
31-08-2021, 11:15 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,862
الدولة :
|
|
إضاءات على الطريق من قصة موسى عليه السلام وابنتي شعيب
إضاءات على الطريق من قصة موسى عليه السلام وابنتي شعيب
د. سامي بشير حافظ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه؛ أما بعد:
عباد الله: لقد قص الله علينا في كتابه الكريم قصصًا كثيرة؛ منها: قصص الأنبياء والرسل، وقصص الأمم الغابرة؛ يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، فذكْرُ القصص في القرآن للاعتبار والاتعاظ وتثبيت الفؤاد: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120]، قصتنا اليوم - أيها المؤمنون - لرجلٍ أراد الله أن يُخرجه من قصر التَّرَفِ إلى مكان العمل والكَدِّ، رجلٍ أراد الله أن يُعِدَّه لتلقي النبوة برعاية الغنم عشر سنين؛ تمهيدًا لرعاية البشر، رجلٍ عَزَبٍ أراد الله أن يُزوِّجَه امرأة صالحة، لكنها في مكان بعيد، فقدَّر قدرًا ليُخرج هذا العبد من ذلك المكان إلى تلك البلد؛ ليتزوج تلك المرأة التي قدرها الله له ... إنه نبي الله موسى عليه السلام كليم الرحمن.
نقف اليوم مع قصة من قصص هذا النبي الكريم؛ ألا وهي قصته مع فتاتَيْ مدين وأبيهم شعيب.
عباد الله: موسى عليه السلام كان في مصر، وفي يوم من الأيام استغاثَهُ رجل من شيعته من بني إسرائيل على رجل آخر اعتدى عليه، وهو قبطي من جماعة فرعون، فأراد موسى عليه السلام أن يدافع عن المظلوم، فوكز القبطي وكْزَةً فقتله بالخطأ، فعلِمَ فرعون الخبر فأراد قتله، فجاء إلى موسى رجل مجهول ناصح؛ فقال لموسى عليه السلام: ﴿ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، فاستجاب موسى عليه السلام مباشرة لنصيحة هذا الرجل، فخرج عليه السلام من مصرَ خائفًا وجِلًا متوجهًا إلى مدين؛ قال تعالى عنه: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 21، 22]، نعم أيها المؤمنون، هذا هو حال المؤمن عند نزول المصيبة به؛ يتوجه إلى ربه، يُحسن الظن به، يدعوه يُناجيه يلتجئ إليه، فالمؤمن قد تُغلَق في وجهه أبواب الدنيا كلها، ويجتمع عليه الأعداء والخصوم، ومع ذلك، فلا ييأس ولا يقلق، ويتوجه إلى خالق الدنيا وما فيها، مَن بيده ملكوت السماوات والأرض، ويسأله الفَرَجَ والسداد؛ فبيده مفاتيح الفرج سبحانه.
قد يقع - أيها المؤمنون - العبد في حَيرة وتردد في أمر ما من أمور الدنيا، فعليه أن يلتجئ إلى ربه الهادي جل وعلا، ويتوجه إليه ويسأله أن يختار له الصلاح والخير، ويدلَّه إلى سواء السبيل؛ فيردد: "ربِّ، اهْدِني إلى سواء السبيل"، كما دعا موسى بذلك، ويدعو الله باسمه الهادي؛ فيقول: "اللهم يا هادي، اهدِني للحقِّ، واهدني لِما فيه خير ورشاد".
ثم بدأت القصة؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24]، عندما وصل موسى عليه السلام إلى مدين هاربًا من مصر، وجد مجموعة من الناس يسقُون أغنامهم، ومن بينهم امرأتان؛ وهما ابنتا شعيب، ولكن ليس هو النبي المعروف، و﴿ تَذُودَانِ ﴾؛ أي: تُبعدان أغنامهما عن السقْيِ، فسألهما عن سبب ذلك، فأخبرتاه أنهما لا تسقيان أغنامهما إلا بعد انتهاء القوم، فقام موسى عليه السلام بمساعدتهما، فسقى لهما ثم انصرف إلى مكان ظليل يستظلُّ فيه، وأخذ يشكو حاله لربه عز وجل، ويخبره بأنه فقير ضعيف محتاجٌ للخير الذي عند ربه: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].
موسى عليه السلام قال للفتاتين: ﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ [القصص: 23]؛ فمن صفات المؤمن المبادرة والمسارعة إلى فعل الخير قبل أن يُطلب منه، خاصة إذا رأى مَن هو محتاج ولا يقدر على فعل ما يريده، كالمرأة الضعيفة وكبير السن وغيرهم؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من السؤال مانعٌ؛ إما الحياء، أو عزة النفس، وإن مساعدة الناس وقضاء حوائجهم من أعظم الطاعات والقُرُبات عند الله، وعلى المرء أن يبادر إلى مساعدة المرأة إذا وجدها بين الرجال تريد قضاء حاجة لها؛ وذلك حفظًا لها من الاختلاط بالرجال، وحفظًا لحيائها من الانكسار.
﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ [القصص: 24]؛ على المؤمن أن يرجوَ ويطلب بعمله ومساعدته للناس الأجر والثواب من الله عز وجل، فلا ينتظر كلمة شكر، أو ثناء ومدح، أو مقابلًا ماديًّا على ذلك، فأجره على الله، ولو سمِع مثل ذلك، فلا بأسَ وهو خير، لكنه لا يتطلع إلى ذلك ولا يبحث عنه؛ فموسى عليه السلام سقى لهما، ثم تولى وابتعد عنهما، وتوجه إلى ربه.
أيها المؤمنون، المؤمن دائمًا يُظهر الافتقار والالتجاء والضعف إلى ربه عز وجل؛ قال موسى عليه السلام: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]؛ أي: إنني محتاج إلى ما عندك من خير يا رب، وفقير إليك، وهذا سؤال العبد بحاله، فالله عز وجل يحب من عبده أن يدعوه، ويشرح له حاله وحزنه وما أصابه، متضرعًا مشتكيًا إليه.
ثم قال تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، عندما سقى موسى عليه السلام للفتاتين، أراد والدهما شعيب شكره ومساعدته، فبعث إحدى الفتاتين لدعوته، وكانت متصفة بخلق الحياء، وأخبرت موسى بأن أباها يدعوه ليعطيَه أجرَ ما قام به من سقاية الأغنام؛ ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]؛طمأنه وأخبره بأنه في مأمن، فلا داعيَ للخوف، وبشَّره بأنه قد نجى من القوم الظالمين؛ من فرعون وقومه.
أيها المؤمنون:
من أعظم الصفات التي ذكرها الله في قصة فتاة مدين اتصافُها بخلق الحياء، فقد وصفها الله بهذا الخلق العظيم وأثنى عليها؛ فقال: ﴿ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25]، والسين والتاء إذا دخلت على الفعل تُفيد الطلب، فكأنها تطلب الحياء من جميع أشكاله؛ حياء عند مجيئها، وفي مِشيتها، وفي كلامها، وفي حجابها، وحياء قبل ذلك في عدم مخالطتها هي وأختها للرجال، فهي بعيدة كل البعد عن التبرج في اللباس، والتَّغَنُّج في الكلام، وهذا هو الذي يجب على جميع النساء الاتصاف به.
ثم قال شعيب لموسى عليه السلام: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]؛ إن تحصيل الأمن وتحقيقه قد يكون أعظم من الطعام والشراب، فوالد الفتاتين أول ما قص عليه موسى قصته، قال له: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾، فبشره أول بشارة بحصول الأمن له، وطرد الخوف عنه، ونجاته من فرعون وقومه، وإبراهيم عليه السلام في دعائه قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 126]، فبدأ بطلب الأمن من الله قبل الطعام والشراب؛ وذلك لأهميته العظمى.
أيها المؤمنون:
ثم قال تعالى عن فتاتَيْ مدين: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]؛ اقترحت إحدى ابنتي شعيب أن يستأجر أبوها موسى عليه السلام للعمل لديه؛ حتى يقوم بالخدمة وسقْيِ الغنم بدلًا منهما، وذكرت لأبيها بعض ما رأته من صفات حسنة تميز بها موسى عليه السلام عن غيره، تُرَشِّحه ليكون عاملًا لديهم، ومن بين تلك الصفات القوة والأمانة.
إن القوة والأمانة من أهم الصفات التي ينبغي توفرها في الأجير والموظف؛ فبهما ينجح العمل ويُنجز، وتُحفظ الحقوق، ويُصان المال والعمل من الخيانة، ومن صفات العبد المؤمن القوةُ والأمانة؛ القوة في الحق، والقوة في العمل، والقوة في إنجاز المهمات الموكلة إليه، وإتمام العمل على الوجه المطلوب، والأمانة في كل شيء؛ أمانة في قول الحق وعدم كتمانه، أمانة في التعامل مع الآخرين، أمانة في حفظه لبصره وجوارحه عن المحرمات، أمانة في حفظ حقوق الآخرين وأموالهم، أمانة في وظيفته وعمله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه ...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
عباد الله: ثم قال تعالى عن شعيب عارضًا لموسى زواج وعمل: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 27، 28]؛ عرض شعيب على موسى عليه السلام أن يتزوج إحدى ابنتيه، ويكون المهر بينهما أن يعمل لديه أجيرًا في رعي الغنم لمدة ثماني حجج؛ أي: سنوات، فإن أتم عشر سنين، فمن عنده، وهو لا يريد أن يشقَّ عليه في العمل والمدة، وسيكون معه من الصالحين؛ أي: وفيًّا صادقًا معه.
قال شعيب لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القصص: 27]؛ على المرء ألَّا يشق على مَن يعمل تحت يديه من عمال وخدم وموظفين؛ فلا يُكلِّفهم ما لا يطيقون، وعليه أن يكون صالحًا معهم، يعطيهم حقوقهم كاملة في وقتها بدون تأخير ولا تقصير، وأن يراقب الله في ذلك، وأن يكون وفيًّا صادقًا في معاملته، خلوقًا، رحيمًا، متواضعًا، كريمًا، لطيفًا، رؤوفًا.
وفي نهاية القصة؛ قال موسى عليه السلام مجيبًا له فيما طلبه منه: ﴿ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ [القصص: 28]؛ أي: هذا الشرط، الذي ذكرتَ أنت، رضيتُ به، وقد تم فيما بيني وبينك؛ ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ [القصص: 28]؛ سواء قضيتُ الثماني الواجبة، أم تبرعت بالزائد عليها، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 28]؛ أي: حافظ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه، وهذه - أيها المؤمنون -أيها هي صفة الأجير والعامل المؤمن أن يكون أمينًا صادقًا، وفيًّا حافظًا للعهد والاتفاق الذي تم بينه وبين من اتفق معه.
هذه هي قصة موسى عليه السلام مع شعيب وابنتيه، نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، ألا فصلُّوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ...
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|