تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4931 - عددالزوار : 2011127 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4504 - عددالزوار : 1291776 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 118 - عددالزوار : 74063 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 45782 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 39659 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 3832 )           »          مشكلات التربية في مرحلة الطفولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 10400 )           »          حث الأبناء على أداء العبادات تعويدًا وتربية وتقويمًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          هوس الشراء.. إدمان كيف تنجو منه المرأة؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          ترتيب الأولويات في الحياة الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-11-2021, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,719
الدولة : Egypt
افتراضي تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين

تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين


د. إبراهيم عوض





تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين

فنون الأدب في لغة العرب (1)



يَسخر كثير من النُّقاد من تعريف الشعر بأنه "الكلام الموزون المقفى"، على أساس أن الوزن والقافية لا يكفيان لتمييز هذا الفن؛ إذ النظم هو أيضًا كلام موزون مقفًّى، ولكنه بكل تأكيد ليس شعرًا؛ ذلك أن الشعر ليس كلامًا ووزنًا وقافيةً فحسب، بل هو أشياء أخرى إلى جانب الكلام والوزن والقافية، وأغلب الظن أن الذين قالوا بذلك التعريف - إن كان هناك مَن قالوا به على هذا النحو، دون أن يُضيفوا إليه شيئًا آخر كما سنرى بعد قليل - لم يقصِدوا أنه مجرد كلام توفَّر له الوزن والقافية، بل قصدوا أنه فن من فنون الأدب، لكنه يمتاز مع هذا عن سائر الفنون الأدبية بأنه موزون مقفًّى، وبأشياء أخرى معلومة من الأدب بالضرورة، لم يجدوا حاجةً إلى النص عليها لوضوحها في أذهانهم؛ إذ كثيرًا ما يكون وضوحُ الشيء في الذهن سببًا في عدم الاهتمام بتعريفه التعريفَ الدقيق، الذي يجمع كل الأنواع تحت جَناحه، وينفي ما عداه من تحت ذلك الجناح، وإلا فهل كان قدامة بن جعفر مثلاً، وهو الذي ذكر أنه قال بذلك التعريف في كتابه: "نقد الشعر"، مع أنه في الواقع لم يقلْ ذلك فقط، بل أضاف إليه عنصر المعنى بكل ما يَعنيه المعنى في الشعر - هل كان يجهل الفرق بين النظم والشعر؟ لا أظن ذلك أبدًا.

ولست بحاجة إلى أن أذهب بعيدًا في الدفاع عن الرجل، فقد كفاني تلك المؤونة د. مندور ذاته الذي اتَّهم قدامة بأنه هو صاحب ذلك التعريف؛ إذ قال في الفصل الأول من كتابه "الأدب وفنونه" - لدن عرْضه رأيَ من يذهبون إلى أن الموسيقا في الشعر شيء أصيل غير مُجتلب -: "إن من الممكن إذًا القول بأن الموسيقا في الشعر ليست دخيلةً عليه، ولا مستعارةً من فنٍّ آخر؛ لأنها نابعة من أداة التعبير الشعري نفسها، وهي اللغة، فالموسيقا الشعرية تُعتبر إحدى الوسائل المُرهفة التي تَملِكها اللغة للتعبير عن ظلال المعاني وألوانها، بالإضافة إلى دَلالة الألفاظ والتراكيب اللغوية.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نَخلُص إلى أن النظم - أي: موسيقا الشعر - يعتبر من المقاييس الأساسية التي تُميِّز فن الشعر عن فن النثر، ولكن على شرط بديهي، هو ألا نعتبر النظم مقياس التفرقة الوحيد بين الفنَّين".

فقد وصف "مندور" عدم اتخاذ النَّظم مقياسًا وحيدًا في التفرقة بين الشعر والنثر، بأنه أمرٌ بديهي؛ أي: معلوم بالضرورة، دون أن تكون ثمة حاجة إلى النص عليه نصًّا، وهذا عينه هو ما قلناه لدى حديثنا عن ذلك التعريف، وقد أوجَز "ميشال عاصي" الكلام حين ذكر في فصل: "فن الأدب" من كتابه: "الفن والأدب" - أن الشعر والنثر كلاهما قالب أدبي، كل ما في الأمر أن أولهما يتميَّز عن ثانيهما بالوزن والقافية، كذلك يؤكد فنسان (M، L'Abbe Ci، Vincent)صاحب كتاب "نظرية الأنواع الأدبية"، الذي ترجمه د. حسن عون، أن "النَّظم هو العنصر الأساسي للشعر"، وهذا نص كلامه، وهو موجود في الفصل الأول الذي خصَّصه لذلك الفن من كتابه المذكور.

بيْد أن قدامة لم يكتفِ - كما قلنا - بتعريف الشعر على ذلك النحو، بل أضاف إلى عنصرَي الوزن والقافية عنصرَ المعنى كما أشرنا من قبلُ، وألَحَّ على أن هناك مراتبَ للشعر جودةً ورداءةً، ووضع كتابًا كاملاً في ذلك هو كتاب "نقد الشعر".

وعلى هذا؛ فزعْمُ "مندور" في مفتتح كُتيِّبه عن "فن الشعر"، وكذلك في الفصل الخاص "بالشيخ المرصفي" من كتابه: "النقد والنقاد المعاصرون"، أن "قدامة" يَقتصر في تعريفه للشعر على الوزن والقافية - هو زعم خاطئ تمام الخطأ والخطل، والعجيب أن "مندور" قد سبق له دراسة "قدامة" وكتابه المذكور في الرسالة التي حصَل بها على درجة الدكتوراه من مصر، ونشرها بعنوان: "النقد المنهجي عند العرب"، بعد فشله في إحرازها في فرنسا على مدار تسْعِ سنوات كاملات، إلا أنه - كأي شخص لا يعرف "قدامة" ولا ما كتَبه من نقد - يؤكد أنه يكتفي في تعريف الشعر بأنه "كلام موزون مقفًّى"، وكلام "قدامة بن جعفر" في كتابه: "نقد الشعر" يؤكد ما قلته من أنه حين وضع التعريف كان مطمئنًا إلى أن قرَّاءَه يفهمون عنه ما يقصِد دون أن ينصَّ على كل الدقائق، وإن كنتُ آخذ على أمثاله عدمَ الالتفات إلى مثل تلك الدقائق عند وضْعهم تعاريفَهم رغم وضوحها في أذهانهم؛ إذ لا يكفي أن تكون الفكرة واضحةً في ذهن الكاتب، بل ينبغي أن يكون قادرًا على نقْلها بهذا الوضوح إلى أدمغة القُرَّاء؛ حتى يشاركوه ما لديه، ويتفاهموا معه عليه.

والدليل على ما قلناه، أنه لم يترك بعد هذا شيئًا من عناصر الشعر؛ من لفظ، أو معنًى، أو صورة، أو وزنٍ، أو قافية - إلا وقف إزاءه وبيَّن وجوه الحُسن والقُبح فيه، وساق الشواهد على ما يقول، فمن هذا اشتراطه في اللفظ مثلاً: "أن يكون سمْحًا، سهْلَ مخارجِ الحروف من مواضعها، عليه رَونق الفصاحة، مع الخُلو من البشاعة"، أما المعنى، فـ"جماع الوصل لذلك أن يكون المعنى مواجهًا للغرض المقصود، غير عادل عن الأمر المطلوب".

ويتصل بالمعنى ما يلجأ إليه بعض الشعراء من الغلو والمبالغة، التي تبدو خارجةً عن نطاق المعقول؛ إذ يرى قدامةُ أن "كل فريق إذا أتى من المبالغة والغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم، فإنما يريد به المثل وبلوغ النهاية في النعت"، وبالمثل نراه يتعرَّض لصحة التقسيم، "وهي أن يبتدئ الشاعر، فيضع أقسامًا فيَستوفيها، ولا يغادر قِسمًا منها"، وكذلك لصحة المقابلة، "وهي أن يصنع الشاعر معانيَ يريد التوفيق بين بعضها وبعض، أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة، أو يشرط شروطًا ويُعدِّد أحوالاً في أحد المَعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرَطه وعدَّده، وفيما يخالف بأضداد ذلك"، ثم صحة التفسير، "وهي أن يضع الشاعر معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنعه، فإذا ذكرها أتى بها من غير أن يخالف معنى ما أتى به منها، ولا يزيد أو ينقص"، وهكذا.

على أن موسيقا الشعر لديه ليست مقصورةً على الوزن والقافية وحدهما، بل هناك أيضًا ألوان البديع الإيقاعية المختلفة التي تزيد الشعر موسيقا إلى موسيقاه وجمالاً فوق جماله.

وهو لا يكتفي بالحديث عن كل عنصر شعري مفردًا، بل يتناول الحديث عن كل عنصر مقترنًا بغيره؛ إذ الشعر ليس بعناصره متفرقةً، بل أيضًا بتآلُفها وتناسُقها، وانصهارها بعضها في بعض، ومرة أخرى نراه لا يكتفي بهذا، بل يتطرَّق إلى تفصيل القول في عيوب كل عنصر من تلك العناصر مفردًا، ومجتمعًا مع غيرها من العناصر الأخرى، وقد تكون النزعة العقلية غلبت على كلامه، لكن يحسب له تقنينه الشعر، بحيث لا يكون الكلام فيه - كما نرى الآن فيما يسمى بالنقد الحداثي - كلامًا عائمًا، غائمًا هائمًا، لا يستطيع القارئ في كثير من الأحيان القبض منه على شيء واضح مفيد، إنما هو كلام يُلاك ويُمضغ، ثم يُنبَذ في نهاية الأمر نَبْذَ النواة.

ولقد كان "قدامة" واضحًا في موقفه؛ إذ قال: إن "العلم بالشعر ينقسم أقسامًا: فقسم يُنسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم يُنسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم يُنسب إلى علم غريبه ولُغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به، وقسم ينسب إلى علم جيِّده ورديئه، وقد عُنِي الناس بوضْع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عنايةً تامَّة، فاستقصَوْا أمر العروض والوزن، وأمر القوافي والمقاطع، وأمر الغريب والنحو، وتكلَّموا في المعاني الدال عليها الشعر، وما الذي يريد بها الشاعر، ولم أجد أحدًا وضع في نقد الشعر وتخليصِ جيده من رديئه كتابًا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام المعدودة؛ لأن علم الغريب والنحو وأغراض المعاني، محتاج إليه في أصل الكلام العام للشعر والنثر، وليس هو بأحدهما أَولى منه بالآخر، وعِلمَا الوزن والقوافي - وإن خصَّا الشعر وحده - فليست الضرورة داعيةً إليهما؛ لسهولة وجودهما في طباع أكثر الناس من غير تعلُّم، ومما يدل على ذلك أن جميع الشعر الجيد المستشهد به، إنما هو لمن كان قبل واضعي الكتب في العروض والقوافي، ولو كانت الضرورة إلى ذلك داعيةً، لكان جميعُ هذا الشعر فاسدًا أو أكثرُه، ثم ما نرى أيضًا من استغناء الناس عن هذا العلم فيما بعد واضعيه إلى هذا الوقت، فإن مَن يعلمه ومن لا يعلمه، ليس يُعوِّل في شعرٍ - إذا أراد قوله - إلا على ذوقه دون الرجوع إليه، فلا يتوكَّد عند الذي يعلمه صحة ذوق ما تزاحف منه بأن يعرضه عليه، فكان هذا العلم مما يقال فيه: إن الجهل به غير ضائر، وما كانت هذه حاله، فليست تدعو إليه ضرورة، فأما علم جيد الشعر من رديئه، فإن الناس يخطبون في ذلك منذ تفقَّهوا في العلم، فقليلاً ما يُصيبون، ولَمَّا وجَدت الأمر على ذلك، وتبيَّنت أن الكلام في هذا الأمر أخصُّ بالشعر من سائر الأسباب الأُخَر، وأن الناس قد قصَّروا في وضع كتاب فيه، رأيت أن أتكلَّم في ذلك بما يبلغه الوسع..."، وهو ما يدل دلالةً قاطعة على أنه لم يكن يرى أن الوزن والقافية هما المعيار الحاسم - بَلْه الوحيد - في التفرقة بين الشعر والنثر؛ كما اتَّهمه بعض القوم؛ تعجُّلاً عليه، وإجحافًا في حقه.

وقد اجترَح "مندور" خطأً آخر في نهاية الفصل الأول من كتابه: "النقد والنقاد المعاصرون"؛ إذ زعم أن جميع النقاد العرب الذين أتوا بعد "قدامة" قد ردَّدوا وراءه تعريف الشعر بأنه "الكلام الموزون المقفى"، ووجه الخطأ فيه هو أن "قدامة" لم يقتصر على هذا في تعريف فن الشعر حسبما وضَّحنا، وكذلك غير صحيح أن كل من جاؤوا بعد ذلك الناقد الكبير لم يصنعوا شيئًا أكثر من ترديد هذا التعريف، فالفارابي مثلاً في كتابه: "جوامع الشعر" يُعرِّفه قائلاً: إن "قوام الشعر وجوهره عند القدماء: هو أن يكون قولاً مؤلَّفًا مما يحاكي الأمر، وأن يكون مقسومًا بأجزاء يُنطق بها في أزمنة متساوية"، وإن "أعظم هذين في قوام الشعر هو المحاكاة، وعلم الأشياء التي تكون بها المحاكاة، وأصغرها هو الوزن"، وعند ابن سينا - كما جاء في كتابه: "المجموع" - أن الشعر "لا يتم شعرًا إلا بمقدمات مخيلة، ووزن ذي إيقاع متناسب ليكون أسرع تأثيرًا في النفوس؛ لميل النفوس إلى المُتزنات والمُنتظمات التركيب"، وفي "العمدة"؛ لابن رشيق: "وإنما سُمِّي الشاعر: شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظرف لفظٍ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحَف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنًى إلى وجه عن وجه آخر - كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقةً، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير".

ويقول حازم القرطاجني في "منهاج البلغاء": "الشعر كلام موزون مقفًّى، من شأنه أن يُحبِّب إلى النفس ما قصد تَحبيبه إليها، ويُكرِّه إليها ما قصد تكريهه؛ لتُحمَل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حُسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أو قوة شهوته، أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب؛ فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس، إذا اقترَنت بحركتها الخيالية، قَوِي انفعالها وتأثُّرها"، وفي "مقدمة" ابن خلدون نقرأ: إن "قول العروضيين في حد الشعر: إنه الكلام الموزون المقفى - ليس بحد لهذا الشعر، باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن، والقوالب الخاصة، فلا جَرم أن حدهم ذاك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية، فنقول: إن الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متَّفقة في الوزن والرَّوِي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به".

ومن ثم يمكننا أن نرى بكل وضوح أن د. "مندور" متسرع في كلامه وأحكامه، لا يطيق صبرًا على التدقيق والتمحيص، وقد تبيَّن لي - وأنا أضع الفصل الأول من كتابي: "مناهج النقد العربي الحديث"، وهو خاص بالشيخ "حسين المرصفي" - كيف كانت قراءة "مندور" - في غير قليل من الأحيان - قائمةً على الخطف والنتش، دون تبصُّر أو تروٍّ؛ مما أوقعه في عدد من الأخطاء الفادحة، ما كان أغناه عنها لو أنه اتَّسم بشيء من الأَناة والرغبة في الاستقصاء؛ فقد كان مثلاً يعزو كل ما يُورده "المرصفي" من نصوص القدماء وآرائهم في الأدب والشعر إلى "المرصفي" ذاته؛ ذلك أنه لم يكن يكلف نفسه قراءة "الوسيلة الأدبية"؛ للشيخ - يرحمه الله - كما ينبغي أن تكون القراءة، بل كان يقلب صفحاتها كيفما اتَّفق، فإذا أعجبه شيء مما يتصادف وقوعه تحت عينيه، نسَبه إلى "المرصفي"، وملأ الدنيا صياحًا بأن الرجل هو ابن بَجْدتها، وأنه أول من قال كذا وكيت، وأنه سبق به الناقد الأوربي الفلاني أو العلاني، مع أن كل هذا غيرُ صحيح، وأن دور "المرصفي" فيه لا يعدو تنبُّهه إلى قيمة تلك النصوص وإيرادها في كتابه؛ لتكون تحت بصر القُراء الذين بَعُد بهم العهد عن مطالعة ما كتَبه الفحول في مجال اللغة والأدب والنقد في عصور ازدهار الثقافة العربية.

نرجع إلى ما كنا بسبيله، فنقول: إن الشعر هو فن من فنون الأدب، يَزيد على الفنون النثرية - كالخطابة والمقالة، والرواية والمثَل - بجرْيه على الوزن والقافية، وقيامه - من ثَمَّ - على التركيز والتكثيف، مع بروز العنصر الوجداني والخيالي فيه أشد من بروزهما في تلك الفنون الأخرى، وقد يكون الشعر بعد ذلك وصفًا لمنظر طبيعي، أو موقف من المواقف، أو شخص من الأشخاص، أو قد يكون تعبيرًا عن خاطرة، أو رأي، أو عاطفة، وقد يكون انعكاسًا للذات الفردية، أو الذات الجماعية، وقد يكون تحميسًا واستنفارًا، وقد يكون عبَثًا واستهتارًا، وقد يكون شجنًا ويأسًا، وقد يكون بهجةً وأُنسًا، وقد يكون فخرًا مُجلجلاً، وقد يكون إعجابًا مستوليًا، وقد يكون تأمُّلاً واستبطانًا للنفس، وانسحابًا من الدنيا والمجتمعات، وقد يكون إقبالاً على الحياة والأحياء، وقد يكون هتافًا مُصمًّا، وقد يكون همسًا ونجوى، وقد يكون كلامًا مباشرًا، وقد يكون حكايةً، وقد يكون متعلقًا بقضية اجتماعية أو إنسانية، أو دينية أو سياسية، وقد يكون متعلقًا بشأن ذاتي، وقد يكون مسرحيةً تتشابك فيها الشخصيات والمواقف والحوارات، وقد يكون ملحمةً طويلةً تشتمل على العُقدة والسرد والوصف، وتحليل النفوس وتحاوُر الأفراد..، والمهم في كل ذلك أن نَلفت النظر إلى أن هذا الفن إنما ينهض على أساس من التركيز، وتحليق الخليل، وحرارة الوجدان، فضلاً عن توفُّر عنصر الموسيقا، ذلك العنصر الذي يحاول الآن قومٌ من العجَزة أو الموتورين - الراغبين في التدمير والتشويه - إلغاءَه، والزعم بأن الشعر لا يحتاج إليه؛ لأنه ليس من عناصره على الإطلاق، إنما هو شيء عرضي إلحاقي كان له يومًا من الأيام، والآن يمكن أن يخلو منه دون أن يكون ثمة ضررٌ من وراء ذلك البتة.

وفي مقال للدكتور "عبدالعزيز المقالح" في موقع "جهة الشعر" عنوانه: "عن النص والشخص: عباس بيضون وجيل الريادة الثاني في قصيدة النثر العربية" نجده يقول: "قرأت كثيرًا عن تعريف الشعر، وعن تعريف النثر، وشغلتني هذه التعريفات ردحًا من الزمن، وحاولت أكثر من مرة ترتيبها بحسب الأهمية، لكني وجدت أن أكثر هذه التعريفات قربًا من تصوري لتعريف الشعر، هو ذلك التعريف الذي وضعه الشاعر والكاتب الأرجنتيني الأشهر "خورخي بورخيس"، وهذا هو النصُّ الدقيق الواضح لتعريفه الذي يتكوَّن من الأسطر الأربعة الآتية: "أظن الشعر يختلف عن النثر لا باختلاف صيغتهما اللفظية كما يقول "الكثيرون"، وإنما يختلفان في حقيقة أن كليهما يُقرأ بطريقة مختلفة، فالقطعة التي تقرأ وهي موجهة إلى العقل هي نثر، والقطعة التي تُقرأ موجهة إلى المخيلة، ينبغي أن تكون شعرًا".

وواضح أن الكاتب إنما يُقارن بين الكتابة العلمية والكتابة الأدبية بوجه عام، لا بين النثر والشعر تحديدًا كما تدَّعي كلماته، وإن أنت قلت له ذلك، سارع إلى القول بأن العبرة في الأمر، إنما هي الشاعرية، وهذه الشاعرية عنده قد تتحقَّق في النثر أيضًا، وهو ما يتَّخذه تكأةً للزج بما يسمى بـ"قصيدة النثر" في ساحة الشعر، لكن هذه في الواقع مصادرة على المطلوب، فما يتحدث عنه "بورخيس" إنما هو الإبداع الأدبي، ثم تأتي خصائصُ الشعر كما أشرنا إليها قبل قليل، فتميِّز بدورها بين النثر الأدبي والشعر، على أن نفهم "المخيلة" في كلام "بورخيس" بمعنًى أوسع يدخل فيه الوجدان ودِفؤُه، والصياغة اللغوية وسحرها، والبِنْية الفنية وما تَخلقه في النفس من متعة؛ مما من شأنه إشاعةُ الشعور بالنشوة لدى القارئ.

أما قول "المقالح" عقب هذا: "ربما يكون آخرون قد سبقوا بورخيس إلى معنى هذا التعريف، ومن هؤلاء الآخرين نقاد عرب قدامى، إلا أن صياغة "بورخيس" الحاسمة شبه المنطقية لتعريف الشعر والنثر، تجعله أكثر تحديدًا، وأكثر دقةً وواقعية - إن جاز التعبير - من أي تعريف سابق، فما كان من أنواع الكتابة يلامس العقل، فهو نثر، حتى لو كان موزونًا مقفًّى، وما كان يلامس الوجدان، فهو شعر حتى لو كان خاليًا من الوزن والقافية، ومن كل ما ألحقه البلاغيون بالشعر - في عصور الانحطاط - من عناصرَ لغوية تخص الأسلوب، أو تدخل في إطار المعنى" - فلا يخلو من إجحاف ورغبة في نُصرة الأعجمي على العربي حتى لو كان العربي سابقًا، ثم إن الوسائل البلاغية التي يشير إليها - من جناس وسجع، وترصيع وموازنة، وطباق وتَورية، وما إلى ذلك - قد عادت مرةً أخرى، فاستولَت على عقول بعض الشعراء الحداثيِّين أنفسهم؛ لتُضفي على شعرهم شيئًا من الفتنة!

ولكيلا يكون الكلام في الشعر كلامًا نظريًّا مجردًا، نسوق القصيدة التالية، وهي تائية كُثَيِّر عَزَّة المشهورة:
خَليليَّ هذا رسْم عزَّةَ فاعْقِلا
قَلوصيكما، ثم انظُرا حيث حَلَّتِ

وما كنت أدري قبْل عزَّةَ ما الهوى
ولا مُوجعات الحُزن حتى تَولَّتِ

فقد حَلَفتْ جَهْدًا بما نحَرَتْ له
قريشٌ غَداةَ المأزِمين ولبَّتِ

أُناديك ما حَجَّ الحجيج وكبَّرت
بفيفا غَزالٍ رُفْقة وأهلَّتِ

وكانت لقطْع الحبلِ بيني وبينها
كناذرةٍ نذرًا فأوْفَت وحلَّتِ

فقلت لها: يا عزُّ، كلُّ مصيبة
إذا وُطِنَتْ يومًا لها النفْس ذَلَّتِ

ولَم يَلْقَ إنسان من الحب مَيْعةً
تعمُّ ولا غمَّاءَ إلاَّ تجلَّتِ

كأني أُنادي صخرةً حين أعْرَضتْ
من الصُّمِّ لو تَمشي بها العُصْم زَلَّتِ

صَفوحًا فما تَلقاك إلا بخيلةً
فمَن ملَّ منها ذلك الوصْل مَلَّتِ

أَباحَت حمًى لَم يَرْعَه الناسُ قبْلها
وحلَّتْ تِلاعًا لم تكن قبْلُ حُلَّتِ

فلَيْت قَلُوصي عنْد عَزَّةَ قُيِّدَتْ
بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ غَرَّ مِنْها فَضَلَّتِ

وغُودِرَ في الحي المُقيمين رَحلُها
وكانَ لها بَاغٍ سِوايَ فَبُلَّتِ



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 134.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 133.28 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]