|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#531
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (420) صـــــ(1) إلى صــ(26) شرح زاد المستقنع - الشروط في النكاح الشروط بين المتعاقدين منها ما هو شرعي ومنها ما هو جعلي، وقد أجاز الشرع للمتعاقدين في عقد النكاح أن يشترطا شروطا من عندهما، وهذه الشروط تسمى شروط في النكاح، إلا أن هذه الشروط منها الصحيح، ومنها الفاسد في نفسه، ومنها المفسد للعقد، وعليه فيثبت الخيار للزوجين عند انتفاء الشرط الصحيح. قال رحمه الله تعالى: [باب الشروط والعيوب في النكاح] الشروط تنقسم إلى قسمين -كما تقدم معنا في البيوع-: شروط شرعية وشروط جعلية، وتقدم تعريف الشروط، والمراد من هذا أن هناك شروطا نص عليها الشرع: كالولي، والشاهدين، ورضا الزوجين، وغير ذلك مما ذكرناه في شروط صحة النكاح، لكن الكلام هنا في الشروط التي يجعلها أحد الطرفين المتعاقدين، إما الزوج أو الزوجة أو الولي. الشروط في النكاح وفي الحقيقة عندنا سؤال مهم، يعتبر كمدخل فقط ندخل به في مسألة الشروط وهو: لو سألك سائل وقال لك: كيف يقول المصنف: باب الشروط والعيوب، ونحن إلى الآن ما دخلنا في تفصيلات كتاب النكاح؟ يعني: كان المفروض أن تكون مسائل الشروط في آخر كتاب النكاح. والجواب عن ذلك: أن ترتيب المصنف ترتيب صحيح، وفي علم المناسبات فإنه على حسب الأصول التي ذكرها العلماء يقوى ترتيب المصنف، توضيح ذلك: أن المصنف ذكر مقدمات النكاح، فذكر الخطبة، وذكر من تخطب، وصفات المرأة المخطوبة، وأحكام الخطبة، وما يتعلق بها، ثم ذكر أركان عقد النكاح، والصيغة، والعاقدين، إلى آخره، ثم ذكر شروط صحة عقد النكاح، فبعدما توفرت هذه المقدمات تسأل: من المرأة التي تحل لي فأتزوجها، والمرأة التي لا تحل لي فلا أتزوجها؟ فإذا عرفت المرأة التي تحل والمرأة التي لا تحل، ماذا تفعل؟ مباشرة ستعقد، وقد تقدمت مقدمات العقد، وفي أثناء العقد ستذكر الشروط، فتذكر ما لك من شروط على المرأة، والمرأة تذكر ما لها من شروط على الزوج، فإذا ناسب أن يذكر باب الشروط بعد المحرمات من النساء من أجل أن يبين ما الذي يمكن أن يوضع في عقد النكاح. وأيضا يرد إشكال آخر وهو: إذا كانت الشروط لها هذه المناسبة فأنا مسلم وهذا صحيح، لكن العيوب، إما أن تكون في مقدمات النكاح: لا تتزوج كذا، ولا تتزوج كذا، وإما أن توضع في آثار النكاح. والواقع أن ترتيب المصنف صحيح، فإن الشروط في الحقيقة من ناحية فقهية وتنظير فقهي تعتبر من الخيارات، يعني: إذا تم العقد بين الطرفين هناك شيء يسمى: الخيار وهو: أن يدخل أمرا أو يشترطا شرطا يوجب الخيار لأحدهما أو كليهما -كما تقدم معنا في البيوع- وفي الواقع أن الشروط في الأصل توضع في العقود ويقصد منها الخيار، بحيث لو اشترط أن المرأة على صفات معينة وتبين أنها ليست على تلك الصفات كان له الخيار، فمعنى ذلك: أن الشروط متصلة بالعقد من حيث الأساس والتركيب، ومتصلة بالخيار من حيث الثمرة، فإذا هي في التنظير في باب الخيارات، فالتصقت العيوب بها؛ لأن الشرط والعيب والغرر والعتق كلها من خيارات النكاح، إذ هناك أربعة أشياء مما يوجب الخيار في النكاح: الشرط، العيب، العتق، الغرر، أو وجود الغبن ونحو ذلك، هذه أربع من موجبات الخيار، فناسب أن يلحق العيوب بالشروط، وعلى هذا فتنظير المصنف رحمه الله تنظير صحيح. سنذكر باختصار مسألة أنواع الشروط. الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين: شروط معتبرة شرعا يجب الوفاء بها، وشروط غير معتبرة شرعا وفيها تفصيل، فأما الشروط المعتبرة شرعا فإنه يجب على الزوج أن يفي بها، ويجب على الزوجة أن تفي بها، وهي الشروط التي أحلها الله ورسوله على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وهي تتضمن مصلحة، ولا تضاد شرع الله، ولا تخالف شرع الله عز وجل، وليست مما حرم الله، فهذه الشروط جعلية معتبرة، اشترطت المرأة مثلا: أن يكون مهرها من الذهب، أو اشترطت: أن يكون مهرها من الفضة، أو اشترطت: أن يكون متاعها من نوع معين، هذه كلها شروط معينة لا تعارض الشرع ولا تضاده. أقسام الشروط في النكاح لكن الشروط التي تخالف الشرع تنقسم إلى قسمين: شروط توجب فساد العقد فيفسد الشرط والعقد، وشروط يحكم ببطلانها ويبقى العقد صحيحا فلا يجب الوفاء بها. فأما الشروط التي يحكم ببطلانها وبطلان العقد كقوله: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وهذا نكاح الشغار، أو: زوجتك ابنتي سنة، أو زوجتك ابنتي شهرين، أو ثلاثة شهور، أو زوجتك ابنتي مدة إقامتك عندنا، وهذا نكاح المتعة، أو زوجتك ابنتي على أنك إذا وطئتها وحلت لزوجها الأول طلقتها، فهذا الشرط لاغ والنكاح فاسد، وهو شرط يوجب فساد العقد، وهناك شروط تصحح فيها العقود وتلغى هذه الشروط، فلو تزوجها على أن لا مهر لها فحينئذ نلغي هذا الشرط؛ لأنه خلاف كتاب الله حيث قال الله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء:24] ، فالله عز وجل فرض على المسلم أن يعطي المرأة حقها، فإذا لو أنه اشترط أن لا مهر لها نسقط هذا الشرط، ونقول: لها مهر مثلها، وأما بالنسبة لتفصيلات هذه الشروط وبيانها فسيفصلها المصنف رحمه الله فيما يأتي. شرع المصنف رحمه الله في الشروط التي يرى صحتها؛ لأن الشروط اختلف العلماء رحمهم الله فيها، فتارة يحكم بصحة الشرط واعتباره ولزوم الوفاء به، وتارة يحكم بعدم اعتباره وعدم وجوب الوفاء به، فتختلف أقوال العلماء رحمهم الله في هذا النوع من الشروط ويتكلمون على مسائله في هذا الموضع. الشروط الصحيحة في النكاح اشتراط طلاق الزوجة الأولى فقال المصنف رحمه الله: [إذا شرطت طلاق ضرتها] صورة المسألة: أن تقول المرأة: رضيت به زوجا بشرط أن يطلق زوجته، فتارة يكون الزوج الذي يريد أن يتزوج عنده زوجة واحدة وتارة تكون عنده أكثر من زوجة، فإذا كان عنده زوجة واحدة تقول: أشترط أن يطلق زوجته فلانة، أو تقول: أشترط أن يطلق زوجته السابقة ولا تسمي فهذه صورة، ومن صورها أن تقول إذا كان عنده أكثر من زوجة: أشترط أن يطلق جميع نسائه، وتارة تقول: أشترط أن يطلق بعض نسائه أي: الأول، فسواء اشترطت طلاق زوجة أو طلاق زوجتين أو أكثر فإن هذا الشرط للعلماء فيه قولان: فقال بعض العلماء بصحته كما درج عليه المصنف رحمه الله، واختاره أبو الخطاب من الأصحاب، وغيرهم رحمة الله عليهم، وعللوا ذلك بأن فيه مصلحة للزوجة، وأن الزوجة تخاف من الضرر بوجود الضرة، كأن تكون شديدة الغيرة، إلى آخر ما ذكروه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) قالوا: فهذا الحديث يدل على أنه يجب الوفاء بالشرط؛ لأن شرط النكاح أحق ما يوفى به. وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو شرطت عليه طلاق ضرتها فالشرط باطل ولا يلزمه الوفاء به، ولو حدث نكاح ورفع إلى القاضي فإنه يحكم ببطلان الشرط وبقاء النكاح على صحته، وهذا هو الصحيح وعليه المذهب كما أشار إلى ذلك صاحب الإنصاف، وصححه في المذهب، أنه ليس من حقها أن تشترط هذا الشرط؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولا تسأل المرأة طلاق ضرتها) وكذلك في اللفظ الآخر: (لا تسأل المرأة طلاق ضرتها لتنكح) وفي اللفظ الآخر: (نهى أن تسأل المرأة طلاق ضرتها لتكفأ ما في صحفتها) فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تشترط طلاق المرأة قبلها. وهذا هو الذي نميل إليه: أنه ليس بشرط شرعي، وأنه لا يلزم الوفاء به، فإن اعترض معترض وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) نقول: جوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) فكيف وقد نص على بطلان مثل هذا الشرط في قوله: (لا تسأل المرأة) ونهى عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فهذا أمر حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان محرما فكيف نقول بمشروعيته؟ وكيف نقول بلزوم الوفاء به؟ فالصحيح أنه شرط غير معتبر. وعلى هذا فإننا نقول: لا يصح للمرأة أن تسأل طلاق ضرتها؛ لكن يعتذر للعلماء الذي قالوا بأنه صحيح بأنه يحتمل أنهم لا يقصدون مطلق الشرط وإنما قصدوا شيئا معينا -والله أعلم- كما لو اشترطت المرأة طلاق امرأة شريرة قبلها أو طلاق امرأة فاجرة تخاف من فجورها وضررها، فصار هناك مسوغ وهو دفع الضرر، فتقول: أنا لا أتزوج منك وفلانة في عصمتك، طلقها ثم انكحني، ففي هذه الحالة ممكن أن يشترط هذا الشرط، أما أن يكون شرطا معتبرا بإطلاق فلا. والضرة سميت ضرة لأنها تضار، وغالبا مع وجود الغيرة يحصل الضرر. قال رحمه الله: [ولا يتزوج عليها] وهذا أشد وأعظم؛ لأن الرجل بهذا يمتنع مما أحل الله له، ومع ما فيه من مصلحة الأمة، ومصلحة الجماعة والأفراد، وصورة المسألة أن تقول له: أرضاك زوجا بشرط ألا تتزوج علي، فمثل هذا الشرط اختلف فيه العلماء رحمهم الله سلفا وخلفا: فأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وكذلك قال به طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس، وقال به الأوزاعي فقيه الشام وطائفة كـ إسحاق بن راهوية من أهل الحديث أن هذا الشرط صحيح ويجب عليه أن يفي للمرأة بما التزم به، فإن قالت: أشترط أن لا تكون لك سابقة ولا لاحقة ولا تتزوج علي، فإنه يجب عليه الوفاء، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) وذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا إلى أن هذا الشرط باطل، وأنه ليس من حقها أن تحرم عليه ما أحل الله له، واحتجوا بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم:1] وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) ، والذي في كتاب الله الندب والاستحباب لزواج الثانية والثالثة والرابعة: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] فندب الله الأمة إلى تكثير سوادها وحصول الإعفاف لنساء المؤمنين، وهذه المرأة تحرم ما أحل الله لمصلحتها الذاتية، وكونها ذات غيرة فإن هذه الغيرة ضرر خاص بها لا تستضر به جماعة المسلمين، وكم من مطلقة وأرملة تحتاج إلى من يعفها ويسترها وقد تكون ابنة عم وقد تكون ابنة خال وقريبة فلا يستطيع أن ينكحها لوجود هذا الشرط. اشتراط عدم التسري على الزوجة قال رحمه الله: [أو لا يتسرى عليها] السرية: هي الأمة التي تنكح بملك اليمين، فتقول له: أرضاك زوجا بشرط ألا تطأ أو لا تتسرى علي، أي: ما يطأ النساء اللاتي في ملك يمينه، وهذا الشرط للعلماء فيه وجهان: صححه طائفة كما ذكرنا، وأبطله طائفة، والصحيح أنه باطل، وذلك لقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم:1] فالله أحل له أن يطأ سريته، والمرأة تحيض ويأتيها العذر ويأتيها المرض الذي يعيقه من إعفاف نفسه فيبقى معلقا عن حلال أحله الله له، فهذا من تحريم ما أحل الله وليس من جنس الشروط التي يجب الوفاء بها. اشتراط عدم الزواج على الزوجة ومن تأمل الواقع وجد أن الشرع يؤكد أن هذا الشرط باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الشرط الذي يعارض كتاب الله عز وجل، فهو يقول: (كل شرط ليس في كتاب الله) والذي في كتاب الله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] ولا يستطيع الشخص أن يدرك خطر هذا الشرط إلا إذا نظر إلى رجل عنده امرأة تزوجها ونكحها وأنجب منها أولادا، فإذا قلنا بصحة الشرط وثبت أن للمرأة هذا الشرط فمعناه أنه متى نقض الشرط كان لها الخيار، فإذا نقض الشرط وقالت: لا أريده، تنفسخ مباشرة، ولا يستطيع إرجاعها إلا بعقد جديد، وهذا معروف عند من يعمل بهذا الشرط، فوجدنا هذا الضرر وهذه المفاسد العظيمة، فمن كان عنده أولاد لا يستطيع أن يتزوج الثانية لعلمه أن أولاده سيستضرون بطلاق هذه وانفساخ عقدها فهذا كله مما يعارض هذا الشرط. والأصل حل نكاح الثانية والثالثة والرابعة، فالمرأة إن أرادت أن تتزوج اشترطت شروطا لا ضرر فيها قبلنا، وإلا رددنا كل ما صادم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب الحرج على المسلمين، فضيق ما وسع الله على عباده، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان) فلا يليق بالمسلم أن يحرم ما أحل الله له ابتغاء مرضات النساء والأزواج كما نص الله عز وجل على تحريم ذلك. اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها أو بلدها قال رحمه الله: [أو لا يخرجها من دارها] إذا اشترطت عليه أن لا يخرجها من دارها أو من بلدها، فهذا الشرط اختلف فيه العلماء رحمهم الله أيضا سلفا وخلفا: فعن عمر بن الخطاب رواية بكلا القولين: روي عنه أنه أقر هذا الشرط، وروي عنه أنه أبطل هذا الشرط، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أبطل هذا الشرط، ولما رفعت إليه قضية المرأة التي اشترطت على زوجها ألا يخرجها من بلدها قال رضي الله عنه: كتاب الله أسبق، أي: أن الله عز وجل أحل للرجل أن ينقل امرأته حيثما انتقل؛ لكي تعفه عن الحرام وتصونه عن الآثام بإذن الله عز وجل. وقال طائفة من السلف: إنه يشرع هذا الشرط، وإذا اشترطت عليه المرأة ذلك فإنه لا يخرجها من دارها ويجب عليه الوفاء؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) وفي الحقيقة القول بجوازه أقوى؛ لأن هذه المسألة ليست كالمسألة السابقة، والضرر في هذه ليس كالضرر في سابقتها، وكثير من النساء يشترطن ألا يخرجن من دورهن خوفا على الوالدين ولمصالح ذاتية، والغالب أن المرأة لا تشترط مثل هذا الشرط إلا وهناك ما يؤثر عليها ويضر بها إضرارا معتبرا خاصة في حق والديها وقرابتها، فنقول: هو أقوى، وفرق بين قولنا: أرجح وأقوى، وقد نبهنا على ذلك غير مرة. قال: [أو بلدها] كذلك الحكم في البلد، وقد تكون هناك مبررات، فقد تكون المرأة صغيرة السن فيقول والدها: أشترط عليك ألا تخرجها من المدينة؛ لأنه يعلم أن ابنته في هذا السن يخشى عليها وأن بيئته أو جماعته أو مدينته فيها مفاسد، فمثل هذا أنا لا أشك في اعتباره، وأنها شروط شرعية؛ لأنه يقصد منها مقصود شرعي، أما إذا قصد التضييق على الرجل فهذا شيء آخر، لكن من حيث النظر في غالب الأحوال فهذا الشرط يقصد به تحقيق مصالح ودرء مفاسد، ومثل هذا لا يشك في اعتباره والعمل به. قال رحمه الله: [أو شرطت نقدا معينا] قالت: أشترط أن يكون صداقي مائة ألف ريال من الفضة القديمة، أو أشترط أن يكون صداقي -مثلا- ثلاثين ألف ريال من الورق، أو أشترط أن يكون صداقي مائة جنيه من الذهب السعودي مثلا أو غيره، فهذا كله اشتراط نقد معين، فهذا يجب الوفاء به، فإنه استحل فرجها بهذا الشرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) . اشتراط نقد معين في المهر أو اشتراط زيادته قال: [أو زيادة في مهرها صح] لأنه يجوز لها أن تشترط في المهر القليل والكثير، فليس هناك محظور شرعي. قال: [فإن خالفه فلها الفسخ] (خالفه) الضمير عائد إلى الشرط (فلها الفسخ) لها أي: تملك الفسخ، وهذا كما ذكرنا أن الشروط في العقود من موجبات الخيار، وإذا قلنا: لها الفسخ، ففرق بين الفسخ والطلاق، فالمرأة إذا كان لها الفسخ فمعنى ذلك أنها إذا اختارت الفسخ فإنه لا يستطيع أن يعود لها إلا بعقد جديد، ولكن إذا قلنا: تطلق، فقد تطلق وتكون رجعية كما لو كانت الطلقة الأولى ويمتلك ارتجاعها بدون رضاها، وإنما قلنا: لها الفسخ؛ لأننا لو قلنا بدون الفسخ بأن قلنا مثلا: إنها تكون في حكم المطلقة لأمكنه أن يطلقها ثم يعيدها بعد ذلك فيفوت المقصود من الشرط، ولذلك يقول: (لها الفسخ) أي أنها إذا قالت: لا أريد ولست براضية، يقال لها: أنت بالخيار إما أن ترضي بهذا الواقع الذي هو فيه وإما أن تفسخي نكاحك، فتفسخ نكاحها ولا يرجع عليها بمهر؛ لأن المهر يكون بما استحل من فرجها. النوع الثاني من الشروط: هي الشروط الباطلة التي توجب بطلان العقد، فهي فاسدة ومفسدة للعقد. الشروط المبطلة للعقد والشروط على أقسام: النوع الأول: الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها، وإن كنا قد استثنينا بعضها لمصادمته للكتاب والسنة، الشروط الممنوعة، وتنقسم إلى قسمين: شروط ممنوعة توجب فساد العقد وهو الذي شرع به الآن فانتقل من الأعلى إلى الأدنى. قال رحمه الله: [وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان] إن شرط أن يزوجه موليته أو ابنته، فقال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك فهذا نكاح الشغار، مأخوذ من قول العرب: شغر الكلب رجله إذا رفعها ليبول -أكرمكم الله-، فكأنه يقول: لا تستمتع بموليتي بشغر الرجل -وضع الجماع- حتى أستمتع بموليتك، فكأنه جعل البضع عوضا عن البضع، وهذا النوع من النكاح كان نكاحا جاهليا، والشريعة لما جاءت لأنكحة الجاهلية أقرت وأبطلت وفصلت، فهناك أنواع أبطلتها بالكلية وهناك أنواع أقرتها، وهناك أنواع فصلت في أحكامها كما سيأتي -إن شاء الله- في أنكحة الكفار. نكاح الشغار فالنكاح الذي ألغته نكاح الشغار، وكان من أنواع الأنكحة التي يظلم فيها النساء، والظلم في نكاح الشغار يقع بصورتين: الصورة الأولى: أن الرجل يقول: ابنتي بابنتك ولا مهر، فيجعل البنت مقابل البنت والبضع مقابل البضع، فلا يستمتع حتى يستمتع الآخر، وهذا من أبشع الظلم؛ فإنه قد يكون أحدهما غير مرضي، وقد يكون الاثنان غير مرضيين، فكل منهما يخون أمانته ويضيع حق موليته طلبا لربحه ومنفعته، فكأنه يطلب حظ نفسه في نكاح الثانية بالإضرار بابنته، والآخر يضر بابنته، فقد يكونان كبيرين في السن وقد تكون فيهما من العاهات والآفات ما لا يقبل معه مثلهما زوجا، ولكن يضحي كل منهما بحق موليته لمصلحته في مولية الآخر، فهذا الظلم الأول. النوع الثاني من الظلم: أن يكون لا مهر، فيضران بالمهر، فيخفف من مهر هذه لقاء مهر تلك أو يسقطان المهر كلية. وأيا ما كان فنكاح الشغار بتلك الصورتين سواء كان هناك مهر -على الصحيح من أقوال العلماء- أو لم يكن هناك مهر -بإجماع العلماء رحمهم الله في الصورة الثانية- لا يصح وهو نكاح فاسد، وإذا ثبت هذا فكل من زوج أخته أو ابنته أو موليته أيا كانت بمولية الآخر فالنكاح فاسد؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه (نهى عن نكاح الشغار) . وأما قول الراوي: أن يزوجه موليته على أن يزوجه موليته ولا مهر بينهما كما اختاره المصنف فهذا على الصحيح أنه من قول نافع وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بتفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أضرار الشغار: أنه إذا تزوج هذه بهذه فإنه متى ظلمت هذه ستظلم هذه ويصبح وسيلة للإضرار، فالمرأة ضحية في كل هذه الصور، ولذلك يعتبر من سماحة الإسلام ويسره ورحمته للمرأة تحريم هذا النوع من النكاح، فلا يجوز نكاح الشغار سواء وجد المهر أو لم يوجد. لكن لو أن رجلا خطب ابنة رجل فزوجه وبعد أسبوع أو بعد شهر دون مواطأة ودون وعد وبدون ترتيب خطب الآخر ابنته فإنه يصح، فإذا لم يكن بمواطأة ولم يكن بمقابلة فإنه يجوز ولا بأس بذلك، خاصة إذا لم يكن فيه ظلم، كرجل تزوج أخت رجل فأراد الآخر أن يتزوج أخته، وهذا يقع كثيرا، فإن الرجل يأتي إلى البيت ويرغب في بنت من بناته، فإذا شوهدت البنت ورغب فيها وعقد النكاح تعارفت الأسرتان فنظرت أم هذه المنكوحة إلى بنت من بنات أرحامهم فأعجبتها ورضيتها لابنها الذي هو أخ للزوجة المنكوحة، فخطبتها دون اتفاق ودون ترتيب، فمثل هذا لا بأس به ولا حرج فيه، بل إنه لا يسلم منه كثير من المجتمعات، ويكون -غالبا- نوعا من التواد والتواصل ويتحقق به شيء من الألفة. وعلى هذا فنكاح الشغار نكاح محرم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله أنه من الأنكحة المنهي عنها شرعا. قال: [فإن سمي لهما مهر صح] هذا على ما اختاره المصنف وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، والصحيح ما ذكرناه من أنه سواء سمي المهر أو لم يسم ما دام أنه قال له: ابنتي بابنتك، أو أختي بأختك، أو زوجني فلانة أزوجك فلانة؛ فهذا كله من نكاح الشغار، وجد المهر أو لم يوجد؛ لأنه بضع ببضع وامرأة بامرأة. قال رحمه الله: [وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها] . نكاح التحليل قوله: (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها) هذا نكاح المحلل وهو التيس المستعار كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من التيس المستعار؟ هو الرجل ينكح المرأة حتى يحلها للأول) ولعن المحلل والمحلل له، وهذا يسميه العلماء نكاح المحلل، وصورته: أن تطلق المرأة ثلاثا من زوج سابق فيتزوج اللاحق هذه الزوجة لأجل أن يحللها للأول، وهذه على صورتين: الصورة الأول: أن يكون ذلك بشرط واتفاق وتمالؤ، فهذا باتفاق جماهير العلماء أنه لا يجوز، والنكاح فاسد ويعتبر من الأنكحة المحرمة التي لا تصح. والصورة الثانية: أن يكون في نيته أن يحللها للأول، فقد جاء عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاءه وقال: يا ابن عم رسول الله! إن عمي طلق امرأته ثلاثا وإن نفسه قد تبعتها وإني أخشى عليه، أفأنكحها حتى أحلها له؟ قال: أي بني! إن الله لا يخادع. يعني: هذا من الخديعة، فأنت لا تريد نكاحها ولكنك في الحقيقة تريد أن تحللها لعمك، فالله لا يخادع فهو مطلع على السرائر والضمائر. فقالوا: الباطن كالظاهر، يعني: سواء أظهر أو أبطن فإنه لا يجوز ذلك، لكن لو أن المرأة حنت لبعلها الأول ورغبت في زوجها الأول لم تلم على ذلك، يعني: إذا رضيت بالزوج الثاني ووطئها ثم لم ترده فهذا من حقها؛ لأن امرأة رفاعة لما وطئها عبد الرحمن بن الزبير حنت لزوجها الأول وجاءت واشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) وهذا في الصحيحين، فصرح لها بمكنون نيتها، ثم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمرأة غير الرجل؛ لأن المرأة أصل مشروعية دخول الزوج الثاني أن تعرف قيمة الأول وأن ترجع إلى صوابها ورشدها، وانظر إلى حكمة الشريعة، فالطلقة الأولى رجعية، والطلقة الثانية رجعية، فقد يغلط الإنسان المرة الأولى والمرة الثانية ويخطئ، لكن لا يعطى مهلة ثالثة، فالمرة الأولى يتأدب بها ثم يرجعها: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [البقرة:228] فإن طلقها الثانية كذلك أعطي مهلة، فقد تكون الطلقة الأولى غلطة منه وتكون الطلقة الثانية غلطة منها. وقد يقول قائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فالطلقة الواحدة كافية، فنقول: نعم، الطلقة الواحدة كافية؛ لأنه ربما كانت الخطيئة منه والغلطة منه فاستعجل فطلق، لكن قد تكون هناك غلطة من المرأة فتأتي الطلقة الثانية لاحتمال أن تكون الطلقة بسبب المرأة، فإن كانت الطلقة الأولى والثانية بسبب الرجل نفسه تعنتا منه وأذية فطلق الثالثة ندم أشد الندم وعرف مقدار هذا الطلاق، فأصبح إذا تزوج امرأة ثانية يتحاشى الطلاق، وإذا عادت له عادت له وقد عرف قيمة هذه المرأة، وحينما يتزوجها غيره ويطؤها ترغم نفسه ويناله من الألم والأسى والحزن ما الله به عليم، مما يعينه على إصلاح نفسه لو عادت له بعد طلاقها من الثاني. فانظر كيف تهذب النفوس وتقوم، وكيف تتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فكأنه إذا تزوجت المرأة من زوج ثان مقصود الشرع أن يتأدب كلا الزوجين، فالمرأة إذا تزوجها الثاني تنظر في هذا الثاني، فلو أن الثاني كان رجلا كريما محسنا فلا يمكن أن تفرط فيه؛ لأنها لما جربت الأول ووجدت الثاني أفضل منه لا يمكن أن ترجع للأول، هذا بالنسبة للمرأة، وأما إذا كان على خلاف ذلك في عشرته أو على خلاف ذلك في طبعه وأخلاقه فمن حقها أن تدفع الضر عن نفسها وتحن للأول؛ لأن القلوب لا تمنع. فأيا ما كان إذا دخل الرجل بنية أن يحلل المرأة للأول فلا، سواء صرح بذلك عن طريق العقد أو لم يصرح بأن خبأ تلك النية وكانت في مكنونه، وأثر عن بعض الصحابة والسلف رضوان الله عليهم كـ الحسن وغيره أنهم خففوا في ذلك، وخفف فيه بعض التابعين إذا غيب النية في قلبه، وأن نكاح المحلل المراد به أن يضع ذلك شرطا أو يتمالأ عليه فيأتي ولي المرأة ويقول: يا فلان! تزوج ابنتي وحللها لفلان، أو يأتي الزوج لصديقه ويقول: حلل لي فلانة، فهذا ملعون -نسأل الله السلامة والعافية- وملعون من أمره بذلك ورغبه أو دعاه إلى ذلك سواء كان وليا أو كان زوجا. قال رحمه الله: [أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر] هذا النكاح المضاف إلى المستقبل، واختلف فيه العلماء، فمنهم من أجازه ومنهم من أبطله، فبعض العلماء يقول: يجوز أن يقول له: زوجتك إذا جاء رأس الشهر وهو نكاح معلق كالطلاق المعلق، فكما أن العصمة تبين تعليقا وتنفصل تعليقا كذلك النكاح يثبت تعليقا، وقالوا: أيا ما كان إذا قال له: إذا جاء رأس الشهر فقد زوجتك فإنه قد تم الإيجاب والقبول معلقا فيبقى معلقا حتى يأتي أول الشهر، ورد قوم -وهو اختيار المصنف وطائفة من أصحاب الإمام أحمد - بأن النكاح إنما هو على البت، وإذا قال: إلى غد أو بعد غد أو بعد وقت فإنه يغرر به فلا ندري هل يبقى الزوجان أو لا يبقيان وهل يحدث شيء كأن يتغير حال الزوج، أو يتغير حال الزوجة، فقالوا: إنه لا يصح من أجل هذا الوجه، وكلا القولين له وجهه. النكاح المعلق قال: [أو إن رضيت أمها] كذلك إذا قال: (إن رضيت أمها) مجهول؛ لأننا لا ندري أترضى أو لا ترضى، فأثناء العقد ليس هناك بت، وعندهم أنه إذا أسند العقد أو أضيف إلى شيء مجهول صار من عقود النكاح المشتملة على الغرر، هذا وجهه، فيغرر به ويقول له: زوجتك إن رضيت أمها، وما ندري أمها ترضى أو لا ترضى، فهو زواج وليس بزواج، زواج إن رضيت وليس بزواج إن لم ترض فيقولون: هذه الإضافة تؤدي للتردد الموجب للغرر فلا يصح العقد إلا بالبت، فيرون أن النكاح على البت وليس فيه تعليق. قال رحمه الله: [أو إذا جاء غد فطلقها أو وقته بمدة بطل الكل] هذا نكاح المتعة، أن يقول له: أزوجك إلى غد فإن جاء غد فطلقها، أو يقول: أزوجك إلى شهر فإن جاءت نهاية الشهر فطلقها، أو يقول: أزوجك مدة إقامتك معنا فإن رجعت إلى بلدك فطلق ابنتي أو طلق أختي، كل ذلك من نكاح المتعة، فنكاح المتعة هو تحديد النكاح بأمد، وكان مباحا في أول الإسلام وذلك لوجود الحاجة، فقد تمتع الصحابة رضوان الله عليهم متعة النساء؛ لأنهم كانوا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستضرون بعدم وجود النساء معهم؛ لأنهم كانوا في القتال والجهاد يخافون السبي فإذا غزوا ومعهم النساء وخسروا فإن النساء يؤخذن وهذا معروف في عادة العرب أنهم يخشون من الغزو بالنساء خشية الاسترقاق؛ لأنهم إذا انكسروا وهزموا أخذ النساء أسارى وحينئذ يكن من السبي وتسترق المرأة. نكاح المتعة ففي بعض الأحيان -كهذه الحالة- تأتي ظروف لا يستطيع الإنسان أن يسافر بامرأته، كالمرأة الحامل أو نحو ذلك، فأجيز في أول الأمر نكاح المتعة، ثم حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة، والتحريم ثابت في الأحاديث الصحيحة في عام خيبر، كذلك أيضا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع أنه خطب الناس وحرم نكاح المتعة، وقد كانت خطبة حجة الوداع قبل وفاته بزمن يسير، وهذا يدل على أن إباحته من الأمر الأول، ولذلك قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح: (متعتان لا تصلح لنا إلا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة الحج، ومتعة النساء) ومراده بمتعة الحج وجوب فسخ الحج بعمرة، وقد بينا هذا في كتاب مناسك الحج، وأن متعة النساء كان مما اختص به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخت الإباحة.
__________________
|
#532
|
||||
|
||||
![]() حكم الزواج بنية الطلاق لكن يبقى السؤال لو تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، كرجل يسافر إلى بلد ومكث فيه الشهور لعمل أو وظيفة أو نحو ذلك، فمذهب طائفة من السلف والعلماء رحمهم الله جواز ذلك وأن الرجل يجوز له أن يتزوج المرأة وفي نيته ألا تستمر معه وذلك لخوف الضرر والوقوع في الزنا، والأصل في هذا أنهم قالوا: إن الرجل وإن نوى الطلاق فالعقد في ظاهره صحيح، ونيته في باطنه مترددة؛ وربما أعجبته المرأة فبقيت معه، وهذا موجود، ولذلك لو كان هذا محرما أو من المتعة كان بمجرد مضي المدة وجب عليه التطليق، وبالإجماع أنه لا يجب عليه أن يطلقها، فلو تزوجها وفي نيته أن يطلقها بعد شهر فبالإجماع أنه لا يجب عليه تطليقها بعد شهر، ولو غير نيته جاز بالإجماع، وعلى هذا قالوا: إنه ليس من نكاح المتعة في شيء. ونص طائفة من أهل العلم ومن أئمة المذاهب الأربعة على جواز ذلك ومشروعيته، وهو مشروع، خاصة في زماننا؛ فإن الرجل تكون زوجته مع الأطفال وترتبط بمدينتها أو بلدتها، والرجل يسافر إلى بلد محتم عليه السفر إليه، أو تقتضي ظروف عمله أن يسافر إلى هذا البلد، فإن قلنا له: لا تتزوج، فإنه سيقع في الحرام، وربما وقع في الزنا، خاصة إذا كان في أماكن فيها فتن ومغريات، فلو قيل له: لا تتزوج، لما استطاع ولربما وقع في الحرام، ولو قلنا له: تزوج، مطلقا، فإنه بإمكانه أن يتزوج ويأتي بها، لكن إذا كانت المرأة لا يمكن أن تأتي معه وفي نيته أنه إذا انتهى منها تركها لأهلها وهي راضية بذلك فإنه لا بأس. ومن تأمل أحوال السلف والأئمة والناس في عصور الإسلام السابقة يجد أن الرجل كان يسافر للتجارة وينزل في البلد الشهر والشهرين، ولا يمكث اليوم واليومين حتى يتزوج وينجب ثم يسافر ويترك امرأته ويطلقها ويسافر، وكان هذا معروفا بين المسلمين؛ لأن الرجل -خاصة التاجر- تجده يوما هنا ويوما هناك، وإذا أراد السفر فغالبا أنه لا يستطيع أن ينقل امرأته معه، خاصة في القديم حيث كانت الأضرار والخوف، بل حتى المرأة لا ترضى أن تسافر معه. فزواج المرأة بنية التطليق، أولا: نصوص الشرع من حيث العموم دالة على جوازه، فإنه نكاح مستوف للشروط مستوف للأركان، وخذها قاعدة: أن أي مسألة من مسائل النكاح إذا اختلف فيها في صحة النكاح وفساده فانظر إلى أركانه وشروطه، فإن توفرت الأركان والشروط فقل: الأصل صحته وحله حتى يدل الدليل على فساده، فإن اعترض بأن هذا الزواج تم بنية الطلاق، فيجاب بأنه قد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فإن قال قائل: إن المحلل في نيته أن يحلل، قلنا: إن هذه نية غير شرعية؛ لأنه نوى مضادة الشرع ولذلك قال ابن عباس: إن الله لا يخادع، ففرق بين شيء في أصله محظور وبين شيء في أصله مباح، فإن نكاح المرأة وتخليتها مباح، لكن أن ينكح المرأة من أجل أن تنكح لزيد ولا ينكحها من أجل أصل النكاح -وهو الاستمتاع- كما هو الحال في المحلل فلا، فافترقت تلك الصورة عن صورة المحلل، وقياسها على المحلل ضعيف، فإنه إذا تؤمل الأصل والفرع وجد الفارق بينهما جليا، فنكاح المحلل واضح فيه أنه ما نكح للنكاح ولا نكح للعفة ولا نكح للاستمتاع لنفسه ولا نكح من أجل أن يعف المرأة، ونحوها من مقاصد الشرع المعروفة الشرعية، ولكنه نكح من أجل أن يحلل، والشريعة كأنها حرمت نكاح هذه المرأة حتى تنكح زوجا غيره فتعيش معه، فترى مره وحلاوته فتحن للأول، فإذا جاء المحلل ينكحها اليوم واليومين ويطلقها فإنه لا يحصل مقصود الشرع، فكأنه يهدم مقصود الشرع بالتطليق المباشر، لكن من تزوج وفي نيته أن يطلق تزوج من أجل أن يعف نفسه عن الحرام، بل إنه ما وقت النكاح لحاجته والوقت الذي هو فيه إلا من أجل أن يعف نفسه عن الحرام، فهو يخاف على نفسه الزنا، فقال في نفسه: إنه في مدة إقامته يفعل ذلك، وهذه النية ليست بقطع، ويحتمل أن يلغي هذه النية ويغير نيته. فإن قال قائل: إن المرأة تستضر، قلنا: إن المرأة إذا ضحت وبذلت وتحببت إلى زوجها وقامت كما ينبغي أن تقوم الزوجة لا يمكن أن يفرط فيها، بل إن الرجل يضحي بأهله وبلده من أجل المرأة -وهذا معروف- إذا ملكته المرأة بإحسانها وفضلها فأيا ما كان فالفرق بينهما واضح، وأصول الشريعة تقوي صحة ما ذكرناه، وعلى هذا فإنه يجوز أن يتزوجها مؤقتا. الشروط الفاسدة مع بقاء صحة العقد قال رحمه الله: [وإن شرط أن لا مهر لها] فهذا شرط لاغ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] وأمر بإعطاء المهر إلى النساء فريضة، وعلى هذا فإنه إذا شرط أن لا مهر يكون قد خالف شرع الله، فألغي هذا الشرط وصحح العقد، ويصحح العقد بمهر المثل، وهذا مما يرجع فيه إلى القاعدة المعروفة: العادة محكمة، وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة في الفقه الإسلامي وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة، أي: العرف، فنحن إذا أبطلنا هذا الشرط وقلنا: إنه لابد في النكاح من المهر فيرد قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن شرط أن لا مهر لها أو لا نفقة أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر أو شرط فيه خيارا أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما بطل الشرط وصح النكاح] هذا النوع الثالث من الشروط -وهو النوع الثاني من الحالة الثانية-: أن يصح العقد ويبطل الشرط، فتصحح العقد وتقول: هذا الشرط باطل. اشتراط عدم المهر السؤال كم نعطيها من المهر؟ نقول: نرجع إلى مهر مثلها، فينظر إلى المرأة من حيث نسبها ووضعها في بيئتها، فلو كان مهر أرفع النساء الأبكار ثلاثين ألفا، وكان مهر الوسطى عشرين ألفا، وكان مهر عامة الناس ومن لا ميزة له عشرة آلاف، فإنها إن كانت من الأعلى فثلاثون، وإن كانت من الأسفل فعشرة، وإن كانت بينهما فعشرون، وهكذا يكون لها مهر المثل. اشتراط عدم النفقة على الزوجة قال رحمه الله: [أو لا نفقة] لو قال: أتزوجك بشرط أن لا أنفق عليك، قالت: قبلت، فإن تزوجها ودخل بها فإن الشرع يلزمه بالنفقة عليها، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وهذا يتضمن شرط الضرر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) فهذا شرط فيه مضرة ومخالفة لشرع الله عز وجل؛ فإن الرجال عليهم نفقة النساء والقيام بحقوقهن. اشتراط عدم المساواة بين النساء في القسم قال رحمه الله: [أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما] إذا قال له: زوجتك، وقال: قبلت فقد تم العقد، فإن قال له: إن جئت بالمهر قبل الشهر فالنكاح صحيح، وإن تم الشهر ولم تأتني به فلا نكاح بيننا، فإنه يلغى هذا الشرط ويترك الأمر بالمهر على سنن الشرع كما سيأتي في باب المهر، من أنه لا يدخل حتى يقدم شيئا منه، ويكون ذلك موجبا لفساد الشرط دون العقد فالعقد باق. قال رحمه الله: [أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر] كذلك إذا شرط أن تكون لها ليلة من أربع ليال وليس عنده إلا ضرة، فيجعل ثلاث ليال لتلك وليلة لهذه، فهذا ليس في كتاب الله، والذي في كتاب الله العدل بين الزوجات في القسم والمبيت. اشتراط الخيار في المهر والنفقة قال رحمه الله: [أو شرط فيه خيارا] علق ما سبق على خيار، بأن قال لها مثلا: أنا بالخيار إن شئت وطئتك وإن شئت لم أطأ، أو إن شئت أنفقت عليك وإن شئت لم أنفق عليك، فجعل الخيار له، كل ذلك ليس من حقه والشرط باطل؛ لأنه يهدم ما أمر الله به، ويناقض شرع الله فلا يعتد به. اشتراط الولي على الزوج الإتيان بالمهر في وقت معين وإلا فسخ العقد قال: [بطل الشرط وصح النكاح] قوله: (بطل الشرط) لأنه ليس في كتاب الله، والسنة دالة على بطلانه، وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتفق نصوصهما مع هذه الشروط فتبطل، ويصح النكاح؛ لأن الأصل صحته، وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] وهناك قاعدة قررها العلماء على هذه الآية تقول: تصحيح العقود ما أمكن، وفرع أيضا عليها قاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال، فإعمال العقود وإمضاؤها أولى من إلغائها وإهمالها وإبطالها، فمثلا عندنا رجل قال لآخر: زوجتك ابنتي وتم النكاح بشروطه المعتبرة وأركانه المعتبرة، ثم قال الرجل: لا أنفق عليها، فنقول: العقد الذي وقع وهو قوله: زوجتك ابنتي، وقوله: قبلت، صحيح والشرع يلزم بالوفاء به، وهذا الشرط شيء ممنوع دخيل على شيء مشروع، فنلغي الممنوع ونبقي المشروع، وهذا معنى: تصحيح العقود ما أمكن والإعمال أولى من الإلغاء وأولى من الإهمال. شروط الكمال في النكاح اشتراط الإسلام في الزوجة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية] هنا يدخل في مسألة شروط الكمال، وهي شروط شرعية يشترطها غالبا الرجل على المرأة، كأن يشترط جمالا، أو يشترط مالا، أو يشترط حسبا، أو يشترط نسبا، أو يشترط دينا، أو يشترط صفات من كتابة وتعلم أو وظيفة أو نحو ذلك فهذه تسمى شروط الكمال. قال: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية] . هنا الخيار للرجل قال له: زوجتك ابنتي، قال: بشرط أن تكون مسلمة، فبانت كافرة فإنه لا يصح حينئذ أن يلزم بهذا، لكن لو بانت كتابية فإنه يجوز نكاح نساء الكتابيات، لكن هو اشترطها مسلمة ففي هذه الحالة نقول: لك الفسخ، يعني: أنت بالخيار إن شئت أمضيت العقد ورضيت بهذا النقص فلا إشكال، وإن شئت ألغيت العقد فمن حقك الفسخ. قال رحمه الله: [أو شرطها بكرا] أو شرطها بكرا فبانت ثيبا، قال: زوجتك ابنتي أو أختي قال: أشترط أن تكون بكرا قال: هي بكر، ثم تبين أنها ثيب، أو قال له: أشترط أن تكون لم تتزوج وتبين أنها قد سبق وأن تزوجت أو قال: أشترط أن تكون دون العشرين، فبان أن سنها عشرون فأكثر، فالمهم أن يشترط شرطا معينا لمصلحته يريده هو، ويسمونها شروط الكمال. اشتراط البكارة والجمال والنسب في المرأة قال: [أو جميلة] فبانت غير جميلة، فإنه في هذه الحالة من حقه الفسخ. قال: [أو نسيبة] أي: لها نسب فبانت غير نسيبة، فله الفسخ. اشتراط نفي العيب الغير مؤثر في النكاح قال رحمه الله: [أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ] لأن العيوب نوعان: نوع منها يفسخ النكاح، كالجنون والجذام والبرص -نسأل الله العافية- وهذه هي العيوب المؤثرة وسيأتي بيانها، والمرأة إذا كان بها عيب ولم يتبين للرجل إلا بعد الدخول بها وبعد العقد فله الفسخ، وهذا يسمونه خيار العيب. وأما هنا فالخيار من جهة الشرط، لأن عندنا خيار عيب وخيار شرط، فخيار الشرط مثل أن يشترط شرطا أو تشترط المرأة شرطا، ويثبت الخيار إذا لم يتحقق الشرط، وأما خيار العيب فإذا وجد العيب فإننا ننظر فيه، فإذا كان مؤثرا ثبت الخيار فيفسخ النكاح إن شاء أو يبقيه إن شاء كما سيأتي. فهناك فرق بين كونه له خيار العيب وبين كونه له خيار الشرط، فهنا من خيار الشرط أن يشترط سلامتها من عيب لا يوجب مثله الفسخ، مثلا: الجهل، كأن تكون المرأة أمية لا تكتب ولا تقرأ فهذا عيب مثلا في عرفه أو عرف جماعته فقال: أشترط أن لا تكون أمية، بمعنى: أن تكون متعلمة، ثم تبين أنها أمية فله الفسخ، وهذا معنى قوله: (عيب لا يوجب الفسخ) ، أما لو كان عيبا يوجب الفسخ فسواء اشترط أو لم يشترط؛ لأنه لو قال: (عيب يوجب الفسخ) لفهم أن العيوب التي توجب الفسخ ما توجب الفسخ إلا بالشرط، ومن هنا من دقة المصنف قال: (عيب لا ينفسخ به النكاح) (فله الفسخ) [فله أي: يملك خيار الفسخ. قال رحمه الله: [وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها بل تحت عبد] هذه الكتب ما كانت تؤلف وهذه المتون أصلا ما كان يعترف لأحد من أهل العلم أن يضعها إلا إذا كان له شخصيته الفقهية والعلمية، وحتى المتن لا يشتهر ولا يشرح إلا إذا كان مثله أهلا، وكذلك كتابنا رحمة الله على مؤلفه. ثبوت خيار الفسخ للمعتقة تحت عبد الآن عندنا خيار الشرط وخيار العيب، والمصنف قال: باب الشروط والعيوب في النكاح، لكن مسألة عتق المرأة ليس لها علاقة لا بالشروط ولا بالعيوب، إلا أن بعض العلماء يقول: خيار العتق دخل في العيب من جهة أنه إذا كانت أمة عند عبد فعتقت الأمة فإنه من النقص لها والعيب أن تكون تحت عبد، هذا من حيث نظرتهم، لكن الواقع أن المصنف قصد إدخالها من جهة التبعية، مثلما يدخلون أحكام السواك في الوضوء من جهة أن الوضوء طهارة لأعضاء البدن والسواك مطهرة للفم، فناسب ذكر الطهارة الخاصة مع الطهارة العامة، وهنا نقول: ذكر الخيار الخاص مع الخيار العام. ونقول: إن الخيار في النكاح يأتي من جهة العيب، ويأتي من جهة الشرط، ويأتي من جهة العتق، فعندنا ثلاثة أشياء: خيار الشرط إذا لم يتحقق الشرط، وخيار العيب: إذا وجد في الرجل عيب فمن حق المرأة أن تفسخ وكذلك العكس بالنسبة للمرأة مع الرجل، وخيار العتق: فإذا كانت مملوكة ثم عتقت تحت عبد فإنه يكون لها الخيار؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإنه لما عتقت بريرة -وكانت تحت مغيث مولى بني مخزوم- طلبت الفسخ، وكان مغيث يحبها حبا جما فتعلق بها وكان مشغفا بها، وسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجع إليه فقالت: (يا رسول الله! أتأمرني أو تشفع؟) أي: هل تأمرني فأعود أو أنت شافع؟ قال: (إنما أنا شافع) فلم تعد إليه؛ لأنه ما دام شافعا فلا تلزم طاعته، ولا شك أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أحرى أن تقبل، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يلزم الناس ولا يكرههم. الشاهد: دليلنا على إثبات الخيار بالعتق هذا الحديث الصحيح، فيكون للمرأة الخيار إذا عتقت بشرط أن يكون زوجها رقيقا، فإن كان زوجها غير رقيق أي: كان حرا، وعتقت وهي تحته فلا خيار في هذه الحالة، وهذا النوع من الخيار فيه عدل، فالله سبحانه وتعالى جعل هذا الخيار للمرأة؛ لأنها وهي أمة ليست كحالها وهي حرة، فإن الرق سببه الكفر ولذلك فيه نقص؛ لأنه لا رق إلا بسبب الكفر، ونظرا لوجود هذا النقص، فإن عتقت أعطيت حقها، فإن شاءت بقيت وإن شاءت فسخت النكاح.
__________________
|
#533
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (421) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - العيوب في النكاح من الأمور المقصودة للنكاح تحصيل الاستمتاع وإعفاف النفس، ووجود العيوب في أحد الزوجين مما يؤثر في هذا، فمتى كان العيب مؤثرا أوجب الخيار وإلا فلا، وهذه العيوب منها المشترك بين الرجل والمرأة ومنها الخاص بأحدهما. العيوب في النكاح قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن وجدت زوجها مجبوبا أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ] هذا فصل في بيان العيوب، وعيوب الزوجين في النكاح تنقسم إلى قسمين: عيوب عامة، وعيوب خاصة، فالعيوب العامة هي التي تكون في الرجل وتكون في المرأة، أي: ما تختص بالرجال ولا تختص بالنساء، ومن أشهرها مما يوجب الفسخ ثلاثة عيوب -أعاذنا الله وإياكم منها ومن غيرها مما فيه ضرر-: الجنون والجذام والبرص، هذه الثلاثة العيوب مؤثرة وتوجب الخيار، وهي تكون في الرجال وتكون في النساء، فالجنون لا يختص بالرجال دون النساء ولا العكس وكذلك الجذام وكذلك البرص، وسيأتي بيانها إن شاء الله. وهناك عيوب خاصة بالرجال كالمجبوب -مقطوع الذكر- والعنين -الذي لا ينتشر عضوه- فهذه خاصة بالرجال، والخصي ونحو ذلك، والخاصة بالنساء القرن، والعتل، والرتق، والفتق فهذه كلها خاصة بالنساء، ثم ما يختص بالرجال وما يختص بالنساء ينقسم إلى قسمين: منها ما هو مؤثر ويوجب الخيار، ومنها ما ليس بمؤثر ولا يوجب الخيار، وسيأتي بيان كل هذا إن شاء الله. تخيير المرأة في الرجل المجبوب قال رحمه الله: [ومن وجدت زوجها مجبوبا] يعني: مقطوع الذكر، فإن هذا عيب لا يمكن معه حصول المقصود من النكاح من إعفاف المرأة وإحصانها، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله -كما نقل الأئمة- على أنه عيب يوجب الخيار للمرأة في أن تفسخ، وإذا رضيت المرأة بالبقاء فإنها تبقى، وإذا لم ترض فإن لها الفسخ؛ لأن هذا ضرر عظيم، وقد تتعرض للحرام، فيكون من حقها أن تفسخ، إذا كان الرجل مجبوبا مقطوع العضو بالكلية، أو لم يبق منه ما يمكنه به إعفافها، فإن كان في الحالة الثانية بقي منه ما يمكنه به إعفافها فلا خيار. قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ] كما ذكرنا؛ لأن هذا يفوت مقصود الشرع من الإعفاف، لكن لو أن المرأة رضيت فلها ذلك، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع، والنساء تختلف رغباتهن في الزواج، فقد تتزوج المرأة وليس مرادها قضية الفراش وليست هي كل شيء عندها، وقد تتزوج لمعان أسمى وأعلى من هذا كله، لكن حكم الشريعة اعتبر الجبلة والفطرة، واعتبر مقصود الشرع من حصول الإعفاف، خاصة وأن المرأة من حقها ذلك. حكم العنين قال رحمه الله: [وإن ثبتت عنته بإقراره أو بينة على إقراره أجل سنة منذ تحاكمه] العيب الأول: الجب، والعيب الثاني: العنة، وكلاهما متعلق بالرجال، فالعنة أن لا ينتشر العضو، فما يستطيع الرجل أن يجامع المرأة، فإذا اشتكت المرأة وقالت: إن زوجها عنين، فسأله القاضي فقال: نعم إنه عنين ولا ينتشر عضوه، فحينئذ يؤجله القاضي سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، ومذهب جماهير السلف رحمهم الله أنه يؤجل العنين سنة، وحكى بعض العلماء الإجماع ومضى قضاء المسلمين على أن العنين يؤجل سنة ويترك سنة؛ لأنه ربما كانت العنة في فصل دون فصل، وربما كانت بأسباب من خوف أو رهبة أو طروء النكاح عليه أو نحو ذلك من الأمور فيؤجل سنة؛ لأن السنة فيها اختلاف الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه الفصول الأربعة وثبت أنه لا يستطيع الجماع كان من حقها الفسخ، ويكون ابتداء ذلك من حين إقراره، والإقرار أقوى الحجج. قوله: (أو بينة على إقراره) البينة على إقراره كأن يجلس في مجلس وفيه شهود عدول فيسمعونه يقول: إنه عنين، فحينئذ لو اشتكته المرأة فأنكر وقال: لست بعنين، فجاءت بهذين الشاهدين على عنته ثبتت، وهذه شهادة على دليل وهي مقبولة؛ لأن العنة من الأمور الخفية التي لا يمكن أن تعرف إلا من الشخص نفسه أو من زوجه، ولو فتح الباب لكل زوجة أن تدعي أن زوجها عنين لادعت النساء وكذبن في ذلك؛ لأن النساء لسن على حد سواء، ففيهن من تكون جريئة على حدود الله فتكذب، وقد ترغب في الطلاق، وقد ترغب في إضرار زوجها، وقد تريد أن تنتقم من زوجها فتدعي أنه عنين، فإذا ادعت عليه فإننا لا نستطيع الحكم؛ لأن عندنا زوجا يثبت أنه رجل وأنه ليس فيه هذا العيب، وعندنا امرأة تدعي هذا العيب، فهل نصدق الرجل أو نصدق المرأة؟ فحينئذ غالبا ما يثبت هذا بالإقرار، فإذا أقر الرجل أو شهد عدلان على أنه أقر أنه عنين فيؤاخذ بإقراره. قوله: (أجل سنة منذ تحاكمه) (أجل) أي ضرب له أجل، وهو سنة هلالية كاملة (منذ تحاكمه) يعني: منذ أن حاكمته المرأة ورفعته إلى القاضي لا من ابتداء النكاح؛ لأنه في حينها لم تكن ثبتت عنته بعد، فالعبرة بمجلس القاضي، والتأجيل يتعلق بحكم الحاكم، فلما كان التأجيل متعلقا بحكم الحاكم وبمجلس القضاء كانت العبرة بالترافع، فإذا تأخرت المرأة في رفع قضيتها فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، فحينئذ يكون تأجيله سنة من حين أن رفعته إلى القاضي، وهذا معنى: (منذ تحاكمه) يعني: إذا حاكمته ورفعته إلى القاضي، وإذا تأخرت فإنها تتحمل مسئولية تأخيرها من قبل، كالرضا بالعيب. قال رحمه الله: [فإن وطئ فيها وإلا فلها الفسخ] يعني: وطئ خلال السنة فحينئذ تكذب المرأة في قولها: إنه عنين؛ لأنه ثبت أنه قادر، ويتبين بهذا أنه مرض عارض، أو أن هذا بسبب النفرة من الزوجة، وإذا وطئ خلال السنة فحينئذ يبطل الاعتداد بهذا العيب. قال: [وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين] وإن اعترفت هذه المرأة أنه وطئها من قبل فليس بعنين، أو اعترفت بأنه وطئها خلال السنة فليس بعنين. قال: [ولو قالت في وقت: رضيت به عنينا سقط خيارها أبدا] من دقة المصنف رحمه الله أن ذكر لك العيب وهو العنة، ثم ذكر لك دليل إثبات العيب وهو الإقرار والشهادة على الإقرار، ثم ذكر لك الحكم وهو التأجيل سنة، ثم ذكر متى يبتدأ بالتأجيل ومتى يحسب وهو من حين الترافع، وشرع بعد ذلك رحمه الله في مسألة الرضا بالعيب؛ لأن الرضا يكون بعد وجود العيب، فإذا ثبت عند القاضي أنها رضيت بعد أن علمت بعنته سقط حقها، مثلا: رجل أراد أن ينكح امرأة فجاء إلى وليها وقال: إنه عنين، فعلمت المرأة أنه عنين وعقد النكاح فلا خيار لها إجماعا؛ لأنها رضيت بالعيب، وإذا رضيت بالعيب حال العقد، أو بعد العقد؛ فرضيت وسكتت فحينئذ سقط حقها، أما لو علمت بعد العقد ورفعت مباشرة فإنه لا يسقط حقها. عيوب النساء التي يكون للرجل الخيار بسببها قال رحمه الله تعالى: [فصل: والرتق والقرن والعفل والفتق واستطلاق بول ونجو وقروح سيالة في فرج وباسور وناسور وخصي وسل ووجاء وكون أحدهما خنثى واضحا، وجنون ولو ساعة وبرص وجذام يثبت لكل واحد منهما الفسخ] . يقول رحمه الله: (والرتق) هنا شرع المصنف في ذكر العيوب التي تتعلق بالنساء، وإذا تأملت العيوب السابقة في الرجل تجدها عيوبا تمنع حصول الوطء، وكما أن هذا يقع في الرجل كذلك أيضا يقع في المرأة، فتكون فيها عيوب خلقية تؤثر في الوطء مثل: الرتق وهو انسداد الفرج، والقرن: وهو العظم في موضع الجماع يعيق الجماع، والعفل: وهو الورم من اللحم يكون في موضع الجماع ويعيق الجماع ولا يمكن من المتعة، كذلك الفتق وهو اختلاط المسلكين عند المرأة كل ذلك مما يؤثر في المتعة وفي الجماع فيمنعه كلية أو يمنعه لحد مؤثر، فهذه العيوب كلها مختصة بالنساء لكنها تؤثر وتوجب الخيار للرجل، لكن بنفس الضابط السابق، فإن علم بالعيب أثناء العقد سقط خياره، وإن علم بعد العقد ورضي وسكت سقط كذلك، وإن علم به بعد العقد وطالب مباشرة فالحكم أن له الخيار، فنقول له إذا طالب: إن شئت رضيت هذا العيب في المرأة، وإلا إن شئت فافسخ النكاح. عيوب الخيار المشتركة بين الرجال والنساء قال رحمه الله: [واستطلاق بول] لأنه يؤذي في الجماع، فعندنا ما يمنع الجماع مثل: الرتق، وكذلك أيضا القرن، وعندنا ما يؤذي ولكنه لا يمنع من الجماع كاستطلاق البول، وكذلك استطلاق النجو، وعندما يقرأ طالب العلم المتون الفقهية يجد أن العلماء رحمهم الله يقررون هذه المسائل للوصول للضوابط وهذه المسائل ما هي إلا أمثلة؛ لأن الضابط يدور حول المنع من الوطء، ومتى يكون للزوج الحق في فسخ النكاح؟ ومتى يكون هذا العيب مؤثرا؟ قال: [واستطلاق بول ونجو] استطلاق البول والغائط يكون مرضا مزمنا، لكن إذا كان في حال دون حال فهذا لا يؤثر، إنما المراد أن يكون عيبا ثابتا ويشهد أهل الخبرة أو قرينات المرأة أو أهلها بأن يقولوا: نعم، نعرف فلانة أن معها استطلاق البول، أو نعرف أن معها استطلاق الغائط الذي هو استطلاق النجو، فهذا كله من العيوب المؤثرة التي توجب الخيار للرجل والفسخ. قال: [وقروح سيالة في فرج] القروح السيالة مثل السيلان وهي نوع من أنواع أمراض الزهري -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المعدية الخطيرة، فإذا ثبت أن المرأة بها هذا المرض وموجود فيها فإنه حينئذ من حق الرجل أن يطالب بالفسخ؛ لأنه يستضر إذا جامعها، فهناك ضرر بجماعها أثناء الجماع وضرر إذا انتهى من جماعها؛ لأنه تنتقل إليه العدوى، وعلى هذا فإنه يعتبر من العيوب المؤثرة. قال: [وباسور وناسور] الباسور: يكون في المقعدة، والباسور والناسور واستطلاق البول واستطلاق النجو والقروح السيالة تكون في الرجل والمرأة وليس خاصا بالنساء، فمن الممكن أن يكون السيلان في الرجل وممكن أن يكون -أعاذنا الله وإياكم- في المرأة، وممكن أن يكون الباسور والناسور في الرجل وممكن أن يكون في المرأة، فهذه من العيوب المشتركة التي لا تختص لا بالرجال ولا بالنساء. قال: [وخصي] فإن هذا يضر الرجل في حال جماعه وكذلك في ذريته. قال: [وسل] قطع الخصية وسل الخصية: إخراجها مع وجود اللحم، ورض الخصية: الوجاء، وضرب العروق، هذا كله من العيوب المؤثرة؛ لأن هذا يؤثر في جماع الرجل ويؤثر في رغبته في المرأة، ولذلك تتضرر المرأة بهذا فإنها تكون منكوحة لبعض الرجل لا لكل الرجل وهذا يضرها، ويضر حتى ذريتها. قال: [وكون أحدهما خنثى واضحا] فإنه حينئذ لا يجوز؛ لأن الخنثى لا يجوز نكاحها، فلو أنه تزوج امرأة على أنها امرأة فتبين أنها خنثى فإنه حينئذ يكون من حقه الفسخ، فلو كانت امرأة أصلها خنثى، يعني: كانت خنثى ثم تبين أنها امرأة، بمثل: ظهور الثدي وظهور علامات النساء فيه، وظهر أنه امرأة وثبت كليا أنه امرأة فلما جاء الرجل يتزوج تزوجه على أنه امرأة ثم تبين أنه خنثى، فحينئذ من حقه الفسخ؛ لأن هذا عيب ونقص في الخلقة ولو أنه كمال في الصورة، يعني: زيادة في الصورة لكنه نقص في الخلقة، وعيب مؤثر في الخلقة وعلى هذا يكون له حق الفسخ. وهكذا لو تزوجت المرأة رجلا على أنه رجل ثم ظهر أنه خنثى فإن هذا يعتبر موجبا للفسخ؛ لأن جماع الرجل الخنثى ليس كجماع الرجل المحض، وكذلك جماع المرأة الخنثى ليس كجماع المرأة المحض، وهذا من العيوب المؤثرة. قال: [وجنون ولو ساعة] الجنون: من جن الشيء إذا استتر، وسمي البستان جنة؛ لأنه يستر من بداخله، والجنون استتار العقل وذهابه كلية إما لكل الوقت أو لبعضه، فإن كان لكله فهو جنون مطبق، وإن كان لبعضه فهو جنون متقطع، فالجنون -أعاذنا الله وإياكم- في الرجل أو المرأة إذا ثبت أنه مجنون سواء كان جنونه متقطعا أو كان جنونه مستديما مطبقا فإن من حق المرأة أن تطلب الفسخ، وكذلك الرجل من حقه أن يطلب الفسخ إذا تبين أن زوجته مجنونة، سواء كان جنون أحدهما متقطعا أو مستديما فكله عيب. قال: [وبرص] الله سبحانه وتعالى إذا ابتلى الإنسان بالبرص قد يكون في هذا علو درجة له، ولا شك أنه إذا كان مؤمنا فهو علو درجة له في الدنيا والآخرة، والله يعلي قدره بهذا البلاء ويعظم أجره، فلا شك أنه بلاء في ظاهره ولكنه رحمة في باطنه، وإذا نقصت خلقة الإنسان فكل نقص في خلقته يعوضه الله عز وجل عنه من الأجر والمثوبة، وقد تكون له درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام فيجعل الله له هذا البلاء سبيلا إليها، وأما كون البرص عيبا في النكاح فهو من وجهين: الوجه الأول: أن البرص في الجبلة والفطرة يؤثر على المرأة في جماعها وعلى الرجل في جماعه، فهو مؤثر في الجماع، فكما أن العيوب الحسية تؤثر في الجماع فكذلك العيوب المعنوية تؤثر في الجماع، فالبرص يؤثر من ناحية معنوية ويؤثر من ناحية النسل والذرية، فهو يؤثر من الوجهين، ولذلك فيه ضرر قاصر وضرر متعد، وعلى هذا يعتبر مؤثرا، ويستوي أن يكون البرص مطبقا عليه كله أو يكون في بعض أعضائه ولو كان في بعض الأعضاء الخفية، بخلاف البهق فإن البهاق ليس بعيب موجب للفسخ، لأنه لا يعتبر من البرص ولا يأخذ حكم البرص من حيث العيوب، ولكنه يعتبر عيبا إذا كان برصا محضا سواء كان في كل الأعضاء أو بعض الأعضاء. قال: [وجذام] كذلك الجذام نوع من الأمراض -نسأل الله العافية- تساقط فيه الأعضاء، فهذا من الأمراض المعدية وفيه ضرر معنوي وضرر حسي، ويتعدى ضرره إلى المرأة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالمرأة تتأثر بهذا النوع من المرض وكذلك الرجل. الفسخ بالعيب قال رحمه الهل: [يثبت لكل واحد منهما الفسخ] أي للرجل وللمرأة. قال: [ولو حدث بعد العقد أو كان بالآخر عيب مثله] قال: (ولو حدث بعد) ولو: إشارة إلى الخلاف، فلو فرضنا أن الجنون عيب، وأنه عيب إذا كان قبل العقد، فكذلك لو أن الجنون طرأ عليه بعد العقد، فإنه إذا جن الزوج ثبت للمرأة الخيار، ونقول لها: إن شئت بقيت وتحملت وصبرت والله يأجرك على ذلك وأنت مثابة وهذا صنيع الصالحات، وإن شئت طالبت بالفسخ؛ لأن المرأة لا تحمل ما لا تطيق، والعكس بالنسبة للرجل، لو أن امرأته أصابها جنون، فإن أراد أن يصبر فكريم يؤجر وهو مثاب على ذلك والله سبحانه وتعالى سيعوض صبره ويعظم أجره ويحسن الذخر له، وإن قال: لا أستطيع أو لا أتحمل ذلك فمن حقه، فيفسخ النكاح. قال: (أو كان بالآخر عيب مثله) تزوج المرأة وبها مرض، مثلا: قروح سيالة، ورضي بها، ثم لما وطئها تبين أن فيه عيبا مثلها، وأن فيه قروحا انفجرت وسالت، فلما عرفت قالت له: ما أريدك، فقال: بك مثل ما بي، يعني: الحال واحد هنا وليس هناك فرق وما ظلمتك، فقال طائفة من العلماء: إن كان به من العيب مثلها فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ظلم واضح؛ لأن هذا عيب بعيب، كما قالوا: بئر بغطاه، فهم يقولون: هذا العيب لقاء هذا العيب، فإذا قالت: هذا نقص لي، فهو بها، فليس فيه نقص، ولو قالت: ضرر بي، فهو استضر على ضررها والعكس، وقال بعض العلماء: بل إنه يثبت فيه الخيار لمن لم يتنازل عن حقه منهما. والأول أشبه بالمعنى والثاني أشبه بالنظر، ولذلك يقوى الثاني أكثر من الأول؛ لأنه لما علم بها وسكت عن عيبها سقط حقه، فيكون الحكم مستأنفا بالنسبة لها، فكونه أعطي الحق أولا ورضي لا يجعلنا نلزمها برضاه؛ لأن لكل واحد رضا مستقلا، فالعيب إذا طرأ عليه فإنه يثبت لها الخيار؛ لأنها إنما رضيت به كاملا، فإذا تبين به العيب كان لها الخيار مستأنفا، وهذا أفقه وأقوى أي: القول بأن له الخيار ولو كان بالثاني عيب كما قال المصنف: (ولو كان به مثله) فلو كان بالآخر مثله حق له الفسخ، وذلك لأن الأول قد رضي بإسقاط حقه ولكن الثاني لم يرض بإسقاط حقه، فمن حيث الفقه هذا القول أقوى وهو اختيار المصنف. ما يسقط الفسخ بالعيب قال رحمه الله: [ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له] بعد أن بين العيوب المؤثرة شرع في بيان ما يسقط الفسخ العيوب، (من رضي بالعيب) رضي به بعد أن علم أنه معيب فهذا: لا خيار له، أو وجدت منه دلالة الرضا، مثلا: امرأة اطلعت على زوجها أنه معيب وبه عيب مؤثر فسكتت شهورا، ثم بعد ذلك اختصمت معه فقالت: به عيب، فنقول: سكوتك هذه المدة دليل على الرضا، فتؤاخذ بهذا السكوت ويعتبر دليلا؛ لأنها علمت ورضيت، وكونها تسكت هذه المدة ولا تتكلم إلا عند الغضب فهذا نوع من الانتقام؛ لأنها صارت تبحث عن أي عيب لتفسخ النكاح، فلابد أن يوجد عيب مؤثر، وأن يوجد من صريح قول صاحب الحق ما يدل على الفسخ، يعني: أنه لا يرضى بالعيب. فإن وجد العيب ووجد الرضا سقط الفسخ، فليس من حقه أن يفسخ، وإذا وجد منه ما يدل على الرضا فنقول: إن ما يدل على الرضا ينزل منزلة الرضا الصريح، فحينئذ إذا رضي ووجد منه ما يدل على الرضا فإننا نحكم به ويحكم بإسقاط الخيار له. لا يتم الفسخ إلا بحاكم قال رحمه الله: [ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم] ولا يتم الفسخ إلا بحاكم، ولا يرتفع العقد إلا عن طريق الحاكم، فترفع أمرها إلى القاضي ويرفع أمره إلى القاضي ويحكم القاضي بما يتفق مع أصول الشريعة. حكم المهر في حال الفسخ بالعيب قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول فلا مهر] مثلا: رجل عقد على فاطمة وحدث العيب قبل الدخول فلا مهر؛ لأنه قبل الدخول؛ والمهر مركب على الاستمتاع، فإن حصل الفسخ قبل الدخول فإنهما يتفرقان ويغني الله كلا من سعته، هذا بالنسبة للحكم الشرعي إذا وقع الفسخ، فينظر في العيب الذي هو موجب الفسخ ومتى يحكم بخيار الفسخ، وإذا ثبت أنه يحكم به فيرد السؤال إن حكم به قبل الدخول فهل يثبت المهر؟ وإن حكم به بعد الدخول وثبت المهر فما الحكم؟ فالمصنف رتب الأفكار بعضها على بعض فقال رحمه الله: (فإن كان قبل الدخول) أي: إن كان حكم القاضي بالفسخ واعتداده به قبل الدخول فلا مهر؛ لأن المهر مركب على الاستمتاع: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] فترد المرأة المهر كاملا للرجل. قال: [وبعده لها المسمى ويرجع به على الغار إن وجد] (وبعده) أي: بعد الدخول (لها) أي: للمرأة (المسمى) الذي هو المهر الذي سماه لها، فإذا جعل لها عشرين ألفا فإنه يكون حقا لها بما استحل من فرجها بعد أن يدخل بها، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وقال لـ عويمر العجلاني رضي الله عنه لما سأله المهر بعد أن وقع اللعان بينه وبين زوجته: (إن كنت صادقا فبما استحللت من فرجها) فجعل المهر لقاء الاستمتاع والاستحلال، لكن يبقى السؤال: هذا الرجل غرر به ودفع المهر على امرأة كاملة وتبين أنها ناقصة فهذا فيه ظلم للرجل؟ قالوا: المرأة تأخذ حقها وهو المهر كاملا، لكن الرجل حقه ممن يأخذه؟ يأخذه ممن غره وممن غشه وخدعه حتى نكح المرأة وقال له: إنها ليست بمعيبة، فإن كان وليها يأخذه من وليها وحينئذ يضمنه له، فيقيم دعوى ثانية: أن فلانا زوجه موليته المعيبة بعشرين ألفا أو بثلاثين ألفا، وفوت هذا المهر بغشه، فإذا ثبت عند القاضي هذا وحكم به فحينئذ يوجب له الرد بموجب ما ثبت من ظلمه له بالتغرير. حكم تزويج القاصرة مع العلم بالعيب قال رحمه الله: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب] هنا انتهت أحكام العيب، لكن هنا مسألة وهي مسألة التزويج مع العلم بالعيب، فإذا كان عندنا امرأة صغيرة أو مجنونة أو أمة أراد وليها أن يزوجها من مجنون أو من معيب فليس من حقه ذلك، فقال رحمه الله: (والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب) لا تزوج واحدة منهن بمعيب، وذلك لأن الصغيرة ينتظر إلى أن تبلغ وتنظر ما فيه مصلحتها، أما أن يؤتى بها وهي صغيرة ويزج بها إلى مجنون أو يزج بها إلى إنسان به عيب حتى ولو قالت: أرضاه، فمذهب طائفة من العلماء أنها ليست بكاملة العقل وليست بكاملة الإدراك فهي تخاطر بنفسها، فربما ندمت بعد بلوغها وربما تحدث أمرا لا تحمد عقباه، ونص المصنف على هؤلاء لأن الصغيرة والمجنونة والأمة تحت ملك غيرهم، فالصغيرة لوالدها أن يمنعها حتى ولو رضيت، والمجنونة كذلك لوليها، والأمة لسيدها. تزويج الكبيرة مع العلم بالعيب قال رحمه الله: [فإن رضيت الكبيرة مجبوبا أو عنينا لم تمنع بل من مجنون ومجذوم وأبرص] قوله: [فإن رضيت الكبيرة مجبوبا] لأنه ليس النكاح فقط للجماع، كما ذكرنا أن من النساء من تنظر في النكاح إلى شيء غير الجماع، فإذا رضيت مجبوبا فإن لها ذلك، ويزوجها وليها مادام أنها رضيت به، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع فإن هذا يرجع إليها، فإنها قد تريد خدمته، وقد تريد الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، وقد تريد رجلا يحميها من الاعتداء عليها، فهناك مقاصد كثيرة، فليس النكاح فقط موقوفا على الجماع، ومن عموم الشريعة أنها ليست مقصورة على جوانب معينة، فميزة الحكم الشرعي أنه تنزيل من حكيم عليم، والتشريع عندما يكون من عليم يحيط بالأمور كلها ما كان وما يكون وما لم يكن فإن حكمه سيكون لما كان ولما يكون ولما لم يكن، فيأتي الحكم شموليا، بينما القوانين الوضعية إنما وضعت لأحوال، ثم إذا جدت أحوال صار هذا الحكم لا يصلح لهذه الحالة، فتحتاج أن تجدد شيئا جديدا فتضطرب مع الأزمنة وتختلف مع الأزمنة والأمكنة، لكن الشريعة لا. ولما كان فقه العلماء مبنيا على فقه الكتاب والسنة صار عندهم شيء من الشمول في النظرة والشمول في الاستيعاب، ومثل ما ذكرنا أنه ما ينظر فقط إلا أن المرأة تريد نكاحا وجماعا وأن الرجل يريد فقط جماعا ونكاحا، فنقف عند العيوب فقط ونقول: إذا كان ليس هناك جماع فليس هناك مصلحة وعليه فليس هناك نكاح، لا. بل هناك مقاصد عظيمة وهناك مقاصد شرعية، وهناك مقاصد تتبع النكاح، فالمرأة قد تتزوج الرجل وهي في بيئة لا تجد أحدا يخطبها لكن تريد رجلا يحميها من الذئاب، ويحميها ممن يعتدي عليها فتقول: أنا أرضى فلانا وإن كان مجبوبا؛ لأنه شجاع. وقد تكون المرأة مثلا بها عيب، فقد يكون الرجل مجبوبا وتكون هي رتقاء فترضى بهذا، فأيا ما كان ليس هناك إلزام للمرأة أنها لا تتزوج من كان معيبا، بل كل منهما يتزوج ولا بأس بذلك ولا حرج إذا حصل الرضا. قال: [أو عنينا] إذا كان عنينا وقالت: أرضى به، فإنها إذا كانت كبيرة عاقلة تنظر مصلحتها وهي أعلم بحالها، فلا يجوز لوليها أن يمنعها. قال: [بل من مجنون] لخوف الضرر عليها؛ لأن المجنون يضرها. قال: [ومجذوم] لأن هذا سينقل إليها العدوى. قال: [وأبرص] لأن الحق لذريتها وأولادها، فإذا امتنع أولياؤها من تزويجها كان من حقهم، لكن لو أنها هي برصاء وجاء أبرص ينكحها وخاف وليها أنه ما أحد يتزوجها ورضيت فإنه لا بأس ولا حرج. استدامة نكاح الكبيرة بعد العلم بالعيب قال رحمه الله: [ومتى علمت العيب أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ] الفقهاء يذكرون الابتداء والاستدامة حتى تحفظ الصور فتقدم أنها لا تجبر ابتداء على النكاح من شخص معيب، فلو علمت بالعيب من زوجها بعد الدخول فما حكم الاستدامة؟ وهذا الفقهاء يضعونه في المتون رياضة للذهن حتى يصبح عند الفقيه والقاضي والمفتي والمعلم شيء من الشمولية في الفتوى والتعليم والقضاء فيتنبه لما يترتب على المسائل من أحكام وآثار، فهنا لو قال لك قائل: هي لا تجبر ابتداء، فلو أنها علمت بالعيب بعد دخول الرجل عليها فهل يجبرها وليها على الفسخ؟ ف الجواب أن وليها يكون له حق المنع ابتداء، لكن لو أنه طرأ العيب بعد ذلك قال: لا يجبرها لو رضيت بالاستدامة، ولا تجبر على الفسخ، وليس من حق أحد أن يجبرها على الفسخ.
__________________
|
#534
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (422) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - باب نكاح الكفار للكفار الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين أحكام فيما يتعلق بأحوالهم الدينية والدنيوية، ومن هذه الأحكام ما تكون مشابهة لما عند المسلمين، ومنها ما يستقلون عن أحكام شريعتنا في تناوله وتطبيقه، ونكاح الكفار هو من الأحكام المستقلة التي يقرهم عليها الإسلام ولا يتدخل فيها إلا إذا طرأ طارئ الإسلام على الزوجين أو أحدهما فعندها يكون التفصيل. نكاح الكفار يقول المصنف رحمه الله: [باب نكاح الكفار] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بنكاح الكفار، وهذا الباب من الأبواب المهمة المتعلقة بكتاب النكاح وهو الزواج من الكافرات، وحكم طريان الكفر على الزوج -والعياذ بالله إذا ارتد-، وحكم الكفار باختلاف أديانهم ومللهم، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله بهذا النوع من الأبواب وذكروه في مسائل النكاح. حكم نكاح الكفار قال المصنف رحمه الله: [حكمه كنكاح المسلمين] حكم نكاح الكفار كحكم نكاح المسلمين فهو يقر ويثبت، لكن على تفصيل في هذه الأنكحة؛ فلو أن شخصا كافرا جاء يريد حكم الشريعة في النكاح فإنه يلزم بنكاح المسلمين، ويكون نكاحهم كنكاح المسلمين، لكن من حيث التفصيل والأحكام هناك أحكام ومستثنيات ينبغي تفصيلها فقال رحمه الله: (حكمه كنكاح المسلمين) فنقرهم، وينبني على هذه القاعدة أننا نقرهم على أنكحتهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما تدخل في أنكحة الكفار ممن كان تحته من أهل الذمة ومن المعاهدين كبني قريظة ونحوهم وما قال لهم: انكحوا بهذه الطريقة وافعلوا هذه الطريقة، إنما تركهم على نكاحهم. فكل أهل ملة ودين يفعلون النكاح على ملتهم ودينهم، والكفار على قسمين: أهل الملل الذين لهم أديان سماوية كالكتابيين من اليهود والنصارى، فهؤلاء يفعلون الأنكحة على وفق دينهم ويقرون على دينهم، أما بالنسبة للذي لا دين له كالحربي الوثني، أو المجوسي الذي ليس له دين سماوي على القول بأن المجوس ليسوا في حكم الكتابيين، وكذلك أيضا الذي لا دين له كالشيوعي والملحد فما حكم نكاحه وهو ليس له دين؟ ف الجواب أن نكاحه كنكاح المسلم، فلو أن من لا دين له كملحد تزوج ملحدة، مع أنهم في بعض الأحيان ما عندهم ولي وشاهدان ومهر، بل يلقى الرجل المرأة -والعياذ بالله- في الطريق ويطؤها على أنه زوج لها ويتعارفون على هذا، وهم ما عندهم دين، فإننا نقرهم على هذا إذا أسلما الاثنان؛ لأن أهل الجاهلية في جاهليتهم كانوا لا دين لهم، فلما أسلموا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابيا أن يجدد نكاحه، مع أنهم في الجاهلية كانوا يوقعون الأنكحة على غير السنن الشرعية، ولذلك قالوا: يفرق بين الابتداء والاستدامة، وأنكحة الكفار يختلف فيها الحكم الابتدائي والاستدامي الذي يستدام به العقد، وسيبين المصنف رحمه الله جمل المسائل وأحكامها كما سيأتي. فقال: (حكمه كنكاح المسلمين) من حيث الأصل، فإذا أسلم الكافران الزوج والزوجة ما نأتي نبحث عنه، وهذه فائدة حكمه كحكم نكاح المسلم، ولذلك أبقى النبي صلى الله عليه وسلم هذا النكاح. النكاح يعتبر من العقود التي أبقتها الشريعة على حالها من الجاهلية، وهذه العقود منها قسمة المواريث وقسم الحقوق، فإذا قسم الكفار حقوقهم في حال الكفر ثم أسلموا فإنه يبقى قسم الجاهلية على ما هو عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما كان من قسم الجاهلية فهو على ما هو عليه) ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل أبقى لنا عقيل من رباع) لأن عقيل بن أبي طالب بقي على الكفر إلى قرب الفتح فورث جميع بني هاشم الذين كانوا كفارا، ولم يتوارث بنو هاشم الذين أسلموا فأصبح الإرث كله لـ عقيل، ثم لما أسلم عقيل ما قال له: تعال نقسم، فجعل هذه العقود: النكاح والقسم والمواريث تبقى على حكم الجاهلية، فإن أسلموا فإنه يستأنف الحكم فيما لم يمض ولم يتم، أما ما تم وبت فيه فيبقى على ما هو عليه، فلو أنه عاشرها لحظة على أنها زوجة له وعرفهم جار بهذا -والعياذ بالله- ودخلوا في الإسلام مباشرة فهما زوجان، وهذا أصل عند العلماء، ويكاد أن يكون إجماعا بين أهل العلم؛ لأن فيه نصوصا واضحة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، فلم يسأل صحابيا أن يجدد نكاحه على زوجته. متى يقر الكفار على النكاح الفاسد؟ قال رحمه الله: [ويقرون على فاسده إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا] قال: [ويقرون على فاسده] بشرطين: إذا اعتقدوا صحته في دينهم، مثلا: يهودي تزوج يهودية بخمر أو خنزير، فديننا لا يصحح هذا؛ لأن الخمر والخنزير ليس بمهر، بينما الخمر والخنزير يعد مالا في دينهم ومذهبهم، لكنه في حكم الإسلام لا، لكن نقرهم عليه ما دام أن دينهم يقرهم على ذلك، وبشرط: أن لا يترافعوا إلينا، فإن جاءونا حكمنا بحكم الإسلام، وهذا يقع في أهل الذمة عندما يكونون تحت حكم المسلمين، فإذا فتحت بلادهم فقالوا: ندفع الجزية ونبقى على ديننا، فدفع الجزية يبقيهم على دينهم، فإذا تناكحوا بطريقتهم وبدينهم، فليس للمسلمين أن يتدخلوا في ذلك؛ لأن هذا أصل عقد الجزية الذي أبرمه عمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهم، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مصالحتهم أبقاهم على ما هم عليه من دينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مع يهود بني قريظة ويهود خيبر ويهود بني النضير كلهم على هذا الحكم، وهو أنه يتركهم على دينهم وعلى شرعهم، فأما إذا ترافعوا إلينا وجاءوا إلينا وسألونا أن نحكم بينهم فإننا نحكم بحكم الإسلام. فإذا الشرط: أن يكون دينهم يقرهم على ذلك -إذا كان لهم دين سماوي- وأن لا يترافعوا إلينا، فإن ترافعوا إلينا أو فعلوا أمرا لا يقرهم عليه دينهم ألغي هذا العقد، فمثلا: يهودي تزوج أخته وهو ذمي تحت المسلمين، وبلغ المسلمين ذلك فإنهم يلغون هذا النكاح؛ لأنه تحت حكمهم، ومثل هذا النكاح لا يقره دينه ولا يقره ديننا، فلا يبقون على مثل هذه الأنكحة كنكاح المحارم، لكن لو كان دينهم وشرعهم يقرهم على ذلك أقررناهم على ما أقرهم عليه دينهم بشرط ألا يترافعوا إلينا. فلو أن يهوديا ويهودية جاءا إلينا وقالا: نريد أن تعقدوا لنا عقد النكاح بدينكم {فإن جاءوك فاحكم بينهم} [المائدة:42] فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، وأنزل القرآن مهيمنا على الكتب السماوية من قبل، فحينئذ يحكم ويبت بينهم، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين المحصنين بحكم الإسلام، وإن كانت التوراة كذلك فيها الرجم كما وضع أحدهم يده على آية الرجم لكن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم لقوله: (فدعا بالشهود) فأجرى القضية على أنها قضية قضائية إسلامية، فإذا ترافعوا إلينا حكمنا بينهم بشرعنا. قال: [فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا] وإن أتونا بعد عقده أبقيناه على حكمهم. قال: [وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان والمرأة تباح إذا أقرا] قوله: (أو أسلم الزوجان والمرأة تباح إذا) يعني: أسلم اليهودي واليهودية فصارا مسلمين والمرأة مباحة صح، لكن لو أنه تزوج أم زوجته فليست تباح إذا، فإذا الشرط: أن يسلما والمرأة مباحة، يعني: ممن يحل نكاحها، فإذا تزوج أجنبية منه وبعد ذلك أسلم الزوج والزوجة أبقيناهما على عقدهما في حال الكفر، لكن لو كانت المرأة لا يقر نكاح جنسها فحينئذ يفسخ النكاح، كأن يكون قد تزوج أم زوجته أو ربيبته فإنه لا يحكم بصحته؛ لأن الشريعة لا تقر هذا، (والمرأة تباح إذا أقرا) أي: تباح بحكم الشرع فإنه حينئذ يقر. متى يفرق بين الكفار في النكاح الفاسد؟ قال رحمه الله: [وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرق بينهما] مثلما ذكرنا كأم زوجته وربيبته. أو أسلم كافر مثلا وعنده ست نسوة فلا يباح له الست إنما يباح منهن أربع، كما قال عليه الصلاة والسلام لـ غيلان رضي الله عنه وأرضاه: (انكح أربعا وفارق سائرهن) يعني: سائر من سوى الأربع، وهذا الحديث يدل على أنه لابد أن يستأنف الحكم إذا كان هناك ما يعارض الشرع، كما لو أسلم بنكاح فيه نظر للشرع من جهة المرأة التي تحل، أما من جهة الصداق وكيفية العقد فهذا لا يتدخل فيه الشرع، فلو أنه أسلم وعنده ست نسوة أو ثمان نسوة فنقول: انكح أربعا وفارق الباقي. قال: [وإن وطئ حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحا أقرا وإلا فسخ] الحربي: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين حرب، وطبعا إذا كان من الوثنيين الذين لا دين لهم فأسلم وعنده زوجة تزوجها مثلما يقع من الكفار، يعاشر المرأة ويتفقان فيما بينهما على أنهما زوجان بدون عقد ولا صفات معينة معتبرة، فإنهما إذا أسلما يقران على حالهما بشرط أن تكون المرأة من جنس ما أذن الشرع بنكاحها. قال: [وإلا فسخ] (وإلا فسخ) لو أنه عاشرها كعشيقة -والعياذ بالله- أو كما يسمونها صديقة قال تعالى: {ولا متخذات أخدان} [النساء:25] والخدن الصديق، فكانوا في الجاهلية المرأة يكون لها زوج ويكون لها صديق، فالصديق يستمتع بالقبلة أو نحو ذلك مما دون الفرج، والزوج يستمتع بالفرج، فحرم الله هذا، فلو أنه عاشرها كصديقة ثم أسلما فلم يسلما كزوجين وإنما أسلما كعشيقين، وهذا ليس من جنس ما يحكم فيه بالنكاح، فإذا لابد أن يعتقداه نكاحا، وهذا هو الذي جعل المصنف يقول: (وقد اعتقداه نكاحا) فلابد أن يكون في اعتقادهما أنه نكاح، فحينئذ نصححه ونبقيه نكاحا. حكم المهر المقبوض والمؤجل قال رحمه الله: [ومتى كان المهر صحيحا أخذته] إذا تزوجها في الجاهلية وأخذت مهرها ما عندنا إشكال، ولا نحتاج أن نبحث فيما مضى، لكن المشكلة إذا تزوجها وأخر مهرها، فالزواج سنبقيه صحيحا على ما هو عليه لكن يبقى النظر في المهر حيث إنه لم يقبض، فيستأنف فيه حكم الإسلام، بخلاف لو أنه تزوجها في الجاهلية وأعطاها مهرا لا يصح مثل الخمر والخنزير والأصنام ونحو ذلك من المحرمات وقبلته فإنه يصح، لكن لو أنه أخر المهر فكان المهر خمرا ثم بقيت هذه المرأة في عصمته ودخلا في الإسلام، فحينئذ يرد السؤال هل الحكم مبتدأ أو مستدام؟ الحكم مستأنف ومبتدأ، فننظر في هذا المهر فإن كان شرعيا ألزمناه به؛ لأن الشرع يلزم به، وإن كان غير شرعي فإنه لا يحكم به ويكون لها مهر المثل. قال: [وإن كان فاسدا وقبضته استقر] تأخذه كما ذكرنا؛ لأن المهر يملك بالقبض. قال: [وإن لم تقبضه ولم يسم فرض لها مهر المثل] حينئذ يكون لها مهر مثلها. حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن أسلم الزوجان معا أو زوج كتابية فعلى نكاحهما] عرفنا الأنكحة التي تبقى والأنكحة التي لا تبقى، والسؤال الآن: مسألة تجديد النكاح إذا أسلم الزوجان، وإذا أسلم أحدهما دون الآخر، فقال رحمه الله: (إذا أسلم الزوجان) إذا أسلما معا فنبقي النكاح على ما هو عليه، وهذا بالإجماع وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا أسلم أحدهما دون الآخر فإما أن يكون زوجا وإما أن يكون زوجة، فإن أسلم الزوج قبل الزوجة وكانت الزوجة وثنية فلا إشكال؛ لأن المسلم لا ينكح الوثنية ولا يستدام نكاحه لها إذا بقيت هي على الكفر. لكن إذا كانت كتابية فيجوز نكاح المسلم للكتابية، ففرق المصنف في إسلام الزوج بين أن تكون زوجته كتابية أو تكون غير كتابية وهذا مرده إلى النص الشرعي، ومن هنا تلاحظ أن المتون الفقهية تتركب من الأحكام المنصوص عليها، فهي تأتي بصورة الأمثلة لكنها تحكي الأحكام الشرعية، فهو يقول: (إذا أسلم الزوجان) لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما في حال كفرهما فمن باب أولى أن يقرا بعد إسلامهما ما عندنا إشكال، لكن لو أسلم أحدهما ففيه تفصيل: إن كان الزوج هو الذي أسلم فحينئذ ننظر في زوجته، فإن كانت من جنس ما تحل زوجة للمسلم -وحينئذ تكون كتابية؛ لأن غير الكتابية وهي الوثنية ما يحل نكاحها {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221] أما الكتابية فيجوز- فإنه يبقى على نكاحه ولا يفسخ النكاح، فهنا لو سئلت: متى يبقى نكاح الكافر على ما هو عليه؟ فتقول: إذا أسلما أو أسلم زوج كتابية، فإن أسلم زوج وثنية فإنه في هذه الحالة ينفسخ النكاح؛ لأنه لا نكاح بينهما على التفصيل الذي نذكره من الاستبقاء والإمهال للعدة. قال: [فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين] انتهى المصنف الآن من الرجل، وعرفنا أنهما إذا أسلما أقرا، وإن أسلم الرجل فصل فيه، فإن كانت زوجته وثنية فلا إشكال وإن كانت كتابية بقي الحكم وأقرا، فإن أسلمت هي فحينئذ يرد الإشكال؛ لأنه لا يحل للكافر أن ينكح المسلمة سواء كان كتابيا أو غير كتابي: {فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة:10] فالكافر ليس له على المسلمة سبيل، فإسلام المرأة غير إسلام الرجل. قال: [فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل] فإذا أسلمت المرأة فالنكاح منفسخ، لكن ينبغي أن ننتبه لقضية وهي: أن المرأة المدخول بها إذا فسخنا نكاحها فهناك مهلة وهي العدة، فاختلف حكم النساء إذا أسلمن بين أن يكون قبل الدخول أو يكون بعد الدخول؛ لأن الفسخ قبل الدخول لا عدة فيه، والفسخ بعد الدخول فيه عدة، وإذا كان الفسخ بعد الدخول فيه عدة فالعدة مهلة، يعني: نعطيه مهلة أن يسلم إلى أن تخرج من عدتها، فإن أسلم قبل خروجها من العدة عادت إليه، وإن أسلم بعد خروجها من العدة لم تعد إليه، هذا إذا كان بعد الدخول، أما لو كان قبل الدخول فإنه ينفسخ النكاح مباشرة لأن فسخه يتم بدون عدة. حكم المهر في حال الفسخ قال رحمه الله: [فإن سبقته فلا مهر وإن سبقها فلها نصفه] عرفنا إذا وقع إسلامها قبل الدخول وبعد الدخول، وأنه قبل الدخول يوجب الفسخ وبعد الدخول يوجب الفسخ، لكن تبقى له مهلة إلى نهاية مدة العدة أن يرجع إليها، فإن أسلم رجع إليها مثلما وقع لـ صفوان رضي الله عنه وأرضاه في قصته المشهورة، فـ صفوان بقي بعد فتح مكة على الكفر، وشهد حنينا وهو على الكفر ثم أسلم رضي الله عنه فرد النبي صلى الله عليه وسلم له زوجته، وهذا باستمهال العدة، وهو حديث مشهور كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: شهرته أغنت عن إسناده، وحسنه طائفة من العلماء. الشاهد: أن المرأة إذا كانت مدخولا بها أعطي زوجها الكافر مهلة إلى نهاية مدة العدة، لكن يبقى النظر في المهر، فإن كان الذي أسلم الزوج فله حكم، وإن كان الذي أسلم الزوجة فله حكم؛ لأنه إذا أسلم الزوج كان الطلاق والفسخ من ناحيته، وإن أسلمت المرأة كان الطلاق والفسخ من ناحيتها وهي التي تسببت فيه، فقال رحمه الله: (فإن سبقته فلا مهر) (فإن سبقته) في حال تطليقها قبل الدخول (فلا مهر) ليس لها مهر؛ لأن هذا حكم الشرع، أنه إذا فسخ النكاح قبل الدخول فلا مهر. (وإن سبقها فلها نصفه) وإن سبقها للإسلام ثم أسلمت فحينئذ لها نصف المهر إذا كان قد فرض لها فريضة؛ لأنه طلاق قبل الدخول، مثل الحكم في الإسلام. التفريق بين الزوجين بعد إسلام أحدهما قال: [فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول] إذا لم يسلم الآخر قبل انتهاء العدة حكمنا بفسخه منذ إسلام الأول، يعني: من حين الإسلام تبين لنا الفسخ. قال: [وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وقبله بطل] هذه الردة -والعياذ بالله- (إن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة) يفرق بينهما، ثم يعطى مهلة إلى انقضاء العدة، فإن تاب ورجع قبل انتهاء العدة فلا إشكال، وإن كان بعد انقضاء العدة فرق بينهما.
__________________
|
#535
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (423) صـــــ(1) إلى صــ(26) شرح زاد المستقنع - باب الصداق [1] من الأمور المشروعة في النكاح فرض الصداق، وهو حق للمرأة يدلها على صدق الرجل في نكاحها، ويسن عدم المغالاة فيه، فإن كان الصداق مما لا يصح وجب لها مهر مثلها، وهكذا إذا لم تأذن لغير أبيها، وقد يعجل الصداق أو يؤجل بحسب ما يتفقون عليه، لكنه يدخل في ضمان المرأة وملكها من حين العقد. أحكام الصداق قال رحمه الله تعالى: [باب الصداق] الصداق: قيل: هو المهر، وسمي بذلك؛ لأن الرجل يظهر به صدق الرغبة في المرأة، ويسمى: الصداق والمهر والفريضة والحباء والمتعة، وهذه كلها من أسماء الصداق، وهذا الباب من الأبواب المهمة المتعلقة بالنكاح؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرض على الأزواج أن يعطوا الزوجات حقوقهن في المهر، والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله يعتنون بهذا الباب، ويذكرون النصوص الشرعية وما اشتملت عليه من الأحكام في بابه: باب الصداق والمهر. يقول رحمه الله: (باب الصداق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بمهور النساء وصداقهن، والأصل في مشروعيته قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء:4] ، وثبتت السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وكذلك أصدق عليه الصلاة والسلام نساءه، وجعل عتق صفية صداقا لها ومهرا، وكذلك سأل عبد الرحمن بن عوف (ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب) كل هذا ثابت، السنة القولية كقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) والفعلية: أنه أعتق صفية، والتقريرية: في حديث عبد الرحمن بن عوف، فهذه ثلاثة أنواع من السنة: القولية، والفعلية، والتقريرية، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصداق وأنه مما يشرع في النكاح. مشروعية تخفيف الصداق فالمغالاة في المهور مجمع على كراهتها، وقال المصنف: [يسن تخفيفه] لأن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التخفيف؛ ولأن الحكمة تقتضي هذا، فإن الرجل إذا دفع مهرا كثيرا في المرأة، فإن هذا سيضر بالمرأة أثناء عشرتها، فهو يظن كأنه اشتراها، فإذا رأى منها أقل خطأ، عظم هذا الخطأ، ورأى أنه كبيرة لا تغتفر، وحينئذ تحدث المشاكل، وينتقم منها ويضر بها، وربما أجحف بها حتى تخالعه وترد له المال الذي دفعه، إضافة إلى أنه إذا غالى الناس في المهور، فإنه سيتحمل الزوج أعباء هذه المهور المبالغ فيها، فلربما وقع في وطأة الدين، فيدخل إلى بيت الزوجية مهموما مغموما، فتنعكس الآثار على نفسيته وعلى زوجته حتى لربما عاش عيشة منغصة مليئة بالمشاكل والأضرار بسبب المغالاة في المهور. فلا خير في المغالاة في المهور، والسنة التخفيف تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (خير النساء -وفي رواية: أبرك النساء- أيسرهن مئونة) فالتيسير في مئونة النكاح والتخفيف هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح والتابعين لهم بإحسان رحمة الله على الجميع. تسمية المهر في العقد ومقداره [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة] لأن هذا الحد -من أربعمائة درهم إلى خمسمائة- هو الحد الذي جاء في رواية السير في صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان حينما أصدقها النجاشي لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر مطلق، أي: الأمر في هذا واسع لا يقيد بقيد معين ولا يحدد بحد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والضابط فيه أن يكون فيه يسر لا عسر، واليسر والعسر يختلفان، فمثلا: قبل أربعين سنة ربما لو تزوج بريالين أو ثلاثة ريالات لكانت شيئا كثيرا، والآن لو تزوج بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لكان شيئا يسيرا، فهذا أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. والذهب والفضة هما من الأثمان التي جعلها الله سبحانه وتعالى قيما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصعب وضع حد معين، ولذلك ليس لليسر في المهر حد لا في الكثرة ولا في القلة وإنما يرجع فيه إلى العرف. ما يصح مهرا وما لا يصح قال رحمه الله: [وكل ما صح ثمنا أو أجرة صح مهرا وإن قل] قوله: (وكل ما صح ثمنا) أي: في البيع مثل الذهب والفضة، فلو قال لها: أصدقتك ألف ريال من فضة أو قال: أصدقتك مائة جنيه من ذهب، أو أي شيء يمكن أن يكون ثمنا وقيمة للأشياء، حتى ولو كان من المثمونات مثل أن يقول: صداقي لك هذه السيارة، صداقي لك مزرعتي هذه، ولو حتى ثوبه إذا كان عنده غيره مما يستره، فيقول: هذا الثوب صداق لك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذاك الرجل: (ليس معي إلا إزاري) لم يعتب عليه الإزار، وإنما عتب عليه أنه لا يجد غيره وأنه عرضة للانكشاف. فالمقصود: أنه يجوز أن يكون الصداق كل ما يجوز ثمنا، ومعنى هذا أن ما لا يجوز أن يكون ثمنا وعوضا في البيع لا يجوز أن يكون عوضا في النكاح ولا مهرا، فلا يجوز أن يجعل مهرها كلبا ولا خنزيرا ولا خمرا ولا شيئا مما يحرم بيعه. قوله رحمه الله: (أو أجرة) كما في قصة موسى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} [القصص:27] فجعل الإجارة لقاء النكاح مهرا وعوضا، قالوا: وفي هذه الحالة تكون أجرة الإجارة قائمة مقام المهر نفسه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. [وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم] هذا على القول بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا -كما ذكرنا- أنه مذهب الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم، وسنفصل هذه المسألة إن شاء الله في كتاب الإجارة من شرح الزاد. أما من حيث تعليم القرآن فعلى القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقا، والدليل على ذلك حديث الواهبة نفسها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا، قال: أنكحتك هذه بما معك من القرآن) قالوا: فدل هذا على جواز جعل تعليم القرآن صداقا كما يقول المالكية والشافعية رحمة الله عليهم والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، من أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقا للمرأة، وإذا جعل تعليم القرآن صداقا، فلابد أن يحدد السور التي تكون مهرا، ويحدد كذلك الطريقة التي يمكن أن ينضبط بها التعليم؛ لأن الإجارة على الشيء تستلزم أن تكون إجارة شرعية ولا تكون بمجهول، فلابد أن يحدد ويبين الشيء الذي يعلم وقدره ومدة التعليم حتى تخرج الإجارة عن الإجارة بالمجهول المحرمة، وقال الحنابلة معتذرين عن هذا الحديث: بأن قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم، فرأوا أن حديث الواهبة خاص ولا يصلح دليلا للعموم. [بل فقه] فإذا علمها الفقه حدد الأبواب، فإذا علمها مثلا جزءا من كتاب الطهارة حدده، فإذا قال: أعلمها شيئا من كتاب الطهارة، لم يصح حتى يبين قدره، فيقول مثلا: أعلمها باب الوضوء، أعلمها باب الحيض، أعلمها باب الغسل، أعلمها باب الوضوء ومسح الخفين، أعلمها باب التيمم، فيحدد الأبواب التي سيعلمها، فلابد أن تكون الإجارة على شيء معلوم لا على شيء مجهول. [وأدب] كان الناس يتعلمون الأدب، وفي الأدب عدة فوائد: أولا: الأدب الإسلامي أدب رفيع ويشتمل على مغاز ومقاصد عظيمة، فهو يشتمل على جملة من الشعر والنثر الذي تكون فيه مكارم الأخلاق ويتحدث عن محاسن العادات وكرائم الخلال وحميد الخصال، كل ذلك يعتبر من الأدب، فكانوا يحفظونهم الأشعار التي فيها الشجاعة وفيها الكرم وفيها الحمية والغيرة وفيها النخوة وفيها المعاني السامية، هذا هو الأدب، وما سمي أدبا إلا لاشتماله على تأديب النفوس، وليس كل شيء يقال له: أدب، وإنما الأدب ما حمل النفوس على مكارم الأخلاق، أما المجون الساقط والدعوة إلى العنف والفساد، فهذا شر ورذيلة وليس هو بالأدب. فالغاية من الأدب أن يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وله باب مستقل عند المتقدمين والعلماء الأوائل، وفيه كتب مشهورة تعتني بذكر القصص، وهناك كتب في الأدب مثل: عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، فهذا الكتاب النفيس فيه جملة من الأدب، يتحدث مثلا: عن الأدب مع الخاصة، إذا جالست العظماء والكبراء فكيف تجالسهم؟ وكيف تحادثهم؟ وكيف تخاطبهم؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف تأمن شرهم وتطلب خيرهم؟ وكيف تعاملهم في حالة غضبهم وفي حالة رضاهم؟ كذلك أيضا أدب الإخوان، فهناك كتاب خاص يسمى: كتاب الإخوان، في الأدب، كيف تعاشر الناس؟ من هو الصديق الذي تختاره؟ وما هي صفاته التي ينبغي أن تتوفر فيه؟ وكيف تعامله إذا أساء؟ وكيف تعامله إذا أحسن؟. كل هذا يأتيك عن طريق القصص، فيكون إيحاء غير مباشر، فهو: يأتيك بقصص، وعندما تقرأ القصة تلو القصة تتأثر، مثلما أن القرآن ذكر الحكم والفضائل في القصص: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود:120] ، فالقصص تثبت في النفوس المعاني، فإن كانت ساقطة أسقطت النفوس وإن كانت كاملة رفيعة حملت النفوس على مكارم الأخلاق، وسمت بها من حضيض الرذيلة إلى علا الفضيلة، وجعلت الإنسان يحدث نفسه أن يكون مثل فلان أو يكون له مثل ما لفلان، فالنفوس الطيبة حين تقرأ الشيء وتحبه تتأثر به، وتحب أن يكون لها مثل ما له، فهذا هو الأدب. فالأدب جملة من المنثورات والأشعار تدور حول مغاز، وفيها ما هو كتاب يتعلق بالعشرة حتى العشرة الخاصة عشرة النساء، فتقرأ في الأدب صفات المرأة محاسنها ومساوئها، وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة السيئة؟ وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة الطيبة؟ تجد فيها كل شيء مما يتصل بك مع الناس، وأيضا فيها كتاب خاص لمعاملة الناس في حال الغضب وفي حال الإساءة، حال الإساءة باللسان، وحال الإساءة بالسنان، فهذا هو الأدب. الأدب الإسلامي كان يشتمل على جملة من الكتب والأبواب، فهناك مثلا كتاب السؤدد، فيقول الرجل عند عقد النكاح: أعلمها -مثلا- كتاب السؤدد، وهذا الكتاب يدور حول المعاني التي تسموا بالإنسان إلى السؤدد والشرف، ويمكن أن يعلمها كتابا معينا من كتب الأدب، حتى لو يرويها الشعر كأن يرويها المعلقات، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتعليم الشعر الجاهلي حتى يعلم الكتاب، وكان يمدح قصيدة زهير بن أبي سلمى ولما سئل عن أشعر العرب وأحكم العرب قال: الذي يقول: ومن ومن، يعني: معلقة زهير بن أبي سلمى؛ لأنها اشتملت على الحكم. ومن محاسن العلماء الأولين من الأدباء أنهم لما أرادوا نفع المتأخرين صنفوا هذه الكتب، فاختاروا أحسن ما يقال، ولذلك ليس الأدب كما ذكرنا لكل ما هب ودب، ولما سئل بعض الحكماء العقلاء العلماء: من هو الأديب؟ قال رحمه الله كلمة بديعة جميلة قال: (الأديب هو الذي يقرأ أحسن ما يوجد) ، فلا يقرأ كل شيء بل يقرأ أحسن ما يوجد (ويكتب أحسن ما يقرأ) ، فلا يكتب كل ما هب ودب وإنما يختار، ويسمونها المختارات، ولذلك تجد مختارات فلان يعني: اختار عيون الشعر وعيون الحكم، فيقرأ أحسن ما يجد ويكتب أحسن ما يقرأ (ويحفظ أحسن ما يكتب) ، فالذي يحفظه ويدخله إلى ذاكرته هو أفضل وأحسن ما يكتب من الحكم والمنثورات أو الأشعار التي ينبغي أن يعتنى بمثلها، ثم قال رحمه الله: (ويحدث بأحسن ما يحفظ) ، أي أنه عندما يحدث الناس يحدثهم بأحسن محفوظاته؛ فهذا هو الأديب الرفيع المستوى الذي هو في أعلى مكان، وهذا هو الأدب الحقيقي، أما الأدب الأجوف الذي هو دعوى بدون حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون الأدب أدبا إلا إذا كان رفيع المستوى، بأن يقرأ أحسن ما يوجد؛ لأن فكره ووقته وانشغال هذه الطاقة الفكرية لا يكون إلا لشيء يستحق أن ينشغل به، ثانيا: أن يكتب من هذا الذي قرأه أحسنه، كأنه في جنة وبستان فينتقي أطايبها، فإذا انتقى أطايب ما يقرأ كتبه، وإذا كتبه نظر فيه فأحسن الاختيار لحفظه، فحفظ أحسن ما كتب، ثم إذا جالس الناس وحدثهم انتقى لهم أحسن ما يحفظ، فهناك كلام يقال في الخاصة، وهناك كلام يقال في العامة. فعلم الأدب علم مستقل، وإذا قيل: يعلمها الأدب، فليس المراد المحرم، فينتبه لهذا، وهذا الذي دعانا أن نتطرق لهذه القضية؛ لأنها حاصلة معنا، فلو أنه قصد من تعليمها الأدب: المجون والحرام؛ فهذا عقد على حرام مثل: أشعار الغزل التي فيها حرمة، أما أشعار الغزل التي لا تقصد للإغراء بالفاحشة، وإنما تقصد لمعان أخر مما جرت به عادة أهل الجاهلية، فهذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كعب: بانت سعاد، الأبيات المشهورة، فالمقصود من هذا: علوم الأدب التي لا تضر بالدين ولا تسيء إلى الدين، ولا تحمل على مساوئ الأخلاق. وكتب الأدب كثيرة، وفيها كتب نفيسة؛ مثل عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، وهناك أيضا كتاب الحصري أدب الكاتب، وكتب الأدب منها ما هو متقدم ومنها ما يكون متأخرا، فمما يعتني بالنقل عن المتقدمين مثل: كتاب عيون الأخبار، وهناك كتاب مثل: العقد الفريد، لكن فيه تشيع، وفيه نقول جيدة، وفيه كلام نفيس لكن صاحبه فيه تشيع. وأما الأدب بالنسبة لعصور بني العباس فما بعدهم فهو الذي يسمونه: الأدب الرفيع، الذي يحكي قصص الخاصة وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في معاملة الناس الخاصين، فهذا من أنفس ما كتب فيه: مشوار المحاضرة للتنوخي، وأما كتب الأدب الموسعة فنهاية الأرب وصبح الأعشى للقلقشندي ونحوها من الكتب المطولة، فهذه يمكن لطلاب العلم أن يستفيدوا منها ويأخذوا منها ما صفا ويدعوا ما كدر، وإلا فهي كثيرة سواء للمتقدمين أو للمتأخرين، لكن يمكن أن يستفيد طالب العلم منها مثل: أن يقرأ المعلقات وما كتب من أشعار في دواوين خاصة، مثل: ديوان الحماسة لـ أبي تمام، ومختارات الحماسة، والفروسية، والشجاعة التي تعتني بذكر الأشعار في الشجاعة والكرم والتضحية والجود والسخاء ونحوها من المعاني الطيبة، وهناك كتب نفيسة كثيرة في الأدب، وأيا ما كان فهو علم يقصد منه تهذيب النفوس وتعويدها على استحقاق المرأة لمهر مثلها إذا بطل ما سماه لها مهرا [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها] قوله: (وإن أصدقها طلاق ضرتها) هذا لا يجوز؛ لأنه محرم، فإذا قال لها: أتزوجك على أن أطلق فلانة، فقالت: إذا طلقت فلانة فهو مهري، فهذا لا شك أنه ضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) . قوله: (لم يصح ولها مهر مثلها) أي: لم يصح المسمى لأن يكون مهرا، ويبقي زوجته ثم يعطيها مهر مثلها إن دخل بها. [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل] قوله: (ومتى بطل المسمى) يعني: كان باطلا لا يقره الشرع والنكاح صحيح (وجب مهر المثل) لأن مهر المثل لا وكس ولا شطط، ولذلك قضى به ابن مسعود رضي الله عنه في قصته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المفوضة التي توفي عنها زوجها قال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة -يعني عليها الحداد- فقال رجل: والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا، فقال: الحمد لله) ، فحمد الله أن وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكم التردد في قيمة الصداق قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن أصدقها ألفا إن كان أبوها حيا وألفين إن كان ميتا وجب مهر المثل] إذا قال: إن كان أبوها حيا فلها ألف وإن كان ميتا فلها ألفان أو العكس فهذا صداق مجهول؛ لأنه يغرر بها، فقد تطمع به؛ لأنها تظن أن لها الألفين على أن أباها ميت فيتبين أنه حي، ففي هذه الحالة لا يصح؛ لأنه غرر، وقد ذكرنا هذا في البيوع: التغرير بالقيمة المترددة، وذكرنا أنه من الغرر المنهي عنه شرعا. [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى] إن كان لي زوجة فألفان؛ لأن الضرر أعظم، وإن كان لا زوجة لي فألف؛ لأن الضرر أخف، فخففوا في هذا فقالوا: إن هذا ليس بالمتردد وإنما هو لخوف الضرر، فالضرر مصحوب بالحقيقة؛ فإن كان له زوجة دفعت ضررها بالألف الثانية، وإن كان ليس له زوجة ففي هذه الحالة تبقى على الأصل الذي هو الألف، وليس في هذا تردد يوجب الغرر والإضرار، بخلاف ما إذا قال لها: إذا كان حيا أو ميتا، فهذا ليس بمرتبط بمصلحة أو درء مفسدة، ففرق بين المسألتين من هذا الوجه. تأجيل الصداق [وإذا أجل الصداق كله أو بعضه صح] يؤجلانه ولا يدخل بها حتى يعجل لها بعضا من الصداق. [فإن عين أجلا وإلا فمحله الفرقة] إن عين أجلا، قال لها: أصدقك عشرة آلاف إلى نهاية هذه السنة، أعطيك إياها نهاية السنة، فهذا مؤجل، فإذا قال لها: صداقك عشرة آلاف فأجله إلى الفرقة، ويلزم بدفعه عند الفرقة، ويبقى ذلك موسعا فيه إلى أن يفارقها. [وإن أصدقها مالا مغصوبا أو خنزيرا ونحوه وجب مهر المثل] (وإن أصدقها مالا مغصوبا) لأنه لا يملكه (أو خنزيرا) لأنه محرم أو خمرا فإنه محرم (وجب مهر المثل) يبطل المسمى ولها مهر المثل؛ لأن الخنزير والخمر كلها ليست من جنس ما يباح أن يكون صداقا. حكم العيب في الصداق [وإن وجدت المباح معيبا خيرت بين أرشه وقيمته] هذه مسألة جديدة، فبعد أن ذكر أحكام الصداق السابقة، شرع في مسألة العيب في الصداق، وتقدم العيب الكلي: المغصوب، والخمر، والخنزير، أن المسمى يلغى ويكون لها مهر المثل، لكن لو كان العيب في البعض، كأن يكون قسم منه معيب وقسم منه صالح، مثلا قال لها: مزرعتي لك، ثم بان أن المزرعة فيها عيب ينقص قيمتها وهي كانت تظنها أنها كاملة، أو قال: سيارتي هذه صداق لك، قالت: قبلت، وتم النكاح ثم تبين أن في السيارة عيبا، فنقول لها: أنت بالخيار بين أمرين: أن يبقى ويدفع لها أرش العيب. قوله: (خيرت بين الأرش ومهر المثل) يعني: إن شاءت أخذت الأرش وإن شاءت أخذت مهر المثل. حكم الحباء للأب [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية] وإن تزوجها على أن لها ألفا وألفا لأبيها صحت، وحينئذ تكون الألف للأب؛ لأن البنت بضعة منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فهذا يسمى حباء إذا كان هناك حباء للأب. [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما] (رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما) إذا طلقها يصير له نصف المهر، فهل يأخذ الألف الذي هو نصف الألفين وتكون خمسمائة للمرأة وخمسمائة لأبيها، فيأخذ نصف المهر ونصف الحباء أم أن الذي يتنصف المهر وحده؟ الجواب الذي يتنصف المهر وحده، ولذلك لا يملك إلا المهر، والحباء كان محض هبة وتبرع للأب، والأب يملك عن ابنته، فمن حقه أن يأخذ حباء في زواج ابنته وجرى على ذلك عمل السلف رحمهم الله، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على وجه الإضرار، لكن لو حصل خلع فإنه لا يطالب برد الحباء. ومن أكبر الخطأ أن النساء إذا خالعن بلغ ببعضهم أن يلزمهن برد قيمة الزواج، وهذا ليس في دين الله عز وجل وليس من دين الله في شيء كما سيأتي إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما قال لها: ردي عليه كلفة الزواج، ولا قال لها: قولي لأبيك يرد الحباء، ولا سأله هل حبوت أباها شيئا؟ فهذا كله نص صريح واضح جدا على أن المرأة إذا خالعت ترد نفس المهر، وفي الطلاق قبل الدخول لا ترد إلا نصف المهر. وحينئذ يشطر المهر فقط، أما أن يأتي الرجل وينكح المرأة ويدفع في وليمة النكاح قرابة خمسين ألفا، ثم يقال: هذا ضرر، وما دام أنها ما تريده فإنها ترد عليه الخمسين ألفا فهذا خطأ كبير؛ لأنه من المعروف والمعهود والمشاهد أنه يفعل الوليمة بخمسين ألفا فيأتيه من الناس في بعض الأحيان مائة ألف بسبب هذه الوليمة، فيأخذ من الناس مائته ويأخذ من الزوجة الخمسين ويرهق كاهلها، وتمنع مما أباح الله لها من الخلع، فهذا كله مما يخالف شرع الله عز وجل، ولا نحفظ هذا لا في نص الكتاب ولا في نص السنة، إنما ترد له نفس المال في هذه المسألة ولا تطالب برد الحباء الذي يكون للأب، ومن باب أولى كلفة الزواج. [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها] لأنه ليس هناك وجه للغير أن يأخذ، فالأولياء الباقون ليس من حقهم هذا فكله لها، وفي الرد يكون حكمه حكم المهر. حكم تزويج البنت بأقل من مهر المثل [ومن زوج ابنته ولو ثيبا بدون مهر مثلها صح] لأن الأب قد يفعل هذا لمصالح، فقد يخشى على ابنته، وقد يخشى أنها لا يأتيها أحد، وقد يريد أن يستعجل في زواجها لمقاصد، وقد يعوضها بالزوج الكريم، فالأب فيه من الشفقة ما يمنع أن يؤذي ابنته، فلا يفعل مثل هذا الإضرار إلا وله مقصد ومصلحة أعظم، ولذلك يقبل من الأب ما لا يقبل من غيره، فقد زوج أبو بكر رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها قبل بلوغها، وهذا يدل على قوة سلطة الأب أكثر من غيره من الأولياء. [وإن زوجها به ولي غيره بإذنها صح وإن لم تأذن فمهر المثل] إذا زوج غير الأب المرأة بأقل من مهر المثل رجع الأمر إلى المرأة، إن رضيت وأذنت أو أقرت فلا إشكال، أما إن قالت: لا، فإن هذا الولي يصير قد تعدى وقصر في ولايته فلا يصح ذلك؛ لأن هذا يعتبر من الظلم أن يكون مهر مثلها عشرين ألفا، وفيأتي ويمهرها خمسة آلاف ريال، وهذا مما وقع فيه بعض الصالحين بحسن نية، فيكون أبوه متوفى فيأتي إلى صديق له فيزوجه أخته ويقول: ادفع ألفا أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلا يجوز ذلك إلا برضا الأخت، فإذا رضيت الأخت وتنازلت عن حقوقها صح، ولا شك أنها مأجورة وهو مأجور، ويفعل هذا من فيه صلاح من باب الخير، لكن ينبغي رد الحقوق إلى أهلها. فالمهر حق من حقوق المرأة لا يجوز لأحد أن يتدخل في هذا المهر، إلا الأب فله سلطة وولاية، أما غيره فلا، والمرأة هي التي لها الحق في المهر، تقدره بما تراه بشرط أن لا يكون ذلك على طريقة فيها نوع من الأذية للأولياء، كأن تماطل في زواجها وتتخذ من المهر ذريعة للمماطلة، فإذا زوجها وليها بمهر مثلها فحينئذ زواجها صحيح ومعتبر. تزويج الأب لابنه بأكثر من مهر المثل [وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج] الأب عنده من العاطفة والشفقة ما لا يتهم معه، فإذا زوج ابنه بمهر المثل أو أكثر صح ذلك، كأن تكون الزوجة مثلها تأخذ ثلاثين ألفا فزوجه بأربعين، فلما بلغ الابن قال: لا أرضى بذلك، فنقول: صح العقد وتضمن المهر؛ لأن ولاية الأب تلزمه في هذه الحالة، ويكون الحكم على حسب العقد الذي أبرمه، فلا يأتي بعد بلوغه ويقول: لا؛ لأن فائدة ولاية الأب عليه في حالة صباه أنه يبت بما فيه مصلحته، فلما اجتهد في مصلحته وبت ذلك ألزم الابن بعد بلوغه بالدفع. [وإن كان معسرا لم يضمنه الأب] مثلا إذا زوجه بأربعين ألفا فالابن يضمن، فإذا كان الابن معسرا هل نرجع على الأب ونقول: أنت السبب فتدفع؟ الجواب لا، {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280] ولا يرجع إلى الأب، وإنما يبقى في ذمة الابن الصغير حتى يفتح الله عليه وهو خير الفاتحين. تملك المرأة للصداق وأحكامه شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصداق المرأة، وكما تقدم معنا أن العلماء رحمهم الله يعتنون عادة ببيان الأصول، ثم يذكرون المسائل المتفرعة في الفصول، وهذا الفصل ينبني على ما تقدم. فنحن ذكرنا أن الشرع جعل للمرأة حق الصداق، وإذا أثبتنا أن الصداق حق من حقوق المرأة فإنه يرد السؤال متى يدخل في ملكية المرأة؟ ومتى يحكم بأن الصداق انتقل من يد الزوج إلى يد الزوجة؟ وهذه مسألة مهمة، فهناك صداق يعجل، وهناك صداق يؤجل، وهناك صداق يعجل بعضه ويؤجل بعضه. فلا بد من بيان هذه المسائل والأحكام، وكثير من هذه المسائل تتفرع على مسائل البيوع، خاصة في مسألة الضمان وانتقال الملكية، ولربما تصرفت المرأة في الصداق قبل قبضه، كأن تبيعه أو تتصدق به أو تهبه قبل أن تأخذه من الزوج، فيرد السؤال عن هذه المسائل وعن أحكامها، فلا بد من بيانها وتفصيلها. أحوال الصداق من جهة قبض المرأة له الصداق له حالتان: الحالة الأولى: أن يعطيه الزوج للزوجة، فإذا أخذته الزوجة وقبضته فحينئذ نحكم بكونه انتقل إلى يد الزوجة وملكيتها. مثال ذلك: لو قال لولي المرأة: أدفع لك هذه المزرعة صداقا لابنتك، قال: قبلت، فأعطاه المزرعة ومكنه منها، فقبضها، فللمرأة غنم المزرعة وعليها غرمها. فلو أخذت هذه المزرعة وقبضتها وتم الاستلام، فأصبحت غالية، أو أتت آفة سماوية فأحرقتها وأتلفتها، فالربح لها والخسارة عليها. فإذا أعطيت المرأة مهرها وقبضته فلا إشكال. لكن الإشكال إذا سمي الصداق ولم يقبض، كأن يقول الولي: زوجتك ابنتي بسيارتك هذه، أو زوجتك ابنتي بعمارتك الفلانية، أو بأرضك الفلانية، أو قال: زوجني ابنتك بهذه المائة ألف، ولم يعطه إياها، لكن قال: بهذه المائة ألف، فإذا سمى صداقا للمرأة ولم تقبضه فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الصداق معينا. والحالة الثانية: أن يكون مستقرا في الذمة وموصوفا في الذمة. ونحن سبق وأن ذكرنا في كتاب البيوع تفصيلات العلماء في ضابط العين والذمة، وبينا بيع العين وبيع الذمة. فإذا قال لوليها: صداقها هذه المزرعة، أو صداقها هذا البيت، أو صداقها هذه العمارة، أو صداقها هذه السيارة، فقد تعين الصداق، وأصبح صداقها هذا الشيء المعين. فحينئذ عندنا التعيين وعندنا القبض، ففي العقد ثبت أن هذه العمارة أو أن هذه السيارة أو أن هذه العين لفلانة، فقال وليها: رضيت وقبلت، فقد تعين الصداق، ويرد السؤال حينئذ: هل المعين يكون في ملك الزوجة، أو يكون في ملك الزوج، أو يتوقف الأمر على القبض؟ هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ لكن التعيين يؤثر في الملكية في الصداق، فإذا قال: صداقها هذه السيارة، فحينئذ تكون السيارة في ملكية المرأة.
__________________
|
#536
|
||||
|
||||
![]() وقت دخول الصداق في ملكية المرأة فقال رحمه الله: [وتملك المرأة صداقها بالعقد ولها نماء المعين قبل القبض وضده بضده] . (ولها نماء المعين): ومعنى هذا: أنها تملك بالعقد. إذا: عندنا جملتان: الجملة الأولى: قضية (تملك المرأة صداقها بالعقد) . الدليل على ذلك: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، فإنه حينما توفي عنها زوجها قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بمهر المثل وهو لم يدخل بها بعد، فدل على أنه بمجرد العقد تصبح المرأة مالكة للمهر، والأصل الشرعي يقتضي صحة هذا. وكما ورد الدليل الخاص في بيان انتقال الملكية إلى المرأة في حديث بروع، وصححه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم، كذلك فإنه قد شهدت الأصول بصحة ذلك؛ لأن الشريعة أمرت بالوفاء بالعقود، فقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] . والعقد إيجاب وقبول، فإذا بذل الولي المرأة وبذل الزوج الصداق وتم الاتفاق بينهما فقد التزم كل منهما للآخر بما التزم به، فتصبح المرأة مالكة لصداقها بالعقد، ويصبح الرجل مالكا للانتفاع بالمرأة تدخل في عصمته بمجرد العقد، وسبق أن بينا أن عقد النكاح فيه مكارمة وفيه معاوضة. المكارمة: بيناها. والمعاوضة: ذكرناها في أكثر من مرة، خاصة حينما شرحنا عقود البيوع؛ فالمعاوضة في النكاح أن الرجل يستمتع بالمرأة، فيملك منافع البضع، والمرأة تملك المهر. والله جعل المهر عوضا عن الاستمتاع فقال: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] فإذا أثبتنا أن عقد النكاح يقوم على هذه المعاوضة، ووقع الإيجاب والقبول بين الزوج وبين ولي المرأة على هذه المعاوضة، وكان مستوفيا للشروط، فيجب على الرجل أن يفي بالتزامه ويجب على الولي أن يفي بالتزامه، والتزام الرجل أن يعطيها هذا الصداق. فإذا: تملك المرأة صداقها بالعقد، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله، ويتفرع على هذا المسائل التي سيذكرها المصنف. فالمرأة تملك الصداق؛ بمعنى أن لها حق المطالبة بالصداق من حيث الأصل ما لم يكن مؤجلا، على اختلاف صور الصداق واتفاق المتعاقدين على الصداق، فمنه معجل، ومؤجل قبل الدخول، ومؤجل بعد الدخول. الشاهد أنها من حيث الأصل تملك، بمعنى: أن الصداق ثابت لها، فإن رضيت بتأخيره لم تملك مطالبته مقدما، وإن لم ترض بتأخيره وبتت فلا يدخل بها حتى يعطيها مهرها. وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة صداقها بعد موت زوجها، وألزم بإعطائها صداقها من زوجها المتوفى ولم يدخل بها، فلو كان الصداق موقوفا على قضية الاستمتاع لسقط في حال موت زوج بروع بنت واشق رضي الله عنها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على ورثة زوج بروع أن يدفعوا لـ بروع حقها من الصداق، فدل على أنه مبني على العقد، وليس بمتوقف على الدخول إذا تم الإيجاب والقبول عليه. والباء في قول المصنف (وتملك المرأة صداقها بالعقد) : سببية، أي: تملك المرأة صداقها بسبب العقد، فإذا تم العقد فإن هذا العقد يثبت لها ملكية الصداق. حكم نماء المهر المعين غير المقبوض قال رحمه الله: (ولها نماء المعين قبل القبض) نحن ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على الصداق فأعطى الزوج صداق المرأة لوليها وقبضته، فلا إشكال، لكن الإشكال إذا لم يعطها الصداق، فحينئذ عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الصداق معينا، والمعين أن يقول: هذه السيارة، أو هذه العمارة، أو هذه الشقة، هذا معين، حتى لو قال: هذه العشرة آلاف، فإنها معينة، فإذا عين سيارة أو عين أرضا أو عين عمارة أو عين دارا، واتفقا على ذلك، فإن هذا المعين ملك للمرأة. فإذا ثبت أن المرأة تملك الصداق بالعقد، فحينئذ يكون الغرم على المرأة والغنم للمرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الضامن يملك الربح وكذلك يضمن الخسارة، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فدل على أن من يضمن الخسارة يأخذ الربح. فالمرأة إذا أثبتنا لها النماء والربح، فعليها الخسارة، فإذا قلت: إن المعين يصير إلى ملكية المرأة بالعقد، تقول: لها غنمه وعليها غرمه، بحيث إنه لو أصدقها عمارة، فسقطت وانهدمت، فإن خسارتها على المرأة، ولو أن العمارة زادت وربحت، فزيادتها للمرأة، لأنها دخلت في ملكيتها بسبب التعيين؛ لأن العقد إذا وقع على معين لا ينصرف إلى غيره ما دام هذا المعين موجودا. والشرع ألزم المتعاقدين إذا تعاقدا على شيء أن يفي كل منهما بالتزامه، فلما التزم لها أن يعطيها هذه العمارة وجب عليه أن يعطيها هذه العمارة وثبتت لها، فإذا غلت كان نماء، وإذا رخصت كان غرما، ففي كلتا الحالتين تأخذ الغنيمة وتتحمل الغرم. حكم تلف المهر المعين قال رحمه الله: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه] وإن تلفت العين المعينة فإن الضمان على المرأة؛ مثلا: لو قال لها: هذه المائة شاة صداق لك، أو هذه المائة ناقة صداق لك، فقال وليها: قبلت، فحينئذ هذه المائة صداق معين، فإن نمت وتكاثرت فالفرع تابع لأصله، وإن تلفت من غير تعد فإنها تتحمل التلف، كما لو مات بعضها أو جاءت آفة سماوية، فأهلكت نصف المائة، فإنها تأخذ الخمسين ولا تستحق الرجوع. فالمهر المعين يكون في ضمان الزوجة ولا يكون في ضمان الزوج، وعلى هذا فإنها تأخذ الربح وعليها الخسارة، فتتحمل كلا الأمرين؛ لأن الشريعة شريعة عدل، فلا يعقل أن الإنسان يأخذ الربح ولا يضمن الخسارة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها في السنن: (الخراج بالضمان) ، وهذا الحديث -كما ذكر الأئمة- أجمع العلماء على معناه، وقد حكى الإمام أحمد رحمة الله عليه أنهم مجمعون ومتفقون على أن الخراج لمن يضمن الخسارة. قوله: (إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه) . (قبضه) يعني: قبض الصداق المعين. (فيضمنه) أي: عليه ضمانه. إذا أثبتنا أن هذه المائة شاة أو مائة ناقة تصبح ملكا للزوجة وتصبح في ضمان الزوجة، بحيث إنها لو نمت يكون النماء لها، ولو تلفت يكون التلف عليها، فلو أنها سألت الزوج أن يعطيها هذه الغنم فامتنع، فإنه حينئذ يكون قد غصبها حقها، ما لم يكن بينهم اتفاق بالتأجيل، لكن إذا استحقت المطالبة وطالبت بمعين، فمنعها وظلمها، فإنه يكون كالغاصب للمال، والغاصب يضمن، والمغصوب يكون نماؤه للمالك وخسارته على الغاصب، وفي هذه الحالة لطالب العلم أن لا ينظر لمسألة المهر، بل ينظر إلى القاعدة في الضمانات، وهكذا أي مسألة تأتي ولها أصل ينبغي أن ينتبه لأصل المسألة، فالمسألة عندنا في مهر المرأة: إن كان الزوج مكنها من الأخذ وقالت: اتركه عندك، كأن يكون مثلا: مائة رأس من الغنم، فلا تستطيع أن تأخذها وتقوم عليها، فقالت الزوجة: دعها عندك حتى أطالبك بها، فرضي بذلك، فإذا بقيت عند الزوج فإنها تبقى على ضمان الزوجة، إن حصل خير فلها وإن حصل شر فعليها، وهي التي تضمن في الوجهين، فتأخذ الربح وعليها الخسارة. لكن لو منعها الزوج فطالبته الزوجة وقالت له: أعطني مهري، فقال لها: لا أعطيك الآن، وماطلها وتأخر في إعطائها، مع أن المهر مهرها والواجب شرعا أن يعطيها، فإذا قال: لا أعطيك، انتقلت يده إلى يد الضمان، وتصبح المسألة مفرعة على قاعدة الضمان، حيث خرجت المسألة إلى مسألة الغصب، فإذا قال: لا أعطيك، فإنه غاصب، والغاصب القاعدة فيه: أنه يضمن الخسارة وتلف المغصوب، ويكون الربح والنماء للمالك الحقيقي، وحينئذ لو سئلت عن المستثنى من قاعدة: الغنم بالغرم أو (الخراج بالضمان) كما ورد في الحديث تقول: مما يستثنى من ذلك: مسألة الغاصب، فإنه يضمن المغصوب ويكون الربح للمالك الحقيقي. حكم تصرف المرأة في المهر المعين قال رحمه الله: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته] . (ولها) أي: من حقها أن تتصرف في مهرها المعين قبل قبضه، كأن تتصدق به، قالت: هذه المائة رأس أجعلها صدقة، أو هذه المائة ناقة أنحرها للفقراء والمساكين، فهذا تصرف بالصدقة، أو قالت: هذه المائة ناقة وهبتها لأخي فلان، أو وهبتها لابن عمي فلان، أو أعطيها فلانا، فأعطته هبة أو صدقة، أو باعت المائة شاة إلى زيد من الناس، فإننا نصحح البيع. وفي هذه الحالة قال رحمه الله: (ولها التصرف فيه) يعني: من حقها أن تتصرف في هذا المعين قبل قبضه. (وعليها زكاته) وهذا من الغرم، فالمال مالها، والزكاة -كما تقدم معنا في كتاب الزكاة- متعلقة بالمالك الحقيقي، فهي مالكة لمالها، فعليها زكاته. حكم النماء المنفصل في الصداق إذا طلق قبل الدخول قال رحمه الله: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكما دون نمائه المنفصل] . هذا محل إجماع: أن الصداق يتشطر إذا طلق الزوج زوجته قبل الدخول لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] فأثبت الله سبحانه وتعالى للزوج نصف المهر وللزوجة نصف المهر، وهذا ما يسميه العلماء بالتشطير. أما إذا دخل بها فإن المهر يكون لها كاملا؛ لقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) . فإذا المهر له حالتان: - أن يتشطر ويكون للمرأة نصف المهر، إن وقع الطلاق قبل الدخول. - أن يكون لها المهر كاملا، إن وقع الطلاق بعد الدخول. فإذا ثبت أن المرأة لها نصف المهر إن وقع الطلاق قبل الدخول، فحينئذ هذا المهر المعين لو كان له نماء فإن نصف المهر بنمائه يكون ملكا لها مادام أنه قد فرضه وسماه، وذلك لقوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237] فنص سبحانه وتعالى على نصف المفروض، والمفروض تملك المرأة أصله ونماءه المتصل. والنماء المتصل مثل السمن، والزيادة بالصفات، والزيادة بالأجزاء، وسبق وأن ذكرنا في كتاب البيوع تفصيلات النماء المتصل والمنفصل في خيار العيب وفصلنا في ذلك. قوله: (أو الخلوة) إذا خلا الرجل بالمرأة الخلوة التي يمكن فيها الزوج من وطء الزوجة ولم يطأ، فإنه يثبت لها المهر كاملا بتلك الخلوة، كما لو قال: أريد زوجتي، فجاء وليها ومكنه من الدخول بها، فدخل واختلى بها لكنه لم يصبها، فإنها لما مكنته من نفسها كان التقصير منه. وحينئذ يكون حقها كاملا، كالأجير: إذا استأجرت شخصا ومكنك من نفسه أن يعمل عندك يوما كاملا ولم تطالبه بعمل، فإنه عند نهاية اليوم يستحق أجرته كاملة؛ لأن التفريط منك أنت، وأنت الذي تتحمل مسئولية عدم مطالبته بالعمل. فالرجل هو الذي يتحمل مسئولية عدم الدخول بها، فهناك دخول حقيقي ودخول حكمي: الدخول الحقيقي: أن يدخل ويطأ ويصيبها ويستمتع بها. والدخول الحكمي: أن يمكن من الدخول، ولا يكون هناك أي عائق من جهة المرأة يمنعه من إصابتها ولا يصيبها. لكن لو أن وليها مكنه من الدخول واختلى بها، فأراد أن يصيبها، فدفعته ومنعته فإنها لا تستحق المهر كاملا؛ لأنه في هذه الحالة وإن دخل في الظاهر لكنه لم يدخل في الحقيقة؛ لأنها لم تمكنه من نفسها. فإذا الدخول الحكمي شرطه أن لا يكون هناك مانع من المرأة يمنع من إصابته لها. (فله نصفه حكما) أي: قهرا، وهذا من جهة انتفاء الخيار، كالحضانة ونحوها يحكم بها ولا خيار، وكذلك الوصايا من الميت تكون للموصى له حكما ولا يملك الخيار في إسقاطها. (فله نصفه حكما) لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] فيثبت هذا النصف له، والله عز وجل حكم بذلك من فوق سبع سماوات. وله بعد ذلك أن يتنازل عن هذا النصف، وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] فقوله سبحانه: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] يعتبره علماء التفسير وعلماء الأصول من المشترك، وهو المتردد بين معنيين، لأن الاسم الموصول وصلته في قوله: {الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] هو من الاشتراك بالأسماء الموصولة، وهو متردد بين شخصين إما أن يكون الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وإما أن يكون الزوج، فالولي بيده عقدة النكاح؛ لأنه هو الذي يوجب عن موليته وينشئ العقد عن موليته، والزوج أيضا بيده عقدة النكاح؛ لأنه يملك تطليق المرأة ويملك أيضا العقد على المرأة، فاختلف العلماء في ذلك، وإن كان الأقوى من جهة المقابلة: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فيعفو الزوج عن النصف ويسامحها ويترك لها المهر كاملا، وذلك أقرب إلى التقوى وأعظم أجرا له. حكم النماء المتصل بالصداق في حالة تشطير الصداق قال رحمه الله: [وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه] . إذا أثبتنا أن النماء المتصل يكون تبعا للمرأة لأنها ملكت الأصل، فحينئذ يكون له نصف قيمة المهر دون النظر إلى نمائه المتصل. فلو أنه جعل صداقها -مثلا- من الغنم مائة رأس، ونما هذا الغنم، فهذا النماء في المعين -وهو المائة شاة- ملك للمرأة؛ لأنه نماء حدث في ملكيتها، فهي التي قامت عليها وأعلفتها، فهذا النماء في ملكيتها. في هذه الحالة إذا ثبتت الزيادة في ملكيتها فإن الزوج لا يملك إلا نصف المهر الذي أعطى، وليس نصف المهر الموجود حاليا الذي قيمته غالية؛ لأن المهر الموجود حاليا في ملكية المرأة، ونماؤه وزيادته حدثت في ملكية المرأة. فمن العدل أن يرد له نصف ماله الحقيقي، فينظر إلى أصل المهر حينما أعطاها إياه وأوجبه لها دون نظر إلى وجود الزيادة، فلو كانت الرأس حينما أصدقها هذا المهر قيمتها خمسمائة ريال وبالزيادة صارت القيمة سبعمائة، فإننا نعطيه نصف المهر من قيمة الخمسمائة وليس من قيمة السبعمائة بالزيادة. وهذه مسألة ذكرنا أن العلماء يذكرون فيها الأصل وما تفرع منه، فأنت إذا أثبت أن النماء المتصل في المعين يكون تابعا للمرأة فينبني على ذلك أنه إذا جاء يطالب بحقه فإنك ترده إلى الأصل، ولا ترده إلى عين فيها نماء. اختلاف الزوجين في الصداق قال رحمه الله: [وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله وفي قبضه فقولها] . غالبا إذا اختلف الزوج والزوجة فبطبيعة الحال أن الزوجة تدعي الأكثر والزوج يدعي الأقل، فلا يختلفون غالبا إلا على هذا. فالمرأة تقول: أصدقتني خمسين ألفا، والزوج يقول: بل أصدقتك أربعين ألفا، فدائما المرأة تطالب بالأكثر والرجل يطالب بالأقل؛ لأنه لو كان الأمر بالعكس فإنه سيعطيها وينتهي الإشكال, فإذا كانت المرأة تقول: أصدقتني خمسين، وهو يقول: لا، بل أصدقتك أربعين، فمن المدعي؟ ومن المدعى عليه؟ بيان المدعي والمدعى عليه في اختلاف الزوجين في قدر الصداق فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى فالمرأة تقول: قد كان المهر خمسين، والزوج يقول: ما كان ولم يكن، فهو مدعى عليه، فالقول قول الزوج، وهذا وجهه. اختلاف ورثة الزوجين في قدر الصداق (أو ورثتهما) أي: يختلف ورثة الزوجين، وفي الحقيقة أن الشريعة وضعت للناس البينات والمعالم، وأمرتهم في الحقوق أن يكتبوا وأن يستشهدوا وأن يحتاطوا، وأن لا يضيعوا حقوقهم بالمجاملات. فإذا كان عقد نكاح فلا ينبغي أن تترك الحقوق سائبة، بل ينبغي أن يستوثق بالشهادة ويستوثق بالكتابة وتحفظ حقوق الناس، فغالبا ما تقع المشاكل بين أولياء المرأة والرجل، أو ورثة المرأة وورثة الرجل، والسبب: التساهل بكتابة الحقوق، لأنه لو كان هناك كتابة وكان هناك استيثاق فلن يقع اختلاف؛ لأنهم إذا اختلفوا رجعوا إلى المكتوب ورجعوا إلى البينات التي عندهم فقطعت النزاع الذي بينهم. فصورة المسألة: لو أن الزوجين وقع بينهما النكاح ثم توفي الزوج وتوفيت الزوجة، أو توفيت الزوجة والزوج والولي، فإلى من نرجع؟ والقول قول من؟ فأولياء المرأة يطالبون أولياء الرجل بخمسين ألفا، وأولياء الرجل يدعون أن المهر أربعون، فالقول قول من؟ نفس الحكم في الخلاف بين الزوجين، فإذا قلت: القول قول الزوج، فالقول قول أوليائه وورثته، فالفرع قائم مقام أصله، فإذا كان الزوجان حيين فالقول قول الزوج، وإذا كانا ميتين فالقول قول ورثة الزوج، ويصبح ورثة الزوجة مدعين لما هو أكثر، فلا يقبل منهم الأكثر إلا ببينات. اختلاف الزوجين في تعيين الصداق (أو عينه) أي: تعيين الصداق، فإنها إذا قالت: أصدقتني هذه السيارة، فقال: بل أصدقتك هذه السيارة، فالغالب أنه لا ينقلها إلا إلى ما هو أقل، وهي تدعي ما هو أكثر، فتكون نفس القضية السابقة، فالقول قوله. اختلاف الزوجين فيما يستقر به الصداق (أو فيما يستقر به) أي: هل يكون معجلا أو مؤجلا، ودائما إذا طولب الزوج بما هو زائد أو بما هو خلاف الأصل فالقول قوله؛ لأنه مدعى عليه. بعض العلماء يقول في هذه المسألة: إذا اختلف الزوج والزوجة في قدر الصداق فإنه ينظر إلى الأشبه، أي أنه: يحتكم إلى العرف فيقول: إن وجدنا العرف يشهد بقول الزوجة فالقول قولها، وإن وجدنا العرف يشهد بقول الزوج فالقول قوله. مثال ذلك: قالت: صداقي ثلاثون ألفا، قال: بل صداقك عشرون ألفا، وهي بكر، والعرف أن مثلها من الأبكار يزوجن بثلاثين، فالقول قولها؛ لأن العرف قد شهد بصدقه، فحينئذ يكون القول قولها. لكن ضعف هذا القول ورجح قول المصنف ومن وافقه؛ لأنه ربما تراضى الزوجان على ما هو أقل. اختلاف الزوجين في قبض الصداق وعدمه (وفي قبضه) قال: أعطيتك المهر وقبضته، فقالت: ما أعطيتني، ولم أستلم المهر ولم آخذه، فاليقين أنها لم تأخذ، وقد تقدم في البيوع أنه حينما يقول البائع للمشتري: سلمتك البضاعة، يقول المشتري: ما استلمتها، فالقول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه، والأصل عندنا أن المشتري ما استلم حتى يثبت استلامه باليقين؛ لأن البائع إذا اعترف بأنه باع وأنه قبض الثمن فقد اعترف بأنه أصبح مدينا، فلا بد أن يثبت أنه أبرأ ذمته من دينه. فإذا قالت الزوجة: لم تعطني مهري، فقال: بل أعطيتك، فالقول قول الزوجة حتى يثبت أن الزوج قد أعطاها؛ لأن القاعدة: أن اليقين لا يزال بالشك، والأصل بقاء ما كان على ما كان. فالأصل أن الزوج مدين لزوجته بالمهر حتى يثبت أنه أبرأ ذمته من هذا الدين وأعطاها.
__________________
|
#537
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (424) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الصداق [2] جعل الشرع للمرأة أن تفوض أمرها في الصداق لوليها أو لغيره، ويثبت لها مهر مثلها إذا دخل بها زوجها أو مات عنها قبل الدخول، وذلك إذا لم يسم المهر، ولها أن تمتنع من زوجها حتى تقبض مهرها الحال. التفويض في النكاح قال رحمه الله تعالى: [فصل: يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة] . التفويض من مسائل الصداق والمهر، واعتنى به العلماء والأئمة رحمهم الله، وهو ينقسم إلى تفويض المهر، وتفويض البضع. وتفويض المهر: أن تفوض المرأة إلى وليها أن يزوجها بأي مهر، أو أن يزوجها بدون مهر، أو تفوض للزوج أو يفوض وليها للزوج المهر فيقول له: المهر ما شئت، والمهر ما تريد، أو ما تدفع، فهذا تفويض، كذلك أيضا أن يفوض لأجنبي، كأن تفوض المرأة لأجنبي فتقول: مهري ما يقوله فلان، لعمها أو خالها أو قريب لها، فتفوض إلى أجنبي. فهذه كلها من مسائل التفويض في المهر، والتفويض في البضع سيأتي إن شاء الله، وسيذكره المصنف رحمه الله، وكلا النوعين من التفويض يعنى به الأئمة رحمهم الله. أما مناسبته للصداق فظاهرة؛ لأن المرأة تترك الصداق وتقديره إلى طرف أجنبي، أو إلى الطرف المقابل لوليها وهو الزوج، أو إلى وليها. التفويض في البضع (يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) فإنه بدون أن يأخذ رضاها وبدون أن يستأذنها يزوجها، وقد تقدم هذا معنا في مسائل الاستئذان، فإن الأب ذكرنا أن فيه من العاطفة والحنان والرحمة ما لا يشك معه، أو ما يغلب معه على الظن أنه يطلب الأصلح في الأمور لابنته، وأنه ليس هناك أب يسعى في جلب الضرر على ابنته، أو يتسبب في الإضرار بابنته، هذا هو الأصل؛ فالغالب أن الأب فيه من الحنان والرحمة ما يمنعه من أذية ابنته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) والإنسان لا يضر نفسه، فالأب يزوج ابنته المجبرة، وإذا زوجها كان الأمر كله بيده، من جهة الإيجاب عنها بدون التفات إلى رضاها وإذنها، وكذلك أيضا في المهر، وبطبيعة الحال أنها إذا كانت مجبرة، فالغالب أنها لا تتكلم حتى في المهر. وعلى هذا فيكون تفويضا من كل وجه، فيزوج الأب ابنته المجبرة، فيقع العقد في هذه الحالة على هذه الصورة، ويكون وليها الذي أجبرها تولى أمرها كلية؛ من جهة تزويجها ومن جهة تحديد الصداق الذي يكون لها، أو يجعلها بدون مهر، فيفوض الأمر للزوج، كأن يزوج ابنته الصغيرة ويقول للزوج: المهر ما تعطي، وبطبيعة الحال ما استشارها ولا رجع إليها، ففي هذا تفويض من كل وجه ففوض إلى الزوج وزوجها. التفويض في المهر قال رحمه الله: [أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر] . لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر. المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه. والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: (أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث) . فحكم بثلاثة أحكام: (مهر المثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص (لا وكس ولا شطط) العدل الذي أمر الله به. (وعليها العدة) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة. (ولها الميراث) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه. فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: (والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا) . فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقا لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل. الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد. ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسدا لما أثبت لها مهر المثل. وأيضا فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: {إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236] ، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقا صحيحا، والواقع أنه لم يسم لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر. في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالبا يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئا متفقا عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غدا فسيظن أن هناك شيئا متفقا عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يسم لها مهر معين. قال رحمه الله: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي] . (بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شئت؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه. هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شئت، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه. قال رحمه الله: [ولها مهر المثل بالعقد] . ثلاثة أمور: - عندنا عقد. - وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد. - وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول. هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر. وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟ فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات. قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن ينظر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فينظر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلا: أربعين ألفا، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذا: ينظر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبة جميلة بكر، بعض العلماء يقول: يبتدأ بقراباتها، فينظر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختها أو تزوجت بنت عمتها أو بنت عمها أو بنت خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟ وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زوجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فينظر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء. وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يقصد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود: (لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة. وكان هذا معروفا في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائما القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال من أهل الخبرة من يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يرجع إليهم. ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا. فيحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللدات والأتراب من أمثالها، وينظر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد. قال رحمه الله: [ويفرضه الحاكم بقدره] فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة. الحكم فيما لو مات أحد الزوجين قبل الدخول وتسمية المهر قال رحمه الله: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها] (ومن مات منهما قبل الإصابة) أي: قبل أن يدخل بها ويصيبها توفي، فإننا ننظر إلى مهر المثل كما ذكرنا في حديث معقل بن سنان الأشجعي في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فحديث بروع بنت واشق حديث ثابت ويدل دلالة واضحة على أنه: يحتكم إلى مهر المثل. هذا الحكم الأول. وثانيا: أنه يكون عليها الحداد والعدة. وثالثا: أنه يكون لها الميراث؛ لأنها من نسائه. (قبل الإصابة والفرض) أي: وقبل أن يفرض لها، فالحكم مثلما ذكرنا في الحديث، لكن لو فرض لها فريضة، مثلا: لو أن زوجا فرض لامرأته عشرة آلاف صداقا، وتم النكاح، أي: تم العقد، ثم توفي هذا الزوج، فنقول: يجب على ورثته أن يخرجوا من ميراثه عشرة آلاف فقط؛ لأنها المسمى، فهذه المسائل هي إذا لم يسم الصداق، وقد ذكرنا أن التفويض لا تسمية فيه. [ورثه الآخر ولها مهر نسائها] . (ورثه الآخر) لأن العقد من أسباب الميراث الثلاثة، وهي: النكاح والولاء والنسب. أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب هذه ثلاثة أسباب، فالنكاح من أسباب الميراث، وهذا بإجماع العلماء، فكل امرأة عقد عليها رجل، ثم توفي قبل أن يدخل بها، فإنها من نسائه وترثه، ولو توفيت هي ورثها، فهو يرثها وترثه. حكم المطلقة قبل الدخول إذا لم يسم المهر قال رحمه الله: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره] أي: وإن طلقها المفوض، وهم يقولون: مفوضة ومفوضة، يقولون: امرأة مفوضة إذا فوضت لوليها أو للزوج أو لأجنبي، ومفوضة أي: فوض أمرها إلى الغير. إذا طلقت هذه المفوضة قبل الدخول، ففي هذه الحالة ليس عندنا فريضة وليس هناك مهر مسمى، فالشريعة جاءت بأنه إذا وقع فراق وطلاق قبل الدخول وليس هناك مسمى فإن للمرأة المتعة؛ لأن الله تعالى يقول: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة:236] . وفي الآية الثانية قال في المطلقة عموما: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:241] وذكروا عن شريح أبي أمية القاضي الكندي رحمه الله -وكان ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء الراشدين، فنعم المولي ونعم المولى، ولي لـ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وكان إماما في القضاء- أن رجلا طلق امرأة فأمره أن يمتعها فأبى، فتلا عليه الآية الأولى، فامتنع، ثم تلا عليه الآية الثانية، فامتنع، الآية الأولى: {حقا على المحسنين} [البقرة:236] والآية الثانية: {حقا على المتقين} [البقرة:241] فأصر الرجل وقال: ما دامت متعة وليست بواجب فلا أريد أن أمتعها، من غضبه من زوجته -نسأل الله السلامة والعافية- صم وعمي عن أمر الله عز وجل وندبه، فشاء الله عز وجل أن تمر الأيام فاحتاج قوم إلى شهادة هذا الرجل، فجاءوا به إلى شريح فقال: والله لا أقبل شهادته، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين، فاصرف وجهك عني، فطرده ولم يقبل شهادته؛ لأن المؤمن لا يرد هذه الأوامر الشرعية ولا يستخف بها، والله يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، ولذلك لا ينبغي إذا وقع الطلاق والفراق أن ينسى كل من الزوجين الآخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من الحفظ للعهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) . فلو سئلت عن المطلقة قبل الدخول، تقول: لها حالتان: إن كانت قد سمي لها المهر فنصف ما سمي. وإن لم يسم المهر فلها المتعة حق واجب على المحسنين، والدليل قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف} [البقرة:236] أي بما جرى عليه العرف، أو بالمعروف، والمعنى: أنه يمتعها مصاحبا للمعروف، بدون منة، فلا يعطيها المتعة يمتن بها، أو يؤذيها أو يصيبها بنوع من الإضرار، إنما يكون هذا بالمعروف على سبيل المكارمة على الوجه الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: {متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة:236] . فهذه الآية تدل دلالة واضحة على إثبات المتعة، والمتعة تكون بالمعروف، أي: على حسب حال الزوج، فإن كان الزوج غنيا نظر في مثله، فمثلا: لو جرى العرف أن مثله يمتع بهدية بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فيشتري لها ذهبا بثلاثة آلاف ويبعثه إليها. والسبب في أن الله جعل على الموسع قدره وعلى المقتدر قدره: أنه إذا كان من بيئة غنية فالله يريد أن يربط بين الزوج والزوجة بحفظ العهد، فحينما يعطيها شيئا يليق بغناه ويسره تكون فعلا هدية، ويكون لها معنى الهدية، لكن حينما يكون غنيا ثريا بسط الله عليه من رزقه ويأتيها بشيء تافه يصبح بدل أن يتضمن معنى المكارمة يصبح متضمنا لمعنى الإهانة، فيخرج عن مقصود الشرع. فإذا لابد أن ينظر إلى حال الزوج، وأن يتقي الله عز وجل فيما أمره الله به وندبه إليه. قال رحمه الله: [ويستقر مهر المثل بالدخول] . إذا دخل الزوج على زوجته وهي مفوضة فيستقر مهر المثل بالدخول، ويثبت في هذه الحالة، ويكون حقا كاملا لها. قال رحمه الله: [وإن طلقها بعده فلا متعة] . أي: طلقها بعد الدخول فلها المهر كاملا، وليست من الممتعات، يريد أن يقول: إنه يثبت لها المهر. وقوله: (فلا متعة) ليس المراد أنه ما لها شيء، إنما مراده أنها لا تصبح من ذوات المتعة، وإنما تصبح من ذوات الصداق، أي: اللاتي لهن المهر والصداق كاملا. حكم المهر في العقد الفاسد قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر] . رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائما يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولا: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول. فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد. الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد قبل الدخول قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر] . العلماء رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائما يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولا: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول. فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد، فقال: (وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول) شرع في مسألة تتعلق بالنكاح الفاسد، إذ أن ما سبق كله في النكاح الصحيح الشرعي، لكن لو أن رجلا تزوج امرأة بنكاح الشغار، أو لو أن رجلا تزوج امرأة بنكاح التحليل، أو لو أن رجلا تزوج امرأة بنكاح المتعة والعياذ بالله، فهذه الأنكحة كلها باطلة وحكم الشرع بفسادها، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، ففروع الأنكحة وما يترتب على الأنكحة إنما يترتب على أنكحة صحيحة ينهدم بانهدامها، أي: إذا حكم بفساد النكاح فإنه يحكم بفساد آثار النكاح. وعلى هذا: ففي نكاح المتعة مثلا، إن تزوج رجل امرأة وحدد مدة الزواج فقال لها: أتزوجك شهرا أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فاتفقا على هذا النوع من النكاح، وجعل المهر خمسة آلاف، وكان رجلا جاهلا ثم تبين له أن هذا حرام، أو كانوا في بيئة ليس بها علماء ثم ارتفعوا للعلماء وسألوا فقالوا لهم: إن هذا حرام، فحينئذ سيفرق بينهما ويلغى النكاح ولم يدخل بها بعد، فيفرق بينهما ولا يترتب أي أثر على هذا، ويصبح وجود هذا النكاح الفاسد وعدمه على حد سواء، فالله تدارك باللطف أنه لم يقع دخول. فأي نكاح فاسد قبل الدخول لا يلتفت إليه إذا فسخ وألغي؛ لأنه لاغ من أصله وليس له أثر، فهذا هو الذي يقصده المصنف: أن الأنكحة الفاسدة لا يترتب عليها صداق إذا وقعت الفرقة قبل الدخول.
__________________
|
#538
|
||||
|
||||
![]() الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد بعد الدخول قال المصنف: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر وبعد أحدهما يجب المسمى] . (وبعد أحدهما) لو أن رجلا نكح امرأة بمهر ثم تبين فساد هذا النكاح، كأن ينكحها بدون ولي، وفرض لها مهرا خمسة آلاف ودخل عليها، فلها المهر بما استحل من فرجها، قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) فحكم ببطلان النكاح، وأثبت لها المهر بالدخول (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) . ثم ننظر، فإن وقع الاتفاق على مهر معين فقد رضيت لنفسها أن يصيبها، وتنازلت عن حقها بهذا المسمى، فيكون لها المسمى، فيفرض لها المسمى الذي اتفق عليه. حكم المهر لمن وطئت بشبهة أو إكراه (ويجب مهر المثل لمن وطئت) الموطوءة بالزنا كرها أو الموطوءة بالشبهة الأصل أن وطأها لا يجوز، ولكن وجود العذر من الإكراه على الزنا أوجب لها مهر البكر كاملا إن كانت بكرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) ، فهي مغلوبة على أمرها، وحينئذ يكون لها مهر مثلها؛ لأنه فوت عليها هذا الحق، ويدرأ عنها الحد لوجود الإكراه على الصحيح من أقوال العلماء، وسيأتينا -إن شاء الله- في باب الجنايات أنه يدرأ عنها الحد ولا يقام عليها إذا أكرهت؛ لأن الله أسقط بالإكراه الردة، فمن باب أولى الزنا الذي هو دون الردة، ويكون لها مهر المثل يفرضه عليه الحاكم. وكذلك نكاح الشبهة، شبهة عقد، أو شبهة اعتقاد، أو شبهة ملك، هذه ثلاثة أنواع من الشبهة تؤثر في النكاح، شبهة عقد بأن يعقد على امرأة يظن أنها تحل له بهذا العقد، مثلما يقع في عقد نكاح الشغار، مثلا: لو أن رجلا زوج ابنته لآخر على أن يزوجه الآخر ابنته بنكاح الشغار، ولم يعلما حكم الشغار، وحصل الوطء، هذا وطئ ابنة هذا وهذا وطئ ابنة هذا، فحينئذ يصبح هذا وطء شبهة، أي: عنده شبهة، وهي شبهة العقد، حيث يظن أن هذا العقد عقد نكاح صحيح، وتكون كذلك شبهة العقد فيما لو أن رجلا عقد على امرأة وهو لا يعلم أنها متزوجة ويظن أنها خلو، وعقد بها عقدا شرعيا، ودخل بها، ثم تبين أنها خدعته وأن أولياءها خدعوه. وكذلك يدخل في شبهة العقد ما إذا غاب رجل غيبة، وانقطع عن زوجته، فحكم الحاكم بانتقالها عن زوجها فطلقها، فتزوجت بزوج ثان، فإن هذا العقد يبيحها له ويحلها له، فلو رجع الغائب، فمن يقول: إنها على عقد الأول، يرى أن وطء الثاني وطء شبهة عقد؛ لأنها في الأصل تابعة للأول، وعلى هذا يكون من شبهة العقد. شبهة الملك، مثل: شبهة أنها مملوكة له، مثلما يقع في ملك اليمين، كما لو اشترى أمة ووطئها بملك اليمين، ثم تبين أنها حرة وبيعت مغصوبة، فإنه كان يطؤها على أنها ملك يمين له، ثم تبين أن هذه الشبهة غير صحيحة. فمثل هذه المسائل يكون فيها المهر للمرأة، فيجب عليه المهر على التفصيل الذي ذكرناه، ويرجع على من غشه ويطالبه بالضمان، وحينئذ يضمن الذي غشه، والحاكم (القاضي) يعزر هذا الذي اقتات وظلم المرأة ببيعها وهي حرة. فالشاهد أنها إذا وطئت بشبهة أو بزنا لكن بشرط الإكراه فلها المهر، فلو كان الزنا -والعياذ بالله- برضا من المرأة لم يكن لها حق، فلا مهر لبغي، ولذلك (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وحلوان الكاهن ومهر البغي) فالبغي لا مهر لها؛ لأنها رضيت -والعياذ بالله- بإسقاط حقها، وأتت ما حرم الله عز وجل بطيبة نفس منها، فيضيع حقها وليس لها المهر بسبب ذلك. قال رحمه الله: [ولا يجب معه أرش بكارة] . (ولا يجب معه) أي: مع مهر المثل (أرش البكارة) وبعض العلماء يسمونه: العقر، ويحكم بالعقر في بعض المسائل في الشبهات، ولكن اختار المصنف هنا ما ذكرناه من أن لها مهر المثل. ضوابط تسليم المرأة نفسها في الصداق المعجل والمؤجل امتناع المرأة من التسليم حتى تقبض صداقها المعجل قال رحمه الله: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] إذا اتفقا على كون الصداق معجلا وحالا فإن من حقها أن تقول: أنا لا أمكنك من نفسي ولا تدخل علي حتى تدفع لي مهري، هذا من حقها؛ لأن الله يقول: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] فأثبت المهر لها. فإن اتفق معها على أنه يعقد عليها بصداق معجل يدفعه قبل الدخول، فإن من حقها أن تمتنع من تمكينه من الدخول؛ لأنه يستند في التمكين من الدخول إلى العقد، والعقد معلق على شرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) . حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلا قال رحمه الله: [فإن كان مؤجلا أو حل قبل التسليم أو سلمت نفسها تبرعا فليس لها منعها] . قال رحمه الله: (فإن كان مؤجلا) إن كان الصداق مؤجلا، بأن يكونا قد اتفقا على أنه يعطيها الصداق بعد خمس سنوات وأنه يدخل بها متى شاء، فجاءها وقال: أريد أن أدخل بك، فقالت: لا تدخل حتى تعجل لي الصداق، فإنه يفرض عليها الحاكم أن تمكنه من الدخول بها؛ لأنها رضيت بتأخير الصداق، فليس من حقها أن تمنع نفسها منه إن رضيت بتأجيله؛ لأنها أسقطت حقها في التعجيل. حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلا وقد حل وقت أدائه قوله رحمه الله: (أو حل قبل التسليم) . أي أنها اتفقت معه على أن الصداق مؤجل، فحل أجله قبل التسليم، فمن حقه أن يدخل بها قبل أن يعطيها. توضيح ذلك: مثلا لو أنها اتفقت معه على دفعه لها بعد سنتين أو ثلاث سنوات، فقد رضيت بتأجيله، فحينئذ لا يتوقف الدخول على دفع المهر، فلو حل هذا الصداق وجاء أجله والزوج ماطل وتأخر فمن حقه أن يدخل بالزوجة، ثم هي تقيم دعوى على مطالبته بحقوقها، فإن كان غنيا أعطاها حقها، لكن لا تمنعه من حق وطئها كزوج، وهذا من انفصال الجهة، إذ هو له حق الوطء والاستمتاع، وهي لها حق المطالبة بالمهر، ثم المهر يتعجل ويتأجل على ما يتفقان عليه، فإن هي رضيت به مؤجلا لم يكن من حقها أن تمنع الدخول بتأجيله؛ لأنها رضيت به مؤجلا، والعكس كذلك. فالشاهد: أنها إذا أوجبته عليه معجلا كان من حقها أن تمنعه من الدخول حتى يعطيها حقها، فكلا الطرفين له حقه، فإن قالت المرأة: رضيت بمهري مؤجلا بعد خمس سنوات أو ست سوات فقد رضيت بتأجيله، فحق الزوج أن يدخل عليها حتى قبل أن يعطيها؛ لأنها رضيت بالتأجيل، فيدخل بها، وإذا امتنعت فإنه يوجب عليها الحاكم الطاعة لزوجها. هذه فائدة الخلاف: أنها إذا امتنعت يفرض عليها الحاكم وعلى أوليائها أن يسلموها لزوجها؛ لأنه من حق الزوج أن يستمتع بزوجته، فإذا ماطلت وامتنعت فرض عليها ذلك بحكم العقد، ولو أن الزوج وافق أن يعطيها صداقها قبل الدخول فقال لها: ما عندي الآن وأريدك كزوجة لا تمنعيني من نفسك، فقالت: لا تدخل علي حتى تدفع المهر، واختصموا، فالقاضي يقضي على أنه لا يدخل بها حتى يعطيها مهرها. فإذا: عندنا حق للزوج في الدخول، وحق للزوجة من جهة المهر، فإن اتفقا على التأجيل جاز الدخول قبل حصول الأجل، وإن اتفقا على التعجيل فمن حقها أن تمتنع حتى يعطيها حقها، وإذا تنازلت عن حقها فالأمر إليها. حكم إعسار الزوج بالمهر الحال [فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ ولو بعد الدخول ولا يفسخه إلا حاكم] . (فإن أعسر) أي: الزوج، مثلا: رجل عقد على امرأة بعشرة آلاف ريال، ثم أصبح فقيرا معسرا والمهر حال عليه، فالمرأة لما رأته معسرا قبل الدخول رفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد أن تفسخ نكاحي من فلان ما دام معسرا، فأنا لا أريد أن أعرض نفسي لضرر الفقر، وأخشى على نفسي إن كنت عند رجل فقير أن أتعرض للحرام، أو أتعرض لأذية أقاربي. إلخ المهم أنها لم ترض هذا الزوج بإعساره، فحينئذ من حقها ذلك ويفسخ النكاح؛ لأن النكاح مبني على المقابلة والمعاوضة، فإذا ماطل الزوج في حقها واشتكت إلى القاضي، فللقاضي أن يفسخ النكاح، وحينئذ يفرق بينهما. (ولو بعد الدخول) كذلك بعد أن يدخل بها إن أعسر بمهرها فلها ذلك، لأن النكاح مبني على المعاوضة، وحينئذ من حقها أن تفسخ النكاح، وهذا يسمى خيار الإعسار، ويكون تارة إعسارا من جهة الزوج في نفقته على زوجته، ويكون تارة من جهة الزوج في مهر زوجته، هاتان صورتان ذكرهما العلماء رحمهم الله في الإعسار. الرجوع في قضايا الفسخ بالإعسار إلى الحاكم [ولا يفسخه إلا حاكم] . ولا يفسخ هذا النوع من الأنكحة إلا حاكم، وهو القاضي الذي له حق النظر في هذه الخصومات، فلا يأتي طالب علم فيفتي في هذه المسائل، لأن مسائل الخلاف بين الناس تحتاج إلى القضاة، والقاضي ينصف الخصمين بأصول الشريعة، والضوابط الشرعية في القضاء أنصفت كلا الخصمين. فالمفتي في هذه المسائل لا يتدخل، وطالب العلم لا يفتي في هذه المسائل، إنما يحيلهم على القاضي؛ لأنها مسائل يحصل فيها الخلاف، فالإعسار يحتاج إلى إثبات، والإثبات يحتاج إلى نظر ورجوع إلى أهل الخبرة، فليس كل من هب ودب يفتي في هذه المسائل أو يتكلم، فيها وإنما ترد إلى القضاة. ومن هنا في هذه الأزمنة جرت العادة في مسائل الطلاق أن لا يفتي فيها كل أحد، من كثرة مشاكل الناس والكذب. فالمسائل التي فيها خلاف ويحدث فيها تلاعب ترد إلى القضاة وترد إلى ولاة الأمر؛ لأن الناس بغير ذلك يصبحون في فوضى. ففي زماننا مثلا يأتيك الرجل -وهذا قد حدث وسمعناه ورأيناه- ويقول لك: قلت كذا وكذا، فتأتي المرأة تقول: لا، بل قال: كذا وكذا، ويأتي الرجل ويقول لك: قلت كذا وكذا، ويترك كلمة أو لفظه أو حالة للمرأة، والمرأة أيضا تقول شيئا غير الذي يقوله الرجل، فعندما تربط هذه المسائل بالقضاء وتربط بكبار العلماء يعرف الناس خطر الطلاق، ويعرف الناس خطورة هذا الباب، فما كل واحد يطلق، فإنه حينما يتعنى ويتعب، ويظل يتصل بأشخاص معينين وبعلماء معينين، ويجد نوعا من التعب والعنت، فيهاب هذا الباب، ويصبح من مصالح الناس وعامة الناس أن يربطوا بكبار العلماء أو يربطوا بالقضاة، حتى يشعروا بخطر الطلاق، ولا يتلاعب بالطلاق. وهذا يقع، خاصة عند فساد الأزمنة، تجد الرجل -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الأحيان لا يخاف الله ولا يتقيه، فربما يأتي ويقول لك: قلت: أنت طالق، وهو قد يكون قال لها: أنت طالق بالثلاث، وقد يقول: قلت لها: أنت طالق طالق طالق، فيسمع أنه إذا قال: أنت طالق طالق طالق، تحتمل المرة، فيصرف في الألفاظ ويحرف في الألفاظ على ضوء ما يسمع من الفتاوى، ويأتي إلى شيخ جليل معروف موثوق به، أو يقول لأولياء المرأة: نذهب إلى فلان نقبل فتواه، فيأتيه بالعبارة التي سمع أنها لا تؤثر، وهذا من أبلغ ما يكون في انتهاك حدود الله -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه لو غير لفظة أو كلمة يريد أن يحتال بها على الله وعلى دين الله فلن ينفعه؛ لأن فتوى المفتي وقضاء القاضي لا يحل الحرام، ويصبح هو وامرأته على الزنا -والعياذ بالله- لو كانت حراما عليه. فالأمر في هذا جد خطير، ولذلك العلماء قالوا: الفسخ عند الحاكم [ولا يفسخه إلا حاكم] أي: في مسائل الخلاف، وفي عصورنا الآن جرت العادة أن ترد مسائل الطلاق لكبار العلماء؛ لوجود الخلاف بين الناس ووجود التلاعب بين الناس. واقتضت الحكمة أن مثل هذه المسائل لا يفتح فيها الباب لكل من هب ودب أن يفتي، حتى لا يصبح الناس فوضى، هذا يقول: حلال، وهذا يقول: حرام، وهذا يقول بالتفصيل، فيضيع الناس، ولا يدرون أين يذهبون. فالفتاوى في مثل هذه المسائل، والبت والحكم في هذه المسائل يرجع فيه إلى من له حق النظر فيها، حتى يكون أبلغ في إقامة الناس على السنن.
__________________
|
#539
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (425) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب وليمة العرس من مظاهر الائتلاف بين المسلمين اجتماعهم في وليمة العرس، وهذه الوليمة مشروعة من غير إسراف، ومن حقوق المسلم إجابة دعوته لهذه الوليمة إلا إذا كانت مشتملة على منكر، وهي من إعلان النكاح المأمور به، وهذه الأحكام وغيرها تجدها في هذه المادة. مشروعية وليمة العرس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب وليمة العرس] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الآداب والسنن والأحكام المتعلقة بالوليمة لعقد النكاح. والوليمة لعقد النكاح سنة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظت من هديه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عبد الرحمن بن عوف حينما رأى عليه تغيرا في حاله وهيئته (مهيم؟) أي: ما هو الشأن والحال؟ وهي كلمة استفهام بلغة أهل اليمن، فقال: تزوجت، فقال: (بارك الله عليك! ما أصدقتها؟) قال: وزن نواة من ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أولم) أمر، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الأمر بالوليمة، فدل على مشروعية الوليمة للعرس والنكاح، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أولم لنسائه، وما تزوج امرأة إلا وأولم لزواجها، فدل على مشروعية وليمة النكاح. المصالح في وليمة العرس ومن المقاصد والمصالح العظيمة المترتبة على هذه الوليمة: أنها فرق بين النكاح والسفاح، فهي من إعلان النكاح، والنكاح يعلن، والسفاح يسر، فإذا أولم عرف الناس أن هناك زواجا. ومن مصالحها: ثبوت النسب، فإذا جاءه الولد من هذه المرأة عرفوا أنه من زوجته، وثبت النسب للولد، وما يستطيع أحد أن ينكره، فلو مات هذا الزوج وقال أولياؤه: هذا ليس بولدنا، شهد الناس أنه ولده، فتثبت الحقوق للناس. ومن مصالحها: حصول الألفة والمحبة والمودة بين الناس، فهي سبب لترابط الناس وتواصلهم، لا من جهة القرابة فحسب بل حتى الأباعد، فإنهم يتواصلون، والمسلم يحب في حال فرحه أن يرى الناس بفرحه يفرحون، وبذلك يحس بأخوة الإسلام، ويشعر بالمودة والمحبة، فتقوى أواصر الأخوة بين المسلمين، ويتكاتفون ويتعاطفون. إضافة إلى ما جرت به العادة في مثل هذه الولائم من بعض الأمور الطيبة، كمساعدة الناس بعضهم لبعض، سواء وقعت المساعدة والمعونة ماديا أو معنويا فكل ذلك مما يدخل السرور، ومما يكون فيه دلائل وشواهد على المحبة والأخوة، ففيها مصالح عظيمة، وقد جاء الشرع بتحقيق المصالح ودرء المفاسد. مقدار وليمة العرس قال رحمه الله: [تسن بشاة فأقل] . تسن وليمة النكاح بشاة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (فأقل) أي: ممكن أن يكون أقل من الشاة، كأن يصنع طعاما بدون لحم، وهذا أيضا من السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بالسويق والتمر، وهذا ليس فيه لحم. لكن الأفضل والأكمل أن يذبح؛ لما في ذلك من الإكرام، شريطة ألا يصل ذلك إلى الإسراف والخيلاء والرياء والسمعة، فمن راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به، والمبالغة في ولائم النكاح لا تقرب البعيد، ولا تبعد القريب، وإنما تأتي بالشر والوبال على صاحبها، فقد يمحق بها بركة زواجه. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير النساء أيسرهن مئونة، وهذا مشاهد ومجرب، فإن المرأة إذا نكحت وغالى أولياؤها في المهر، وغالوا في كلفة الزواج؛ قل أن يبقى الزوج مع زوجته، وإذا بقي معها لم يبارك له فيها، والعكس بالعكس، فكم وجدنا من أنكحة بقيت وبورك فيها بسبب يسرها، وعدم وجود الكلفة فيها. فالسنة ألا يتكلف، لكن لو أن إنسانا له قرابة كثيرون، فدعا أقرباءه، ودعا جيرانه، ودعا أصدقاءه؛ لأنه إنسان معروف، وأحبته ومن يعاشره كثيرون، فجمعهم وقصد وجه الله في جمعهم وهو قادر على أن يخصها ببعض القرابة، لكن جمع هؤلاء وذبح وهو لا يريد الرياء ولا يريد السمعة؛ فهو على خير وبركة، خاصة إذا قصد معاني الأخوة الطيبة فإن الله يأجره. ولذلك يقولون: العادة تنتقل عبادة بالنية، فإذا نوى أجر، أما لو فعل ذلك على أصل مباح فلا أجر ولا وزر. حكم وليمة العرس قال رحمه الله: (تسن) ، وقال بعض العلماء: تجب، والوجوب من حيث النص أقوى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) ، وهذا أمر، والأمر للوجوب على الأصل، ولا صارف. لكن صرف بعض الفقهاء هذا الأمر عن ظاهره بأن النكاح نفسه ليس بواجب فمن باب أولى ما بني عليه، ورد بأن ابتداء السلام ليس بواجب فإذا وقع فإنه يجب رده، فلا يمتنع أن يكون الشيء ليس بواجب ويكون ما ينبني عليه واجبا، فقد تكون الصلاة نافلة لكن إذا دخل فيها وشرع فيها صارت لها أركانها وشرائطها وواجباتها، فالنكاح في الأصل ليس بواجب عليه لكن إذا دخل فيه لزمه أركانه وشروطه، وقالوا: إنه يكون حينئذ مترتبا على الدخول في النكاح، وليس مبنيا على النكاح. وقت وليمة العرس مسألة: بعض العلماء يقول: تفعل الوليمة قبل الدخول، مثلما يقع الآن حيث تكون الوليمة في ليلة الدخول كعشاء للناس أو غداء، ثم يدخل على المرأة بعد حصول العشاء أو الغداء. وقال البعض: لا تكون الوليمة إلا بعد الدخول؛ لأن عبد الرحمن رضي الله أولم بعد دخوله، والنبي صلى الله عليه وسلم أولم بعد أن بنى بـ صفية، والأصل والأقوى أن تكون الوليمة بعد الدخول؛ لأنه يتحقق فعلا وقوع الزواج. لكن سامح العلماء في ذلك وقالوا: إذا جرى العرف بشيء فإن الإنسان يساير العرف ولا بأس في ذلك، يعني: إذا جرى العرف بهذا فإن الإنسان يفعل ما تعارف الناس عليه، ومن الصعوبة بمكان أن الإنسان يخالف المعروف المألوف فيما هو من جنس المباحات؛ لأن هذا من جنس المباحات وليس من جنس الإلزام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوليمة بعد الدخول إلزاما، وهناك فرق بين الواقع قصدا والواقع اتفاقا، وأيا ما كان فإنه لو بنى بالمرأة ثم صنع الطعام بعد ذلك فلا بأس، ولو حصل العكس فلا بأس، وكل ذلك -إن شاء الله- واسع. حكم إجابة الدعوة لوليمة العرس قال رحمه الله: [وتجب في أول مرة إجابة مسلم يحرم هجره إليها] . يجب على المسلم أن يجيب دعوة أخيه المسلم إذا دعاه إلى وليمة النكاح، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حق المسلم على أخيه المسلم إذا دعاه أن يجيب. قال العلماء: شدد في وليمة النكاح؛ لأنه إذا لم يجب كسر خاطر أخيه المسلم، ولربما قابله بنفس الفعل فتتقطع أواصر الأخوة بين المسلمين، وفي ذلك من المفاسد والأضرار ما لا يخفى. ولذلك شدد في وليمة النكاح أكثر من غيرها؛ لأن مقصود الشرع: الإشهار، والإشهار لا يقع إلا بالحضور، فإذا حضروا وعلموا اشتهر، فيجب عليه أن يجيب. قال: (أول مرة) الذي هو أول يوم، وكانوا في القديم ربما استمرت الولائم ثلاثة أيام، وكانت هذه عادة موجودة في بعض المناطق، ولا تزال في بعض البيئات، وكانت في القديم لمشقة السفر، فيجعلون أول يوم في بعض الأحيان للقرابة، حيث كانت أحوال الناس ضيقة، وكان من الصعوبة أن تجمع لك الألف والألفين على طعام واحد، فكانوا يجعلون الإكرام أولا للقرابة، ثم اليوم الثاني يقوم القرابة بإكرام الجيران ونحوهم، وربما جعلوها ثلاثة أيام، فقالوا: إذا كانت ثلاثة أيام فاليوم الأول هو الذي تجب فيه الإجابة، فإذا دعيت للمرة الثانية في اليوم الثاني فإن هذا موسع عليك فيه، إن شئت أجبت وإن شئت تركت، وأما اليوم الثالث -كما جاء في حديث أبي داود - فإنه رياء وسمعه؛ لأنهم إذا فعلوا الطعام في اليوم الأول وفي اليوم الثاني فلا حاجة لليوم الثالث، فما هو إلا مبالغة. وأخذ بعض العلماء من هذا: أن التوسع في الولائم يسقط الحق، فإذا فعل وليمة فيها نوع من الإفراط والمبالغة فمن حقك أن تتخلف عن هذه الوليمة. وأيا ما كان فقالوا: إن اليوم الأول حقه؛ لأنه هو الأصل في إجابة الدعوة، فلو كرر اليوم الثاني ودعاك مرة ثانية أن تحضر فأنت بالخيار إن شئت حضرت وإن شئت لم تحضر، وأما اليوم الثالث فإنه يوم رياء وسمعة فلا يحضر، ولذلك كره العلماء رحمهم الله الحضور في هذا اليوم الثالث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أول مرة) ومراده: إذا وقعت أكثر من يوم، وفي حكم أكثر من يوم: ما يفعله بعض الناس في أعرافهم الآن بأن يصنع غداء وعشاء وغداء في اليوم الثاني، فيجعلون الغداء قبل الدخول بالمرأة، والعشاء ليلة الدخول، والغداء في اليوم الثاني بعد الدخول. ولا شك أن في هذه الأمور كلها إضرارا بأهل الزوجة والزوج، وكلها مبنية على شيء من العادات التي كثير منها أشبه بإضاعة الأموال أكثر من تحقيق المصالح الشرعية، فإنه إذا جاء الناس مرة واحدة فما الداعي أن يدعوا مرة ثانية؟! إذا كان المقصود الإشهار فقد حصل في المرة الأولى، صحيح -كما ذكرنا- في القرى والمناطق الضيقة قد يوجد الضرر بدعوة الناس جميعا مرة واحدة، فهذا وسع فيه بعض العلماء، لكن لا تكرر الدعوة للشخص الواحد، فإن كررت جرى الحكم على التفصيل الذي ذكرناه، فيكون أهل الزوجة والزوج معذورين في دعوة الناس مرتين أو ثلاثا لضيق المكان وضيق الحال وعدم القدرة على احتواء الناس؛ لكن بمخالفة أنواع الناس، كأن يدعوا القرابة يوما ويدعوا الناس الآخرين يوما ثانيا. فلو وقعت الوليمة بدعوة القرابة في النهار، ودعوة غير القرابة مع القرابة في الليل فلا بأس، فأحضر وأتجمل مع قرابتي وأقوم بحقوقهم، وأحرص في يوم القرابة أن أكون موجودا لما فيه من صلة الرحم، يقول العلماء: وتكون إجابة الدعوة مغلظة بالقرابة، فإجابة القريب أعظم من إجابة الغريب، وإجابة الجار أعظم من إجابة غير الجار، فتتفاوت مراتبها، وتكون الإساءة بتركها أعظم على حسب حق الداعي. حكم إجابة دعوة المبتدع ومحل الإجابة ألا يكون الداعي من جنس من أمر الشرع بهجره كالمبتدع، فإن أهل البدع يهجرون، والمراد بذلك: البدع التي تكون في أصل الدين مما يوجب الخروج من الملة، وهي البدعة الكفرية، وهذا لا إشكال فيه، والبدعة الاعتقادية أشد ما يكون من البدع. أما البدعة المختلف فيها في الأمور الفرعية مثل: شخص يقبض بعد الركوع في الصلاة، والشخص الآخر يقول: لا أقبض وأرى أن القبض بعد الركوع بدعة، فما يأتي ويقول: هذا مبتدع! إنما هو في حق نفسه إذا صنع هذا فهو سنة، وإذا تركه وهو لا يعتقد أنها سنة فلا يبدع من يقبض، ولا يأتي لشخص يقبض ويقول له: أنت تفعل بدعة! لا، وليس من حقه هذا بإجماع العلماء، فلو ترجح عندك دليل القبض بعد الركوع فتقبض وتعتقده سنة وأنت مثاب على قبضك وعلى السنة؛ لأن عندك الدليل وعندك الحجة، وغيرك ممن لا يرى القبض بعد الركوع ليس من حقه أن يقول: أنت مبتدع، ويهجرك؛ لأن هذا لاعتقاده هو. وكذلك جلسة الاستراحة، فلو كان يرى أن جلسة الاستراحة بدعة للشاب والقادر والجلد، ويراها سنة للعاجز المحتاج كما في حديث مالك بن الحويرث، والآخر يراها سنة مطلقة فجلس وهو قادر على القيام مباشرة، فليس من حق من لا يراها أن يبدع من يراها، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له. وعلى هذا نقول: إن المبتدع الذي يرتكب البدعة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، يحكم بتبديعه ويهجر، وحكى غير واحد من العلماء الإجماع على هجر المبتدع، وأخذوا أصل ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر الثلاثة الذين خلفوا أن يعتزلوا الناس، ألا يكلمهم الناس. فمثل هذا إذا كنت مأمورا بهجره فإن إجابة دعوته تخالف الأمر بالهجر، فلذلك نص المصنف رحمه الله على أن المأمور بهجره من أهل البدع كالرافضي ونحوه لا تجاب دعوتهم؛ لأن فيه نوع إقرار لهم على ما هم عليه من البدع ومخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا إذا كان هناك منكر كما سيأتي إن شاء الله، على التفصيل الذي سنذكره من حيث قدرته على تغيير المنكر وعدم قدرته. حكم إجابة الدعوة عند التعيين قال رحمه الله: [إن عينه ولم يكن ثم منكر] . (إن عينه) هذا هو الشرط، قال لك: يا فلان! تحضر، وهناك صيغ: الصيغة الأولى: أن يأمرك بالحضور. الصيغة الثانية: أن يخيرك. الصيغة الثالثة: أن يجعله معلقا على محبتك. الصيغة الأولى: أن يقول لك: احضر زواجي، أريد أن تحضر زواجي، أدعوك إلى زواجي، فهذا عينك وطلب منك أن تحضر، فيجب عليك أن تجيب. صيغة التخيير أن يقول لك: أريدك أن تحضر زواجي إن شئت، فهذا ترك لك الخيار، فقال بعض العلماء: تصبح مخيرا، وكان بعض الأئمة كالإمام الشافعي يقول: إن علقه على التخيير والمحبة لا يجيبه؛ لأنه لم يبت له؛ لأنه لو أراد أن يدعوه لقال له: تحضر، لكن لما قال له: إن شئت، فمعناه أنه لم يدع دعوة الجزم، وليس هو من الأشخاص الذين يريد حضورهم فعلا مؤكدا لحضوره، فإذا قال: إن شئت، إن أحببت، فقد جعل الأمر إليه. وقال بعض العلماء: إن شئت وإن أحببت، تختلف باختلاف الأشخاص الذين قيل لهم ذلك، فإن كان عند الشخص ظروف وعلقه الداعي على المشيئة لعلمه بوضعه، مثلا: حدث حادث له، أو زوجته مريضة، أو ابنته مريضة، فجاء من باب الملاطفة حتى لا يحرجه ولا يجحف به فقال له: إن استطعت، إن أحببت، إن شئت، فهذا لوجود الموجب الذي يوجب هذا التخيير. وأما إذا لم يكن ثم موجب وحدث عنده زواج ويأتي يقول لك: تحضر إلى الزواج إن شئت، أريد أن تحضر إن أحببت، فهذا لو كانت المودة قائمة فإنه يحرجك ويجحف بك؛ لبالغ محبته لك ورجائه لحضورك، وهذا أمر يعلمه الجميع. حكم إجابة الدعوة المشتملة على منكر وقوله: (ولم يكن ثم منكر) لأنه إذا كان هناك منكر فالحق لله عز وجل، فإن كنت تستطيع إنكاره وتغييره بحيث إنك إذا قلت يسمع قولك، وإن نهيت ينتهى بقولك؛ فإنه يجب عليك الحضور؛ لأنك إذا حضرت أقمت حق الله عز وجل. وهكذا إذا استطعت أن تحرج أهل الزواج كأن يكونوا أقرباء، فتقول لهم: إن كان هذا المنكر موجودا فلن أحضر، وتشدد عليهم، وتعلم أنك إذا قلت هذا القول فإنهم يتركون المنكر فيجب عليك؛ لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
__________________
|
#540
|
||||
|
||||
![]() حكم إجابة الدعوة العامة قال رحمه الله: [فإن دعا الجفلى أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كرهت الإجابة] . الجفلى: الدعوة العامة، كأن يقول: أيها الناس! أنتم مدعوون إلى زواجي، أو يأتي -مثلا- في مجمع فيقول: حيا الله الجميع على عشائي أو غدائي، لكن في بعض الأحيان قد يحدث هذا في القرى التي يكونون قرابة وأبناء عم ونحو ذلك، فيفعلون هذا لأنه متعارف بينهم، فهي أشبه بالتعيين. لكن حينما يأتي إلى أناس متعددين، فيهم من يعرفه وفيهم من لا يعرفه، ويدعو دعوة عامة، فكان بعض العلماء يكره الإجابة في مثل هذا؛ لأنك لم تعين، والشخص إذا لم يعين فكأنه يذهب من أجل الطعام، وكأنهم كرهوا الإجابة من هذا الوجه، كرهه بعض أئمة السلف، ونص عليه المصنف هنا. دعوة الجفلى لا يكون فيها الانتقار، وهناك دعوة الانتقار التي هي التخصيص، إلا أن دعوة الجفلى من الناس الكرام المعروفين محمودة؛ لأنهم أهل كرم، ولذلك يقول: نحن في المشتاة ندعوا الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر يفتخرون بأن الرجل منهم إذا أراد أن يدعو الناس دعاهم كلهم، ولا يأتي ويقول: يا فلان تحضر، ويحدد الأشخاص الذين يحضرون؛ لأن الذي يخاف على طعامه ويخاف على حاله يحدد المدعوين؛ لأنه لا يريد أن يتحمل أكثر من هؤلاء الأشخاص، لكن إذا كان كريما، ولا يبالي بما أنفق ولا يبالي بما ذبح ولا يبالي بما أطعم، ويحب إطعام الناس ويحب إكرام الناس يفتح بيته ويدعو الناس، ويرى كل الناس معارفا له، فإذا جاءه من يعرفه ومن لا يعرفه هش في وجهه كأنه يعرفه، وهذا من الكرم والجود، وهو صنيع أهل الفضل، وكان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي الصالحين كذلك. فالخلاصة هنا: إذا حددك فله حكم، وإذا عمم فلا يجب عليك؛ لأنه إذا عمم يصبح فرضا كفائيا، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وقاعدة المسألة أن إجابة الدعوة في المعين لازمة، وهذا هو الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا دعاك فأجبه) . وإجابة الوليمة نص النبي صلى الله عليه وسلم على لزومها وأنها من حق المسلم على المسلم، وكما في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإجابة الداعي، فهذا كله يدل على ثبوت الحق بالتعيين، وأما إذا عمم فالأمر كما ذكرنا. وقوله: (أو في اليوم الثالث كره) أي: دعاه في اليوم الثالث (كره) لأنها دعوة رياء وسمعة. حكم إجابة دعوة الذمي وقوله: (أو دعاه ذمي) ، العلماء يكرهون إجابة دعوة الذمي، وقد بينا ضابط أهل الذمة من أهل الكتاب، وبينا معاملة المسلمين لهم وحقوقهم على المسلمين وحقوق المسلمين عليهم، بينا هذا كله في كتاب الجهاد، ولكن إذا دعا الذمي مسلما فبعض العلماء يقول: فيه تفصيل: إن كانت إجابتك للدعوة من أجل أن تدعوه للإسلام، وبشرط ألا يكون طعامه طعاما محرما كالميتة والخنزير والشراب المحرم كالخمر ونحوها؛ فإنه يجوز لك ذلك ويشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، وكذلك أيضا استضافته اليهودية -عليها لعائن الله تترى- لما وضعت السم في الشاة، فما وضعته إلا بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واستضافتها للنبي عليه الصلاة والسلام. قالوا: هذا يدل على أنه إذا رجا أن يدعوهم أو يتألفهم للإسلام فلا بأس، كالعالم والقاضي والإمام ونحوهم، وأما إذا كان من عامة الناس المسلمين فتكره؛ لأنه يخشى أن يؤثر عليه. وهكذا إذا علمت أن له غرضا كمصلحة دنيوية، خاصة إذا كان موظفا تحتك أو نحو ذلك فلا تجب الدعوة؛ لأنها أشبه بالرشوة؛ لأنه يريد أن يتوصل بها إلى مصلحته، والحكم لا يختص بالذمي، بل حتى لو دعاك من هو دونك في المرتبة لمصلحة في العمل والوظيفة من أجل محاباته فإنه لا يجوز لك إجابته، وكالطالب يدعو شيخه إذا كان تلميذا عنده، كما هو موجود في المدارس أو نحوها فإنه لا يجيبه إلا إذا كانت دعوته عامة كدعوة الزواج فإنه يحضر زواجه، لكن إذا قال له: أريد أن تتغدى عندي أو تتعشى، بدعوة خاصة فإنه لا يجيب، وكالقاضي لا يجيب الناس إلى الدعوات الخاصة إلا ممن كان يدعوه قبل القضاء، أما بعد القضاء إذا دعاه فمن المعلوم أنه ما دعاه إلا لأجل أنه قاض. وعلى هذا يفرق في دعوة الذمي بين أن يكون فيها مصلحة شرعية يقصد منها مقصود شرعي وبين غيرها. قالوا: إذا دعاك الذمي ولم يكن هناك غلبة ظن أنك تؤثر عليه فإنك إذا أكلت طعامه ستكون منة له عليك، واحتقارهم مطلوب شرعا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ، فشعورهم بعزة الإسلام وعلو الإسلام مقصود شرعا، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وقد قالوا في الحكمة والمثل: (من أكل طعام قوم ذل لهم) يعني: تنكسر عينه، ويصبح كأنه ملك بذلك المعروف، فإذا أكل المسلم طعام الذمي كأنه صارت منة للذمي على المسلم، وأصبح الفضل للذمي على المسلم، وهذا سبيل لا ينبغي أن يمكن الذمي منه. حكم إجابة الصائم للدعوة قال رحمه الله: [ومن صومه واجب دعا وانصرف] . ومن كان صائما صوما واجبا فإنه يدعو لأهل الوليمة كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرف ولا يجب عليه أن يطعم. فعندنا أمران: - إجابة الدعوة والحضور. - والأكل من الوليمة. فإجابة الدعوة تتحقق بالحضور، والأكل من الوليمة، فإذا امتنع من الأكل لمكان الصيام فإن الحضور واجب عليه، إلا إذا وجد عذر يتعلق به أو وجد عذر شرعي كالمنكر ونحوه فهذا مما يستثنى. قال رحمه الله: [والمتنفل يفطر إن أجبر ولا يجب الأكل] . قيل له: كل، أو أحرج فإنه يفطر، وهو متطوع أمير نفسه، وأما إذا امتنع المتطوع ولم يجبر وبقي على صيامه فلا بأس فـ ابن عمر رضي الله عنهما أثر عنه أنه حضر ودعا وصلى ثم انصرف وقال: (إني صائم) . متى يباح طعام الوليمة قال رحمه الله: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة] . عندنا لفظان: إجابته وإباحته، فقد تكون في بعض المسائل إجابته وفي بعضها إباحته. فإجابة الدعوة متوقفة على صريح إذن بالحضور، فما يأتي الإنسان بدون إذن، ولا يحضر الدعوة بدون إذن. وعندنا (إباحته) وهي في غالب النسخ، وهي الأظهر هنا، أي: إباحة طعام الوليمة، فيكون المصنف شرع في مسألة إباحة طعام الوليمة. يباح طعام الوليمة بصريح إذن أو قرينة، صريح الإذن مثل أن يرسل لك البطاقة ويقول: أدعوك لتناول طعام العشاء أو لحضور العشاء، هذا كله صريح في الإذن، فقد أذن لك أن تحضر وتتعشى، فحينئذ لا إشكال. أما القرينة الدالة عليه فمثل: مد الموائد وبسطها، فإذا مد المائدة وبسطها وأشار بيده، ولم يتكلم؛ فإن هذه قرينة دالة لإباحته؛ لوجود الطعام بيننا وتقريبه إلينا، أو جاء والجماعة جالسون فوضع السفرة عندهم ثم وضع الطعام، فهذا معناه أنني أتيت بهذا الطعام لكم وقد أذنت لكم أن تأكلوا منه. واختلف العلماء، فقال بعض العلماء: وضع الطعام لا يدل على الإذن ما لم يأذن صاحبه، وقال بعضهم: الدعوة إذن وإباحة بالأكل. فائدة المسألة: ما يقع الآن في بعض الأحيان، حيث تمد السفر ثم يوضع الطعام عليها، ولا يتكامل الطعام ولا ينتهي، فيأتي بعض الناس ويأكل قبل تمام السفر، فإن قلنا: الدعوة إذن بالطعام، حل له ذلك، وإن قلنا: لابد من إذن أو قرينة فلا الإذن موجود ولا القرينة؛ لأن القرينة ما تكون ظاهرة إلا بعد اكتمال السفر وتمامها، فإذا تمت السفر واكتملت سنأكل، ولذلك يقبح أن يأكل قبل الآخرين، خاصة العلماء وطلاب العلم وأهل الفضل، فإن وجد هذا في طالب علم أو إنسان له مكانة أو إمام مسجد يأتي بمجرد ما توضع السفرة ويمد يده إليها ويأكل، فهذا من خوارم المروءة. ما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فينتظر حتى يؤذن لهم، ولذلك قالوا: يستحب لطالب العلم دائما أن يأخذ بالكمالات، فعندنا قول يقول: مجرد الدعوة إذن، وعندنا قول يقول: الإذن يكون بعد وضع الطعام، وقوله تعالى: {إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب:53] قيل: إن هذا يعني أن مجرد الدعوة يكفي، وقال بعض العلماء: لا، بل لابد أن يأذن صاحبه، فتأخذ بالأكمل وهو أن يأذن لك صاحب الطعام، فيصبح هذا إكراما لعلمك، وإكراما لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي في صدرك، فلا تنظر للشيء بنفسك، وإنما تنظر بحق العلم عليك، وما فعلت ذلك إلا كنت بخير المنازل، فإنه من المجرب أن طالب العلم إذا كان دائما يأخذ بالكمالات يرفع الله قدره، ويقذف الله في قلوب الناس حبه وإكرامه وإجلاله كما صان العلم وصان كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أحسن بحق العلم عليه؛ فإن الله عز وجل يقذف في نفوس الناس الشعور بحقه ومكانته، والعكس بالعكس. ولذلك تجد بعض الناس إذا جالس الناس له هيبة ومحبة وكرامة، وقد تجده من عامة الناس، لكن تجد عنده من الصفات الحميدة، ومن كمالات المروءة ما جعل الله له به هذا الحال الحسن عند الناس، والعكس: فقد تجد الرجل ولو كان في منزلة عالية، ما أن يصبح متهتكا ويرتكب خوارم المروءة إلا وجدت الناس لا تشعر له بإجلال ولا تشعر له بهيبة، نسأل الله السلامة والعافية. يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا يزال المسلم بخير ما استحيا وأخذ بكمالات الأمور، فالذي يظهر أنه ينتظر إلى الإذن أو القرينة الدالة على الإذن. ولذلك جرت العادة في بعض الأحيان أنه إذا وضع الطعام للضيوف أنهم ينتظرون إذن صاحب الطعام، وهذا لا شك أنه أفضل وأكمل؛ لأن صاحب الطعام في بعض الأحيان يحب أن يتكامل طعامه حتى يراه الضيف ويشعر بمكانته عنده، ويحب أن ترى سفرته وهي على أتم وجوهها وأكملها، فلا شك أن هذا أفضل وأكمل. حضور الوليمة التي فيها منكر لتغييره قال رحمه الله: [وإن علم أن ثم منكرا يقدر على تغييره حضر وغيره وإلا أبى] لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أوجب عليه التغيير، والتغيير متوقف على حضوره، فيجب عليه الحضور وينكر ما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم برده وإنكاره. وإلا أبى عن الإجابة؛ لأن حضوره إقرار بذلك، وقال بعض العلماء: يحضر ويهنئ ذا الرحم -كأن يكون ابن عمه أو قريبه- يحضر ويهنئه ويأخذ بخاطره، ثم ينصحه في المنكر، فإن استجاب فالحمد لله وإن لم يستجب ينصرف، فعندنا حضور، وعندنا جلوس، فالحضور واجب عليه على الأصل، أما مسألة الجلوس والمكث فوجود هذا العارض يمنع من الجلوس، فيصبح المنع بخصوص الجلوس، ولا يسقطون عنه الحضور، بل يقولون: يحضر؛ لأن إجابة الدعوة تشمل الأمرين، وإذا سقط أحدهما وهو الجلوس في مكان المنكر فلا يسقط الآخر، ولا شك أن الثاني فيه احتياط، وقد يكون في زماننا أبلغ في التأثير على الناس، لكن إذا كان الشخص تأول القول الآخر بأنه لا يحضر بالكلية فله وجهه. إذا علم بالمنكر بعد حضوره الدعوة قال رحمه الله: [وإن حضر ثم علم به أزاله] . (وإن حضر) على أنه ليس هناك منكر، ثم أخبر أن هناك منكرا، وأزاله أتم جلوسه، فإن لم يستجب له انصرف، هذا بالنسبة إذا حضر وليس بذهنه أن هناك منكرا. والمنكر لابد أن يكون منكرا؛ لأن في بعض الأحيان قد ينكر الإنسان شيئا أقرته الشريعة، فتجد بعض طلاب العلم إذا سمع ضرب الدفوف ينصرف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف) ، والشرع مقصوده أن يضرب بالدف ويسمع حتى يعلم الناس أن هناك زواجا، فمن حضر يعلم أنه زواج، ومن لم يحضر يعلم أن فلانا تزوج فلانة، فإذا أردت أن تخفي هذا الدف خالفت مقصود الشرع، فالبعض ربما يجعل ما هو سنة منكرا بسبب الجهل، فلابد من سؤال العلماء والتبين والاستبيان، فإن بان أن هذا منكرا لا يجوز، وأن الله ورسوله لم يأذن به، وأنه مما حرم؛ فحينئذ يعامله معاملة المنكر من وجوب تغييره، فيغير باليد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. فإذا لم يقبل منه ذلك انصرف، فيكون أدى للمتزوج حقه، وقام بحق الله عز وجل من الخروج من مكان المنكر، ويشمل هذا شرب المحرمات، فشرب المحرمات على نوعين: الأول: نوع يحضره أهل الزواج للشخص ليشربه، فيكون المجلس عاما، مثل القاعات الواسعة، فتدخل الآلات المحرمة التي يشرب الحرام بواسطتها، على مرأى ومسمع من الناس، ومعنى ذلك أنه أخبر صاحب القاعة أن يحضر هذا الشيء لمعازمه وضيوفه، وأنه مقر لذلك. فإذا حضرت فمن حقك أن تقوم؛ لأنه لا يمكن أن تقول لمن يشربها: ما يجوز هذا، وتذهب إلى كل من يشربها فتنصحه، بل تذهب إلى أهل الزواج وتقول لهم: اتقوا الله عز وجل فهذا لا يجوز، والله يبارك لكم في زواجكم ويباركم لك في هذا الزواج إذا اتقيتموه، وإذا اتقيتم الله عز وجل وضع لكم الخير في هذا الزواج، أما أن تسايروا الناس فيما حرم الله فهذا لا خير لكم فيه، وقد يمحق الله بركة الزواج بحصول هذه المحرمات فيه، فتذكرهم بالله. ومن التذكير بالله أن ترغبهم فيما عند الله من حصول البركة بزواجهم وحصول الرضا عنهم إن أطاعوه، وترهبهم مما عند الله من العقوبة، بأسلوب مؤثر ومقنع ومقبول وحسن، مدعم بالدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بينت لهم الحجة واستبان لهم السبيل واستبانت لهم المحجة بعد ذلك إن رضوا وأجابوا فالحمد لله، وإن أبوا وأصروا فإنك تنصرف إحياء لحق الله عز وجل. الثاني: إذا كان المنكر يفعله الشخص المدعو في نفسه، فإن هذا تنكره على الشخص نفسه، فإذا كان يشرب المحرم من نفسه، وأهل الزواج لم يعطوه المحرم ليشرب، وإنما هو من نفسه أخرج المحرم وشربه، فإنا لا نحمل أهل الزواج، وإنما نقول لأهل الزواج: أنكروا على هذا؛ لأنه لا يجوز لهذا أن تأتوا بها في مجامع الناس من أجل أن يشرب قالوا: والله! هذا ضيف! فلك الحق أن تخرج؛ لأنهم أقروه على منكره. فإن جاءوه ونصحوه ومنعوه أن يشربه، ولم يمتنع من شربه في وجه الناس؛ فحينئذ جلست وإلا انصرفت، هذا بالنسبة للمنكر الخاص، وفي بعض الأحيان يكون المنكر الخاص في معزل، مثلا: يكون من يشرب الحرام يأتي به في جيبه ويشربه في غرفة لست أنت فيها، فيسع الجلوس في هذه الحالة، كما لو اغتاب أو قال النميمة في مجلس غير مجلسه، فالأمر في هذا أوسع. قال رحمه الله: [فإن دام لعجزه عنه انصرف] . فإن دام وبقي المنكر وهو عاجز عن إنكاره انصرف. قال رحمه الله: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير] . مثلا: قيل له: في الغرفة الفلانية كذا أو جيء بكذا، فقال بعض العلماء: إنه يخير: فإن شاء جلس، وإن شاء انصرف، لكن يجب عليه إنكاره -إن وسعه ذلك- بيده أو بلسانه إذا لم يستطع باليد على الترتيب المعروف في إنكار المنكر. حكم النثار والتقاطه قال رحمه الله: [وكره النثار والتقاطه] . كانوا في الأعراس ينثرون الحلوى وينثرون الدراهم، فيرمونها والناس تلتقطها، وكان هذا موجودا إلى عهد قريب، والحمد لله أن هذه الأمور اندثرت وذهبت، ونسأل الله ألا يعيدها، فهي من الأمور التي لا خير فيها؛ لأنهم كانوا ينثرون الطعام وينثرون الحلوى فيتساقط الناس عليها، ويتسابقون في أخذها، فتحدث الشحناء والبغضاء والتنافس على أمور الدنيا، وتجعل بعضهم يحقد على بعض. وكانوا ينثرون الدراهم والأموال على المدعوين الذين حضروا من باب المكافأة لهم على الحضور، فيكره هذا النثار؛ ويجوز له أن يعطي، وقيل: إنه يكره؛ لما فيه من الآثار السيئة، ويكره للإنسان أن يأخذه؛ لأنه من خوارم المروءة، فالتقاط النثار من خوارم المروءة. وفي حكم هذا الصدقات عندما ترمى على الناس، فكره بعض أهل العلم هذا الأسلوب، ومثل أن يكون عنده ماء يريد أن يتصدق به على الناس فيرميه على الناس، أو تكون عنده أطعمة يرميها على الناس وتسقط على الأرض، ولربما تلفت إذا سقطت، ولربما ضربت الناس في رءوسهم وفي أجسادهم، وقد ترمى رميا فيه أذية، ورميها يغري الناس بضرب بعضهم لبعض، وأذية بعضهم لبعض، فإذا جئت تنظر إلى الحسنات التي يأخذها فقد تكون السيئات وسب الناس بعضهم لبعض وشتم الناس بعضهم لبعض أعظم، كل هذا من المفاسد التي هي أعظم من المصلحة التي ترجى من وراء اليسير الذي يريد أن يسقيه الناس أو يعطيهم. ولذلك كره العلماء مثل هذا الأسلوب، وهو في حكم النثار، إنما المنبغي أن يرتب الناس، ويعطى الأسبق فالأسبق، بطريقة تحفظ ماء وجوه الناس، وتحفظ كرامتهم، وأيضا تدفع الضرر عنهم، ولا تكون سببا في حصول الضرر عليهم، ولا تكون سببا في امتهان نعمة الله عز وجل والإضرار بها. قال رحمه الله: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله] . ومن أخذ النثار فإنه له؛ لأنه يملك بالقبض، والهبة والعطية إذا قبضها أخذها وملكها، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه الوزير بن هبيرة رحمه الله في كتابه الإفصاح، فالهبة تملك بالقبض. قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا عائشة! أي بنتاه! إني كنت قد نحلتك من مالي بالغابة، ولو أنك قبضتيه لكان ملكا لك، أما وإنك لم تقبضيه فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) ، فهذا يدل على أنه إذا لم يقبض الموهوب لا يملك. مشروعية إعلان النكاح قال رحمه الله: [ويسن إعلان النكاح والدف فيه للنساء] . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فيضرب النساء بالدفوف؛ لأن في ذلك إحياء للسنة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وفيه فرق بين السفاح والنكاح؛ لأن السفاح يسر، والنكاح يشهر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 18 ( الأعضاء 0 والزوار 18) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |