|
|||||||
| ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#2
|
||||
|
||||
|
﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ [المعارج: 15 - 18]. ﴿ كَلَّا ﴾لا يكون إنجاء ولا افتداء، فلا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهبًا، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده. ﴿ إِنَّهَا ﴾ النار الموعود بها المجرم ﴿ لَظَى ﴾ تتلظى نيرانها؛ كقوله تعالى: ﴿ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ﴾ [الليل: 14] واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء النار التهابها، وتلظيها تلهبها. ﴿ نَزَّاعَةً ﴾ المبالغة في النزع؛ وهو الفصل والقطع، ﴿ لِلشَّوَى ﴾ جمع شواة؛ وهي جلدة الرأس؛ أي: نزاعة لمكارم وجهه. وقال الضحاك: تبري اللحم والجلد عن العظم، حتى لا تترك منه شيئًا. ﴿ تَدْعُو ﴾ تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب. قال ابن عباس: "تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق؛ ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحَبَّ. قال القشيري: "ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدًا كثيرة". وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء "تعالوا"، ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. ﴿ مَنْ أَدْبَرَ ﴾ عن الحق فكذب بقلبه ﴿ وَتَوَلَّى ﴾ ترك العمل بجوارحه ﴿ وَجَمَعَ ﴾ المال، وفيه إشارة إلى الحرص ﴿ فَأَوْعَى ﴾ جعله في وعاء وكنزه، ومنع حق الله منه، فلم يزكِّ، ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه. وفيه إشارة إلى طول الأمل. قال ابن كثير: جمع المال بعضه على بعض فأوعاه؛ أي: أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة. وفي البخاري عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ). وكان عبدالله بن عُكيم لا يربط له كيسًا ويقول: سمعت الله يقول: ﴿ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾. وقال الحسن البصري: يا بن آدم، سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيتَ الدنيا. وقال قتادة في قوله: ﴿ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ قال: كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث. وروى أبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ))؛ أي: شح يحمل على الحرص على المال والجزع على ذهابه، وجبن شديد فكأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه، فالشح والبخل كل منهما مذموم على انفراده، فإذا اجتمعا فهو النهاية في القبح. ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 35]. ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ﴾ يعني بها التنبيه على جِبِلَّة الإنسان ﴿ هَلُوعًا ﴾ صيغة مبالغة للاتصاف بالهلع.. والهلع في اللغة: أشدُّ الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، كما بيَّنه بقوله: ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ﴾ الضرُّ والبلاء والأذى ﴿ جَزُوعًا ﴾ كثير الجزع من قلة صبره﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ ﴾كثر ماله وناله الغنى ﴿ مَنُوعًا ﴾ لِما في يده، بخيل به؛ لشدة حرصه. ﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾؛ أي: الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه، وهداه إلى الخير، ويسَّر له أسبابه، وهم المصلون. والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة. وهذه صفات ثمانٍ هي من أشعار المسلمين، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطنابًا في الثناء عليهم؛ لأن مقام الثناء مقام إطناب، وتنبيهًاعلى أن كل صلة من هذه الصلات الثمانية هي من أسباب الكون في الجنات. وهذه الصفات لا يشاركه المشركون في معظمها بالمرة، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدر، مع أحلافه دون أعدائه، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب، وإذا خشي أن يوصم بالكذب. وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث، وغدر بعضهم بعضًا، فلو علم المشرك أنه لا يطَّلع على كذبه وكان له هوى لم يؤدِّ الشهادة. ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ مقيمون، لا يضيِّعون منها شيئًا.. جملة اسمية دون أن يقال: الذين يدومون. لقصد إفادتها الثبات تَقْوِيَةً كَمُفَادِ الدوام. وقال قتادة: ذُكر لنا أن دانيال- عليه السلام- نعت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يصلون صلاة لو صلَّاها قوم نوح ما غرقوا، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة. فعليكم بالصلاة؛ فإنها خُلُق للمؤمنين حسن. وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينًا ولا شمالًا. والدائم الساكن، ومنه: نهي عن البول في الماء الدائم؛ أي: الساكن. ﴿ وَالَّذِينَ ﴾ إعادة اسم الموصول مع الصلات المعطوفة لمزيد العناية بأصحاب تلك الصلات. ﴿ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴾ للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم من مواساة إخوانهم؛ إذ لم تكن الصدقة يومئذٍ واجبة، ولم تكن الزكاة قد فُرِضَتْ. ومعنى كون الحق معلومًا أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم. ﴿ لِلسَّائِلِ ﴾ هو المستعطي ﴿ وَالْمَحْرُومِ ﴾ الذي لا يسأل الناس تعفُّفًا مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم. وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله: ﴿ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ [المعارج: 18]. والحق المعلوم قيل: هو الزكاة المفروضة، قاله قتادة وابن سيرين؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو على قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر. وعن ابن عباس قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رَحِمًا، أو يُقري بها ضيفًا، أو يحمل بها َكلًّا، أو يعين بها محرومًا.وعن الشعبيِّ: أن في المال حقًّا سوى الزكاة. ﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ ﴾ فعل مضارع يدل على الاستمرار ﴿ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ يوم الجزاء، يوم القيامة؛ أي: يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله: ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴾ [المعارج: 6]. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ الإشفاق: توقُّع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.. أي: خائفون وَجِلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يُضيِّعون له فرضًا، ولا يتعدون له حدًّا. وهذا الوصف مقابل قوله في حق الكافرين: ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ ﴾ [المعارج: 1-2]؛ لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك وَمُحِيلِهِ. ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى. وهذا تعريض بزعم المشركين الأمن؛ إذ قالوا: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 138]. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه؛ لغلبة ملكة الصبر، وامتلاك ناصيته﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ من الإماء ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ﴾ قال ابن جرير: أي: التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته، أو ملك يمينه ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ الذين عدوا ما أحل الله لهم، إلى ما حرَّمه عليهم. وهو تعريض بالمشركين: أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنى ولا مخالة ولا بغاء.. والعادي: المفسد؛ أي: هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم، وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم، ونشأت بينهم الإحن من الغيرة. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ والرعي: الحفظ والحراسة. وأصله رعي الغنم والإبل. أي: راعون لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما عقده لهم على نفسه ﴿ رَاعُونَ ﴾ يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيِّعونه. وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، وفي الحديث: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ))؛ [البخاري]. وذكر رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يود الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه، فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بواليه وأهل عهده. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴾ لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها، غير مغيَّرة ولا مبدَّلة. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها... لا يضيِّعون لها ميقاتًا ولا حَدًّا. قيل: الحفظ عن الضياع، استعير للإتمام والتكميل للأركان والهيئات.. وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدُّد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به. فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها، لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدَلَّ على الاعتناء بها والتنويه بشرفها؛ ولذا قال القاضي: وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولًا وآخرًا باعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها. ولما أجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مكرمون في الجنة. ﴿ أُولَئِكَ ﴾ وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5]. ﴿ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾والإكرام: التعظيم وحسن اللقاء؛ أي: هم من جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء، قال تعالى: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23-24] وقال: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [التوبة: 72]. ﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [المعارج: 36 - 39]. ﴿ فَمَالِ الَّذِينَ ﴾ وكتب في المصحف اللام الداخلة على ﴿ الَّذِينَ ﴾ مفصولة عن مدخولها، وهو رسم نادر. ﴿ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾مسرعين نافرين منك، والإهطاع: مَدُّ العنق عند السير، والاستفهام إنكاري وتعجبي. ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ﴾ والمقصود: كثرة الجهات ﴿ عِزِينَ ﴾ متفرقين حِلقًا ومجالس، جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله. واحدها عِزَةٌ بتخفيف الزاي؛ أي: متفرقين. وهو حال من مهطعين؛ أي: في حال تفرُّقهم واختلافهم، كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء: فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. وكما قال تعالى: ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [المدثر: 49-51]. وروى أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟) وَهُمْ قُعُودٌ؛ [وأخرجه مسلم أيضًا]. ﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ﴾ وأسند الطمع إلى ﴿ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ﴾ دون أن يقال: "أيطمعون أن يدخلوا الجنة"، تصويرًا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله: ﴿ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ﴾ تقوية التهكم بهم. ﴿ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴾ ولم يتَّصف هو بصفات أهلها المنوَّه بها قبل ﴿ كَلَّا ﴾ لا يكون ذلك، لأنه طمع في غير مطمع. ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ من النطف؛ يعني: ومن قدر على ذلك فلا يعجزه إهلاكهم، فليحذروا عاقبة البغي والفساد. كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [المرسلات: 20]. وقال:﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴾ [الطارق: 5 - 10]. وقيل: أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. قال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يا بن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 41 - 44]. ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ يعني: مشرق كل يوم من السَّنة ومغربه، أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب. وتقدير الكلام: ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب، ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة. ولهذا أتى بـ "لا" في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة، وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السموات والأرض، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات، وسائر صنوف الموجودات؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57]، ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف: 33]، ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 81، 82]. والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله؛ لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها. وجمع ﴿ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ باعتبار تعدُّد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة، فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية؛ لدلالته من عظيم صنع الله من حيث إنه دالٌّ على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات؛ ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب. ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بأمة خير منهم، والخيرية في الإيمان والفضل والطوع والمال. ويكون هذا تهديدًا لهم بأن سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 19]، ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]. وفي هذا تثبيت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتذكير بأن الله عالم بحالهم. وقيل: يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه، فإن قدرته صالحة لذلك.وإنما كان خلقًا أتقن من النشأة الأولى؛ لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلق الأول مناسبًا لعالم التغيُّر والفناء. ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ بمغلوبين، إن أردنا ذلك؛ أي: وما نحن بعاجزين عن ذلك، ولن يفوتنا أحد من هؤلاء الكفار، وليس معناها أنه لن يسبقنا أحد في تبديلهم. ومثله قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 4]؛ أي: يفوتونا ويعجزونا. وقوله: ﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ [الواقعة:60-61]؛ أي: فلا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده. ﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ يا محمد ﴿ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ﴾ اتركهم يخوضوا في باطلهم وتكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ويلعبوا في دنياهم؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم ﴿ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ أخذهم فيه وهلاكهم. ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ ﴾ القبور ﴿ سِرَاعًا ﴾ حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي. ﴿ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ ﴾الصنم المنصوب للعبادة، أو هو حجر أو صنم يذبح عليه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة: 3]. قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم. أو النصب: العَلَم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك، أو ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. فهم يسرعون إسراع عبدة الأصنام نحو صنمهم، أو إسراع من ضَلَّ عن الطريق إلى أعلامها، أو إسراع الجند إلى راية الأمير. ﴿ يُوفِضُونَ ﴾ يسرعون ﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾ ذليلة خاضعة من الخزي والهوان، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله ﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم، في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة.. قال قتادة: هو سواد الوجوه. ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب وأنهم ملاقوه. وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة من تحقق وقوعه.
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |