المعايشة التربوية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 755 - عددالزوار : 144520 )           »          نصيحة حول قضاء الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          إمامة من يقضي ما فات من الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          سترة المصلي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          تحريم الاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جمع له في الوحي مراتب عديدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 470 - عددالزوار : 152665 )           »          إطعام الطعام من أفضل الأعمال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          { لا تكونوا كالذين كفروا.. } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 12-07-2020, 05:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,762
الدولة : Egypt
افتراضي المعايشة التربوية

المعايشة التربوية


سالم أحمد البطاطي










إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين ،والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة فقط تربية فيها نقص وخلل ، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً ، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف . والناظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم - . يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق - رضي الله عنه - عندما سأل عائشة - رضي الله عنها - : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد ؟ قالت : « نعم ! بعدما حطمه الناس » [1].


فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصدى للناس ، ويعايشهم ، ويخالطهم ، يستقبلهم ويودعهم ، ويتحمل أخطاءهم ؛ لذلك حطمه الناس ، وأثَّروا في بدنه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح يصلي جالساً ، وأسرع إليه الشيب بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - . ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال : « إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ؟ » [2].

ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب ؛ حيث قال : قلت لجابر بن سمرة : كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس ، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية،ينشدون الشعر،ويضحكون،ويبتسم صلى الله عليه وسلم » [3].

وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم ،وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه ، ولكن هي إشارات عابرة ، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم .

1 - مفهوم المعايشة : إن مفهوم المعايشة هو : أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم ، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم ، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها ؛ كالساعات المكتبية ، والساعات المنزلية ، والأيام ، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم ، وزياراتهم ، وتيسير سبل الاتصال به ؛ كالاتصال الشخصي ، والكتابي ، والهاتفي ، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل ؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة . والخلاصة : أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه ؛ لتربيتهم ، والعناية بحاجاتهم ، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة .


2 - لماذا المعايشة في العمل التربوي ؟إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين . إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي ، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم ، وتوجيههم ، والارتقاء بهم ، كيف لا ؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها - صلى الله عليه وسلم - : « ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه ، فكه بِرُّه ، أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة » [4]. ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته ؛ إلا حرم الله عليه الجنة » [5]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ... » [6]ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل ، أو يوبقه الجور » [7].

إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم ، والنصح لهم ، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم ، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة .

3 - المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - والمعايشة : يقول - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [8] .

لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث ، وكان الرائد في هذا المجال ؛ فقد بُعِثَ معلماً،يتوفر لطلابه في معظم أحيانه ، فهم يجدونه في المسجد،فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق،فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته،وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم ، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم ، ويبتسم لهم دائماً .

عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال : « ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي » [9].

وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية ( المعايشة ) في الاتصال بالمدعوين والمتربين ، والتعرف عليهم والتقرب إليهم ، والتأثير فيهم . فهو يعرف أسماءهم ، وبعض خصائصهم ، وأسماء قبائلهم،وتاريخ تلك القبائل،وأسماء بلدانهم،وخصائص تلك البلدان،ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .

هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين،أما أصحابه ممن حوله،والمقربون منه ، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً ، حاجتَهم واستكفاءَهم ، مرضهم وصحتهم ، سفرهم وإقامتهم ، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية ، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية ، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه ، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته .

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح » [10].

4 - فوائد المعايشة : للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع ، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار .

أ - الحصول على الأجر والثواب من عند الله - عز وجل - : قال - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [11].

فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث ، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم ، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين ، والصبر عليهم في تربيتهم ، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم .

ب - تهذيب أخلاق المربي : فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به ، ويؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ويصبر على أذاهم » ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته ، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة . إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه ؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي .

ج - معرفة طاقات المتربين وقدراتهم : يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم ؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها ، ويوجه هذه القدرات في مظانها ، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات ، ولهذا شاهد من السيرة ؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي مر قبل قليل : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ... » [12].

وقال - صلى الله عليه وسلم - : « خذوا القرآن عن أربعة : عن ابن مسعود ، و أُبيِّ بن كعب ، و معاذ بن جبل ، و سالم مولى أبي حذيفة » [13].

د - معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها : يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به . ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه ؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي . ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله .

ولقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً ، فأثنى على نقاط القوة خيراً كما مر معنا وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها ، وإليك هذا الشاهد : عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكنت غلاماً أعزب ، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار . فلقيهما ملك خر ، فقال لي : لم تراعَ . فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل . قال سالم : فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً [14].

هـ - التقويم الصحيح للمتربين :يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم ؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم ، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين ؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره ؛ وذلك بمعايشته لهم ، ومخالطته إياهم ، والقرب منهم . ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية ؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب : أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأُتيَ به يوماً ، فأَمَرَ به ، فجُلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلعنوه ! فوالله ما علمت : إنه يحب الله ورسوله » [15].

لقد زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سب ولعن حماراً - رضي الله عنه - مع أن حماراً كان يشرب الخمر ، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرب الناس إليه بمعايشته له ، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره ؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم - : « لا تلعنوه ! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله » وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه ، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له ، وقريباً منه ، وهذا كان متمثلاً في النبي - صلى الله عليه وسلم - .

و - معرفة الخصائص النفسية للمتربين : النفوس تختلف وتتباين ، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها ، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية ، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية ، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين ؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص ، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات ، ولهذا شاهد من السيرة النبوية ؛ فعن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمال أو سبي ، فقسمه ، فأعطى رجالاً ، وترك رجالاً ، فبلغه أن الذين ترك عتبوا ، فحمد الله ، ثم أثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد : فوالله ! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل ، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي ، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ، منهم عمرو بن تغلب » . قال عمرو بن تغلب : « فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم » [16].

فتأمل نفاذ نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة خصائص أتباعه ، وتربية كل منهم بما يناسب طرته وميوله ودوافعه الخاصة به . وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب ؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه ، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم .

ز - حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية : يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة ، ومن ثم العطاء والإنتاجية ، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار . وبإمكان المربي من خلال معايشته ، ومخالطته لمن يربيهم ، وبقربه منهم ، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها ، وتجاوز تلك العقبات .

ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم ، يسأل عن أحوالهم ، وعما يكدر خواطرهم ، ويظهر ذلك مما يلي : عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة ؟ قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ! قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك ، وقضى عنك دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال : « قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال » . قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله همي وغمي ، وقضى عني ديني » [17].

5 - أثر المعايشة في الاستجابة : معايشة المتربين ومخالطتهم له الأثر الفاعل في استجابتهم ، فبقدر ما يعطي المربي من اهتمام لهذا المفهوم في واقعه التربوي بقدر ما تكون استجابة المسترشدين له ، والإقبال عليه .

ففي قصة أصحاب الأخدود تروي لنا الأحاديث أن : الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي الناس من سائر الأدواء ، حتى ذاع صيته ، وانتشر خبره ؛ فأقبل الناس عليه أفواجاً ، واستطاع بمعايشته الناس ، والقرب منهم أن يكوِّن رصيداً مباركاً من حب الناس له والإقبال عليه ، لقد قدم لهم وقته ، وجهده ، وما أعطاه الله من موهبة وطاقة ، وقدموا المهج من أجل الدين الذي أتى به اعتقاداً واستمساكاً . فينبغي للمربي أن يوجه ويذلل طاقاته ، وقدراته التي يمتلكها في سبيل الله ، وأن تكون مفتاحاً لمعايشة الناس ، ودعوتهم بعد ذلك .

ولقد كان لهذه الخاصية ( المعايشة ) أثر بارز في تفاعل الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإقبالهم عليه ، وتقبلهم منه ، ورغبتهم في العلم والعمل الذي يوجههم إليه عن قناعة ومحبة ، وكان التلاميذ مندمجين بشخصيته - صلى الله عليه وسلم - أيما اندماج ، دونما تبذُّل أو تكلُّف ، مما جعل الناتج التربوي أصيلاً وعميقاً من جهة ، وواسعاً ومنتشراً من جهة أخرى .

« وقد تناول الباحثون في مجال علم النفس وفي مجال العلاقات الاجتماعية هذه الخاصية بالدراسة ، وافترضوا أن لها علاقةً ما بمدى إقبال المتعلم أو المتلقي على الأستاذ ؛ ليأخذ منه ، أو يسأله ، أو يقيم علاقة شخصية معه تتجاوز الاستفادة الوظيفية في المجال الأكاديمي إلى الاستشارة الشخصية والاجتماعية . وكان من بين الافتراضات التي توقعها بعض الباحثين ، وكانت صحيحة أن : المعايشة ، وقرب المربي ، وإظهاره لهذا القرب بتوفير الساعات المكتبية يمكن أن يكون متغيراً مهماً يقع بين عزيمة المسترشد على الذهاب للمربي واستشارته ، وبين حدوث الاسترشاد فعلاً ، ومن ثَمَّ يكون ظهور المربي قريباً منهم مكاناً ووقتاً وشخصاً عاملاً مهماً في التفاعل والتأثير والإقبال ، وهذا أيضاً ما أيدته بعض الأبحاث الأخرى ، فقد وجد « ولسن وودز » أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأستاذ أو المربي في ساعات معينة ، وظهوره بمظهر المستعد لاستقبال المتعلمين ، وقضاء وقت معهم ، وبين إقبال هؤلاء المتعلمين عليه واستعانتهم به ، وعرض مشكلاتهم عليه ؛ وعلى هذا الأساس كانت الأبحاث النفسية التربوية توصي كثيراً بتوفير الوقت وتنظيمه وتحديده للمسترشدين ، وأن يواكب هذا استعداد شخصي ونفسي من المربي والمرشد ؛ لاستقبالهم والتعامل معهم ، مهما صعبت الظروف وتنوعت » [18].

6 - مساوئ كثرة المعايشة : هل لكثرة المعايشة سلبيات ومساوئ ؟نعم ! إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ، والمعايشة ما لم تخضع لما يضبطها فإنها تصبح نقمة بعد ذلك .

وإليكم بعض هذه المساوئ :

1 - إلْفُ المتربين للمربي ، وإسقاط الكلفة بينهم وبينه ؛ قد تؤدي إلى استنفاد المتربين لما عند المربي من طاقة روحية وذخيرة تربوية،خاصة إذا وافق ذلك تفريط من المربي في تربية نفسه.

2 - ربما يتحولون من مرحلة التأثر إلى مرحلة النقد .

3 - سقوط قضية التوجيه والتربية من يد المربي ، فلا تكن بعد ذلك استجابة من قِبَل المتربين .

7 - ضوابط المعايشة : يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك ، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي ، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره ، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط ، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط :

أ - ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي : الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين ، وأن تكون صلته القوية بالله - تعالى - وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر ، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق ، لا سيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها ، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم .

فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر ، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها ، وأن تكون بحدود المعقول ، وأن تكون مرسومة الأهداف ، مستحضراً لها في معايشته ، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين ، فيجب عليه تذكيره بالله ، وتحذيره من خطورة هذا التعلق ، وربطه بالله ، وبالقدوة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله ، وغيرها من المفاهيم التربوية [19].

ب - ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية : التربية تقوم على عنصرين مهمين : الجماعية والفردية ، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال . ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط ، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط ، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها ، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها ، فهو مع ما يحمل من ثغرات كبيرة في شخصيته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً ، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه .

فلم يعتد أن يبقى فارغاً ، ولم يتربَّ على اغتنام وقته والاستفادة منه .

فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة ، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية ، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية ، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية ، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب .
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 113.42 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]