الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5079 - عددالزوار : 2318862 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4665 - عددالزوار : 1603367 )           »          تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 39 - عددالزوار : 439 )           »          الوقفات الإيمانية مع الأسماء والصفات الإلهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 153 )           »          مناقشة شبهات التكفيريين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          تكنولوجيا النانو ما لها وما عليها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 535 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 5456 )           »          تجديد الإيمان بآيات الرحمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 2898 )           »          نور الفطرة ونار الشهوة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 111 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 42563 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-06-2023, 03:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر

الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر (4)
عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


سلسلة (3): سلسلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى الهجرة (18)

الخطبة: 47 من السيرة النبوية

الْهِجرَةُ إلى الْحَبَشَةِ: دروسٌ وعِبَرٌ (4)


الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّه، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا وَمَنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَحْمَدُكَ رَبَّنَا عَلَى مَا أنعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ العَظِيمَةِ، وآلائِكَ الْجَسِيمَةِ؛ حَيْثُ أرْسَلتَ إلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِكَ، وأنْزَلْتَ عَلَينَا خَيْرَ كُتُبِكَ وشَرَعْتَ لَنَا أَفْضَلَ شَرائِعِ دِينِكَ، فَاللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إذَا رَضِيتَ، وَلَكَ اَلْحَمْدُ بَعْدَ الرِّضَا؛ أَمَّا بَعْدُ:
أيُّهَا الإخْوَةُ المُؤْمِنُونَ، تحدَّثنا في الخُطبة المَاضِية عَن استدعاء النَّجاشي للصَّحابة لِيسمَع مِنهم، فقالُوا ما عَلموه مِن الحقِّ، وذكر له جعفر سَببَ مجيئِهم إلى الحَبشةِ، ونُتَفًا مِمَّا يَنهى عنه النَّبِي صلى الله عليه وسلم من مَساوئ الأخلاقِ، وما يأمُر بِه من مَكارمِ الأخلاقِ.

ويَستمر بِنا الحديث في هذه الخُطبة[1] عن حَديث أُمِّ سَلمة رضي الله عَنها، وخاصَّةً حديثَهَا عن: بُكاء النجاشي وأسَاقِفته بعد سَماعِهم للقرآن وَمَقَالة الْمُهَاجِرِينَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ.

عِبَاد الله، تقول أمُّ سَلمةَ رضي الله عَنها بعد حَديثها عن خُطبة جَعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ: «كهيعص» (أي من سُورة مَريم)، قَالَتْ: فَبَكَى وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ [ابتلَّت] لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلوا مَصَاحِفَهُمْ، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ [2] وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاللَّهِ، لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ".


عِبَادَ اللَّهِ، في هذا القَدر مِن الحَدث نخرُج بدرسٍ وفائدةٍ وهو:
الدرس الأول: القرآن مُهيمنٌ على الكُتب السَّماوية كلِّها، وكَاشفٌ لعِللِهَا بعد التَّحريف:
فهِمنا هذا من قولِ النَّجَاشي: "إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ، وَاحِدَةٍ"؛ لأنَّ أصلَ الكتب السَّماويَة كلِّها من عِند الله، واللاحق يصدِّق السَّابق قبلَ التحريف، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48] فالإنجيلُ مصدِّق ومؤيدٌ للتوراة، والقرآنُ الكريم مصدِّقٌ ومؤيدٌ للتوراةِ والإنجيلِ، ومعنَى ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾؛ أي: إنَّ القرآنَ أمِينٌ وشَهيدٌ ورَقيبٌ على تِلك الكتبِ، فمَا وافَقَه مِنها فهو حقٌّ، وما خالَفه مِنها فهو باطلٌ.

ومن مَظاهر هَيمنَة القرآنِ على الكُتُبِ السَّماوية:
1- إخبارُه بأنَّه قد طَالَها التَّحريفُ والتَّبدِيلُ والتَّغيير: فلم تَعُد كَما أنزلَها الله؛ بل أخبرَ أنَّهم كتبوا الكُتب بأيديهم ونسَبوها إلى الله زُورًا وبُهتانًا؛ قال تَعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].

2- أخبر عن بعضِ المَسائلِ التي طَالَها التَّحريف، ومن ذلك: ما صرَّحت به الأنَاجِيل من قتلِ عيسى عَليه السلام وصَلبِه، والله عز وجل يقولُ: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157].

3- أنَّه كشفَ بعض ما يُخفِيه أهلُ الكتابِ؛ كتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في إخفائهم آيةَ الرَّجم [3]، وكإخفائِهم ما يتَّصِل بخاتَم الرُّسل من بشائِر ونُعوت وتحريفهم لها بالحذف أو بالتأويلِ الفاسدِ، فجاء القرآنُ بالحقِّ في ذلك كلِّه، قال تَعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].

4- أنَّه أنهى العملَ بالكتب السَّماوية السَّابقة: فلا اعتبارَ لها بجانِبه؛ لأنه شغل الفراغ كلّه بتشريعِه الجديدِ، وليس لأحد أن يركنَ إلى ما جَاء بها بعد أن تسرَّبَ الباطلُ إليهَا، ولَعبت الأيدي الأثيمة بها، قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]؛ ولذلك غضِب النبي صلى الله عليه وسلم مِن عُمر رضي الله عَنه الذي أتَى بصَحِيفةٍ من أهلِ الكتابِ فقرأهَا عليهِ فقال: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا بْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"[4]، والعَجبُ من بعضِ جَاليتنا الذين تُوزَّع عليهم الأنَاجيل فيأتون بِها، فلا ينبغي لهم أخذها ولا الترويج لها، يكفيهم كتابُ ربِّهم.

ولِفرط مَعرفةِ النجاشي وأساقفته بالحقِّ بَكَوا؛ قال تَعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].

فاللَّهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنَا الباطلَ باطلًا وارزقنَا اجتنابَه، وآخِر دَعوانَا أن الحَمدُ لله رَبِّ العَالمين.
الْخُطْبَةُ الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَن اقْتَفَى.

بعدَ خسارةِ مبعوثَي قريشٍ، قالت أمُّ سَلمة رضي الله عَنها:
"فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاَللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ [أي: شجرتهم الَّتِي مِنْهَا تفرعوا]، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عبدالله بْنُ أَبِي ربيعَة، وَكَانَ أتقى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا نَفْعَلُ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا، قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطُّ. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: هُوَ عبدالله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إلى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، قَالَتْ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالشُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبَرًا[أي جبلًا] مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ... قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ".

نستفيد من هذا الحدَث دَرسَين وهما:
الدرس الثاني: الاعتقاد الصحيح في عيسى عليه السلام:
قال جعفر: "هُوَ عبدالله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ"، ومعنى العذراءُ البَتُول؛ أي: المُنقطعةُ عن الرِّجال، فلخص جعفَر المعتقدَ الصَّحيح في عِيسى عليه السَّلام كما ورد في القرآنِ الكريمِ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].

ويتلخَّصُ معتقدُ المُسلمينَ عُمومًا في المَسيحِ عليه السلام أنه ابن مريم الصدِّيقة، وُلد بمُعجزة إلَهيَّة من غير تدخلٍ بَشري، وقد ابتعثَه الله رسُولًا إلى بَني إسرَائيل، يدعو إلى توحيد الله، ويبشِّر بمقدم خَاتم النَّبيين، وأيَّده بالمُعجِزات العَظيمة، فاستمر في دَعوته، مُراغمًا لِليهود الذين أرادُوا قتلَه، على عَادتِهم في قتلِ الأنبياءِ، لكن الله أنجَاه من مَكْر اليَهودِ ومُؤامرَتِهم لقتلِه، ورفَعَه إلى سَماواته، وسَيعودُ قُبيل قِيام السَّاعة، داعية إلى الله من جَديد، ومطبِّقًا لشرعِه، مُنكِّسًا للصَّليب، ورَافعًا لأعلامِ التوحيد.

بخلاف المعتقدات الباطلة للنصارى في القول بأنَّه ابن الله، أو أنَّه إلَهٌ، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30، 31]، وبهذا أثبتوا عقيدة التثليت: الابن والأب ورُوح القدس التي يَحارُ العقل في فهمِها، قال القس أنيس شروش: "واحدٌ في ثلاثة وثلاثةٌ في واحد، ليسَ عليكم أن تفهَموه، بل عليكم أن تتقبلُوه"، قال الله عز وجل في الردِّ عليهم: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171].

الدرس الثالث: التمسك بالدِّين في بلاد المَهجر:
قال المُهاجرون لمَّا أرسل إليهم النجاشي لِمعرفة قولِهم في عيسى عليه السلام: "نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ"، فأجمَعوا على قولِ كلمةِ الحقِّ وعدمُ التفريط في مُعتقدهِم رغم ضُعفِهم وغُربتِهم.

فنستفيدُ من هذا لجَاليتنا ضرورةَ التمسُّكِ بعقيدتهم وإظهار شَعائر دِينِهم، والسَّعي لِتأسيس مَساجد ومدارسَ ومؤسَّسات، بها يُحافظونَ على لُغة القرآن وإقامةِ الشَّعائر الدينية ومكان لاجتماعِهم والتداول في شُؤونهم، وحمايةً لأنفسِهم وأبنَائهم من الذَّوبَان في المُجتمعات الغربية.

فإيَّاك أخي المؤمن التفريط -إذا ماقُدِّر لَك أن تهاجر إلى بلادِ غير المُسلمين- في عِباداتك وأخلاقِ الإسلام، وإيَّاكِ -أيتها الأخت المؤمنة- أن تفرِّطِي في حِجابك، وإيَّاكم أن تفرطوا في تربية أبنائكم على أصُول الإسلام، فإن خَشيت على دِينك فالقَرارُ في بَلدِك أفضلُ لك، فقد تفقدُ المَالَ، وتفقدُ المَنصب؛ لكن إن فقدتَ دِينك فليس هُناك من مُصيبة أعظمُ منهَا؛ لأنَّه سَبيلُ نَجَاتِكَ.

وهكذا إخوانِي عاشَ المُهاجرون في أمنٍ وأمَانٍ، ورجعُوا في فَتراتٍ مختلفة، حتَّى لحِق آخِرُهُم بالنَّبِي صلى الله عليه وسلم في المَدينةِ سنة سَبعٍ من الهجرةِ.

فاللَّهم احفظ لنَا دِيننَا الذي هُو عِصمةُ أمرِنَا، واحفظْ لنَا دُنيانَا التي فيهَا مَعاشُنَا، واحفظْ لنا آخرتَنا التي إليهَا معادُنا، واجعلِ الحياة زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعلِ المَوت راحةً لنَا من كلِّ شرٍّ، آمين (تتمة الدُّعاءِ).



[1] مراجع الخطبة: القرآن الكريم. المصادر الحديثية (انظرها في تخريج الأحاديث). سيرة ابن هشام: 1 /336-337. تصديق القرآن للكتب السماوية وهيمنته عليها، إبراهيم عبدالحميد سلامة، ص:85-88. الله جَلَّ جلالَهُ واحد أم ثلاثة؟ منقذ بن محمود السقار، ص:7.

[2] الْمشكاة: الكوة غير النافذة، أَرَادَ أَن الْقُرْآن وَالْإِنْجِيل كَلَام الله تَعَالَى، وأنهما من شَيْء وَاحِد.

[3] عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ»، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى المَرْأَةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ "؛ رواه البخاري، برقم: 3635.

[4] رواه أحمد في المسند برقم: 15156، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف مجالد.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 59.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 58.04 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.87%)]