|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الصوم وإيقاظ الضمائر حسان أحمد العماري الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، ولحكمه خضَع العبادُ أجمعون، لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب، بقدرته تَهُبُّ الرياحُ ويسير الغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام. أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الَّذِي لا تحيطُ به العقولُ والأوهام، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فعباد الله، إن من مقاصد الصوم وثماره تربية النفوس على إخلاص الأعمال لله، وإيقاظ الضمائر لمراقبته سبحانه في جميع الأعمال والأقوال والنيات، فالصوم هو العبادة الوحيدة التي قد يُخفيها العبد ولا يعلمها إلا الله، وهو العبادة التي قد يتصنَّعها ويدَّعيها، ويظهرها الإنسان لمن حوله، ولا يعلم بحقيقة ذلك إلا الله، وهكذا هي العبادات في الإسلام تؤتي ثمارها في إيمان العبد وعلاقته مع ربه وعبادته وأخلاقه وسلوكه مع الناس من حوله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:183]. وجعل المولى سبحانه وتعالى ثواب الصوم عظيمًا؛ لأنه أبعد العبادات عن الرياء والنفاق والشرك، فقال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف؛ قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"؛ (البخاري ومسلم)، قال العلامة ابن قدامة: "إنَّ في الصوم خصيصةً ليست في غيرِه، وهي إضافتُهُ إلى الله - عز وجل - حيث يقول - سبحانه -: (الصومُ لي وأنا أجزي به)، وكفى بهذه الإضافة شرفًا! كما شرَّف البيتَ العتيقَ بإضافتِهِ إليه في قولِه: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ [الحج: 26]، وإنما فُضِّل الصومُ لمعنيَيْن: أحدُهما: أنه سِرٌّ وعملٌ باطِنٌ لا يراه الخلقُ ولا يدخله رياءٌ! الثاني: أنه قهرٌ لعدوِّ الله"؛ (مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 45). ولو تساءلنا: ما الذي جعل الصائم يمتنع من الأكل والشرب طول النهار مع المشقة والتعب والجوع، مع أنها في متناول يده، وقد يخلو في مكان لا يراه أحدٌ فيأكل ويشرب، إن الذي منعه من ذلك هو إيمانه بالله وضميره الحي الذي يحمله بين جوانحه، فيدله على الحق من الباطل والخير من الشر والحلال من الحرام. أيها المؤمنون عباد الله، الضمير هو تلك القوة الروحية التي تتحكم في مواقف الإنسان وتفكيره، وتوجِّهه نحو الخير والحق والصلاح، وهو منحةٌ من الله للإنسان، وثمرة للإيمان والعمل الصالح، وهو حصنٌ يَمنع صاحبه من اقتراف الموبقات، وميزان يوازن بين المصالح والمفاسد، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلًا بيوسفَ عليه السلامُ حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى، فقال في وجه امرأة العزيز: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]. وهكذا هو المسلم إذا هَمَّت نفسه بمعصية أو جريمة أو تقصيرٍ أو تفريطٍ، تذكَّر بأن له ربًّا لا يغفل ولا ينام ولا ينسى، يحكم بين عباده بالعدل، ويقتص لمن أساء وقصَّر وتعدَّى في الدنيا والآخرة، القائل سبحانه: ﴿ وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار:10-12]، وقال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء:13-14]. كان الخليفة العثماني سليمان القانوني صاحب ضمير حي وكان شديد الخوف من الله، يُخبره يومًا من الأيام موظفو القصر باستيلاء النمل على جذوع الأشجار في قصر "طوب قابي"، وبعد استشارة أهل الخبرة خلص الأمر إلى دهن جذوعها بالجير، ولكن كان من عادة السلطان حين يُقدم على أمر أن يأخذ رأي مفتي الدولة ورأي العلماء في عصره، وحكم الدين في كل مسألة، فكان لا يُنفذ أمرًا إلا بفتوى من شيخ الإسلام، أو من الهيئة العليا للعلماء في الدولة العثمانية، تُوفي السلطان في معركة زيكتور أثناء سفره إلى فيينا عاصمة النمسا، عندما كانت هذه الأمة صاحبة رسالة وهدف، ففتَحت الدنيا ونشرت العدل، وأنقذت البشرية من ضلالتها وحيرتها، فعادوا بجثمانه إلى إسطنبول، وأثناء التشييع وجدوا أنه قد أوصى بوضع صندوق معه في القبر، فتحيَّر العلماء وظنُّوا أنه مليء بالمال، فلم يُجيزوا إتلافه تحت التراب، وقرَّروا فتحه, فأخذتهم الدهشة عندما رأوا أن الصندوق ممتلئ بفتاواهم، حتى يدافع بها عن نفسه يوم لقاء الله، فبكى العلماء حتى قال قائلهم: لقد أنقذت نفسك يا سليمان، فأي سماءٍ تظلنا وأي أرضٍ تُقلُّنا إن كنا مخطئين في فتاوانا؟ عباد الله، عندما يموت ضمير الإنسان أو تُصيبه آفة أو ينام ولا يستيقظ، يضيع مصير هذا الإنسان، ويضل عن الطريق، وعن صراط الله المستقيم، ويتعرَّض لغضب الله وسخطه، وتفسُد الحياة مِن حوله، وتغدو أعماله هباءً منثورًا، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم حالة توجل منها القلوب وتُذرَف منها الدموعُ حين قال: ((ليأتينَّ أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تِهامة بيض، يكبُّهم الله تعالى على وجوههم في النار))، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله، جلِّهم لنا! فقال: ((يُصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)؛ (صححه الألباني)؛ قال أبو الدرداء: ليتَّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعُر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله عليــه البغض في قلوب المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 107، 108]؛ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع مِن قدره وقدرته احتجاب ولا استتارٌ، ولا يباع لديه عملٌ". فيأتي الصوم ليحيي الضمير في النفوس، ويربطها بالخالق سبحانه وتعالى، وبه تُستشعر عظمة المولى سبحانه وقدرته؛ قال نافع: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا سفرة فمرَّ بهم راع، فقال له عبد الله: هَلُمَّ يا راعي، فأَصِب من هذه السفرة، فقال: إني صائم، فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حرُّه وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم، فقال الراعي: أُبادر أيامي الخالية، فعجِب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك نَجتزرها ونُطعمك من لحمها؛ قال: إنها ليست لي إنها لمولاي، قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب...؟! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله، فلما قدم المدينة فبعث إلى سيده، فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهَب له الغنم رحمه الله، وقال له: إن هذه الكلمة أعتقتْك في الدنيا، وأسأل الله أن تُعتقك يوم القيامة)؛ صفة الصفوة (2 / 188). عباد الله، إن أزمة أمتنا اليوم التي تمر بها المجتمعات والشعوب والأفراد والجماعات والأحزاب، ليست أزمة طعام أو غذاء أو مالٍ، أو دواء أو مسكن، أو تعليم، أو أزمة أمن واستقرارٍ، ولكنها أزمة ضمير تسبَّبت في كل هذه الأزمات التي كانت نتيجتها فساد الأخلاق والقيم والسلوك والمعاملات، وطغى بسببها حبُّ الدنيا وشهواتها، وحبُّ المصلحة الذاتية والرغبة في تحقيقها، وظهر التقصير في الواجبات، والتفريط والتساهل في أداء الأمانات، فساءت الأحوال وسُفكت الدماء، وأُزهقت الأرواح، وتفرَّق الصفُّ وقامت الصراعات والخلافات، وتوقف المد الحضاري وتعطَّل الإنتاج، وأصبحت العبادات والطاعات مجرد حركات وأورادٍ لا تؤثر في إيمان الفرد أو سلوكه وأخلاقه، وتحولت هذه الأمة إلى ميدان كبير ومستنقع للحروب والصراعات والخلافات بين أبنائها إلى جانب هدمٍ للقيم والأخلاق والتنكر للدين والشرع، ولا شك أن ذلك ابتلاء وتَمحيص لهذه الأمة؛ لتعود إلى الحق والصواب الذي أمر الله به في كتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، لذلك يأتي الصيام كل عام ليوقِظ هذه الضمائر ويعالج هذه الاختلالات في شخصية المسلم بتقوية إيمانه وصلته بالله، من خلال ممارسة هذه العبادة العظيمة. اللهم ارزُقنا خشيتك في السر والعلن، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل. قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. الخطبة الثانـية اتقوا اللهَ عباد الله، يا من جعلتم الله رقيبًا على صيامكم، اجعلوا الله رقيبًا على أعمالكم وأخلاقكم وتصرفاتكم في البيت والوظيفة والشارع والسوق، وفي الحكم والسياسة والاقتصاد والتربية والإعلام وغير ذلك، فما أحوج أمة الإسلام لإيقاظ ضمائر أبنائها.الطالب والمعلم والموظف والمهندس والمقاول والتاجر، والطبيب والجندي والحاكم والقاضي، والرجل والمرأة، لتستقيم حياتنا وتصلُح أحوالنا، فزكُّوا أنفسكم وهذِّبوا أخلاقكم، وأَحْيُوا ضمائركم، ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن الشر، تسعدوا في حياتكم وتنالون رضا ربكم، وتقوَ أُخوَّتكم، وتُحفَظ حقوقُكم، وينتشر الخير في مجتمعكم وأوطانكم. واحذروا من التمادي والغفلة، وأقبلوا على الله بأعمال صالحة ونيات خالصة؛ قال تعالى: ﴿ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، حج ابن المبارك مع جماعة من أهل مَرو في خرسان، وأثناء مسيرهم إلى بيت الله الحرام مرُّوا على قرية قد أصابها الجوع والأمراض، والناس في حالة يُرثى لها وفي ضائقة شديدة، فجمع من كانوا معه وذكَّرهم بما عند الله من خير وثواب، وبواجب المسلم تجاه أخيه المسلم، وأيقظ الضمير في نفوسهم، فجمعوا أموالهم التي أعدُّوها للحج، ودفعوا بها لأصحاب القرية، وعادوا إلى بلادهم وحجوا العام الذي بعده؛ فكم من الأجر سينالهم! وكم من الألسن سترتفع بالدعاء لهم! وكم من الراحة النفسية ستمتلئ بها قلوبُهم، فانظروا في حاجة الفقراء والأيتام والمساكين والمشرَّدين والنازحين عن بيوتهم، وتعاونوا فيما بينكم، لعل رحمة الله تدركنا في هذا الشهر الكريم. اللهم تقبَّل صيامنا وصلاتنا وقيامنا، وخُذ بنواصينا إلى كل خيرٍ، واهدنا إلى سواء السبيل، هذا وصلُّوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56]. والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |