|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (11) أسباب اشتعال الفتنة في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زلنا نلقي الضوء على بعض الأسباب التي ساعدت في اشتعال الفتنة ومقتل عثمان -رضي الله عنه-. ومِن هذه الأسباب: تآمر الحاقدين ودور عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة: لقد دخل في الإسلام منافقون يجمعون الحقد والدهاء والمكر في أشخاصهم، ووجدوا مَن يستمع إليهم بآذان صاغية؛ هذا بالإضافة إلى مكر اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، فاستغل أولئك الحاقدون مِن يهود ونصارى وفرس، وأصحاب الجرائم الذين أٌقيم عليهم الحدود الشرعية، مجموعاتٍ مِن الناس كان معظمهم مِن الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته؛ فتكونت لهؤلاء جميعًا طائفة وُصفت مِن جميع مَن قابلهم بأنهم أصحاب شر؛ فقد وصفوا بالغوغاء مِن أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر(1)، وسفهاء عديمو الفقه, وأراذل مِن أوباش القبائل(2)؛ فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع مِن غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل، وأنهم آلة الشيطان!(3). وكان "ابن سبأ" أول مَن أحدث القول برجعة علي -رضي الله عنه- إلى الدنيا بعد موته، وبرجعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه "مصر"، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب برجوع محمدٍ، وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص:85)، فمحمد أحق بالرجوع مِن عيسى، فقُبل ذلك منه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها(4)، وهو أول مَن قال بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي، وأنه خليفته على أمته مِن بعده بالنص، وأول مَن أظهر البراءة مِن أعداء علي -رضي الله عنه-، وادعى ابن سبأ اليهودي أن عليًّا -رضي الله عنه- هو دابة الأرض، وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق(5)، وقد برز دور عبد الله بن سبأ في السنوات الأخيرة مِن خلافة عثمان -رضي الله عنه- حيث بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي(6)، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها مِن قِبَل نفسه، وافتعلها مِن يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها وينشرها في المجتمع لغاية ينشدها؛ وهو الدس في المجتمع الإسلامي؛ بغية النيل مِن وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بيْن أفراده. فكانت هذه الأفكار مِن أهم العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وتفرُّق الأمة شيعًا وأحزابًا، وبعد أن استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: مَن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووثب على وصيِّ رسول -صلى الله عليه وسلم-، وتناول أمر الأمة؟! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر(7). إن المشاهير مِن المؤرخين والعلماء مِن سلف الأمة وخَلَفِهَا يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بيْن المسلمين بعقائد وأفكار، وخطط سبئية؛ ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه مِن غوغاء الناس ما تكونت به بعد ذلك الطائفة السبئية المعروفة, التي كانت عاملاً مِن عوامل الفتنة في المجتمع المسلم(8). وهنا تظهر خطورة النفاق وخطورة المنافقين في المجتمع؛ لذا كان النفاق أخطر مِن الكفر وعقوبته أشد؛ لأنه كفر بلباس الإسلام وضرره أعظم؛ ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) (النساء:145). أهل النفاق دائمًا في خداع ومكر؛ ظاهرهم مع المؤمنين، وباطنهم مع الكافرين: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء:143). والمنافقون لفساد قلوبهم أشد الناس إعراضًا عن دين الله كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء:61). وتصرفات المنافقين تدور مع مصالحهم؛ فإذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا لقوا سادتهم وكبراءهم قالوا نحن معكم على ما أنتم عليه مِن الشرك والكفر، كما قال -سبحانه- عنهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:14-15). ومِن صفاتهم: العداوة والحسد للمؤمنين، كما قال -سبحانه-: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50). ومِن صفاتهم: الفساد في الأرض بالكفر والنفاق والمعاصي، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12). ومِن صفاتهم: البهتان والكذب كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (المائدة:56). ومِن صفاتهم: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بالمال كما أخبر الله عنهم بقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:67). ومِن صفاتهم: الطمع والجشع: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58). ومِن صفاتهم: ما بيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه). وحيث إن خطر الكفار والمنافقين على الأمة الإسلامية عظيم؛ لذا أمر الله رسوله بجهادهم، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73). (وها هو القرآن الكريم يبيِّن لنا خطر المنافقين على المجتمع "حتى وإن كانوا قلة"؛ قال الله -تعالى-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47). أي لو خرج فيكم هؤلاء المنافقون (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) أي: إلا فسادًا وشرًّا وضرًّا؛ لأنهم جبناء مخذولون، ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين. (وَفِيكُمْ) أناس ضعفاء العقول (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم؛ ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان عدد المنافقين كبيرًا لهذا الحد؟! هل كان عددهم كافيًا لنشر الشر والفساد والفتن بيْن المؤمنين؟ والجواب: ليس الأمر بكثرة العدد أو قلته؛ فلقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وخرج معه ثلاثون ألف مقاتل، وعدد المنافقين الذين تخلفوا عنه كانوا بضعة وثمانين رجلاً، فسبحان الله! هذا العدد القليل جدًّا بالنسبة لتعداد الجيش، كان سينشر الشر والفساد، ويوقع الفتن بيْن المؤمنين الخلص مع كثرة عددهم؛ ولذلك أنزل الله في صدر سورة البقرة أربع آيات في المؤمنين الخلص، وأنزل في الكفار الخلص آيتين، وأنزل بالفريق الثالث المنافقين بضع عشرة آية. فاللهم احفظ البلاد والعباد مِن المنافقين وشرهم، يا أرحم الراحمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ابن سعد، الطبقات (ج3 ص71). (2) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد. (3) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص327). (قلتُ: وقد تردد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان مِن اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بيْن البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن مبدأ الرفض إنما كان مِن الزنديق عبد الله بن سبأ", ويقول الذهبي: "عبد الله بن سبأ مِن غلاة الزنادقة، ضال مضل، ادعى الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته". (4) سعدي بن مهدي الهاشمي، ابن سبأ حقيقة لا خيال، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، طبعة عام 1400هـ - 1981م، ص 151. (5) سعديا بن مهدي الهاشمي: ابن سبأ حقيقة لا خيال، ص156. (6) تاريخ دمشق لابن عساكر. (7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص 347). (8) الصَّلاَّبي "تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص338".
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (12) استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ ثوار الأمصار يتحركون مِن مراكزهم لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-: توجَّه معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- إلى عثمان -رضي الله عنه-، وعَرَض عليه أن يَذهب معه إلى بلاد الشام، وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبْل أن يتكالب عليك هؤلاء، ويحدث ما لا قِبَل لكَ به. قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيءٍ، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشًا مِن أهل الشام يقيم في المدينة؛ ليدافع عنك وعن أهل المدينة. قال عثمان: لا؛ حتى لا أٌضيِّق على جيران وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأرزاق بجند تساكنهم في المدينة. واتفق أهل الفتنة على مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة؛ وإلا يُقتل، وقرروا أن يأتوا مِن مراكزهم الثلاثة: "مصر - والكوفة - والبصرة" في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج؛ فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة مِن معظم أهلها الذين ذهبوا لأداء فريضة الحج، وقاموا بمحاصرة عثمان -رضي الله عنه- تمهيدًا لخلعه أو قتله(1)، وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة(2), بعد أن خرجوا مِن مصر في أربع طوائف، لكل طائفة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم عبد الله بن سبأ، وكان عدد الطوائف الأربعة ألف رجل. وخرجت فرقة أخرى مِن الكوفة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا، وخرجت فرقة أخرى مِن البصرة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا(3)، وكان أهل الفتنة مِن مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة مِن الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة مِن البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله(4)، وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بيْن الصحابة -رضوان الله عليهم-. وبلغ خبر قدومهم عثمان -رضي الله عنه- قبْل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة، فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، وكان أول مَن وصل فريق المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59)، فقالوا له: قف أرأيت ما حميت مِن الحمى؛ الله أذن لك أم على الله تفتري؟! فقال: نزلتْ في كذا وكذا؛ فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتُ زادت إبل الصدقة؛ فزدتُ في الحمى لما زاد مِن إبل الصدقة، فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول نزلتْ في كذا فما يزيدون. وتم الصلح بينهم وبين عثمان -رضي الله عنه- على شروط تم الاتفاق عليها بينهم وبينه، وكتبوا بذلك كتابًا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين، وقد حضر هذا الصلح علي بن أبى طالب -رضي الله عنه-(5). وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبيَّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلتْ، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ لذا خططوا تخطيطًا آخر يشعل الفتنة ويحييها، وزوروا كتابًا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ففي أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم يُظهر أنه هارب منهم، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان -رضي الله عنه- وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى عثمان -رضي الله عنه- أن يكون كتب هذا الكتاب(6)، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين مِن المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمليتُ، ولا علمتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه، وقد أقسم لهم عثمان بأنه ما كتب هذا الكتاب(7). وقد زور المجرمون كتبًا أخرى على علي، وعائشة، وطلحة، والزبير -رضي الله عنهم-؛ فهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه مِن عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحدٍ مِن إبل الصدقة إلى عامله بمصر -ابن أبي السرح-، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين - هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان -رضي الله عنه-(8). ثم تمتْ عملية الحصار لعثمان -رضي الله عنه-، وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان -رضي الله عنه- بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه؛ فرفض عثمان -رضي الله عنه- خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالاً سربلنيه الله(9)، يشير إلى ما أوصاه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما كان قلة مِن الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومِن هؤلاء المغيرة بن الأخنس -رضي الله عنه-، لكنه رفض ذلك. ودخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا خلعتها: أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان -رضي الله عنه-: لا. قال: فإن لم تخلعها: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان -رضي الله عنه- لا. قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال لا. قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصًا قمَّصكه الله؛ فتكون سُنة كلما كرِه قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه!(10). وبينما كان عثمان -رضي الله عنه- في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج مِن المدخل، ودخل على مَن معه في الدار ولونه ممتقع -ممتقع الوجه: متغيرٌ لونُه مِن حزن أو فزع-، كما في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فقال: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونَنِي بِالْقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ)، "فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا فِي إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟" (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني). ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم. وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ (1) الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص 370، نقلاً عن "الخلفاء الراشدون" للخالدي، ص159. (2) محمد الخضر بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص183. (3) علاء الدين مغلطاوي بن قلنج بن عبد الله البكجري الحنفي، المتوفَّى (762هـ)، مختصر تاريخ الخلفاء، الناشر دار الفجر، طبعة عام 2001م، ص 69. (4) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/357). (5) محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/160). (6) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد أذِن له بالمجيء إلى المدينة، ويعلم أنه خرج مِن مصر، وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة، ومضمون الكِتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه، انظر: محب الدين الخطيب، العواصم من القواصم ص 110. (7) ابن كثير، البداية والنهاية (7/ 191). وانظر: محمد غبان، المرجع السابق، ص161. (8) ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، صحّحه وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك، الناشر: الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثالثة 1417هـ - 1995م، (2/515). (9) محمد يحيى الأندلسي، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص47. (10) أبو القاسم التيمى: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن على التيمي، توفي (535)، الخلفاء الأربعة أيامهم وسيرتهم، حققه: كرم حلمي فرحات أبو صيري، الناشر: مطبعة دار الكتب المصرية عام 1999، ص 171.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (13) استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فنستعرض في هذا المقال موقف الصحابة -رضي الله عنهم- مِن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- أثناء الحصار، بعد أن استعرضنا في المقال السابق تحركات المجرمين لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-. موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-: لما رأى عثمان -رضي الله عنه- إصرار المتمردين على قتله حذرهم مِن ذلك، ومِن مغبته؛ فاطلع عليهم مِن كوة، وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدًا، ولا تجاهدوًا عدوًّا أبدًا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبَّك بيْن أصابعه. وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردتُ إلا الإصلاح ما استطعت، أصبتُ أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعًا أبدًا، ولا تغزوا جميعًا أبدًا، ولا يقسم فيئكم بينكم. وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك مِن القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يُستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم بسببي(1). وعن أبي حبيبة(2)، قال: بعثني الزبير بن العوام إلى عثمان وهو محاصَر فدخلتُ عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلتُ: بعثني إليك الزبير بن العوام، وهو يقرؤك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدِّل ولم أنكث، فإن شئتَ دخلتُ الدار معك، وكنتُ رجلاً مِن القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع يعني عثمان الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: مكانك أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعتُ أذناي مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تكون بعدي فتن وأمور"، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: "إلى الأمين وحزبه"، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: "أعزم على مَن كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل"(3). ودخل عليه وهو محاصَر المغيرة بن شعبة، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثة، اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددًا وقوة، وأنتَ على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابًا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول مَن خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد رجل مِن قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم"، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية؛ فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم-(4). وعزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان -رضي الله عنه- عزم عليهم بشدةٍ، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعًا عنه(5). وقد حثَّ كعب بن مالك -رضي الله عنه- الأنصار على نصرة عثمان -رضي الله عنه- وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا ببابه، ودخل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئتَ كنا أنصار الله مرتين(6)، فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا(7). وجاء الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقال له: أخترط سيفي؟ قال: لا، أبرأ إلى الله إذن مِنْ دمك، ولكن ثم(8) سيفك، وارجع إلى أبيك، وجاء أبو هريرة -رضي الله عنه- ودخل الدار على عثمان وأراد الدفاع عنه، فقال له عثمان،: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعًا وإياي؟ قال: لا، قال، فإنك والله إن قتلتَ رجلاً واحدًا؛ فكأنما قُتِل الناس جميعًا، فرجع ولم يقاتِل(9). ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان -رضي الله عنه- على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربًا مِن المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقًا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان -رضي الله عنه- يرفض كل هذه العروض(10). موقف أمهات المؤمنين: وكان موقف أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- مِن المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، لما حوصر عثمان -رضي الله عنه- ومٌنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنًا لعمرو بن حزم الأنصاري مِن جيران عثمان إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا مِن الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان أولهم إنجادًا له علي وأم حبيبة وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيًّا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت(11) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها، ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان -رضي الله عنه-، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرًا(12). وما فعلته السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- فعلت مثله السيدة صفية -رضي الله عنها-؛ فلقد روي عن كنانة(13) قال: كنتُ أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر(14)، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبًا مِن منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء(15). وخرجت عائشة -رضي الله عنها- مِن المدينة وهي ممتلئة غيظـًا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمتِ كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد مَن يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر(16), ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء(17)، ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان مُعينًا في فض هذه الجموع، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربًا مِن الفتنة، وكانت هذه محاولة منهن لتخليص عثمان -رضي الله عنه- مِن أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر(18) أخو السيدة عائشة -رضي الله عنها-، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج؛ فأبى، وهذا هو ما أكَّد عليه الإمام ابن العربي -رحمه الله- حيث قال: "تغيُّب أمهات المؤمنين مع عددٍ مِن الصحابة كان قطعًا للشغب بيْن الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين؛ فيرعوا حرمة نبيهم"(19). وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ (1) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/395). (2) هو أبو حبيبة مولى الزبير بن العوام، روى عن الزبير، وسمع أبا هريرة وعثمان محصور. (3) ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى:241هـ)، فضائل الصحابة، المحقق: د.وصي الله محمد عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى: 1403-1983، عدد الأجزاء: (1/ 511، 512). (4) البداية والنهاية لابن كثير (7/211)، والحديث أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني، وضعفه شعيب الأرنؤوط (7/229)، وقال بضعفه أيضًا أحمد شاكر. (5) أحمد معمور العسيري، موجز التاريخ الإسلامي، طبعة 1417هـ، 1996م، ص126. (6) ابن سعد، الطبقات (3/70). (7) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/162). (8) الثم هو: إصلاح الشيء وإحكامه، ويحتمل أن تكون مصحفة مِن شم، والشم هو: إعادة السيف إلى غمده، لسان العرب (12/ 79). (9) حسين فؤاد طلبة مِن أخلاق الخلفاء الراشدين، الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، عام 1977 ص75. (10) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان (1/ 166). (11) ند البعير ونحوه ندًّا، وندودًا: نفر وشرد. انظر لسان العرب لابن منظور (3/419). (12) ابن شبة: عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد (المتوفى: 262هـ)، تاريخ المدينة، طبعة: 1399هـ، 1977م (4/ 1311). (13) كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي، انظر: البلاذري، أنساب الأشراف (9/380). (14) الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء (4/ 34)، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني( 10/ 11). (15) الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (المتوفى: 748هـ)، سير أعلام النبلاء، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: 1427هـ - 2006م (3/ 488). (16) أُعَيَّر: مِن العار، وقد يبدي هذا التعبير أن الحالة التي وضع فيها الغوغاء السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- كانت شديدة الإيلام، انظر المعجم الوسيط (2/ 240). (17) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/ 401). (18) وقد نزَّه الله -تعالى- أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أحدٌ منهم مشاركًا في قتل عثمان -رضي الله عنه-، بل لم يكن أحدٌ مِن أبناء الصحابة مشاركًا، ولا معينًا لأولئك الخوارج المعتدين، وكل ما ورد في مشاركة أحدٍ مِن الصحابة -كعبد الرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمِق- فمما لم يصح إسناده. وقال النووي -رحمه الله-: "ولم يشارك في قتله أحدٌ مِن الصحابة" انتهى مِن "شرح مسلم"، وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "إنه لم يشترك في التحريض على عثمان -رضي الله عنه-؛ فضلاً عن قتله، أحدٌ مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، وإن كل ما رُوي في ذلك ضعيف الإسناد" اهـ. وأما محمد بن أبي بكر: فليس هو مِن الصحابة أصلاً، ثم إنه لم يصح اشتراكه في قتل عثمان، ولا في التحريض عليه، وقد أثبت بعض العلماء روايات تبين تراجعه عن المشاركة في قتل عثمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة، فهو ليس مِن الصحابة؛ لا مِن المهاجرين ولا الأنصار... وليس هو معدودًا مِن أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته" ثم قال: "وأما محمد بن أبي بكر؛ فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه" (انتهى مِن منهاج السنة النبوية (4 / 375 - 377). وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ويُروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه! والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها! فتذمم مِن ذلك، وغطى وجهه ورجع، وحاجز دونه، فلم يُفِد، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وكان ذلك في الكتاب مسطورًا" (انتهى مِن البداية والنهاية 7/ 207). وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "محمد بن أبي بكر لم يشترك في التحريض على قتل عثمان -رضي الله عنه-، ولا في قتله، وكل ما روي في اتهامه بذلك؛ باطل، لا صحة له". (19) العواصم مِن القواصم لابن العربي (ص 156).
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (17) موقعة الجمل "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد استعرضنا في المقال السابق كيف تمتْ بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم مطالبة بعض الصحابة وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-، بإقامة القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-، وقد اعتذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأبدى وجهة نظره في إرجاء إقامة القصاص، ثم تحرك جمع غفير مِن مكة إلى البصرة بصحبة أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-. وعندما وصل طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- ومَن معهم إلى البصرة، أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، وكان كثير مِن المسلمين في البصرة وغيرها يرغبون في القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا مِن اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفقه النساء مطلقًا؛ جعل الكثير مِن البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم. وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف مِن رؤساء تميم وكلمته مسموعة، يقول الأحنف واصفًا هول الموقف: فأتاني أفظع أمر أتاني قط فقلتُ: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشديد إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه مِن قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين -رضي الله عنهم-، ويذكر الزهري أن عامة أهل البصرة تبعوهم, وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا مِن أجلها، وقد حاول ابن حنيف تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع. عليٌّ -رضي الله عنه- يغادر المدينة متوجهًا إلى الكوفة: همّ علي بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية -رضي الله عنه- وما هو صانع، فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة، فلما علم أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بهذا قال: يا أمير المؤمنين، أقم بهذه البلاد؛ لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنتَ كمن كان، وإن تشغب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذٍ إلى السير سرت وقد أعذرت، فأخذ الخليفة بما أشار به أبو أيوب وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار. وقد بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي، فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قوم لا يريدون إلا القود، كلهم موتور -رَجُلٌ مَوْتُورٌ: أي مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية مِن بيْن يدي علي؛ فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلتْ إلا بعد جهدٍ، وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنهما-، عزم الخليفة علي الذهاب إلى أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، ولكن نظرًا لبعض المستجدات السياسية على الساحة وما يحدث في البصرة قرر أمير المؤمنين مغادرة المدينة وأن يتوجه إلى الكوفة، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وكان كثير مِن أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلا بد مِن التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر. وروى الطبري أن عليًّا -رضي الله عنه- خرج في تعبئته التي كان تعبَّى بها إلى الشام وخرج معه مَن نشط مِن الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل، والأدلة على تثاقل كثير مِن أهل المدينة عن إجابة أمير المؤمنين للخروج كثيرة، كما أن رجالاً مِن أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم، وحاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يثني عزم أمير المؤمنين علي عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يراه أبدًا، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن -رضي الله عنهما- وهو يبكي لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين مِن تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتني، فتُقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية! وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان -رضي الله عنه- أن تخرج مِن المدينة فيُقتل ولستَ بها، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت مِن المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهورًا مذ وُليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو مَن تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب -دعاء الضبع للضبع-, ليست ههنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني مِن هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكف عنك أي بني ولَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ الْخُرُوجَ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالإِصْلاحَ، إِنْ قَبِلُوا مِنَّا وأجابونا إليه، قال: فان لم يجيبوا إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِعُذْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا". وأرسل علي -رضي الله عنه- مِن الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته؛ إذ إن أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- والي الكوفة مِن قِبَل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن التحذير مِن الاشتراك في الفتنة فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم، ثم تحرك عليٌّ بجيشه إلى ذي قار ثم بعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موسى الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلاً منه. وكان للقعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولاً هو الحق، والقول الذي هو القول؛ إنه لا بد مِن إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا عليٌّ يلي ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع. وكان للحسن بن علي -رضي الله عنهما- أثر واضح؛ فقد قام خطيبًا في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة وخير مِن العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، ولبى كثير مِن أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بيْن سبعة إلى ستة آلاف رجل، ثم انضم إليهم مِن أهل البصرة ألفان مِن عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثنى عشر ألف رجل تقريبًا، وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين هلي بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم، واغتنم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا مِن أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق، وبايناهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد -إن شاء الله-، ولا قوة إلا بالله. وقبْل أن يتحرك علي -رضي الله عنه- بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار أيامًا، وكان غرضه -رضي الله عنه-، هو القضاء على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتي مِن قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير. محاولات الصلح بيْن الفريقين: وقد شارك في محاولات الصلح عدد مِن الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر، منهم: عمران بن حصين -رضي الله عنه-، فقد أرسل في الناس يخذل الفريقين جميعًا، وكعب بن سور أحد كبار التابعين، فقد بذل كل جهد، وقام بدور يعجز عنه كثير مِن الرجال، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع القتال، وقُتل وهو بيْن الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكف السلاح، والقعقاع بن عمرو التميمي -رضي الله عنه- حيث أرسله أمير المؤمنين عليٌّ -رضي الله عنه- في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الاختلاف والفرقة. وذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة -رضي الله عنها- وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بني مِن أجل الإصلاح بيْن الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها، ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: مِن أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان -رضي الله عنه- لا بد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياءً للقرآن. قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة مِن قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حٌرقٌوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه مِن بني سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه مِن ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بني سعد مِن أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر مِن هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لبني سعد، وهذا ما حصل مع علي، ووجود قتلة عثمان في جيشه؛ يعني أن الذي تريدونه مِن قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان -رضي الله عنه- مِن حرقوص بن زهير؛ لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان -رضي الله عنه- إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة. وهنا تأثرت أمُّ المؤمنين ومَن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة؛ فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: "أقول: هذا أمر دواؤه التسكين، ولا بد مِن التأني في الاقتصاص مِن قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًّا واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته مِن هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة". وبعد هذه الكلمات العذبة والتي أخلص فيها القعقاع وافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنتْ وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر -إن شاء الله-. وعاد القعقاع إلى علي -رضي الله عنهما- في ذي قار وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًّا بما جرى معه، فأُعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح؛ كرهه مَن كرهه، ورضيه مَن رضيه، ثم أرسل علي -رضي الله عنه- رسولين إلى عائشة والزبير ومَن معهما يستوثق مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا عليًّا بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح, وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وإني راحل غدًا فارتحلوا يقصد إلى البصرة، ألا ولا يرتحلن غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء مِن أمور الناس، وهكذا اتفق الطرفان على الصلح، وظهرت حقيقة نواياهم، ولكن قدر الله أسبق! ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المراجع: - فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان. - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش. - تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري. - البداية والنهاية لابن كثير. - أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي. - تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (19) موقعة الجمل "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق دور السبئية في نشوب الحرب بيْن الطرفين بعد ما اتفقا على الصلح، وذكرنا بعض الأحداث التي وقعتْ في موقعة الجمل، وكيف تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع جيش البصرة بعد انتهاء المعركة. ونستكمل اليوم ما حدث بعد انتهاء المعركة. نداء أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد الحرب: وبعد أن هدأت الأمور وانتهت الحرب، وأُخرجتْ أم المؤمنين عائشة مِن الميدان، نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبرًا، ولا يدخلوا دارًا، ومَن ألقى السلاح فهو آمن، ومَن أغلق بابه فهو آمن، وليس لجيشه مِن غنيمة، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه مِن أهل البصرة مَن وجد شيئًا مِن متاعه عند أحدٍ مِن جنده؛ فله أن يأخذه. وقد ظن بعض الناس في جيش علي أن عليًّا -رضي الله عنه- سيقسم بينهم السبي، فتكلموا به ونشروه بيْن الناس، ولكن سرعان ما فاجأهم علي -رضي الله عنه-، حين أعلن في ندائه: وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتل زوجها؛ فلتعتد أربعة أشهر وعشرًا. فقالوا مستنكرين متأولين: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم، ولا تحل لنا نساؤهم؟ فقال علي -رضي الله عنه-: كذلك السيرة في أهل القبلة، ثم قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوها على عائشة -رضي الله عنها- فهي رأس الأمر وقائدهم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟! فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا. وقالوا: نستغفر الله، وتبيَّن لهم أن قولهم وظنهم خطأ فاحش، ولكن ليرضيهم قسم عليهم -رضي الله عنه- مِن بيت المال خمسمائة خمسمائة(1). وبعد انتهاء المعركة خرج علي -رضي الله عنه- يتفقد القتلى مع نفر مِن أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة "السجاد" فقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا، ومر علي -رضي الله عنه- على طلحة -رضي الله عنه- بعد ما قٌتل، فجعل علي يَمسح التراب عن وجهه ويبكي ويقول: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء!"، ثم قال: "إلى الله أشكو عجري وبجري"(2). وبعد خروج الزبير بن العوام -رضي الله عنه- مِن المعركة تبعه عمرو بن جرموز فهجم عليه فقتله ثم احتز رأسه وذهب إلى عليٍّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن للدخول على علي، فقال عليُّ -رضي الله عنه-: "بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ"، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ)(3). ولما رأى علي -رضي الله عنه- سيف الزبير -رضي الله عنه- قال: إن هذا السيف طالما فرَّج الكرب عن وجه رسول الله, وفي رواية: منع أمير المؤمنين علي ابن جرموز مِن الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار(4)، ثم صلى علي -رضي الله عنه- على قتلى الفريقين، ثم قعد علي كئيبًا حزينًا ودعا للقتلى بالمغفرة، وترحم عليهم وأثنى على عددٍ منهم بالخير والصلاح, وعاد إلى منزله فإذا امرأته وابنتاه يبكين على عثمان وقرابته، والزبير وطلحة وغيرهم مِن أقاربهم القرشيين. فقال لهن: إني لأرجو أن نكون مِن الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)، وهكذا مرَّت الأحداث الجسام، إنها حقـًّا فتنة عظيمة مرَّت على الأمة، وواجهت القبائل المختلفة بعضها بعضًا في رحى معركة ضارية، مضر البصرة واجهت مضر الكوفة، وربيعة البصرة واجهت ربيعة الكوفة، ويمن البصرة واجهت يمن الكوفة، ووجدت القبائل نفسها في أتون معركة تدفع ثمنها مِن أرواح أبنائها(5). مبايعة أهل البصرة: كان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- حريصًا على وحدة الصف، واحترام الجميع، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال إخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها، وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي -رضي الله عنه- يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة(6). كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد مِن شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ليكلموا عليًّا فقال علي: هو آمن فليتوجه حيث شاء، وقد أثنى مروان -رضي الله عنه- على أفعال أمير المؤمنين علي فقال لابنه الحسن: ما رأيتُ أكرم غلبة مِن أبيك، ما كان إلا أن ولَّينا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح(7)، وبذلك تمتْ بيعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وولى عليهم ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-(8)، وقد جاء عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي إلى أمير المؤمنين فبايعه فقال له علي: أين المريض؟ -يعني أباه- فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص. فقال: امشِ أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل مِن أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع مِن زياد(9). وجاء أمير المؤمنين إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فاستأذن وسلَّم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على مَن قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها علي شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟!(10). أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يرد عائشة -رضي الله عنها- إلى مأمنها: جهز أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها- بكل شيء ينبغي لها مِن مركبٍ وزاد ومتاع، وأخرج معها مَن نجا ممن خرج معها إلا مَن أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة مِن نساء أهل البصرة المعروفات لمرافقتها في السفر، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وخرجتْ مِن الدار في الهودج، فودعت الناس ودعت لهم وقالت: "يا بني، لا يغتب بعضكم بعضًا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في القديم إلا ما يكون بيْن المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار"، فقال علي -رضي الله عنه-: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة. وخرجتْ يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يومًا(11). وبتلك المعاملة الكريمة مِن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له: (إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ)، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا)(12). هذا وقد ظهر موقف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- ممن ينال مِن عائشة -رضي الله عنها-؛ فلقد جاء إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان مِن عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما مِن ثيابهما, وقد قام القعقاع بذلك(13)، وقد ندمت عائشة -رضي الله عنها- على خروجها، وكانت إذا قرأت قوله -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب:33)، تبكي حتى تبل خمارها، وكانت كلما تذكرت الجمل قالت: "وددتُ أني كنتُ جلستُ كما جلس صواحبي"(14). تاريخ معركة الجمل: كانت هذه الموقعة في شهر جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين مِن الهجرة، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي وقعتْ فيه. عدد القتلى: أسفرت هذه الحرب الشديدة عن عددٍ مِن القتلى اختلفت وتباينت في تقديره الروايات, ذكر الطبري في تاريخه عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم مِن أصحاب علي، ونصفهم مِن أصحاب عائشة، مِن الأزد ألفان، ومِن سائر اليمن خمسمائة، ومِن مضر الفان، وخمسمائة مِن قيس، وخمسمائة مِن تميم، وألف مِن بني ضبة، وخمسمائة مِن بكر بن وائل. وقيل: قتل مِن أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل مِن أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل مِن أهل البصرة، ومِن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل مِن بني عدي يومئذٍ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومَن لم يقرأ القرآن(15). وقال قتادة: إن قتلى يوم الجمل عشرون ألفًا. وأما اليعقوبي فقد جاوز هؤلاء جميعًا؛ إذ وضع عدد القتلى اثنين وثلاثين ألفًا(16)، هذا وقد أورد خليفة بن خياط بيانًا بأسماء مَن حُفظ مِن قتلى يوم الجمل فكانوا قريبًا مِن المائة(17), فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعنى أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم الذي ترجَّح لدى خالد بن محمد الغيث في رسالته "استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري - دراسة نقدية"(18). وعلى أي الأحوال فالذين قُتلوا يوم الجمل عدد ليس بقليل، فزوال الدنيا عند الله -تعالى- أهون مِن سفك دم مسلم واحد. وهكذا نتعلم مِن التاريخ أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وإذا تأملنا أحداث موقعة الجمل، نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس وكثرت الشائعات في المجتمع، أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولا بد مِن تفعيل قاعدة فقه المآلات؛ فلقد قلَّ بيْن الناس مَن ينظر بعين العقل إلى عواقب الأمور. ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 550. (2) أي همومي وأحزاني وغُمُومِي، انظر ابن منظور، لسان العرب ج4 ص40. (3) رواه أحمد والحاكم، وحسنه ابن حجر. (4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 261). (5) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 541، والمصنف لابن أبي شيبة (7/540). (6) الطبقات لابن سعد ج3 ص 224. (7) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي، وهو شرح مختصر المزني. (8) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص 181. (9) البداية والنهاية ج7 ص 357. (10) البداية والنهاية ج7 ص 356. (11) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان. (12) مسند أحمد (6/ 393)، إسناده حسن، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55. (13) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 358. (14) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 177)، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55. (15) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 542. (16) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 546. (17) تاريخ خليفة بن خياط ص 191. (18) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، للصلابي، ص 579.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (20) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فبعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًّا -رضي الله عنه-، سواء مَن كانوا معه أو مَن كانوا عليه، وتمكَّن -رضي الله عنه- مِن الأمور، ثم ترك البصرة وتوجَّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ومكث -رضي الله عنه- في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة والكوفة. أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان -رضي الله عنه- عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد خرج بجيشه مِن مصر متوجهًا لنجدة عثمان -رضي الله عنه-، ولكنه لما علم بمقتله توجَّه إلى الشام، فأرسل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قيس بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب ومعه مجموعة مِن الرجال وسيطر عليها، وصعد المنبر وأعلن أنه يبايع عليًّا -رضي الله عنه-؛ فبايعه أهل مصر. وقد كان النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قد خرج إلى الشام ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها إلى معاوية في بلاد الشام(1)؛ فلما رأى معاوية القميص بكى ووضع القميص على المنبر(2)، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، وآلى الرجال مِن أهل الشام ألا يأتوا النساء، ولا يمسهم الماء للغسل إلا مِن احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، أو تفنى أرواحهم فمكثوا حول القميص سنة(3)، وكان معاوية -رضي الله عنه- يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ مِن إقامة القصاص على هؤلاء القتلة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وكان معاوية -رضي الله عنه-، واليًا على الشام في عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما-. ولما تولى الخلافة عليٌّ أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؛ فأرسل عليٌّ سهل بن حنيف -رضي الله عنه- بدلاً منه؛ إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام "وادي القرى" حتى عاد مِن حيث جاء؛ إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع(4)؛ لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص علي -رضي الله عنه- مِن قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة, وقالوا: لا نبايع مَن يأوي القتلة(5). لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدَّم على البيعة، وليس لرغبة معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق؛ إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة مِن أهل الشورى، وأن عليًّا أفضل منه وأولى بالأمر منه, وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب. وقد بعث علي -رضي الله عنه- كتبًا كثيرة إلى معاوية -رضي الله عنه- فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث مِن مقتل عثمان في صفر ثم بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قومٍ لا يريدون إلا القود -القاتل بالقتيل-، كلهم موتور-رَجُلٌ مَوْتُورٌ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان. وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي، عزم الخليفة على قتال أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي، فقال: يا أبه دَعْ هذا فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال(6)، وجهز جيشًا ضخمًا اختلفت الروايات في تقديره(7)؛ فهناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، وهناك مَن قال: مائة وعشرون ألفًا، وقدر عند البعض بتسعين ألفًا، وفي رواية أخرى قدر بخمسين ألفًا، لكنه توجه في النهاية إلى الكوفة، وليس إلى الشام؛ نظرًا لما ذكرنا مِن خروج عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- إلى البصرة، وقد بعث علي -رضي الله عنه- إلى جرير بن عبد الله، وكان على همذان مِن زمان عثمان، وإلى الأشعت بن قيس وهو على نيابة أذربيجان مِن أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على مَن هُنالك ثم يُقبلان إليه؛ ففعلا ذلك. فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية -رضي الله عنها- يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدًا، فآخذ لك البيعة منه، فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يَقتل قتلة عثمان، أو أن يسلِّم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم، فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقرر علي -رضي الله عنه- أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه، وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس(8). خروج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- إلى بلاد الشام: خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مِن الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة(9) خارج الكوفة؛ فتوافدت عليه القبائل مِن شتى إقليم العراق وأرسل علي -رضي الله عنه- مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات، ووصلت إلى منطقة تُسمّى "صفين"(10)، وتتبع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- المقدمة بجيشه، وكانت قد أتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي إلى الرقة(11), وعبر منها الفرات غربًا، ونزل على صفين(12). خروج معاوية -رضي الله عنه- إلى صفين: كان معاوية -رضي الله عنه- جادًا في مطاردة قتلة عثمان، وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان، -رضي الله عنه-، والقتال, وقد قام عمرو بن العاص، -رضي الله عنه-، بتجهيز الجيش وعقد الألوية، وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره(13)، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير. ولا شك أن هناك بعض الناس حول معاوية يشعلون الموقف ولهم رغبات متعددة، وكذلك في جيش علي أيضًا، ثم وصل جيش علي -رضي الله عنه- إلى صفين، حيث عسكر معاوية، وفوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي -رضي الله عنه- يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بيْن الفريقين انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء(14)؛ إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال في أصله مفادها أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية، فقال: الله، الله يا معاوية في أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟! إن الله يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبيْن الماء. فقال لأبي الأعور: خلَّ بيْن إخواننا وبين الماء(15)، وهذه الرواية هي الأوثق والأرجح. وأريد أن أذكر بعض الروايات التي تؤكد على أن معاوية -رضي الله عنه- لم يقاتل مِن أجل خلافة أو رئاسة كما زعم البعض(16)، وإنما مِن أجل دم عثمان -رضي الله عنه-، ويتضح موقفه وهو يحاور بعض رجاله مما توضحه الرواية التالية: "جاء أبو مسلم الخولاني وناس معه إلى معاوية، فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله، إني لأعلم أن عليًّا أفضل مني، وإنه لأحقُّ بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلِّمُ له، فأتوا عليًّا فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه"(17). وكان معاوية يؤكد على هذا المعنى: "ما قاتلتُ عليًّا إلا في أمر عثمان"(18). وقد رأى معاوية أنه ولي دم عثمان -رضي الله عنه-؛ لأنه صار رأس بني أمية مكانه، والأحاديث النبوية تدل على أن عثمان يُقتل مظلومًا، بل تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بأن لا يخلع نفسه مِن الخلافة، ووصف الثائرين عليه بالمنافقين(19). وقد قال الجويني -رحمه الله-: "وَمُعَاوِيَة وَإِن قَاتل عليًّا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُنكر إِمَامَته وَلَا يدعيها لنَفسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- ظَانّا أَنه مُصِيب"(20). وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وَلم يُنكر مُعَاوِيَة قطّ فضل عَليّ واستحقاقه الْخلَافَة، لَكِن اجْتِهَاده أداه إِلَى أَن رأى تَقْدِيم أَخذ الْقود مِن قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- على الْبيعَة، وَرَأى نَفسه أَحَق بِطَلَب دم عُثْمَان(21)". وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة -رضي الله عنهما- فدخلا على معاوية -رضي الله عنه- فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومِن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحق بهذا الأمر منك. فقال: أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا مِن قتلة عثمان، ثم أنا أول مَن بايعه مِن أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان، فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمَن شاء فليرمنا. قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربًا(22). ومِن اعتقاد أهل السُّنة والجماعة أن ما جرى بيْن معاوية وعلي -رضي الله عنهما- مِن الحروب فَلم يكن لمنازعة مُعَاوِيَة لعَلي فِي الْخلَافَة للْإِجْمَاع على حقيتها لعَلي كَمَا مر، فَلم تهج الْفِتْنَة بِسَبَبِهَا، وَإِنَّمَا هَاجَتْ بِسَبَب أَن مُعَاوِيَة وَمَن مَعَه طلبُوا مِن عَليّ تَسْلِيم قتلة عُثْمَان إِلَيْهِم لكَون مُعَاوِيَة ابْن عَمه فَامْتنعَ عَليّ ظنا مِنْهُ أَن تسليمهم إِلَيْهِم على الْفَوْر مَعَ كَثْرَة عَشَائِرهمْ واختلاطهم بعسكر عَليّ يُؤَدِّي إِلَى اضْطِرَاب وتزلزل فِي أَمر الْخلَافَة الَّتِي بهَا انتظام كلمة أهل الْإِسْلَام سِيمَا وَهِي فِي ابتدائها لم يستحكم الْأَمر فِيهَا؛ فَرَأي عَليّ -رضي الله عنه- أَن تَأْخِير تسليمهم أصوب إِلَى أَن يرسخ قدمه فِي الْخلَافَة ويتحقق التَّمَكُّن مِن الْأُمُور فِيهَا(23). وقد قام معاوية -رضي الله عنه- خطيبًا فقال: أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني ولي عثمان وابن عمه، قال الله الله -تعالى- في كتابه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (الإسراء:33)، وقد علمتم أنه قـُتل مظلومًا، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبْل ذلك(24). وهنا نؤكد على ما أكده الدليل النبوي، وكذا علماء الأمة، أن الحق كان مع أمير المؤمنين على -رضي الله عنه- وأن معاوية -رضي الله عنه- اجتهد وتأول فأخطأ، فعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ, وَرُكْبَتِي تَمَسُّ رُكْبَتَهُ, فَقَالَ رَجُلٌ: كَفَرَ أَهْلُ الشَّامِ, فَقَالَ عَمَّارٌ: "لَا تَقُولُوا ذَلِكَ، نَبِيُّنَا وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ, وَقِبْلَتُنَا وَقِبْلَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَفْتُونُونَ جَارُوا عَنِ الْحَقِّ، فَحَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَيْه" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج8 ص 277). "وهكذا إذا وجدت الدماء؛ ظهرت بدعة المبتدع، وظهر الفكر المنحرف، وظهرت العقائد الفاسدة؛ فهذا الرجل كفر أهل الشام دون بينة أو دليل، وهذا ما يحدث اليوم مِن التساهل والتسرع في تكفير الناس بلا برهان ولا دليل؛ لذا وجب على أهل السُّنة أن يقفوا أمام هذه البدع لا سيما في أوقات الفتن وإذا سالت الدماء، وأن يبينوا الحق للناس. وعمار هذا الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري في ذكر بِنَاءِ المَسْجِدِ، قَالَ: "كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وقال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ" (رواه البخاري). وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولكن كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق مِن أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم"(25)، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يوم صفين يتبعون عمارًا؛ لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة(26). وهذا يدل على صحة إمامة علي -رضي الله عنه- ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، وأن الداعي إلى مقاتلته داع إلى النار، وإن كان متأولاً أو باغيًا بلا تأويل(27). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 539). (2) المصدر السابق،ج7 ص 540. (3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 621. (4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 129). (5) العواصم مِن القواصم ص (162). (6) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 240، 241). (7) هناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، البداية والنهاية (7/ 260)، مائة وعشرون ألفًا: المعرفة والتاريخ (3/ 13) بسندٍ منقطع، وقدر بتسعين ألفًا: تاريخ خليفة بن خياط ص (193)، وفي رواية أخرى: بخمسين ألفًا. (8) البداية والنهاية لابن كثير (7/280). (9) موقع قرب الكوفة مِن جهة الشام، معجم البلدان (5/ 278). (10) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 603)، وصفين مكان على شاطئ الفرات في آخر حدود العراق، وأول حدود الشام، سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36هـ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشاتٍ ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37هـ، واستؤنف القتال بعده. (11) الرقة: مدينة مشهورة -في سوريا اليوم- على نهر الفرات الشرقي، معجم البلدان (3/ 153). (12) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 604). (13) فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير، انظر تاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ الطبري. (14) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 605). (15) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 41). (16) عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين لأكرم بن ضياء العمري، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009م، ص 460. (17) تاريخ دمشق لابن عساكر. (18) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج11 ص290. (19) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ، فَلَا تَخْلَعْهُ)، يَقُولُ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي النَّاسَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). (20) لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السُّنة والجماعة للجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى 478هـ) المحقق: فوقية حسين محمود، الناشر: عالم الكتب - لبنان، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م، ص130. (21) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء 5 ج4 ص 124. (22) البداية والنهاية لابن كثير (7-288). (23) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لابن حجر الهيتمي. (24) البداية والنهاية لابن كثير (7-290). (25) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 300 (26) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، ج2 ص 38. (27) الفتاوى لابن تيمية، ج4 ص 437.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (21) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق أن أهل الشام رفضوا بيعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وطالب معاوية -رضي الله عنه- بالقصاص مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-، ثم تقابل الطرفان في صفين، ورأينا كيف كفـَّر الخوارج أهل الشام دون بينةٍ أو دليل، وهكذا إذا وُجدت الدماء ظهرت بدعة المبتدع، وظهر الفكر المنحرف، وظهرت العقائد الفاسدة، وهذا ما يحدث اليوم مِن التساهل والتسرع في تكفير الناس بلا برهان ولا دليل؛ لذا وجب على أهل السُّنة أن يقفوا أمام هذه البدع لا سيما في أوقات الفتن وإذا سالت الدماء، وأن يبينوا الحق للناس. محاولات الصلح: ما إن دخل شهر المحرم حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعًا في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم، وقيل إن البادئ بالمراسلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى معاوية -رضي الله عنه-، يدعوه كما دعاه مِن قبْل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة، فرد معاوية عليه برده السابق المعروف بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً ثم يدخل في البيعة, كما أن قراء الفريقين قد عسكروا في ناحية مِن صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولاتٍ للصلح بينهما، فلم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه(1). وقد حاول اثنان مِن الصحابة، وهما أبو الدرداء وأبو أمامة -رضي الله عنهما- الصلح بيْن الفريقين، فلم تنجح مهمتهما أيضًا لنفس الأسباب السابقة، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما, وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين فوعظ وخوف، ولم يقاتِل(2). وقوع القتال بيْن الفريقين: لقد فشلتْ محاولات الصلح بيْن الفريقين، ثم خرج علي -رضي الله عنه- وأعلن في جيشه أن غدًا الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ معاوية يخبره بذلك(3), فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها، وقام عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بإخراج الأسلحة وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال، وبات جميع الجيشين في مشاوراتٍ وتنظيم للقيادات والألوية. وأصبح الجيشان في يوم الأربعاء وقد نظمت صفوفهم, وتقابلت الجيوش الإسلامية، ومِن كثرتها قد سدت الأفق، والتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدمًا إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، ويصلي كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش علي -رضي الله عنه- حين انصرافه مِن الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: مَن قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة(4). وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحدٌ أحدًا، ولم يُرَ موليًا حتى انتهى ذلك اليوم، وفي المساء خرج علي -رضي الله عنه- إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم اغفر لي ولهم(5). وفي يوم الخميس اشتبك الطرفان في قتال عنيف أشد مِن سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقًا على أهل الشام، واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية، وعليها حبيب بن مسلمة، ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء)، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، وهنا استحث معاوية كتيبته الشهباء، واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وانقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدمًا، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق وكثرت الجراحات. ولما رأى علي -رضي الله عنه- جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديدًا، واتجه إلى القلب حيث ربيعة؛ فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعتمر على الموت وكانوا أهل قتال، وكان عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قد جاوز التسعين عامًا، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس ويستنهض الهمم، ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام؛ فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة(6)، وهذا هو الفهم الصحيح لقضايا الكفر والإيمان، وهذا هو التطبيق العملي لتنحية العاطفة وتغليب المنهج، وعمار يقول: تقدم يا هشام، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل(7), وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه(8). وعند غروب شمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة مِن لبن ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: إن آخر شربة تشربها مِن الدنيا شربة لبن(9), ثم تقدَّم واستحث معه حامل الراية هشام بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقُتلا -رحمهما الله ورضي عنهما-(10)، ثم عادت الحرب في نفس الليلة بشدة لم تشهدها الأيام السابقة، وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم, وذكر أن عليًّا -رضي الله عنه- صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف(11)، ومِن شدة القتال، فنيت نبالهم، واندقت رماحهم، وانقصفت سيوفهم، ومشى بعضهم إلى بعض، وتضاربوا بما بقي مِن السيوف وعمد الحديد(12). وقال ابن كثير -رحمه الله- في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان، يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما ليهمر على الآخر(13)، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس مِن يوم الجمعة، وهم كذلك، وصلى الناس الصبح إيماءً وهم في القتال حتى تضاحى النهار، وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام(14). وكان قتل عمّار -رضي الله عنه- شديدًا على جيش علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، لكنه كان أشد على جيش الشام؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن عمارًا -رضي الله عنه- تقتله الفئة الباغية، وقد كان عمار علمًا لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعونه حيث سار، وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافًا سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عمار: (تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ) (رواه البخاري)، واستمر في القتال حتى قُتل(15)، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبا الأعور السلمي، عند شريعة الماء يسقون، وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عَمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ)، فقال عمرو لمعاوية: لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض(16) في بولك، أنحن قتلناه؟! إنما قتله مَن جاء به(17). وجاء في رواية: أن معاوية -رضي الله عنه- قال: أنحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه، وجاءوا به حتى ألقوه بيْن رماحنا، أو قال: بيْن سيوفنا وانتشر تأويل معاوية بيْن أهل الشام، وهذه الكلمة مِن معاوية -رضي الله عنه- ليستْ في محلها في هذا الموطن؛ لأن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان على الحق في هذا الخروج. قال ابن كثير -رحمه الله-: "ومعلوم أن عمارًا كان في جيش على يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية مِن أهل الشام، وكان الذي تولى قتله رجل يُقال له أبو الغادية، رجل مِن أفناد الناس، وقيل: إنه صحابي". ويخبر عمرو بن العاص، -رضي الله عنه-، الخبر فيقول: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قاتل عمار وسالبه في النار(18). فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) (آل عمران:23)، فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء -الذين صاروا بعد ذلك خوارج- بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري -رضي الله عنه- فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بيْن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر -رضي الله عنه- للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال علي: أيها الناس، إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس(19)، ويروى أن عليًّا -رضي الله عنه- قد أبدى معارضة في بداية الأمر، ولكنه سرعان ما وافق على التحكيم والتحاكم إلى كتاب الله -تعالى-(20). وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتعلمون مِن سيرة رسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهي المنهج الحقيقي الواضح الصافي في كيفية التعامل مع الواقع، وأظهر سهل بن حنيف -رضي الله عنه- رفضه الشديد حول استمرار الحرب بيْن الإخوة، وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ" (رواه البخاري)، وبيَّن لهم أنه لا خيار عن الحوار والصلح؛ لأن ما سواه فتنة لا تُعرف عواقبها. إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب "صفين"؛ إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير مِن المسلمين أبرزت اتجاهًا جماعيًّا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء أصبح ضرورة. إن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنه- قَبِل وقف القتال في صفين، ورضي التحكيم وعدَّ ذلك فتحًا ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح مِن جديدٍ، وقد خشي عددٌ مِن عقلاء الطرفين مِن استمرار القتال حتى لا يهلك المسلمون؛ فيستغل الأعداء ذلك، ويستأصلوا الإسلام، فلا تقوم له بعد ذلك قَوْمة! وكان عقلاء الكوفة أسبق إلى الموادعة؛ فهذا الأشعث بن قيس الكندي لمَّا اشتد القتال خطب في قومه -أهل الكوفة- في المساء خطبته التي قادت للصلح؛ فقال: "قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه مِن العرب، فوالله لقد بلغتُ مِن السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيتُ مثل هذا اليوم قَطُّ؛ ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنْ نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا مِن الحتف، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرتُ لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا بالله"(21). فلما وصل الخبر معاوية -رضي الله عنه- بخطبة الأشعث قال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا -أي الرماح-، قال صعصعة: فثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومَن لذراريكم إن قتلناكم؟ اللهَ الله في البقية! فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم(22). لقد كان رفع المصاحف عملاً رائعًا اشترك فيه العقلاء مِن الفريقين، وتُوِّج بموافقة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-؛ إذ قال: "نعم، بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم"(23). ونستكمل في المقال القادم -إن شاء الله تعالى-. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 612، 613). (2) سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 67). (3) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 273). (4) الطبقات لابن سعد (4/ 255) من طريق الواقدي. (5) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة (15/ 297). (6) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة (15/ 290). (7) الأسل: الرماح، والأَسَل: عِيدانٌ تَنْبُتُ طِوَالًا دِقَاقاً مُسْتَوِيَةً لَا وَرَقَ لَهَا يُعْمَل مِنْهَا الحُصُر. والأَسَل: شَجَرٌ. وَيُقَالُ: كُلُّ شَجَرٍ لَهُ شَوْكٌ طَوِيلٌ فَهُوَ أَسَل، وَتُسَمَّى الرِّمَاحُ أَسَلًا، ابن منظور، لسان العرب (11/15). (8) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 652). (9) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأحمد، والحاكم وقال:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. (10) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 653). (11) السنن الكبرى للبيهقي. وقال الألباني: "رواه البيهقي بصيغة التمريض" (إرواء الغليل 3/ 42). (12) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب. (13) هَمَرَ الرَّجُلُ: دَمْدَمَ بِغَضَبٍ. (14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 283). (15) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام الهيثمي، المحقق: حسام الدين القدسي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ - 1994م، وقال فيه: "رواه الطبراني وفيه أبو معشر وهو لين". (16) الدَّحْضُ: الزَّلَقُ، والإِدْحاضُ: الإِزْلاقُ، الدُّحَّضُ: جَمْعُ داحِضٍ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا عَزِيمَةَ فِي الأُمور، ابن منظور، لسان العرب (7/ 148). (17) مسند أحمد (2/ 206)، وإسناده حسن. (18) السلسلة الصحيحة للألباني (5/ 18، 19). (19) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 336)، وفي مسند أحمد مع الفتح الرباني (8/ 483). (20) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/49). (21) نصر بن مزاحم المنقري (المتوفى سنة 212هـ) وقعة صفين، تحقيق عبد السلام هارون. (22) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين ص880. (23) المصنف لابن أبي شيبة 8/ 376، والبلاذري: أنساب الأشراف (3/ 131).
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (22) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلقد ذكرنا في المقال السابق أحداث موقعة "صفين"، وما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع القتال بيْن أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وبيْن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأتباعه مِن أهل العراق والحجاز، وغيرهم، ثم كان رفع المصاحف مِن قِبَل أهل الشام، وموافقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على التحاكم إلى كتاب الله -تعالى-. ونود أن نشير إلى بعض الأمور حول الموقعة. الأخلاق الحسنة أثناء الحرب: إن وقعة "صفين" كانت مِن أعجب الوقائع بيْن المسلمين؛ لقد كانت معركة فريدة في بواعثها، وفي طريقة أدائها؛ فكان المتقاتلون إخوة يذهبون معًا إلى مكان الماء فيستقون جميعًا، ويزدحمون وهم يغرفون الماء، وما يؤذي إنسان إنسانًا!(1). وهم إخوة يعيشون معًا عندما يتوقف القتال؛ فيٌروى عن أحد المشاركين أنه قال: "كنا إذا تَوَادَعْنَا مِن القتال دخل هؤلاء في معسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء، وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم"، وهم أبناء قبيلة واحدة، ولكلٍّ منهما اجتهاده؛ فيقاتل أبناءُ القبيلة الواحدة كل في طرف قتالاً مريرًا، وكل منهما يرى نفسه على الحق، وعنده الاستعداد لأن يُقتَل مِن أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخَنا (وهنًا وضعفًا) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا, وهما أبناء دين واحد يجمعها، وهو أحب إليهما مِن أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها(2). وظهر في هذه الحرب نماذج متعددة حول المعاملة الحسنة للأسرى. قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلِّـقًا على هذه الحرب: "ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معًا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيرًا مِن قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة(3)". وها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للمرة الثانية يتعامل مع الخصم المنهزم معاملة حسنة لا يتعامل بها منتصر مع خصمه الذي أوشك على الهزيمة. عدد القتلى: ذكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في "صفين" بلغ عددهم سبعين ألفًا؛ مِن أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا، ومِن أهل الشام خمسة وأربعون ألف مقاتل، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن عدد القتلى في "صفين" بلغ سبعين ألفًا أو أكثر(4). وهذه الأرقام ربما يكون قد بالغ البعض فيها، لكن بلا شك كثر عدد القتلى في هذه المعركة، وقد قام أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد نهاية الجولات الحربية بتفقد القتلى، وقد وقف عليٌّ -رضي الله عنه- على قتلاه وقتلى معاوية -رضي الله عنه- فقال: "غفر الله لكم، غفر الله لكم" للفريقين جميعًا! وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، خرج علي -رضي الله عنه- فمشى في قتلاه، فقال: "هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة"، وكان علي -رضي الله عنه- يَنهى عن شتم معاوية ولعن أهل الشام(5). قضية التحكيم: تم الاتفاق بيْن الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة "صفين"، وهو أن يُحكِّم كل واحد منهما رجلاً مِن جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص، ووكل عليٌّ أبا موسى الأشعري -رضي الله عنهم جميعًا-، واختيار علي -رضي الله عنه- لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فيه إشارة إلى ميل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الصلح والحل السلمي؛ لأن هذا هو الطبع الغالب على أبي موسى -رضي الله عنه-. وكُتبتْ بيْن الفريقين وثيقة في ذلك، وكان ذلك في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت مِن صفر، سنة سبع وثلاثين، على أن يكون مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل(6) في شهر رمضان مِن نفس العام، وقد رأى قسمٌ مِن جيش علي -رضي الله عنه- أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر؛ وذلك لأنه حكّم الرجال في دين الله! فعليه أن يتوب إلى الله -تعالى-، وخرجوا عليه "فسموا الخوارج"؛ فأرسل علي -رضي الله عنه- إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وجادلهم، ثم ناظرهم علي -رضي الله عنه- بنفسه، فرجعت طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبيْن علي -رضي الله عنه- حروب أضعفت مِن جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة. وسنذكر في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- نص المناظرة، وتعد قضية التحكيم مِن أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير مِن الكُتاب، وتخبَّط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وخصوصًا أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! ووصفوا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأنه كان صاحب مكر وخداع!(7). وما فضل الصحابيين منا ببعيدٍ؛ فلقد أثنى عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة. ما نصت عليه "وثيقة التحكيم": 1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما, فيما تراضيا فيه مِن الحكم بكتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. 2- قضية علي -رضي الله عنه- على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم. 3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم مِن فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات؛ على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا. 4- وإن عليًّا -رضي الله عنه- وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا. 5 - على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, أن يتخذا القرآن إمامًا، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا, وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجامعة؛ لا يعتمدان لها خلافًا, ولا يبغيان فيها بشبهة. 6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره. 7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما، وأشعارهما وأبشارهما، وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضي به راضٍ أو سخط ساخط, وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به مِن الحق مما في كتاب الله. 8 - فإن توفي أحد الحكمين قبْل انقضاء الحكومة؛ فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً مِن أهل المعدلة والصلاح, على ما كان عليه صاحبه مِن العهد والميثاق. 9- وإن مات أحد الأميرين قبْل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية, فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله. 10- وقد وقعت القضية بيْن الفريقين والمفاوضة، ورفع السلاح. 11- وقد وجبت القضية على ما سميناه في هذا الكتاب مِن موقع الشرط على الأميرين، والحكمين، والفريقين, والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا؛ فإن خالفا وتعديا, فالأمة بريئة مِن حكمهما, ولا عهد لهما ولا ذمة. 12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل, والسلاح موضوعة, والسبل آمنة, والغائب مِن الفريقين مثل الشاهد في الأمر. 13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بيْن أهل العراق والشام. 14- ولا يحضرهما فيه إلا مَن أحبَّا عن تراضٍ منهما. 15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها, وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها. 16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى انقضاء الأجل؛ فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب. 17- وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر, وهم جميعًا يد واحدة على مَن أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا، وشهد على هذا الكتاب الحسن والحسين, وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-, وغيرهم كثير(8). وبعد ما كُتبت هذه الوثيقة بدأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وعاد معاوية -رضي الله عنه- بجيشه إلى الشام، وبذلك توقف القتال، وتم دفن القتلى -رحمة الله عليهم أجمعين-. وفي سنة (40هـ) جرت بيْن عليٍّ وبيْن معاوية المهادنة -بعد مكاتبات جَرَتْ بينهما- على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليٍّ العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، ولا غارة، ولا غزو؛ فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعلي بالعراق يجيبها ويقسمها بيْن جنوده(9). وبما أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، كما قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)؛ فسوف نستخلص في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- الدروس والعِبَر مِن أحداث الموقعتين "الجمل وصفين". ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ (1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 610). (2) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 270). (3) العواصم مِن القواصم لأبي بكر بن العربي، ص (168-169). (4) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم. (5) المصنف لابن أبي شيبة (15/ 303). (6) تقع دُومة على مشارف الشام، وقال أبو عبيد السكوني: "دومة الجندل حصن وقرى بيْن الشام والمدينة قرب جبلي طيّء"، وذكر الحموي في معجم البلدان أنها سُميت بذلك نسبة إلى حصن بناه دوماء بن إسماعيل، معجم البلدان (2/485). (7) قال ابن العربي -رحمه الله-: "وقد تكلم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة -دون الديانة- رأيتم أنها سخافة، حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين!". والذي يصح مِن ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني أنه لما خرجت الطائفة العراقية مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفًا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون مِن صفر سنة "سبع وثلاثين"، ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف مِن أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بيْن الدعويين بالحق، فكان مِن جهة علي أبو موسى، ومِن جهة معاوية عمرو بن العاص، وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا، وأرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمرو وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادتْ مِن الفساد؛ اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره مِن الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر. وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح مِن دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين. فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم فقال: إني نظرت فخلعتُ عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا مِن عنقي أو مِن عاتقي، وأخرجه مِن عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرَّق الجمع على ذلك مِن الاختلاف" (انتهى بتصرف يسير مِن العواصم مِن القواصم). (8) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 665 - 666), والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 276 - 277)، وانظر جمل مِن أنساب الأشراف للبلاذري، والأخبار الطوال للدينوري. (9) تاريخ الرسل والملوك للطبري ( 6/60)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/336) والمنتظم لابن الجوزي (3 /404).
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (23) قراءة نقدية وتحليل لأحداث موقعتي "الجمل وصفين" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وعلى الباحث في التاريخ أن يتجرد مِن ميوله وأهوائه، وأن ينقل الحقيقة دون تحريف. وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة، رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة، كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول؛ فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوال واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار، والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن، طالت أو قصرت، وتاريخ أمة الإسلام مليء بالانتصارات والإنجازات، وقد فاق كل الأمم في رصيدها الحضاري. وإن المتأمل في هذه الأحداث الجسام التي وقعتْ منذ أن توفي أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- يَعلم أن ما حدث وما جرى في هذه الحقبة التاريخية يُعد مِن أشد المحن التي واجهت الأمة منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف، يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-. قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ؛ فللبيئة مِن التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم مِن التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(1). وإذا تأملنا أحداث موقعتي "الجمل وصفين": نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وأن يمسك بزمام الأمور ويسيطر على الدولة، وأن يٌرضى جميع الأطراف المختلفة والمتناحرة؛ وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس، وكثرت الشائعات في المجتمع؛ أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس! ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لا بد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولا بد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فدفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، والذين طالبوا بدم عثمان -رضي الله عنه- نحسبهم جميعًا على خير، ولا نطعن في نواياهم، ولكنهم أخطأوا في اجتهادهم وتقديرهم للأمور، فكان مِن الأولى أن نحافظ على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب مفسدة هي أدنى مِن مفسدة أخرى، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: "اعتبار القدرة والعجز"، وقاعدة: "تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما"، وقاعدة: "ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما"، وقاعدة: "اعتبار المآلات"، وهذا ما أصاب فيه أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وأخطأ فيه غيره، بل ودلَّ موقفه على فقهه وفطنته -رضي الله عنه-. ومما نتعلمه أيضًا: أن الحماس الممزوج بالعاطفة فقط دون مراعاة الضوابط السابقة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة. ومما نتعلمه أيضًا: أن الجلوس على مائدة المفاوضات والسعي في الإصلاح بيْن الأطراف المختلفة والمتناحرة، هو مِن أسباب حفظ دماء المسلمين، ومِن أسباب ضعف شدة الخلاف بيْن الأطراف المختلفة، حتى لو طالتْ فترة السعي في الإصلاح، فمع مرور الوقت تهدأ النفوس وتطيب؛ لذا رأينا أن الحكمين ومَن معهما لم يستطيعوا أن يصلوا إلى حل جذري في القضية، لكن مجرد جلوسهم كان بمثابة الدواء للجرح الغائر، ووقف نزيف الدم. ثم إن الواجب علينا في هذه الفتنة: الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد، والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم, ويحفظ لهم فضائلهم, ويعترف لهم بسوابقهم, وينشر مناقبهم, وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد, والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ؛ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده, وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة، وهذا هو مذهب أهل السُّنة والجماعة أن عليًّا -رضي الله عنه- هو المصيب، وإن كان معاوية -رضي الله عنه- قد اجتهد فأخطأ, وهو مأجور -إن شاء الله-, ولكن عليًّا هو الإمام؛ فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ)(2)، وقال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9). ففي هذه الآية أمر الله -تعالى- بالإصلاح بيْن المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال؛ لأنهم إخوة, وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سمَّاهم الله -عز وجل- مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، وإذا كان حصل اقتتال بيْن عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك مِن الإيمان؛ فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول مَن يدخل في اسم الإيمان الذي ذُكِر في هذه الآية, فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًّا، ولم يؤثـِّر ما حصل بينهم مِن شجار في إيمانهم بحال؛ لأنه كان عن اجتهادٍ. وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حصل بيْن الصحابة، فقال: "تلك دماء طهر الله يدي منها؛ أفلا أطهر منها لساني؟! مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها!". قال البيهقي -رحمه الله- معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "هذا حسن جميل؛ لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب". وسئل الحسن البصري -رحمه الله- عن قتال الصحابة فيما بينهم، فقال: "قتال شهده أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا"(3). وقال الإمام أحمد -رحمه الله- بعد أن قيل له: "ما تقول فيما كان بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-؟ قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى". وقال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: "ويجب أن يُعلم أن ما جرى بيْن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم-, مِن المشاجرة؛ نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم، ونسأل الله -تعالى- لهم الرضوان والأمان، والفوز والجنان, ونعتقد أن عليًّا -رضي الله عنه- أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة -رضي الله عنهم- إنما صدر منهم كان باجتهادٍ فلهم الأجر، ولا يفسقون ولا يبدعون, والدليل عليه قوله -تعالى-: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح:18). وقال ابن تيمية -رحمه الله- في صدد عرضه لعقيدة أهل السُّنة والجماعة فيما شجر بيْن الصحابة: "ويمسكون عما شجر بيْن الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيِّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون"(4). وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع مِن غير قصدٍ كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ، ولكن صاحبه معذور، وإن أخطأ فهو مأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران"(5). وقال ابن حجر -رحمه الله-: "واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عُرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين"(6). وعن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمتُ عليه وجلستُ، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتًا وأجيف الباب(7)، وأنا أنظر، فما كان بأسرع مِن أن خرج علي -رضي الله عنه- وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، فما كان بأسرع مِن أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة"(8). وكذا يجب علينا أن نترضى على الطرف الثالث الذي اعتزل الفتنة: كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهما -رضي الله عنهما-، وللأسف فإن بعض المؤرخين يطعنون في معاوية -رضي الله عنه-، بل ويفسقونه! ونسي هؤلاء أن معاوية -رضي الله عنه- مِن كتبة الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان مِن أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال". وفي النهاية نؤكِّد على أن هذه الحقبة التاريخية كانت مِن أخطر الأزمنة التي مرَّت على الأمة، وهذه الفتنة هي أشد فتنة أيضًا، ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد، ومِن هنا يتضح أنه لابد مِن محاربة الفرق الضالة والطوائف المنحرفة، محاربة فكرية واجتماعية وأمنية أيضًا؛ لأنها عندما تنتشر في بلاد المسلمين تعرِّض أهله للخطر، وتهدد الأمن والاستقرار، وتشكك الناس في عقيدتهم، وتلك هي حال الخوارج المارقين الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- وكفروه، وقتله نفر منهم، زاعمين أنهم يتقربون بهذا الفعل إلى الله! وما عندهم في ذلك مستند ولا برهان، إن هو إلا اتباع الأهواء وطاعة الشياطين. ولا بد أن يقوم العلماء والدعاة بواجبهم في ذلك؛ حفاظًا على الإسلام والمسلمين، ولتمكين عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وهذه هي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، ومَن تأمل تاريخ الإسلام الطويل وجد أن الدول التي قامت على السُّنة هي التي جمعتْ شمل المسلمين،، وعز به الإسلام قديمًا وحديثًا، وهذا بخلاف الدول التي قامتْ على البدعة، وأشاعت الفوضى والفرقة والمحدثات، وفرَّقت الشمل، فهذه سرعان ما تندثر. والله المستعان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) هامش العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص77. (2) البخاري مع شرحه فتح الباري (13/ 318). (3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 332). (4) عبد المحسن العباد البدر، عقيدة أهل السُّنة والجماعة في الصحابة الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-. (5) الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث لابن كثير, ص (182). (6) فتح الباري لابن حجر (13/ 34). (7) أجيف الباب: رد وأغلق، المعجم الوسيط. (8) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 133).
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (24) حول مناظرة "عبد الله بن عباس" مع "الخوارج" وأثرها كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلقد انتهينا مِن الحديث عن موقعتي: "الجمل وصفين"، وذكرنا الأحداث التي وقعتْ وأسبابها ونتائجها، ثم أتبعنا ذلك بقراءةٍ تحليلية نقدية لأحداث الموقعتين، وألقينا الضوء على الدروس المستفادة مِن هذه الأحداث. وإتمامًا للفائدة نذكر اليوم تفاصيل المناظرة التي كانت بيْن حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وبيْن الخوارج؛ فبعد الاتفاق الذي تم بيْن أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وأثناء عودة علي -رضي الله عنه- مِن صفين إلى الكوفة؛ انفصل الخوارج في جماعةٍ كبيرة مِن جيش علي -رضي الله عنه-، وقد قٌدر عددهم بعدة آلاف. وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبْل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل, وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي -رضي الله عنه- وهالهم, وسار عليٌّ -رضي الله عنه- بمَن بقي مِن جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة, وانشغل أمير المؤمنين -رضي الله عنه- بأمر الخوارج؛ خصوصًا بعد ما بلغه تنظيم جماعتهم مِن تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال, وأن البيعة لله -عز وجل-؛ مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين. فأرسل علي -رضي الله عنه- ابن عباس إليهم لمناظرتهم؛ فرجع منهم ألفان بعد مناظرة ابن عباس -رضي الله عنهما- لهم, ثم خرج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بنفسه إليهم فكلمهم، فرجعوا ودخلوا الكوفة؛ إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً. لكننا نريد أن نقف على تفاصيل المناظرة، وكيف أقام ابن عباس -رضي الله عنهما- الحجة عليهم؛ لنأخذ مِن ذلك العبرة في كيفية التعامل مع المخالف، فعن عَبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اجْتَمَعُوا في دَارٍ وَهُمْ سِتَّةُ آلاَفٍ، أَتَيْتُ عَلِيًّا -رضي اللَّهُ عَنْهُ- فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالظُّهْرِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَأُكَلِّمُهُمْ. قَالَ: إني أَخَافُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلاَّ. قَالَ: فَخَرَجْتُ آتِيهُمْ، وَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ فَأَتَيْتُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ في دَارٍ وَهُمْ قَائِلُونَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابن عَبَّاسٍ، فَما هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ وَنَزَلَتْ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32)، قَالُوا: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ صَحَابَةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لأُبْلِغَكُمْ مَا يَقُولُونَ وَتُخْبِرُونِي بِمَا تَقُولُونَ، فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْوَحْي مِنْكُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ! فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (الزخرف:58)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ(2) كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ(3)، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ -أي مغسولة-، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَنُكَلِّمَنَّهُ وَلَنَنْظُرَنَّ مَا يَقُولُ. قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَاذَا نَقَمْتُمْ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصِهْرِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ؟ قَالُوا: ثَلاَثًا. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (الأنعام:57)، وَمَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلْحُكْمِ. فَقُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الأُخْرَى فَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانَ الَّذِينَ قَاتَلَ كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّ سَبْيُهُمْ وَغَنِيمَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ! قُلْتُ: هَذِهِ ثِنْتَانِ فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: أَعِنْدَكُمْ سِوَى هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُكُمْ أَتَرْضَوْنَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ حَكَّمَ الرِّجَالَ في أَمْرِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا قَدْ رُدَّ حُكْمُهُ إِلَى الرِّجَالِ في ثَمَنِ رُبُعِ دِرْهَمٍ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إِلَى قَوْلِهِ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة:95)، فَنَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ: أَحُكْمُ الرِّجَالِ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَفْضَلُ أَمْ حُكْمُهُمْ في دِمَائِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ، وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء:35)، فَجَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الرِّجَالِ سُنَّةً مَاضِيَةً؛ أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ؛ فَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ! أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَهِيَ أُمُّكُمْ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6)، فَأَنْتُمْ تَدُورُونَ بَيْنَ ضَلاَلَتَيْنِ أَيَّهُمَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا صِرْتُمْ إِلَى ضَلاَلَةٍ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ قُلْتُ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آَتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ أُرِيكُمْ، قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ: سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اكْتُبْ يَا عَلِىُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) (رواه أحمد والحاكم والطبراني)، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ). فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعَ مِنَ الْقَوْمِ أَلْفَانِ وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلاَلَةٍ. (أخرجه النسائي، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في المصنف). كانت فتنة الخوارج وبدعتهم أول بدعة اعتقادية ظهرت في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانت تتعلق بقضايا الإيمان، فبدعة الخوارج هي أول البدع ظهورًا وأكثرها تأثيرًا وأشدها ضررًا على وحدة الأمة بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، وأحاديث الخوارج مِن الأحاديث المتواترة كما نص على ذلك كثير مِن المحدثين، وكان اعتقاد الخوارج في ذلك أن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فتساهلوا في مسألة التكفير، ونحن نرى الآن مَن يكفـِّر المسلم بالزي والثياب! فمِن الناس مَن يقول مثلاً: مَن ارتدى الزي العسكري أو ثياب الفرنجة الكفار فهو كافر -ولا حول ولا قوة إلا بالله!-، وقد رأينا كيف أنهم أنكروا على ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه لبس حلة جميلة حسنة مِن حٌلل اليمن! فهذه المُناظَرة فيها فوائد كثيرة لِمَن يتدبرها، فوائد تَنفَع الدعاة وطلاب العلم؛ لا سيما في واقِعنا المُعاصِر، وقد كثرت الفتن وانتشرت المناهج المنحرفة؛ فصاحب هذه المناظرة هو حبر الأمَّة وعالمها عبد الله بن عباس -رضِي الله عنهما- الذي دعا له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالفقه في الدين؛ فلنتأمل كيف كان ابن عباس -رضي الله عنهما- حريصًا على هداية مَن ضلَّ الطريق؟! وهذا الحرص ينبع مِن حبه للمسلمين، ومِن خوفه على أمته، والدين النصيحة كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا حرج مِن إجراء بعض المناظرات مع المخالفين إن كانت هناك مصلحة في ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون النية هي الحرص على هداية الخلق والوصول للحق، لا الانتصار للنفس وحب الظهور والشهرة. قال الشافعي -رحمه الله-: "ما كلَّمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفَّق ويسدد ويعان, ويكون عليه رعاية مِن الله وحفظ, وما كلمت أحدًا قطُّ إلا ولم أبال بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه!". ولنتأمل أيضًا: حرص علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال علي لابن عباس -رضِي الله عنهم-: "إني أخافُهم عليك"، وكان قد اشتَهَر عن الخوارج استِحلال دماء المسلمين، كما وصَفَهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بقوله: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (متفق عليه)، وهذا ما يجب أن يكون بيْن أهل العلم وطلابه. ولنتأمل أيضًا: حسن توكُّل ابن عباس -رضي الله عنهما-، واستِحضار مشيئة الله وقدره، كما قال ابن عباس لعلي -رضِي الله عنهم- لما قال له علي: "أخافُهم عليك"، قال ابن عباس: "كلا إن شاء الله"، والداعية إلى الله لا بد وأن يتعرَّض في دعوته للمَخاطِر والابتلاءات، فإن لم يُحسِن التوكُّل على الله، ويحسن الظنَّ بخالقه، ويستشعر معنى اسم الله "الحفيظ"، واسم الله "القوي" ونحو ذلك، ربما أدى ذلك إلى تركه للدعوة بالكلية، ولنتأمل كذلك قول ابن عباس للخوارج: أتيتكم مِن عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، المهاجرين والأنصار، ومِن عند ابن عمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصهره، وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحد. فكأنه يقول لهم، فأني لكم، كيف تُخالِفونهم؟ ثم مَن تُناصِبُونه العداء هو علي ابن عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوْج ابنته فاطمة التي هي بَضْعة منه! وهؤلاء جميعًا هم مَن نزل عليهم القرآن، فهم أَوْلَى منكم بمعرفة تفسيره وأحكامه، ولم ينحز واحدٌ منهم إليكم، ولا فهم الذي فهمتم مِن القرآن! وبهذا يُرَسِّخ الداعية للحقِّ الذي يحمله مع مُخالِفه، فيجعله أكثر قابليَّة للحق. وتدل المناظرة على استِعمال عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج على ترك السماع مِن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه قرشيٌّ! والله يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون بالباطل، وابن عباس إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يجعَلونه مِن أهل هذه الآية؟! وفي هذه المُناظَرة الكثير مِن جهل الخوارج بنصوص كتاب الله -تعالى- وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها ابتِداءً. ومِن الفوائد أيضًا: عدم الاغتِرار بالهدي الظاهر والسَّمْت فقط؛ لأنَّ الدين مَبناه على العلم والعمل جميعًا، لا العمل على جهل، كحال الخوارج هنا، ولا العلم دون عمل كحال كثيرٍ مِن الناس، فابن عباس -رضِي الله عنهما- قال عن الخوارج: وما أتيتُ قومًا قطُّ أشدَّ اجتِهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم مِن السهر! كأنَّ أيديهم ورُكَبهم تثنى عليهم، لكنَّهم مع ذلك (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه، فكيف تُؤثِّر فيهم القراءة، وكيف يَفقَهُون ما يقرؤون؟! فهم يعبدون الله على جهل، وكثيرٌ مِن الناس يَغتَرُّون ببعض الدعاة وبشهرتهم وبلباقة لسانهم، ولا يفرِّقون بيْن العالم وغيره، فكل مَن لبس لباسًا معينًا فهو عندهم العالم! ومِن هنا تقع الفِتَن والمِحَن. ومِن الفوائد أيضًا: إياك وسوء الظن في المخالفين جملة واحدة، فمِن الخوارج مَن قال: لنُكَلِّمنَّه ولنَنظُرَنَّ ما يقول، وهذا منهم تحرٍّ للخير، ثم منهم مَن قَبِل الحق، وعاد إلى صوابه ولم يستكبر. ثم لا بد مِن دراسة وتعلم فن المناظرة، ويَظهَر هذا جليًّا مِن أسئلة ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج، فهو يقول لهم أولاً: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمِّه. وقال لهم: هل عندكم شيء غير هذا؟ ثم قال لهم ابن عباس كذلك مُشتَرِطًا: أرأيتُكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ وهذا أيضًا مِن حُسْنِ سياسة ابن عباس في حوارِه، فهو سأَلَهم بدايةً ما يُنكِرونه على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم اشتَرَط عليهم الرُّجوع إلى الجماعة إذا ما ردَّ عليهم قولهم مِن كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-. وبعد كلِّ تفنيد شبهة يسألهم: أخرجتُ مِن هذه؟ فالمناظرة فن لا يحسنه كل أحد، فلا بد مِن تعلم هذا الفن، ولا يتصدر لهذا الفن إلا مَن أتقنه فحسب؛ لأنه مِن الممكن لضعف المناظِر ينتصر الباطل فيما يبدو للناس، وكذا لا بد أن نحذر مِن الاستخفاف بالمخالفين، فابن عباس -رضي الله عنهما- لم يَتعالَ عن مُناقَشة عقولٍ بهذا الفكر وهذا الفهم، وهذا هو واجب الدُّعاة إلى الله في كلِّ زمان. ومِن فقه الداعية أيضًا: تذكيره لِمُخالِفِيه بالله، حتى تلِين قلوبُهم للحقِّ ولا يُكابِرون، كما كان يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج: أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صَلاحِ ذات البَيْنِ وحَقْنِ دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل. فالعبد يحتاج للتذكير بالله -تعالى- في خصوماته دومًا، ليُصَحِّح نيَّته، ويرضى بالحقِّ ويقبله، وهذه المناظرة أكبر دليل على أننا بحاجةٍ ماسة لا سيما في واقعنا المعاصِر إلى العُلَماء الربانيِّين وطلاب العلم النابِغين الذين يَرُدُّون الناس إلى الحقِّ، ويَأخُذون بأيديهم إلى السُّنة، فابن عباس جعَلَه الله سببًا في هِدايَة ألفَيْن مِن رجال الخوارج، الله أعلم بمصيرهم لو لم يرجعوا معه. ثم إنه يجب على أهل العلم الذين مَنَّ الله عليهم بالفقه في الدين إذا ظهرت الفتن أن يُخرجوا علمهم، ويدلوا بدلوهم؛ لكشف الجهل وأهله، وتحذير الناس مِن الباطل. ولا بد أن يكون الجميع على يقين أن الفكر لا يقاوَم إلا بالمواجهة الفكرية: فالخلل الفكري لا يواجَه بالسجون والتعذيب والتنكيل، فإن هذا قد لا يزيدهم إلا تشددًا وتعصبًا لأفكارهم، فالمواجهة الأمنية لا تكفي هنا، بل لا بد مِن مواجهةٍ فكرية علمية معهم، يقوم بها رجال ثقات في علمهم، ثقات في دينهم، فإن الذي يتعمق في واقع هذه الجماعات الإسلامية التي اتخذت العنف سبيلاً لها؛ يجد بوضوح أن وراءها أسبابًا فكرية هي الأكبر تأثيرًا، فهناك عوامل نفسية وسياسية واجتماعية تسهم بحد كبير جدًّا في ظهور التطرف والانحراف الفكري، فلا بد مِن معالجتها بما يتناسب معها. فهذه كانت مناظرة حبْر الأمة للخوارج، وهذه كانت بعض الدروس والعبر المستفادة مِن المناظرة لعلها تنير لنا الطريق؛ لا سيما في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، والفتن المختلفة. والله المستعان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ (1) سموا الحرورية، نسبة إلى بلدة حروراء في الكوفة، وكانت مركز خروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (2) أي متغير لون وجوههم، انظر "لسان العرب". (3) جمع ثفِنة بكسر الفاء: ما ولي الأرض مِن كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود "النهاية في غريب الحديث".
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |