|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وأيوب إذ نادى ربه د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم الحمد لله مجيب من دعاه، وراحم من رجاه، أغاثه حين ناداه، وأحبه واجتباه. وأشهد ألا إله إلا الله، لا رب سواه، ولا نعبد إلا إياه. وأصلي وأسلم على رسوله ومصطفاه محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى هداه. أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278]. أيها المؤمنون! إن ذُكر للبلاء صبر فذاك صبر أيوب عليه السلام؛ مضرب مثل، وسلوة مبتلى، ورجاء مكروب، وذكرى عابد، ورحمة أرحم الراحمين. ذاك ما أخبر عنه الله سبحانه بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]. فكيف كان حاله؟ وكيف رُفع بلاؤه؟ قدّر الله بحكمته ورحمته على نبيه أيوب عليه السلام من البلاء ما أذهب عنه أهله وماله وعافية بدنه؛ فلم يبق له من أعضائه صحيحٌ إلا قلبَه ولسانَه، وقد كان من أنعم الناس عيشاً. وهو مع ذلك الفقد والابتلاء صابر، محتسب، راض عن ربه، ذاكر له صبحه ومساءه. واشتدت معاقد البلاء عليه وتنوعت، وزاد شدّتَه شدّةً تطاولُ السنين، وتسلطُ الشيطان عليه بالنصب والعذاب الحسي والنفسي، وتنكّر الناس، واستثقالُهم له القريبين منهم والبعيدين، حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، ولم يبق له وفيٌّ من مجتمعه الذي ذاق خيره وبره إلا زوجته المؤمنة التي كانت ترعاه وتعرف سالف معروفه عليها، وأخَوان كانا من أخص الناس به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ فِي بَلائِهِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً؛ فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ؛ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ! وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ! قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ؛ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ؟! " ( رواه ابن حبان والحاكم وصححاه ). وتلك سنة الله الغالبة في أصفيائه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " ( رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ). أيها المؤمنون! ما كان بلاء أيوب عليه السلام من هوانه على ربه، وما كانت شدته إمعاناً في إيذائه، كلا، بل هي رحمة أرحم الراحمين؛ يكسر بها قلب عبده حين يُشعره بضعفه وفقره إليه، ويكون من أقرب الناس منه، والله سبحانه عند المنكسرة قلوبهم لأجله. ولا كسرة ككسرة قلب المريض؛ ولذا قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: " أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ". وصار هذا البلاء مطهرة للذنوب، ومرقاة لأعلى الدرجات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « ما من مسلم يشاك شوكة، فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» ( رواه مسلم ). وغدا بلاء أيوب عليه السلام ذكرى لكل عابد معتبِر، يعلم أن الله قد يبتلي أولياءه ومن أحبّ من عباده في الدنيا بضروب من البلاء في نفسه وأهله وماله، من غير هوان به عليه، ولكن اختباراً منه له؛ ليبلغ بصبره عليه واحتسابه إياه وحسن يقينه منزلته التي أعدها له تبارك وتعالى من الكرامة عنده. أيها المسلمون! ولما كان للبلاء وقته الذي قدّره الله مما تتحقق به الغاية منه، وتكاملت أيامه؛ هيّأ الله للفرج سببه؛ وهدى نبيه أيوب عليه السلام لمناجاته بدعاء المنكسر المتأدب مع ربه: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، يقول ابن القيم: " جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في المتملق له، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته وهو فقره. ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه. وقد جُرِّب أنه من قالها سبع مرات - ولا سيما مع هذه المعرفة - كشف الله ضره ". وتأمل أدبه مع ربه حين لم ينسب الضر إلى الله سبحانه مع أنه هو المقدّر له، وكيف عرّض برفع البلاء ولم يصرّح به؛ تأدباً مع ربه. بعد الصبر والدعاء وحسن الظن بالله وتوقع الفرج أذن الله سبحانه للبلاء أن يرفع؛ فأوحى إلى نبيه أيوب عليه السلام أن يقوم من مقامه، وأن يضرب الأرض برجله. ففعل فأنبع الله عيناً، وأمره أن يغتسل منها؛ فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر؛ فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها؛ فأذهبت ما كان في باطنه من السوء؛ وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً، كما قال تعالى: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ ( أيوب عليه السلام ) يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ، فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ وَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ ( وعاءان ) أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ ( الفضة ) حَتَّى فَاضَ " ( رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ). وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ». هذه عافية أرحم الراحمين أيوب عليه السلام في بدنه وماله. أما عافيته في أهله الذاهبين، فقد عوّضه الله عنهم ضِعفين في العدد، كما قال سبحانه: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ﴾ [الأنبياء: 84]. ♦ ♦ ♦ الخطبة الثانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله... أيها المؤمنون! في بلاء أيوب عليه السلام سلوة لكل مبتلى، وبيان لمنهج التعامل مع البلاء؛ وذلك أن المؤمن منهي عن تمني البلاء. وإن وقع فليس له إلا الصبر بأن يحبس القلب عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن إظهار التسخط. وليثق بقرب الفرج له، وأن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه. وليلحَّ على ربه بالدعاء وطلب الفرج؛ فاستخراج عبودية الدعاء من أجل مقاصد البلاء. مرَّ محمد بن علي بمحمد بن المنكدر قال: ما لي أراك مغموماً؟ فقال أبو حازم: ذلك لدَيْن قد فدحه , قال محمد بن علي: أفُتح له في الدعاء؟ قال: نعم، فقال: لقد بورك لعبد من حاجة أكثر فيها دعاء ربه كائنة ما كانت. قال أبو الدرداء: " من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له ". وفي بلاء أيوب عليه السلام أمل يلوح سناه بين جهام البلاء المتلبد؛ فلا تأسر لحظة شدته الحاضرة أمل الفرج المتيقن الذي يعقبه؛ فما بعد العسر إلا اليسر، وما بعد الشدة إلا الفرج، ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]. وفرج الله سبحانه بحر لا تحيط الظنون بمسارب وروده؛ فبلاءٌ ممضٌّ طاولت أيامه ثمان عشرة سنة رفعه الله بحركة قدم! وفي ضراعة أيوب عليه السلام تجلية لأعظم ما يخفف وطأة البلاء؛ وذلك باستشعار قرب المولى جل وعلا، وتذكر دنو رحمته وكريم لطفه. دخل محمد بن المنكدر على عون بن عبد الله في مرضه , فلما رأى محمد وجعه ترقرقت عيناه بالدموع حتى دمعتا , فكشف عون وجهه فقال: ما شأنك يا أبا عبد الله؟ قال: رأيت شكواك، قال: " حسبي ربي عز وجل , هو عدتي لكل كربة , وصاحبي عند كل شدة , ووليي في كل نعمة ". وتلمح عقبى الأجر وحسن العاقبة بلسم يداوى به ألم البلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» ( رواه الترمذي وحسنه الألباني ). وفي بلاء أيوب عليه السلام ذكرى لكل عابد أن الصبر والاستكانة والثبات والتواضع لله سبحانه حال الأزمات أسباب يُتنزَّل بها رحمة أرحم الراحمين؛ لتكون العاقبةُ الفرجَ والمخرج والراحة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |