فنعم المرضعة وبئست الفاطمة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 170 - عددالزوار : 16922 )           »          ألا تحب أن تُذكر في الملأ الأعلى؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          شرح وترجمة حديث: ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          التوفيق بين الزهد في الدنيا وإظهار العبد نعم الله عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          بساطة العيش (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          فوائد من التفسير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          أوهام الحياة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          يأخذ بقلبي مطلع سورة صٓ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          ثمرات التقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الرحمة في الحدود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-01-2024, 11:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,294
الدولة : Egypt
افتراضي فنعم المرضعة وبئست الفاطمة

فنعم المرضعة وبئست الفاطمة
د. محمد جمعة الحلبوسي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هــادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـــــريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورســــــــولُه القائل: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ))[1].


أنت الذي ولدتكَ أُمُّكَ باكِيًا
والناسُ حَوْلكَ يضحكونَ سُرورا
فاعْمَل لنفسكَ أنْ تكونَ إذا بكوا
في يومِ مَوْتِكَ ضاحِكًا مسرورا


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].


﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ سيدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.


أيها المسلم الكريم، هذا سيدنا أبو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ رضي الله عنه، في ذات يوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ أي: ألَا تَجْعَلُنِي عامِلًا وأميرًا على بَعِض الولاياتِ؟ ألا توليني منصبًا من مناصب الدولة؟


فيا ترى بمَ أجابه نبينا صلى الله عليه وسلم؟ هل جامله كما يفعل الكثير من الناس اليوم؟! هل قال له: أنت أهل لهذا المنصب؟! هل قال له: أنت الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو في قرارة نفسه غير مقتنع به تمامًا؟!


لا، نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا يعرف المجاملة؛ بل هو الناصح الأمين، الذي يريد لأصحابه الخير وما ينفعهم في الدنيا والآخرة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم بكل صراحة بعد أن ضَرَبَه بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِه: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا))[2].


أنا عندما قرأت هذا الموقف تَسَاءَلتُ: أبو ذر الغفاري، الصحابي الجليل رضي الله عنه، الذي له مواقف جريئة في الإسلام، وخاصة في قصة إسلامه، فهو من قبيلة غفار، وهي من القبائل العربية الواقعة بين مكة والمدينة، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالسطو، وقطع الطريق على المسافرين والتجار وأخذ أموالهم بالقوة، فكان رضي الله عنه قبل إسلامه يأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله تعالى، ولما سمع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إليه في مكة، يكتم سبب قدومه عن الناس، حتى لقي سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبره بأمره، فدخل به سيدنا علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أبو ذر أن يعرض عليه الإسلام، ليدخل نور الإيمان إلى قلبه وعقله وروحه، فأسلم رضي الله عنه، وحَثَّه النبي صلى الله عليه وسلم على كتمان إيمانه حتى يسمع بظهور الإسلام وقوة شوكته، إلا أن أبا ذَرٍّ رضي الله عنه رفض وقال: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فخرج الى البيت الحرام وصرخ بشهادة التوحيد بين الناس فكان أول من جهر بها في الإسلام قائلًا: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"، فقام إليه المشركون يضربونه ليموت، لولا أن الله تعالى أنقذه بسيدنا العباس رضي الله عنه بعد أن هددهم بقبيلته غفار، فقال لهم: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَار وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَار، فتركوه، ثم عاد إلى قبيلته، وظَلَّ يدعوهم إلى الإسلام إلى أن أسلموا جميعًا، وجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة المنورة[3].

بل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة عظيمة فقال: ((مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ))[4] يعني: ما أظلَّت السماء على أحد، ولا حملت الأرض أحدًا أكثر صدقًا في كلامه، ولا أكثر الناس وفاءً في عهوده من أبي ذَرٍّ، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه شهادة حق؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يعرف المحاباة والمدح الكاذب، فأي شهادة أعظم من هذه الشهادة؟!


سيدنا أبو ذر الْغِفَارِيّ رضي الله عنه كان إمامًا في الزهد والعلم والإيمان، كان قوَّالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ومع كل هذه الفضائل، يقول له صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ..)).

فإذا كان أبو ذر الصحابي الجليل ضعيفًا، فكيف بغيره من الناس؟! فهل يدرك الناس ثقلها، وهل يقدر على تحملها العامة من الناس، وهل يعلم هولها المتسابقون عليها، والباذلون المال من أجلها؟ هل يعلمون أن المسؤولية أمانة، ويوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذه بحقها وأدَّى الذي عليه فيها؟ وهل يفرح بها إلا من جهل قدرها وقد عجزت عن حملها السماوات والأرض؟

ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على المناصب والإمارة فقال: ((إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ))[5].

في هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي على الناس زمان يحرصون فيه على الإمارة، بل يتقاتلون ويتناحرون ويحرقون الأوطان، سب وشتم وقذف ومهاترات وملاسنات وملاعنات وحقد وكره وانتقام، وهذا نجده في التنافس على إدارة المدرسة، والمؤسسات، والمشيخة، والوزارات، وهذا التنافس ليس من أجل تقديم الأفضل ولكن من أجل الشهرة، والمكانة، والمال، والجاه، فالكثير من الناس اليوم أصبح يرى المنصب مغنمًا؛ ولذلك سيكون عليهم ذلًّا وخزيًا يوم القيامة.

ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بقوله: ((فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ)) ما معنى ذلك؟

معنى قوله: ((فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ))؛ يعني ذلك أولها؛ لأن معها المال والجاه والسلطة، وقوله: ((وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ))؛ أي: آخرها؛ لأن معها القتل والعزل في الدنيا، والحسرة والندامة والتبعات يوم القيامة[6].

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب المناصب والإمارة والرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله: ((إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ عَنِ الْإِمَارَةِ وَمَا هِيَ؟))، يقول عوف بن مالك رضي الله عنه: فَقُمْتُ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: ((أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ، وَثَالِثُهَا عَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ عَدَلَ وَكَيْفَ يَعْدِلُ مَعَ أَقْرَبِيهِ؟))[7].

لذلك كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم تُعرض عليهم الإمارة والمناصب فيعرضون عنها، ويرفضونها، ويفرون منها فرارهم من الأسد؛ لأنهم عرفوا أنها من أعظم ما يُسأل عنها العبد يوم القيامة.

هذا سيدنا عُتْبة بْن غَزَوَان الصحابي الجليل رضي الله عنه أرسله أميـر المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أرض البصرة لقتال الفرس، والتقى بأقوى جيوشهم، وما هي إلا جولات مباركة حتى استسلموا، وطهر أرضها من الكفر، وتحرر أهلها من طغيان الفرس، فولاه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على البصرة، فكان بانيها وأول ولاتها، وكان رضي الله عنه عادلًا في حكمه، زاهدًا في الدنيا، كارهًا للترف، غير راغب في الإمارة، فقدم عُتْبَة رضي الله عنه إلى المدينة المنورة ليطلب من الخليفة عمر رضي الله عنه أن يعفيه من الولاية بعد ستة أشهر فقط، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه: "تضعون أماناتكم فوق عنقي، ثم تتركونني وحدي! لا والله لا أعفيكم أبدًا". فلم يكن في وسع سيدنا عتبة رضي الله عنه غير السمع والطاعة، واستقبل راحلته ليعود إلى البصرة؛ ولكنه قبل أن يركب دابته - توجَّه إلى ربه - داعيًا ألَّا يردَّه إلى البصرة، ولا إلى الإمارة أبدًا، ثم سار إلى البصرة، وفي طريقه سقط من على راحلته، فمات وهو في طريقه بين مكة والبصرة[8].

هكذا أيها الأحبة لما صدقوا مع الله تعالى استجاب الله دعاءهم.

بل كان الواحد منهم إذا أجبر على الإمارة فإنه يكون أمينًا على أموال المسلمين، ويسعى لتحقيق العدالة بينهم، هذا سيدنا عروة ابن الصحابي محمد بن عروة بن عطية السعدي رضي الله عنه، أرسله الخليفة سليمان بن عبدالملك واليًا على اليمن، فعندما وصل اليمن، جمع أهلها ثم قال لهم: (يا أهل اليمن، هذه راحلتي (وفيها مصحفي وسيفي) فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق)... يقول أهل السير: مكث عروة واليًا على اليمن عشرين سنة، توالى فيها على الملك ثلاثة من أمراء بني أمية؛ سليمان بن عبدالملك، وعمر بن عبدالعزيز، ويزيد بن عبدالملك، وعندما خرج عروة من اليمن خرج على راحلته فقط وما معه إلا سيفه و مصحفه[9].

أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم
إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ




فأين نحن اليوم من هؤلاء الرجال العظام، أين نحن من أمانتهم؟ أين نحن من عدالتهم؟ أين نحن من خوفهم من الإمارة؟ أين نحن من الذين جعلوا نصب أعينهم قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))[10].


فيا أخي الحبيب، من خلال هذه الأحاديث النبوية والآثار أقول لك نصيحة: إن استطعت ألا تكون أميرًا على اثنين فافعل، فإن فيها نجاتك في الدنيا والآخرة.

اللهم وَلِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا، اللهم ولِّ علينا من يخافك ويرحمنا، ولا تولِّ علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الشرَّ شرًّا وارزقنا اجتنابه، آمين يا رب العالمين.


الخطبة الثانية

مسألتنا الفقهية تتعلق بشأن الدعاء بالوسيلة بعد الإقامة.
هل يسن دعاء الوسيلة بعد الإقامة كما يسنُّ بعد الأذان؟
إنَّ سؤال الله عزَّ وجلَّ الوسيلة والفضيلة لسيِّدنا النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد النداء أمر مطلوب ومرغب فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ))[11] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))[12].

فهذه الأحاديث الشريفة تدلُّ على مشروعية طلب الوسيلة بعد الأذان، وبعد الإقامة؛ لأنَّ كلًّا منهما يسمَّى نداء، ويسمَّى أذانًا.

والفقهاء رحمهم الله لا يختلفون في طلبها بعد الأذان؛ لصراحة الأحاديث الواردة في ذلك وكثرتها، وأمَّا بعد الإقامة، فالظاهر من كلام ساداتنا الأحناف، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله أنَّ كلَّ ما طلب من سامع الأذان، فهو مطلوب من سامع الإقامة، فعباراتهم في كتبهم تدلُّ على أنَّهم لم يفرقوا بين الأذان والإقامة[13]، وأنَّ على مَنْ سمع الإقامة مثل ما على مَنْ سمع الأذان، بما في ذلك طلب الوسيلة.


وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه الأذكار: (وروينا في كتاب ابن السني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا سمع المؤذِّن يُقيم الصلاة يقول: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، صلِّ على محمَّد وآته سؤلَه يومَ القيامة)[14].

فبناءً على ذلك نقول: يسن دعاء الوسيلة بعد الإقامة كما يسنُّ بعد الأذان.

[1] سنن ابن ماجه، أَبْوَابُ الْفِتَنِ- بَابُ شِدَّةِ الزَّمَانِ: (5/ 162)، برقم (4036) قال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.
[2] صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِمَارَةِ- بَابُ كَرَاهَةِ الْإِمَارَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: (3/ 1457)، برقم (1825).
[3] ينظر: البخاري، كتاب المناقب-باب قِصَّةِ إِسْلامِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه: (4/222)، برقم (3522)، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: (ص: 256).
[4] الترمذي، أَبْوَابُ الْمَنَاقِبِ- بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه: (6/ 146)، برقم (3802) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[5] صحيح البخاري، كتاب الأحكام- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ: (9/ 79)، برقم (7148).
[6] عمدة القاري شرح صحيح البخاري: (24/ 227).
[7] أخرجه البزار في مسنده: (7/ 188)، برقم (2756)، والطبراني في المعجم الأوسط: (7/ 26) برقم (6747)، والمعجم الكبير: (18/ 71) برقم (132)، وقَالَ الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والأوسط، وَرِجَال الْكَبِير رجال الصَّحِيح.
[8] ينظر: أسد الغابة لابن الأثير: (3/ 462)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: (3/ 223).
[9] ينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ المزي: (20/ 34).
[10] صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَان- بَابُ اسْتِحْقَاقِ الْوَالِي الْغَاشِّ لِرَعِيَّتِهِ النَّارَ: (1/ 125)، برقم (142).
[11] صحيح البخاري، كتاب الأذان- باب الدعاء عند النداء: (1/ 159)، برقم (614).
[12] صحيح مسلم، كِتَابُ الصَّلَاةِ- بَابُ الْقَوْلِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ لِمَنْ سَمِعَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَسْأَلُ لهُ الْوَسِيلَةَ: (1/ 288)، برقم (384).
[13] قال الإمام الكمال بن الهمام رحمه الله: (وَفِي التُّحْفَةِ: يَنْبَغِي أَلَّا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ حَالَ الْأَذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: تَجِبُ عَلَيْهِم الْإِجَابَةُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ مِن الْجَفَاءِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا: وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَلَمْ يُجِبْ)؛ فتح القدير للكمال ابن الهمام (1/249). وقال الإمام النووي رحمه الله: (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ إلَّا فِي الْحَيْعَلَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَفِي لفظ الإقامة يقول: أقامها الله وأدامها؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذلك)؛ المجموع شرح المهذب (3/122). وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في الفتاوى: (لَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِنَدْبِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوَّلَ الْإِقَامَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ عَقِبَ الْإِقَامَةِ كَالْأَذَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُمَا: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ... إلَخْ)؛ الفتاوى الفقهية الكبرى (1/129). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله جلَّ وعلا: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ مَا يَقُولُ، وَيَقُولَ عِنْدَ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَت الصَّلَاةُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا». وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ)؛ المغني (1/310).
[14] الأذكار للنووي (ص: 37).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 62.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 60.90 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]