|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الجُوْعُ وَالمَجَاعَاتُ أَهَمِّيَّةُ إِطْعَامِ الْطَّعَامِ فِي الْإِسْلَامِ إبراهيم بن محمد الحقيل الخطبة الأولى الْحَمْدُ لله الْغَنِيِّ الْكَرِيْمِ (فَاطِرِ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) [الْأَنْعَامِ: 14] نَحْمَدُهُ حَمْدَاً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيْمِ سُلْطَانِهِ؛ فَمَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ مَانِحُهُ، وَمَا مِنْ ضُرٍّ إِلَّا وَهُوَ كَاشِفُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ: (لَهُ مَقَالِيْدُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الْرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الْشُّوْرَىْ: 12]. وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ كَانَ يَقُوْمُ وَيَنَامُ، وَيَصُوْمُ وَيُفْطِرُ، وَيَجُوعُ وَيَشْبَعُ..لَا بَشَرَ أَكْرَمُ مِنْهُ فِيْ إِطْعَامِ الْطَّعَامِ، وَبَذْلِ المَالِ..وَلَيْسَ فِي الْنَّاسِ أَصْبَرُ مِنْهُ عَلَى الْجُوْعِ وَاللَّأوَاءِ.. أَخْرَجَهُ الْجُوْعُ مِنْ بَيْتِهِ، وَعَصَبَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْفَقَ أَوْدِيَةَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيْعُوْهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَقِيْمُوْا لَهُ دِيْنَكُمْ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوْبَكُمْ؛ فَإِنَّ الْأَحْدَاثَ فِيْ تَسَارُعٍ، وَالاضْطِرَابَاتِ فِيْ تَفَاقُمٍ، وَزَمَنَ الْفِتَنِ الْعِظَامِ قَادِمٌ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالله - تعالى -، وَالتَعَلُّقِ بِهِ، وَالتَمَسُّكِ بِحَبْلِهِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّنَا مَأْمُوْرُوْنَ بِذَلِكَ عِنْدَ حُدُوْثِ الْفِتَنِ؛ كَمَا قَالَ الْنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْعِبَادَةُ فِيْ الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَيُّهَا الْنَّاسُ: مِنْ حِكْمَةِ الله - تعالى - فِيْ خَلْقِ الْبَشَرِ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ يَحْتَاجُوْنَ إِلَى سَدِّ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَلْئِ أَجْوَافِهِمْ، وَتَسْكِينِ جُوْعِهِمْ بِالْطَّعَامِ، وَهِيَ الْجِبِلَّةُ الَّتِي أَدْرَكَهَا إِبْلِيْسُ فِيْ خَلْقِ أَبِيْنَا آَدَمَ - عليه السلام - كَمَا جَاءَ فِيْ حَدِيْثِ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لمَّا صَوَّرَ اللهُ آَدَمَ فِيْ الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيْسُ يُطِيْفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ فَلَمَّا رَآَهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقَاً لَا يَتَمَالَكُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْ مَعَانِيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَمَامَ شَهْوَةِ الْطَّعَامِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَزَا إِبْلِيْسُ آَدَمَ - عليه السلام - فَأَغْوَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجِنَّةِ حِيْنَ زَيَّنَ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الْشَّجَرَةِ المُحَرَّمَةِ. إِنَّ اللهَ - تعالى - حِيْنَ خَلَقَ الْبَشَرَ وَجَعَلَ الْطَّعَامَ قِوَامَاً لَهُمْ، وَسَبَبَاً لِاسْتِمْرَارِ حَيَاتِهِمْ؛ رَزَقَهُمْ أَنْوَاعَ المَآكِلِ: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبَّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقَّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا حَبَّاً) [عَبَسَ: 27] ثُمَّ عَدَّدَ - سبحانه - أَنْوَاعَاً مِنَ الْطَّعَامِ. وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيْهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُوْنَ) [الْنَّحْلِ: 5]. وَجَعَلَ - سبحانه - خَلْقَ الْطَّعَامِ دَلِيلَاً عَلَى رُبُوْبِيَّتِهِ وَأُلُوْهِيَّتِهِ: (قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيَّاً فَاطِرِ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) [الْأَنْعَامِ: 14]، وَفِيْ أَمْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِعِبَادَتِهِ - سبحانه -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ * مَا أُرِيْدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُوْنِ) [الْذَّارِيَاتِ: 57]، وَقَالَ الْخَلِيْلُ - عليه السلام - مُعَدِّدَاً دَلَائِلَ رُبُوْبِيَّةِ الله - تعالى -: (الَّذِيْ خَلَقَنِيْ فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِيْ وَيَسْقِيْنِ) [الْشُّعَرَاءُ: 79]. ثُمَّ شَرَعَ اللهُ - سبحانه وتعالى - لِلْعِبَادِ مِنَ الْشَّرَائِعِ مَا يُوَافِقُ خِلْقَتَهُمْ، وَيُلَبِّي حَاجَتَهُمْ، وَيُسَكِّنُ جُوْعَهُمْ، فَجَعَلَ الْأَصْلَ حَلَّ الْطَّعَامِ، وَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا خَبُثَ لِضَرَرِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ: (يَسْأَلُوْنَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْطَّيِّبَاتُ)[الْمَائِدَةِ: 4] (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الْطَّيِّبَاتُ) [الْمَائِدَةِ: 5] (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا كُلُوْا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [الْبَقَرَةِ: 172] وَجَاءَ الْنَّصُّ بِحَلِّ طَعَامِ الْبَحْرِ حَتَّى لِلْمُحْرِمَيْنِ الَّذِيْنَ يَحْرُمُ عَلَيهِمُ الْصَّيْدُ: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لَكُمْ وَلِلْسَّيَّارَةِ) [الْمَائِدَةِ: 96]. وَمِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ الْنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الْطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الْأَعْرَافِ: 157] بَلْ جَاءَ الْنَّهْيُ الْصَّرِيْحُ في أَنْ يُحَرِّمَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئَاً مِنَ الْطَّعَامِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [الْمَائِدَةِ: 87] وَأَنْكَرَ الْنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَكَلَ الْلَّحْمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَاغِبٌ عَنْ سَنَتِهِ. وَكَانَ تَحْرِيْمُ شَيْءٍ مِنَ الْطَّعَامِ الْطَّيِّبِ نَوْعَاً مِنَ الْعُقُوْبَةِ الَّتِيْ عُوْقِبَ بِهَا بَنُوْ إِسْرَائِيْلَ: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِيْنَ هَادُوْا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [الْنِّسَاءِ: 160]. وَمِنْ أَوَائِلِ الْخِطَابِ الْنَّبَوِيِّ المَكِّيِّ فِي المَرْحَلَةِ السِّرِّيَّةِ يَوْمَ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا حَرٌّ وَعَبْدٌ؛ سَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: "مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((طِيْبُ الْكَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الْطَّعَامِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَكَانَ إِطْعَامُ الْطَّعَامِ حَاضِرَاً فِيْ أَوَّلِ خِطَابَاتِ الْدَّعْوَةِ المَكِّيَّةِ، وَلمّا هَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ كَانَ أَوَّلُ خِطَابٍ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِيْهَا فِيْهِ ذِكْرُ الْطَّعَامِ؛ إِذْ قَالَ فِي مَقْدَمِهِ لِلْمَدِيْنَةِ: ((يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ أَفْشُوا الْسَّلَامَ، وَأَطْعِمُوْا الْطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوْا بِالْلَّيْلِ وَالْنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)) رَوَاهُ الْدَّارِمِيُّ. وَسُئِلَ الْنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: ((تُطْعِمُ الْطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ الْسَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيْ أَوْصَافِ الْأَبْرَارِ، وَذِكْرِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِيْ اسْتَحَقُّوا بِهَا الْجَنَّةَ؛ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ: (وَيُطْعِمُوْنَ الْطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً وَيَتِيْمَاً وَأَسِيْرَاً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوْرَاً)[الْإِنْسَانَ: 9]. كَمَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الْنَّارِ، وَذِكْرِ أَفْعَالِهِمْ الَّتِيْ أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْنَّارَ أَنَّهُمْ حَبَسُوا الْطَّعَامَ عَنِ المُحْتَاجِيْنَ، وَلَمْ يَدْعُوْا غَيْرَهُمْ لِلْإِطْعَامِ: (مَا سَلَكَكُمْ فِيْ سَقَرَ * قَالُوْا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّيْنَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِيْنَ) [الْمُدَّثِّرُ: 42-44] وَفِيْ آَيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِيْنِ) [الْحَاقَّةُ: 34]. وَفِي الْرُّكْنِ الْثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَرَضَ اللهُ - تعالى - الْزَّكَاةَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَفَرَضَهَا فِيْ بَهِيْمَةِ الْأَنْعَامِ، وَكُلُّهَا طَعَامٌ وَتنْتِجُ طَعَامَاً، وَلَمْ يَكْتَفِ بِفَرْضِهَا فِيْ الْأَمْوَالِ فَقَطْ مَعَ أَنَّ الْأَمْوَالَ يُشْتَرَى بِهَا الْطَّعَامُ، وَخُصَّتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ بِالْطَّعَامِ، وَهِيَ فِيْ الْفَرْضِ سَابِقَةٌ لِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ. وَأُدْخِلَ الْإِطْعَامُ فِيْ كُلِّ الْكَفَّارَاتِ: فَفِيْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِيْ نَهَارِ رَمَضَانَ، فِيْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِينَاً، وَفِيْ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْصَّيْدِ الْحَرَامِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مِثْلَهُ قَوَّمَ قِيْمَتَهُ وَاشْتَرَى بِهَا طَعَامَاً لِلْمَسَاكِيْنِ، وَفِيْ كَفَّارَةِ الْيَمِيْنِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِيْنَ، وَفِيْ فِدْيَةِ ارْتِكَابِ مَحْظُوْرٍ فِيْ الْإِحْرَامِ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِيْنَ. ولما شَرَعَ اللهُ - تعالى - الْتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالْهَدَايَا وَالْضَّحَايَا أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ مِنْهَا: (فَكُلُوْا مِنْهَا وَأَطْعِمُوْا الْبَائِسَ الْفَقِيْرَ) [الْحَجِّ: 27] وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى: (فَكُلُوْا مِنْهَا وَأَطْعِمُوْا الْقَانِعَ وَالمُعْتَرَّ) [الْحَجِّ: 36]. وَمِنْ أَسْبَابِ الْنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْنَّارِ بَذْلُ الْطَّعَامِ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: (أَوْ إِطْعَامٌ فِيْ يَوْمٍ ذِيْ مَسْغَبَةٍ) [الْبَلَدِ: 14] أَيْ: بَذْلُهُ فِيْ المَجَاعَةِ. وَمِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُوْرَةُ الْأَنْعَامِ عَالَجَتْ كَثِيْرَاً مِنْ أَحْكَامِ الْطَّعَامِ، وَسُوْرَةُ المُطَفِّفِيْنَ بُدِئَتْ بِوَعِيْدِ مِنْ يَغُشُّ فِيْ الْكَيْلِ، وَأَكْثَرُ المَكِيْلِ وَالمَوْزُوْنِ هُوَ الْطَّعَامُ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِيْنَ * الَّذِيْنَ إِذَا اكْتَالُوْا عَلَى الْنَّاسِ يَسْتَوْفُوْنَ * وَإِذَا كَالُوْهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [الْمُطَفِّفِينَ: 1-3]. وَبُعِثَ نَبِيُّ الله - تعالى -شُعَيْبٌ - عليه السلام - لِيَدْعُوَ إِلَى الْتَّوْحِيْدِ، وَيَقُوْمَ بِمُهِمَّةِ الْإِصْلَاحِ الاقْتِصَادِيِّ؛ إِذْ كَانَ الْغِشُّ فِيْ كَيْلِ الْطَّعَامِ مُنْتَشِرَاً بَيْنَ قَوْمِهِ، فَقَالَ - عليه السلام – لَهُمْ: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا الْنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِيْ الْأَرْضِ مُفْسِدِيْنَ) [هُوْدٍ: 85]. وَفِيْ تَشْرِيْعَاتِ الْبُيُوْعِ وَالمُعَامَلَاتِ خُصَّ الْطَّعَامُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَحْكَامٍ لِأَهَمِّيَّتِهِ فَجَاءَ فِي الْحَدِيْثِ: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)) وَنَقَلَ الْتِّرْمِذِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِ الْاحْتِكَارِ فِي الْطَّعَامِ، وَجُعِلَتْ حِيَازَةُ الْطَّعَامِ المَبِيعِ قَبْلَ بَيْعِهِ مَرَّةً أُخْرَى أَمْرَاً وَاجِبَاً، وَجَاءَ فِيْهِ حَدِيْثُ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: "كُنَّا فِيْ زَمَانِ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - نَبْتَاعُ الْطَّعَامَ فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِيْ ابْتَعْنَاهُ فِيْهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ" رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ، وَكَانُوْا يُعَاقَبُوْنَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ؛ كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّهُمْ كَانُوْا يُضْرَبُوْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامَاً جِزَافَاً أَنْ يَبِيْعُوْهُ فِيْ مَكَانِهِ حَتَّى يُحَوِّلُوهُ" رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ. وَهَذَا الْتَّشْدِيْدُ فِي الْطَّعَامِ لَمْ يَرِدْ فِيْ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّ الْشَّارِعَ الْحَكِيْمَ أَرَادَ إِقْفَالَ كُلِّ طَرِيْقٍ تُؤَدِّي إِلَى احْتِكَارِ الْطَّعَامِ؛ لِأَنَّ مَعَايِّشَ الْنَّاسِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَحِيْنَ يُلْزِمُ بِكَيْلِهِ وَنَقْلِهِ وَحِيَازَتِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ مَرَّةً أُخْرَى تَكْثُرُ الْأَيْدِي الَّتِي تَتَدَاوَلُهُ، فَيَمْتَنِعُ احْتِكَارُهُ، وَيَرَاهُ الْنَّاسُ بِكَثْرَةِ انْتِقَالِهِ فِيْ الْأَيْدِي فَيَطْمَئِنُونَ عَلَى مَعَايِّشِهِمْ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِيْ اصْطِلَاحِ الْعَصْرِ: تَحْقِيْقُ الْأَمْنِ الْغِذَائِيِّ، الَّذِيْ بِهِ يَكُوْنُ الِاسْتِقْرَارُ السِّيَاسِيُّ.. فَمَا تَرَكَتْ الْشَرِيعَةُ الْرَّبَّانِيَّةُ خَيْرَاً لِلْنَّاسِ إِلَّا بَيَّنَتْهُ لِيَعْمَلُوا بِهِ، وَلَا شَرَّاً إِلَّا حَذَّرَتْهُمْ مِنْهُ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوْقِنُوْنَ) [الْمَائِدَةِ: 50] نَسْأَلُ اللهَ - تعالى - أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَاً، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ. وَأَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا وَاسْتَغْفِرُ اللهَ... الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسْولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى – وَأَطِيْعُوْهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوْتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ) [آَلِ عِمْرَانَ: 102]. أَيُّهَا الْنَّاسُ: مَنْ تَأَمَّلَ الْشَّرِيْعَةَ الْرَّبَّانِيَّةَ وَجَدَ أَنَّهَا أَوْلَتْ مَعَايِّشَ الْنَّاسِ وَأَرْزَاقَهُمْ عِنَايَةً عَظِيْمَةً، فَسَدَّتْ كُلَّ طَرِيْقٍ لِاحْتِكَارِ الْطَّعَامِ، أَوِ الْتَّضْيِيْقِ عَلَى الْنَّاسِ فِيْهِ، وَفَتَحَتْ كُلَّ طَرِيْقٍ يُؤَدِّي إِلَى إِطْعَامِ الْطَّعَامِ وَبَذْلِهِ، وَرَتَبَتْ عَلَيْهِ الْأُجُورَ الْعِظَامَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْطَّعَامَ ضَرُوْرَةٌ لَا انْفِكَاكَ لِلْإِنْسَانِ عَنْهَا، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى فَقْدِهَا، وَاخْتِلَالُ هَذَا الْجَانِبِ يُؤَدِّي إِلَى الِاضْطِرَابِ وَالْفِتَنِ وَذَهَابِ الْأَمْنِ، وَالْتَّارِيْخُ الْقَدِيْمُ وَالمُعَاصِرُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَأَكْثَرُ الثَّوْرَاتِ عَلَى مَرِّ الْتَّارِيْخِ هِيَ ثَوْرَاتُ البَطَالَةِ وَالْفَقْرِ وَالْجُوْعِ.. هِيَ ثَوْرَاتُ الْخُبْزِ. وَقَدْ أَفْرَدَ المُؤَرِّخُ الْمِصْرِيُّ أَبُوْ الْعَبَّاسِ المَقْرِيزِيُّ كِتَابَاً فِيْ مَجَاعَاتِ مِصْرَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى ثَوْرَاتٍ عَارِمَةٍ، أَوْ إِلَى مَوْتٍ ذَرِيْعٍ بِسَبَبِ الْجُوْعِ وَالْوَبَاءِ، وَقَدْ كَتَبَ كِتَابَهُ فِيْ أَوَائِلِ الْقَرْنِ الْتَّاسِعِ الْهِجْرِيِّ بِأَحَاسِيْسِهِ وَدُمُوْعِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَتَهُ الْوَحِيدَةَ قَضَتْ فِيْ الْوَبَاءِ الَّذِي أَعْقَبَ الْجُوْعَ فِيْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ، وَسَمَّاهُ: (إِغَاثَةَ الْأُمَّةِ بِكَشْفِ الْغُمَّةِ) أَرَادَ بِهِ أَنَّ يُخَفِّفَ عَنِ الْنَّاسِ مُصَابَهُمْ بِذِكْرِ مُصَابِ مِنْ كَانُوْا قَبْلَهُمْ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مُصَابِهِمْ، وَجَمَعَ فِيْهِ مِنْ أَخْبَارِ المَجَاعَاتِ وَثَوْرَاتِهَا مَا يَشِيْبُ لِهَوْلِهِ الْوِلْدَانُ.. وَالْثَّوْرَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ المَشْهُوْرَةُ كَانَ أَهَمُّ سَبَبٍ لاشْتِعَالِهَا الْجُوعَ، وَالْثَّوْرَةُ الْبُلْشُفِيَّةُ كَانَ عِمَادَهَا الْفِكْرُ الاشْتِرَاكِيُّ فِيْ الْاقْتِصَادِ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْفَقْرِ وَالْجُوْعِ، وَكُلُّ الَّذِيْنَ شَرَّحُوا الثَّوْرَاتِ الْكُبْرَى فِيْ الْتَّارِيْخِ الْبَشَرِيِّ وَجَدُوْا أَنَّ الْعَامِلَ الاقْتِصَادِيَّ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَهَا، وَالمُؤَثِرُ فِيْهَا. وَالمُؤَرِّخُ الْأَمْرِيْكِيُّ اللَّامِعُ دْيُوْرَانَتْ الَّذِيْ أَمْضَى عُمُرَهُ المَدِيْدَ فِيْ كِتَابَةِ قِصَّةِ الْحَضَارَةِ فَأَنْجَزَهَا فِيْ أَرْبَعِيْنَ مُجَلَّدَاً ضَخْمَاً لَخَّصَ دُرُوْسَ الْتَّارِيْخِ الاقْتِصَادِيَّةِ فِيْ أَنْ تَرْكِيْزَ الثَّرْوَةِ شَيْءٌ طَبْعِيٌّ وَحَتْمِيٌّ، تُلَطِّفُهُ دَوْرِيَّاً إِعَادَةُ تَوْزِيْعِهِا جُزْئِيَّاً بِعُنْفٍ أَوْ بِهُدُوْءٍ يَقْصِدُ إِعَادَةَ تَوْزِيْعِهِا بِالثَوْرَاتِ وَهُوَ الْعُنْفُ أَوْ بِالْإِصْلَاحِ الاقْتِصَادِيِّ وَهُوَ الْهُدُوءُ- قَالَ: وَفِيْ ضَوْءِ هَذِهِ الْفِكْرَةِ يَكُوْنُ الْتَّارِيْخُ الاقْتِصَادِيُّ كُلُّهُ أَشْبَهَ بِنَبَضَاتِ الْقَلْبِ الْبَطِيئَةِ لِلْكَائِنِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَهُوَ انْقِبَاضٌ وَانْبِسَاطٌ هَائِلَانِ فِيْ تَرْكِيْزِ الثَّرْوَةِ وَإِعَادَةِ تَوْزِيْعِهِا بِالْإِكْرَاهِ ا. هـ. إِنَّ تَشَارُكَ مُلَّاكِ الْأَمْوَالِ مَعَ صُنَّاعِ الْقَرَارِ يُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ، وَاسْتِحْوَاذِ فِئَاتٍ قَلِيْلَةٍ عَلَى ثَرَوَاتٍ طَائِلَةٍ، فَتَنْتَشِرُ الْبَطَالَةُ، وَيَعْقُبُهَا الْفَقْرُ ثُمَّ الْجُوْعُ، وَإِذَا بَلَغَ الْنَّاسُ مَرْحَلَةَ الْجُوْعِ بَدَتْ بِوَادِرُ الثَّوْرَةِ فِيْهِمْ، يُغَذِّيهَا مَخْزُوْنٌ هَائِلٌ مِنَ الْسَّخَطِ وَالْغَضَبِ تَرَاكَمَ مَعَ الْأَيَّامِ، وَازْدَادَ مَعَ زِيَادَةِ الْفَسَادِ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْنَّاسُ فَيَخْتَلَّ الْأَمْنُ، وَيَخْسَرَ الْجَمِيْعُ حُكَّامَاً وَمَحْكُوْمِيْنَ.. أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ.. وَلِذَا فَإِنَّ مِنَ الْكَيَاسَةِ وَحُسْنِ الْسِيَاسَةِ دَعْمُ السِّلَعِ الْضَّرُوْرِيَّةِ لِلْنَّاسِ لِتَكُوْنَ فِيْ مُتَنَاوَلِ الْجَمِيْعِ، وَتَقْلِيْصُ الْفَارِقِ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، بِدَعْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْحَدِّ مِنْ تَسَلُّطِ الْأَغْنِيَاءِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْطَّبَقَةُ المُتَوَسِّطَةُ هِيَ الْأَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلْأَمْنِ وَالاسْتِقْرِارِ، وَكُلَّمَا تَلَاشَتِ الْطَّبَقَةُ المُتَوَسِّطَةُ لِصَالِحِ طِبْقَتِي الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ اقْتَرَبَ الْنَّاسُ مِنْ حِمَى الثَّوْرَةِ وَالْفَوْضَى، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلَنْ يَنْفَعَ نَدَمُ نَادِمٍ، وَلَنْ يُجْدِيَ إِصْلَاحُ مُصْلِحٍ، وَفِيْ أَخْبَارِ المَاضِيْ وَأَحْدَاثِ الْحَاضِرِ عِبَرٌ لِلْمُعْتَبِرِيْنَ، وَآَيَاتٌ لِلْمُتَّعِظِينَ، وَفِي الْقُرْآَنِ الْعَظِيْمِ: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِيْنُ) [الْقَصَصَ: 26] وَمَا أَقَلَّ الْأَمَانَةَ وَأَكْثَرَ الْخِيَانَةَ فِيْ هَذَا الْزَّمَنِ. وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |