|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 311 الى صـ 315 الحلقة (61) القول في تأويل قوله تعالى : [152 ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون قال ابن جرير : أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي . وهي بمعنى ما قبله ، وقوله "واشكروا لي" قال ابن جرير : أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله "ولا تكفرون" أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم . قال السمرقندي : أي اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم . وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة . والعلم [ ص: 311 ] لا يمل منه صاحبه . بل يطلب منه الزيادة . فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحرالي . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون . كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم . وهز عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم . وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا . وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا . فإن أتاني يمشي أتيته هرولة » . صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضا . وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده » . والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة . (تنبيه) قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى . [ ص: 312 ] كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ وتصلي وتصوم ؟ وتنكح وتطلق ؟ وأشباه هذا . وقال النووي أيضا : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض . وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب الأذكار للنووي) ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكونه وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته . انتهى . وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى . ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة . حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا . ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو [ ص: 313 ] سماع المشركين ; قال الله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عبادة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط . لا بكف ولا بدف ولا تواجد. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحدا منهم أن يقرأ . والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : « مررت بك البارحة ، [ ص: 314 ] وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك » . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا . أي لحسنته لك تحسينا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته » . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : « اقرأ علي » ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : « نعم » . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : « حسبك الآن » . فالتفت فإذا عيناه تذرفان . ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وقال تعالى في أهل المعرفة : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول [ ص: 315 ] ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : الله نـزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه . ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليداو جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال . وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر . فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ; (فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و "لي" أفصح وأشهر مع الشكر . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 276 الى صـ 280 الحلقة (54) القول في تأويل قوله تعالى : [140 ] أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون "أم تقولون إن إبراهيم" خليل الله "وإسماعيل وإسحاق" ابنيه "ويعقوب" ابن إسحاق "والأسباط" أولاد يعقوب : "كانوا هودا أو نصارى" أي على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية "قل أأنتم أعلم أم الله" أي الذي له الإحاطة كلها أعلم . فلا يمكنهم أن يقولوا : نحن . وإن قالوا : الله ، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك . فبطل ما ادعوا . وثبت أنهم ، عليهم السلام ، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية . هذا مع أن رد قولهم هذا أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة للاحق ، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة . وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران . ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه ، عليهم السلام ، على دين الإسلام ، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك . مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل الآية- أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة موجودة وموعودة "عنده من الله" وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله . والاستفهام إنكار لأن يكون أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم ، عليهم السلام ، بالحنيفية والبراءة من الفريقين . [ ص: 277 ] قال التقي ابن تيمية : سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى الآية ، كأنه قال : خبرا عنده ، دينا عنده من الله ، وبيانا عنده من الله ، وعلما عنده من الله فإن كان قوله "من الله" متعلقا بـ "كتم" فإنه يعم كل الشهادات . وإن كان متعلقا بـ "عنده"، وهو الأوجه ، أو بشهادة ، أو بهما ، فإن الأمر في ذلك واحد . أي شهادة استقرت عنده من جهة الله . فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء . فسمى الإخبار به شهادة. ثم قال : وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار : وما الله بغافل عما تعملون تهديد ووعيد شديد . أي أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه . قال الرازي : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد . ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا يخفى عليه خافية ، وأنه من وراء مجازاته ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف . ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس ، لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر ، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى ، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول ؟ القول في تأويل قوله تعالى : [141 ] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم فلا يسألون عن أعمالكم [ ص: 278 ] ولا تسألون عما كانوا يعملون لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين ، ولم يدع لهم متمسكا من جهتهم ، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان . وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدونه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض ، أحمرهم وأسودهم . . أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة . فلها ما كسبت . وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم . ولا تسألون إلا عن عملكم . قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس ، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم . سيما في أمور دينهم . ولهذا حكى عن الكفار قولهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة . وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك ، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن . فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه ، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم : كل شاة تناط برجليها . القول في تأويل قوله تعالى : [142 ] سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها روى البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت . وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفنا نحو الكعبة . وروى الشيخان عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن . وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . (اللفظ لمسلم) والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة ، وفيما ذكرنا كفاية . [ ص: 280 ] وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقا من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء ، جمع سفيه ، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل . قال أبو السعود : أي الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر . انتهى . ومعنى قوله "ما ولاهم" أي أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، أي ثابتين على التوجه إليها ، وهي بيت المقدس . ومدار الإنكار ، إن كان القائلون هم اليهود ، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم ، وإن كان غيرهم ، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه . وقد روي عن ابن عباس : أن القائلين هم اليهود ، وعن الحسن أنهم مشركو العرب . وعن السدي أنهم المنافقون . قال الراغب : ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا ، وكل سفهاء . (تنبيه) : ظاهر قوله تعالى "سيقول السفهاء" إلخ ، أنه إخبار بقولهم المذكور ، ثم إن الإخبار قبل وقوعه . وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم ، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد ، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخبارا عن غيب ، فيكون معجزا : قل لله المشرق والمغرب جواب عن شبهتهم . وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة . بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى ، وما أمر به فهو الحق : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة . كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى وطهر بيتي ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 281 الى صـ 285 الحلقة (55) القول في تأويل قوله تعالى: [143 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم "وكذلك" أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها "جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا خيارا . وقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم . واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة . إما بالبصر أو بالبصيرة . قال الرازي : الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية ، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين ، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا . ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك ، سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا . وبالجملة ، فكل من عرف حال شيء ، وكشف عنه كان شاهدا عليه . انتهى . والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة . وهو ، بالمعنى الثالث ، من النعوت الجليلة . ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة . كما ترى في هذه الآية وفي آية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على [ ص: 282 ] هؤلاء شهيدا وآية وادعوا شهداءكم والشهداء والصالحين ثم إن في اللام في قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وجهين (الأول) إنها لام الصيرورة والعاقبة . أي فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطا أن كنتم شهداء على الناس ، وهم أهل الأديان الأخر . أي بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا . مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبرا . فعرفتم حق دينهم من باطله ، ووحيه من مخترعه . يعني : وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم ، وعافاكم مما ابتلى به سواكم ، حيث وفقكم للمنهج السوي وهداكم للمهيع الرضي ، وكذلك صار الرسول عليكم شهيدا بأنكم عرفتم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، والنور من الظلمات ، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته . فعظمت المنة لله عليكم ; إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة ، علماء بعد الجهالة . ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى ، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم ، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك . (الوجه الثاني) أن تكون اللام للتعليل ، على أصلها . والمعنى : جعلناكم أمة خيارا لتكونوا شهداء على الناس ، أي رقباء قواما عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال ، كما كان الرسول شهيدا عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم . فتكون الآية نظير آية كنتم خير أمة أخرجت [ ص: 283 ] للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وربما آثر هذا المعنى من قال : خير ما فسر القرآن بالقرآن ، لتماثل الآيتين بادئ بدء . فإن الوسط بمعنى الخيار . وقد صرح به في قوله "خير أمة" وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية : لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي شهداء على حقية رسالته ، وذلك بالدعوة إليها ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها . وبعد كتابة هذا رأيت السمرقندي في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه . وعبارته : وللآية تأويل آخر "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا "لتكونوا شهداء على الناس" إلخ يقول : إنكم حجة على جميع من خالفكم . ورسول الله عليه السلام حجة عليكم . والشهادة في اللغة هو البيان. ولهذا سمي الشاهد بينة ; لأنه يبين حق المدعي . يعني إنكم تبينون لمن بعدكم ، والنبي عليه السلام يبين لكم . انتهى . وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر فقال : إن قيل : على أي وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس ؟ قيل : الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتا حكمه . وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة ، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر ، وكمله ببعثة الأنبياء ، وخص هذا الأمة بأتم كتاب ، كما وصفه بقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ ص: 284 ] فأفادناه عليه السلام وبينه لنا- صار حجة وشاهدا أن يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير وجعل أمته ، المتخصصة بمعرفته ، شهودا على سائر الناس . (إن قيل) هل أمته شهود كلهم أم بعضهم ؟ (قيل) كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء . وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح ، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهدا ومقبولا . ولذلك قال تعالى : قد أفلح من زكاها وعلى هذا قال : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فالقيام بالقسط مراعاة العدالة ، وهي، بالقول المجمل ثلاث : عدالة بين الإنسان ونفسه -وعدالة بينه وبين الناس- وعدالة بينه وبين الله عز وجل . فمن رعى ذلك فقد صار عدلا شاهدا لله عز وجل . (إن قيل) فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة ؟ (قيل) بل كل شاهد على نفسه ، وعلى أمته وعلى الناس كافة ، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده ، وعدله ، ورأفته ، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس ، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم ، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه وعلى [ ص: 285 ] من قبله ومن بعده . وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر « أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم » . انتهى كلام الراغب . والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا » . فذلك قوله جل ذكره : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقد روي مرفوعا عن جابر . أخرجه الطبري . وعن ثلة من التابعين من قولهم . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 286 الى صـ 290 الحلقة (56) وأقول : قد بينا مرارا ، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعا أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية ، فكله يفيد أن للآية عموما يشمل ما ذكر ، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره . كما أوضحناه في المقدمة في قولهم : نزلت الآية في كذا . وعليه، فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة ، من حيث عمومها ، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم ، وبين ما يروى في تفسيرها ، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما ، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها ، كله من باب تفسير العام ببعض ما يتناوله لفظه . ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات ؛ ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى . أو : ثم قرأ . أو اقرأوا إن شئتم . مما يدل على أنه ذكرت الآية حجة لما أخبر به ; لأنه مما يندرج فيها . فاحرص على ذلك . [ ص: 286 ] تنبيهات : الأول : استدل بالآية على أن الإجماع حجة ; لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة . والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها ، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله ، فإجماع الأمة حق ; لا تجتمع الأمة - والحمد لله - على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر . كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وبذلك وصف المؤمنين في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال ، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقد جعلهم الله شهداء على الناس . وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في الصحيح عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم « وجبت » ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال « وجبت » . [ ص: 287 ] فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : « هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ; أنتم شهداء الله في الأرض » . وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية : وكذلك جعلناكم إلى آخرها . فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ، لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء ، فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه . ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . بل زكاهم الله في شهادتهم ، كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق ، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق . هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة ، في الإجماع ، من بعض رسائله . (الثاني) مما يتعلق أيضا بهذا المقام ، ما قاله أيضا هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر . ونصه : فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة . ولهذا كان إجماعهم حجة ، كما كان الكتاب والسنة حجة . ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، رواها عنه أهل السنن والمسانيد ، كالإمام أحمد ، [ ص: 288 ] وأبي داود ، والترمذي وغيرهم ، أنه قال : « ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة » . وفي رواية : « من كان على مثل ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي » . وهذه الفرقة الناجية أهل السنة . وهم وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم [ ص: 289 ] وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ولا جفوا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أربابا . كما قال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح ، فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة . كما تقوله النصارى . ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، حتى جعلوه ، ولد غية ، كما زعمت اليهود . بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه . وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمحو ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود . كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وبقوله [ ص: 290 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله ، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا . كما يفعله النصارى . كما ذكر الله عنهم بقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 300 الى صـ 305 الحلقة (59) قالوا : وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل . وهذا ألطف مما قيل : إن تقلب وجهه كناية عن دعائه ، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلى الله عليه وسلم بالتحويل ، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي . وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة ، فهي متقدمة في المعنى ، فإنها رأس القصة فلنولينك قبلة ترضاها أي : لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها . ودل على أن مرضيه الكعبة ، بفاء السبب في قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته . والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد . وأما سر الأمر بالتولية خاصا وعاما ، فقال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفا له وإيجابا لرغبته . وأما خطابه العام بعده ، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه السلام به . كما خص في قوله : قم الليل ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطر ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف . ولأن في الخطاب العام [ ص: 301 ] تعليق حكم آخر به . وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم قال الفخر : الضمير في قوله "أنه الحق" راجع إلى مذكور سابق . وقد تقدم ذكر الرسول، كما تقدم ذكر القبلة . فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق . وهذا الاحتمال الأخير أقرب; لأنه أليق بالمساق . ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات . ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق . فكان هذا التحويل حقا . قلت : وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقية ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم . وبيانه أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكافة من اتبعه ، باستقبال الكعبة ، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به . فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية – (ويقال الاستثناء) هكذا : وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران . وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ; لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء ، والإنجيل على عيسى في جبل سعير . لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة . وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران . وفاران هي مكة . لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب . ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل [ ص: 302 ] عليه السلام هكذا : وكان الله مع الغلام فكبر . وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران . ولا شك أن إسماعيل ، عليه السلام ، كان سكناه في مكة ، وفيها مات وبها دفن . وقال ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبراني . له ذكر في أعلام النبوة ، وألفه الأولى ليست بهمزة وما الله بغافل عما يعملون قرئ بالياء والتاء . فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم . ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق ، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله : القول في تأويل قوله تعالى : [145 ] ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب أي من اليهود والنصارى "بكل آية" أي برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق "ما تبعوا قبلتك" أي هذه التي حولت إليها . لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة . إنما هو عن مكابرة وعناد ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق . وقوله تعالى : وما أنت بتابع قبلتهم هذا حسم لأطماعهم في العود إليها . أو للمقابلة . يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اتفاق بين فريقيهم ، مع كون الكل من بني إسرائيل . قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه . فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان . والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده . وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم . [ ص: 303 ] فوائد الأولى : قال الراغب : إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق ؟ قيل : قال بعضهم : إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض . وهذا صحيح. بدلالة أنك لو قلت : ما آمنوا ولكن آمن بعضهم ، لم يكن منافيا . وقيل : عني به أقوام مخصوصون . الثانية : قال الراغب : في قوله تعالى "وما أنت بتابع قبلتهم" إشارة على أن من عرف الله حق معرفته ، فمن المحال أن يرتد . ولذا قيل : ما رجع من رجع إلا من الطريق : أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول . إن قيل : فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتد ! . (قيل) إن الذي يقدر أنه معرفة ، هو ظن متصور بصورة العلم . فأما أن يحصل له العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فبعيد ، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة ، فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد . الثالثة : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله . بل بمشورة واجتهاد منهم . أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق . وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل . وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة . فهم مع اليهود ، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا . والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر . وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة . وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا . فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه . فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة . وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : وما أنت بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير . بمعنى : ولئن اتبعتهم ، مثلا ، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر "إنك إذا لمن الظالمين" أي المرتكبين الظلم الفاحش. [ ص: 304 ] وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ، ويتبع الهوى . وتهييج وإلهاب للثبات على الحق . أفاده الزمخشري . تنبيهات : الأول : قال الراغب : حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم . ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة ، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع . وقول من قال : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعني به الأمة ، فلا معنى لتخصصه . فإن الله تعالى يحذر نبيه من اتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره . فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج ، حفظا لمنزلته وصيانة لمكانته اهـ. وهو كلام نفيس جدا . (الثاني) في الآية تنويه بشأن العلم . حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم ، فذلك ينبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة. (الثالث) دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم . لأن قوله تعالى : من بعد ما جاءك من العلم يدل على ذلك . ذكره الرازي. القول في تأويل قوله تعالى : [146 ] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة لا امتراء فيها ، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولاد الناس . وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب . كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله : يجدونه مكتوبا [ ص: 305 ] عندهم في التوراة والإنجيل يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم . كما يعرفون أبناءهم ، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم . فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية ، بالمعرفة الحسية في أن كلا منهما يقيني ، لا اشتباه فيه . وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدا كما تعرف ولدك ؟ قال : نعم وأكثر ; نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمه . فقبل عمر رأسه وإن فريقا منهم أي أهل الكتاب ، مع ذلك التحقق والإيقان العلمي ليكتمون الحق أي يخفونه ولا يعلنونه وهم يعلمون أي الحق ، أو عقاب الكتمان ، أو أنهم يكتمون . قال الراغب : لم يقل يكتمونه . لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة . وزاد في ذمهم بقوله "وهم يعلمون" فإنه ليس المرتكب ذنبا عن جهل ، كمن يرتكبه عن علم . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |