليها، وثالثًا اهتم بالإجابة عن تساؤلها بجوابٍ يريح قلبها ويزيل شبهتها. ومِن هذا المنطلق، ينبغي أن نحرص على التعامل مع أفراد أسرتنا بأسلوبٍ يرسخ قيم الإحسان والرحمة والشفق والرأفة والمرونة والتلطف، وبذلك نُعنى بتعليم وتربية أسرنا وفق السنة النبوية وتعاليم الإسلام، تربيةً صالحةً متكاملةً.

سادسًا: «فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال»: من هنا نتعلم أهمية ذكر الدليل -لمن له أهلية فهم الأدلة- عند عرض المسائل الشرعية من الكتاب أو السنة. فلم يكتفِ أبو قتادة رضي الله عنه بقولِه أو بفتواه فحسب، بل استدل بحديثٍ نبويٍّ شريفٍ، وهذا أسلوبٌ يقنع السائل والمتسائل أكثر بكثير ويزيد من قوة الحجة ومِصداقيّتها.

سابعًا: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات»: من هذه الجملة النبوية يمكننا أن نتعلم أيضًا ضرورة ذكر أسباب الأحكام، إذا كان للإنسان القدرة على استيعابها، عند بيان المسائل الشرعية. فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان أن سُؤر الهِرّة ليست بنجس، بل أضاف سببًا يوضح ذلك، مما يزيد اقتناع المتعلم ويعمّق فهمه.

وقد اهتم كثيرٌ من سلفنا الصالحين ببيان حِكَم وأسرار الأحكام الشرعية في مؤلفاتهم، ويُعرف هذا الجانب من الدراسة بعلم مقاصد الشريعة. ولكن الإفراط في الاعتماد على المقاصد بشكلٍ منفصلٍ عن النصوص الشرعية، كما هو شائعٌ في بعض الاتجاهات الحداثية الغربية، قد يؤدي إلى إبعاد المسلم عن تطبيق الدين كما أراده الله في الحياة اليومية.

ثامنًا: قال العلامة رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله تعالى في «الكوكب الدري» (ج1 ص127): «هذا الحديث أصلٌ كبيرٌ يتفرع منه أصولٌ، منها: قولهم: الضرر مسقطٌ، والحرج مدفوعٌ، والمشقة تجلبُ التيسير، ويؤيد كل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]».

فهذه الرواية المباركة تُظهر كيف أنّ السنة النبوية لا تكتفي بالحديث عن الأحكام الفقهية، بل تتضمن أيضًا سبب إيرادها، وهو ما يفتح لنا نافذةً لفهم الدروس العملية والأخلاقية من وراء الحديث. فقد جاءت المبادرات الطيبة، مثل خدمة كبشة لوالد زوجها، والرحمة بالحيوان، والاهتمام بالنظافة والسؤال العلمي، جزءًا من سبب إيراد الحديث نفسه، مما يوضح كيف أن نقل الحديث لا يقتصر على اللفظ، بل يحمل قيمًا تربويةً وسلوكيةً يجب أن نستفيد منها. ومن هذا الحديث نتعلم الجمع بين العلم والعمل، وبين التفقه في الدين وبين ممارسة مكارم الأخلاق في حياتنا اليومية، لنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في جميع مناحي الحياة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 112.37 كيلو بايت... تم توفير 3.11 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]