الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4936 - عددالزوار : 2024209 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4511 - عددالزوار : 1301455 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 859 - عددالزوار : 119067 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40243 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 367085 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 17-04-2025, 12:04 PM
الصورة الرمزية زارع المحبة
زارع المحبة زارع المحبة غير متصل
قلم مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
مكان الإقامة: الجزائر
الجنس :
المشاركات: 11,230
الدولة : Algeria
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

ليس الايمان بالتمني ....
__________________



رد مع اقتباس
  #162  
قديم 06-05-2025, 03:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (161) دعوة غيَّرت وجه الأرض (8)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الثامنة:
قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ):
قال القرطبي -ونقل مثله البغوي عن ابن عباس ومقاتل-: "تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه، من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أُسْكِنَا بوادٍ غير زرع"؛ نجد في هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- المشاعر الفياضة من الحنان والرحمة من الأب بولده وأم ولده، والإشفاق البالغ عليهم، مع اليقين بوعد الله وحفظ الله، وعلم الله المحيط بما نخفي وما نعلن، فهو يعلن الدعاء ويعلن الامتثال، ويبطن الإخلاص في ذلك، مع اليقين بأن الله لا يضيعهم، مع كمال التوكل على الله -عز وجل-.
وأيضًا مع هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة من الحنان والوجد عليهم، لكن لا يغير ذلك كمال الامتثال، وبهذا كله -وغيره- وصل إبراهيم إلى منزلة الخلة "فهو خليل الرحمن"؛ فقد أَخْلَص لله وأُخْلِص لله، وأسلم لله، وأحب الله فوق كل حب، وضحَّى بنفسه وولده لله -عز وجل-، ومع ذلك لم يكن عنده القسوة ولا الغلظة على خلق الله؛ خاصة أحبهم إليه من ولده وأهله، مع شدة ضعف الولد، وشدة عجز أمه كذلك في هذه البيئة الجغرافية الصعبة من الجبال والصحراء وحولها، وانعدام الزرع، وانعدام الماء ساعتها، وانعدام الأنيس والبشر بالكلية، والمعين.
كل ذلك كان يجول في نفس إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقول إلا ما يرضي ربه ويتوكل عليه، ويكل ولده وأمه إلى الله الذي أيقن أعظم اليقين أنه لن يضيعهم، وأنه لن يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا شك أنه أمر بهذا الأمر من إسكان أهله وذريته بوادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرم؛ يعلم أن من وراء ذلك من المصالح والحِكَم والخيرات ما أُثِيب عليه إبراهيم، وما أثيبت عليه هاجر، وما أثيب عليه إسماعيل حين هوت قلوب المؤمنين عبر الزمان إلى هذه البقعة المشرَّفة طالبين الأجر والثواب والرضوان من ربِّ العباد الذي شرع أن تعمَّر مكة المكرمة.
وبغير هذا لم تكن مكة لتعمر، بل ولا لتنشئ أصلًا، لكنه فضل الله ورحمته بالبشرية كلها وبإبراهيم وإسماعيل وهاجر -عليهم السلام-، وعلينا من بعدهم لتعمير مكة موضع النسك والشعائر، ومضاعفة الأجور، والولادة الجديدة للقلوب بالحج والعمرة، اللهم لك الحمد، ولك أسلمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، أنت ربنا وإليك المصير.
الفائدة التاسعة:
وفي قوله -تعالى-: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، تقرير كمال صفة العلم له -سبحانه وتعالى-، بالكليات والجزئيات؛ خلافًا للفلاسفة الكفرة الذين زعموا أن الله لا يعلم الجزئيات؛ ولأنهم ينفون الذات والأسماء والصفات، فواجب الوجود أو الوجود المطلق ليس له ذات ولا اسم ولا صفة، ولا علم ولا إرادة! هذه العقيدة الخربة التي تدل نصوص القرآن على إبطالها بالكلية، فكلها تثبت علم الله بالكليات والجزئيات؛ منها هذه الآية: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، ومنها قوله -تعالى-: (‌وَعِنْدَهُ ‌مَفَاتِحُ ‌الْغَيْبِ ‌لَا ‌يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59)، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌يَعْلَمُ ‌مَا ‌يَلِجُ ‌فِي ‌الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4)، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌سَادِسُهُمْ ‌وَلَا ‌أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، وقال -تعالى-: (‌وَمَا ‌يَعْزُبُ ‌عَنْ ‌رَبِّكَ ‌مِنْ ‌مِثْقَالِ ‌ذَرَّةٍ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌وَلَا ‌فِي ‌السَّمَاءِ ‌وَلَا ‌أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: 61).
وما جنت الفلسفة على البشرية إلا الجهل والضلال، والظلمات والحيرة، والشك والشرك -نعوذ بالله من ذلك-، وهذا يرشدنا: أن علم الكلام الذي استعمل أساليب الفلاسفة وطرق المنطق في الاستدلال لا خير فيه، وقد أدَّى بأهله إلى أنواع البدع والانحرافات والضلالات، فقالت المعتزلة عن الله -تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا-: عليم بلا علم، وقالت الجهمية بأنه ليس بعليم ولا له صفة العلم، فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ ‌عِوَجًا) (الكهف: 1)، وأغنانا به عن الخوض بالباطل في مجاهل الفلسفة، وعلم الكلام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #163  
قديم 06-05-2025, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (162) دعوة غيَّرت وجه الأرض (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة العاشرة:
قوله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ): فيه شكر الله على نعمة الولد الصالح؛ خاصة على الكبر بعد طول انتظار، وفي هذا الجزء من القصة: عدم استعجال الإجابة، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- طلب الولد عند خروجه عن قومه، كما قال -تعالى-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 99، 100)، وقد كان فتى حين ألقي في النار، قال -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60)، ولم يمكث كثيرًا بعد إلقائه في النار ونجاته منها، بل اعتزلهم وما يعبدون من دون الله بعد أن ردوا دعوته رغم رؤيتهم الآيات، ومنها ومن أعظمها: النار التي ألقوه فيها، فلم تحرقه، بل كانت عليه بردًا وسلامًا.
ومع أن أباه قال له: نعم الرب ربك يا إبراهيم؛ إلا أنه لم يستجب لدعوته، ولم يقبل دعوة التوحيد، فدعا بهذه الدعوة العظيمة حين خرج عنهم وذهب إلى ربِّه: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وتأخرت الإجابة إلى أن بلغ الكبر والمؤمن ينبغي عليه الدعاء وعدم استعجال الإجابة؛ لأن الاستعجال من أسباب عدم الإجابة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي ‌فَيَسْتَحْسِرُ ‌عِنْدَ ‌ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه).
فالاستجابة قد تتأخر لحِكَم بالغة، منها: أن يتحقق العبد بكمال التفويض لله -عز وجل-، وحسن الظن به، وشدة التعلق به -سبحانه-، والرضا بما قسم، والإلحاح في الدعاء، وهو يحبه الله؛ لأنه عبادة، فيُثَاب على كل دعوة دعا بها، والإجابة لها صور، فالإجابة بنفس الدعاء صورة، أو أن يُصرَف عنه من السوء مثلها، أو يدخر له يوم القيامة ثوابها، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ ‌فِيهَا ‌إِثْمٌ ‌وَلَا ‌قَطِيعَةُ ‌رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها) قَالُوا: إِذنْ نُكثرُ، قَالَ: (الله أَكثر) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني). وفي رواية ذكرها في الترغيب والترهيب: "حتى يقول العبد يوم القيامة يا ليته لم يستجب شيئًا"؛ لما يرى من الثواب العظيم الذي أعدَّه الله له بدلاً من دعواته التي دعا بها ولم يرَ لها إجابة.
وتأخر الإجابة لا يلزم منه بُعد العبد عن ربه، بل إبراهيم خليل الله وأُخِّرت إجابة دعائه بالولد إلى الكبر، وخاصة من سارة التي لم يكن معه غيرها حين الخروج من أرض كنعان إلى الشام، وصحبته عمره حتى في رحلته إلى مصر التي أعقبها أن وهب لها الملك الجبار هاجر ووهبتها هي لإبراهيم حبًّا لزوجها وتحصيلًا لوجود الولد الصالح منه، وهذا فيه أعظم التضحية من هذه المرأة الصالحة التي اختارها الله -عز وجل- زوجة لخليلة -عليه الصلاة والسلام-، ورضي عنها.
فلا تيأس أيها المسلم ولا تبتأس إذا تأخرت الإجابة، وأيقِن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُوا اللَّهَ ‌وَأَنْتُمْ ‌مُوقِنُونَ ‌بِالإِجَابَةِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
الفائدة الحادية عشرة:
وقوله: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ): فيه استحضار هذا الاسم من أسماء الله الحسنى سميع الدعاء، والثناء على الله -عز وجل- به، وحمده -سبحانه وتعالى- على نعمته للاستجابة للدعاء، كما وعد -سبحانه- فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقال صالح -عليه السلام-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90).
ومعنى السمع في هذا الموطن -(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)-: الإجابة، كما في قول المصلي: "سمع الله لمن حمده" أي: استجاب الله له وقَبِل منه دعاءه وصلاته.
وتقديم الحمد في الدعاء، وختمه بأسماء الله الحسنى -خاصة سميع الدعاء- مِن أسباب إجابة الدعاء، فلا ينبغي للعبد أن يهمل ذلك في دعائه، فإنه عظيم الأثر في حصول مطلوبه، والله أعلى وأعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #164  
قديم 06-05-2025, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (163) دعوة غيَّرت وجه الأرض (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الثانية عشرة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): في هذه الآية بيان الإيمان بالقدر، وهذه الدرجة المذكورة في هذه الآية هي درجة الخلق والجعل، وهي التي ينكرها القدرية، ومنهم: الخوارج والمعتزلة -ومن سار على طريقتهم-، مع أن إثبات العلم والكتابة مع إثبات خلق الله للذوات يلزم منه أنه هو الذي خلق أفعال العباد وصفاتهم؛ لأنه طالما كان يعلم أنهم سوف يفعلون؛ فلو أراد ألا يُعصَى لما خلقهم.
فتناقض هؤلاء المعتزلة؛ فأثبتوا خلق الله للذوات، وأنكروا خلق الله لأفعال العباد؛ بزعمهم أن العدل يقتضي ذلك! وأوجبوا على الله بعقولهم من حيث لا يعلمون ما أوجبوه على أنفسهم، والله -سبحانه- قد خلق للعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم؛ فهذا هو العدل الذي وصف الله نفسه به، ولم يظلم الناس شيئًا، ولا يظلم مثقال ذرة، ولكنه -سبحانه وتعالى- هو الخالق لكل شيء، كما قال -عز وجل-: (اللَّهُ ‌خَالِقُ ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ) (الزمر: 62)، وقال: (‌وَخَلَقَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ) (الأنعام: 101)، وقال -عز وجل-: (‌وَاللَّهُ ‌خَلَقَكُمْ ‌وَمَا ‌تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96).
وهذه المرتبة قد بيَّنها الله -عز وجل- في مواضع كثيرة في كتابه يشق حصرها، منها: قوله -تعالى- عن إبراهيم وإسماعيل -صلى الله عليهما وسلم-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ? إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128).
فالإسلام أصلاً من خلق الله في قلوب المؤمنين، ومن جعله لهم كذلك، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَسَطًا) (البقرة: 143)، فوسطية الأمة بعملها وعقيدتها هي من جعل الله وخلقه لهم كذلك، وقال -سبحانه وتعالى- عن اليهود: (‌فَبِمَا ‌نَقْضِهِمْ ‌مِيثَاقَهُمْ ‌لَعَنَّاهُمْ ‌وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13).
فقسوة قلوبهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، عقوبة جعلها الله وخلقها فيهم على نقضهم الميثاق؛ فهذه القسوة خَلْق خلقه الله، وجعله صفة لقلوبهم.
وقال -سبحانه وتعالى-: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ‌أَكِنَّةً ‌أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (الأنعام: 25)، وهذه الآية من أوضح ما يدل على أن الله يضل من يشاء بأن يجعل على قلوبهم أغطية؛ حتى لا تفقه الحق ولا تراه، رغم وضوحه وبيانه كالشمس!
وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ‌شَيَاطِينَ ‌الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 112-113)، فقضى الله -عز وجل- بحكمته وجعل -سبحانه وتعالى- لكل نبي عدوًّا من شياطين الإنس والجن، وهو الذي خلقهم كذلك، وجعلهم كذلك، وهو الذي قدَّر أن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف الذي يُغَر به من شاء الله -عز وجل- من أهل الضلال، ولتميل إلى هذا القول المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوا ذلك الباطل وليقترفوا ما هم مقترفون من المعاصي والذنوب، وكل ذلك بجعله بعلمه وحكمته؛ وضع الأشياء في مواضعها، ولا يجعل الشياطين كالنبيين، ولا المسلمين كالمجرمين، ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولا المتقين كالفجار.
وقال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ ‌زُيِّنَ ‌لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 122)، فالله الذي جعل النور في قلوب المؤمنين وهو الذي أحيا هذه القلوب بعد موتها، وعلَّمها بعد جهلها، وجعلهم يمشون بهذا النور في الناس يعلمونه وينشرونه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي زَيَّن لكل أمة عملهم، فخلق هذا التزيين للباطل في قلوب الكفار، حتى ارتضوا الكفر -والعياذ بالله-.
وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ‌وَمَا ‌يَمْكُرُونَ ‌إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام: 123)، فهو -سبحانه- الذي جعل في القرى المجرمين وأكابرهم ليمكروا بأهل الحق، ويحاولوا ردَّه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي قدَّر ذلك كله بعلمه وحكمته.
وقال -سبحانه وتعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا ‌لِبَاسَهُمَا ‌لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27)، فالله الذي جعل الشياطين أولياء لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى زيَّنوا لهم التعري وكشف العورات، مع أن الله فطر العباد على سترها، وأن يسوء الإنسان ظهورها؛ فهذه خطة الشيطان التي يضل بها الناس والتي يجذبهم بها إلى ولايته، والله الذي يجعل ذلك عدلاً منه وحكمة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #165  
قديم 06-05-2025, 03:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (164) دعوة غيَّرت وجه الأرض (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الثالثة عشرة:
من أدلة خلق الله لأفعال العباد التي دَلَّ عليه قوله -تعالى- في هذه الآيات: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)، قوله -تعالى- عن إسحاق ويعقوب -عليهما الصلاة والسلام-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ‌يَهْدُونَ ‌بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، فالله الذي وفَّقهم للعلم والعمل والدعوة، فجعلهم أئمة في هداية الناس، وهم في أنفسهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، عابدين لله -سبحانه-، فهم يعبدون الله ويهدون بأمره الشرعي، ويعلمون الناس ما يلزمهم، ولا يكون العبد إمام هدى إلا بأن يعلم الحق ثم يعمل به ثم يدعو الناس إليه ويصبر على ذلك، وكل ذلك بجعل الله له حتى يوفقه فيفعل ذلك.
وقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ‌نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) (الأنبياء: 72) -ونافلة أي: ابن الابن-، فالصلاح فعل العبد والله -عز وجل- جعله صالحًا.
وقال -تعالى-: (‌وَجَعَلْنَا ‌بَعْضَكُمْ ‌لِبَعْضٍ ‌فِتْنَةً ‌أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان: 20)؛ فالذي قدَّر وجود الفتنة والامتحان، وجعل للرسل وأتباعهم المؤمنين أعداءً لهم يتسلطون على أذيتهم، ويحاولون صرفهم عن دينهم وفتنتهم، وجعل لأهل السنة أعداء من أهل البدع والضلال والزندقة؛ يمكرون بالليل والنهار لصرف الناس إلى باطلهم، ويحاولون نشر بدعهم وزندقتهم، وينفقون الأموال ليصدوا عن سبيل الله، ويضلوا الناس، وربما جعل لهم قوةً في الدنيا وسلطانًا على الناس؛ يمتحن بذلك عباده المؤمنين في الصبر والثبات على الحق ليضاعف لهم الأجر والثواب: (إِنَّمَا ‌يُوَفَّى ‌الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، فما جعل الله فترة الإحراق إلا ليضاعف للصابرين فيها أضعاف أضعاف الأجر في فترة الإشراق.
وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا ‌اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 88).
فلا تبتئسوا أيها المؤمنون بما يفعله أعداء الدين من غطرسة وطغيان، وسفك للدماء وانتهاك للحرمات، ونشر للضلالات، ومنها ما يسمونه: "الدين الإبراهيمي الجديد"، والذي ما أنزل الله به من سلطان.
ومن ذلك: القول بمساواة الأديان.
ومن ذلك: الطعن في الكتاب؛ بادِّعاء أنه حمَّال أوجه فلا يصح أن يُحتج به؛ لأنه يفهم على أمزجتهم!
ولا السنة؛ لأنها عندهم أخبار آحاد فلا تقوم بها حجة!
ولا الإجماع؛ لأنه عندهم آراء رجال كانوا قد عاشوا في وقت يختلف عن زماننا، أو بالطعن فيهم كما طعنوا في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كل ذلك لهدم الدين!
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي قدَّر ذلك، هو العزيز العليم؛ قدَّر ذلك لينظر: كيف نصبر، كيف نقاوم، كيف ننصر دينه بالحجة والبيان، والقوة والسنان حتى يأتي أمر الله، وهو -سبحانه- ناصر دينه، وجاعل أنصاره فوق الذين كفروا يوم القيامة.
وقال تعالى عن فرعون وملئه: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ ‌مِنَ ‌الْمَقْبُوحِينَ) (القصص: 42)، فهو -سبحانه- كما جعل الأنبياء والمؤمنين أئمة يهدون بأمره، فهو كذلك جعل فرعون وملئه أئمة ضلال يدعون إلى النار بطريقتهم وسلوكهم، كما أضلوا في الدنيا مَن كتب الله عليهم الضلالة من أقوامهم حتى أغرقهم الله وراءهم في اليم، فهم من بعد موتهم أيضًا يدعون إلى النار؛ بدعوتهم بسلوكهم وعملهم إلى الكفر، فقد جعلهم الله أسوة لأهل الطغيان والجبروت، يفعلون ما فعلوا، ويظلمون كما ظلموا، وأتبعهم -عز وجل- في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.
وليس كما يقول الزنادقة الكفار: إن فرعون مات طاهرًا مطهَّرًا! كما لم يستحي ابن عربي أن يكتبه في فصوصه، ويوافقه زنادقة زماننا، فيقولون: إن هذا رأي لبعض العلماء! وما هو إلا بقول الزنادقة؛ يزعمون أن فرعون قد تاب قبل موته وقبل الغرغرة، ومن أين لهم ذلك؟ وقد قال -عز وجل- في ردِّ ما يزعم من إيمانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ ‌لَمَّا ‌رَأَوْا ‌بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 85)، وقال -سبحانه وتعالى-: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ‌وَكُنْتَ ‌مِنَ ‌الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91)، ففرعون إمام يدعو إلى الضلالة؛ فكيف يكون طاهرًا مطهَّرًا؟!
وقال -سبحانه وتعالى-: (يَقْدُمُ ‌قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود: 98، 99)، وقال -تعالى-: (‌وَحَاقَ ‌بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر: 45، 46)؛ فكيف يكون مات طاهرًا مطهرًا؟! اللهم إنا نبرأ إليك من الكفر والضلال.
وكل ذلك بحكمة الله -عز وجل- وتقديره؛ ينظر كيف يقاوم أهلُ الحق أهلَ الزندقة والبدع والضلال، أهل النفاق والكفر، نعوذ بالله من شرِّهم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #166  
قديم 06-05-2025, 03:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (165) دعوة غيَّرت وجه الأرض (12)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الثالثة عشرة:
مسألة الجعل لأفعال العباد متواترة في القرآن، تواترًا يجزم كل مؤمن بالقرآن بثبوتها، فيلزمه أن يقر ويؤمن بهذه المنزلة من منازل الإيمان بالقَدَر، وهي خلق الله لأفعال العباد، فالله جعلهم يفعلون أفعالهم بإرادتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم، وعلى هذه الإرادة والقدرة منهم، ثم فعلهم لأفعالهم بها يحاسبهم الله عليها خيرها وشرها، فسبق مشيئة الله وقدرته على أفعالهم وخلقه لها لا يعني سلب إرادتهم وإلغاءها، ولا إلغاء قدرتهم؛ فهي موجودة ومؤثرة في الأفعال وإن لم تكن مطلقة، ولا أنها مستقلة بالتأثير، وليست خالقة موجودة، وليس تأثير إرادتهم وقدرتهم على سبيل الشركة مع إرادة الله وقدرته، ولا بدلًا منها، بل لا موجب إلا إرادة الله، ولكن لإرادتهم أثر لجعل الله لها مؤثرة، فمسألة أثر بين مؤثرين التي قال المتكلمون عنها: إنها مستحيلة إلا على سبيل الشركة والبدل، فكلامهم باطل.
والذي عليه أهل الإيمان: أنه يوجد أثر بين مؤثرين أحدهما أثر للآخر؛ فإرادة الله مؤثرة، والله جعل إرادة العباد لها أثر في أفعالهم، فالله الذي جعل هذا المؤثر مؤثرًا فيما أثَّر فيه، فهذه المسألة من أخطر المسائل التي تؤدي إلى الانحراف في قضية القضاء والقدر.
ومن هذه الأدلة المتواترة في القرآن على جعل العباد فاعلين، وخلقه لأفعالهم: قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، فهذه الآية دليل صريح على أن هذا الجعل المتعلق بفساد مَن يفسد، وسفك الدماء ممن يسفكها، هو بقَدَر الله -سبحانه- وجعله، وهو -سبحانه- يعلم من الحِكَم والمصالح في وجود هذا الفساد وسفك الدماء ما لا يعلمه الملائكة، وذلك وجود النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، والعلماء العاملين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدُّعَاة إلى الخير، والمجاهدين في سبيل الله، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، والزُّهَّاد والعُبَّاد، وغيرهم ممَّن أحب الله وجودهم، ولا يمكن أن توجد هذه الصفات إلا بوجود أضدادها من الشرك والكفر والمعاصي.
ومن هذه الأدلة قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125)، فما يجده العباد المؤمنون في قلوبهم من الشوق إلى بيت الله الحرام، والرغبة في الرجوع إليه كلما بعدوا عنه، هو مِن جعل الله لذلك في قلوبهم برحمته لهم؛ حتى يقدموا على بيته حجاجًا ومعتمرين، ويكونون فيه طائفين قائمين، راكعين ساجدين، عاكفين.
ومن ذلك قوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ ‌أَنْ ‌يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125)، فشرحه -سبحانه وتعالى- صدر المؤمن بفضله ورحمته، نص في قدرته على خلق الهداية والانشراح للإسلام في صدر المؤمن، فالعبد انشرح صدره للإسلام والله شرحه، وأما الكافر فضاق صدره للإسلام حتى كان كالشجرة الحرجة التي بين الأشجار لا يوصل لها، فهو قد ضاق صدره وحرج أن يدخل قلبه الإسلام، والله هو الذي جعله ضيقًا كذلك، كأنه يكلَّف الصعود في السماء ولا يقدر.
ومن ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ ‌لَكُمْ ‌فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29)، فالفرقان هو الذي يفرِّقون به بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والإيمان والكفر، والهداية والضلال، والخير والشر؛ فهذا الفرقان قد جَعَله الله في قلوبهم، وهم قد فرَّقوه، وهو -عز وجل- هداهم لما اختلف الناس فيه من الحق بإذنه، وقد جعل الله خلقه لهذا الفرقان في قلوبهم جزاءً لهم على تقواهم، وهي علم وعمل؛ فمَن اتقى الله جعل الله له فرقانًا، ومن اهتدى زاده الله هدى، ومن عمل بطاعة الله وفَّقه الله للمزيد من الطاعة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #167  
قديم 18-05-2025, 10:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (166) دعوة غيَّرت وجه الأرض (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الرابعة عشرة:
من أدلة جعل الله وخلقه لأفعال العباد: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌يُنْفِقُونَ ‌أَمْوَالَهُمْ ‌لِيَصُدُّوا ‌عَنْ ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال: 36-37).
فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة: أن كل ما نراه من إنفاق الكفار الأموال والجهود للصد عن سبيل الله، وهذا يشمل أنواع السلاح التي يعدونها، والمركبات والطائرات والدبابات، والإعلام المضلل الذي يفتن الناس حتى يروا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وحتى يؤثروا شهوات الدنيا المحرمة الفانية على القرب من الله ونعيم الجنة؛ أن كل هذا من الصد، وعاقبته إلى الخسران والبوار، ومحق المكر السيئ الذي عنده يتحسرون على ما أنفقوا وما بذلوا من جهود، والذي ينتهي ويضمحل، ويُغلَب الكفار؛ كل هذا بجعل الله وخلقه؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) مشاهدًا للناس مرئيًّا بعد أن كان في عِلْم الله أذلًا، وليميز الخبيث من الطيب واقعًا بعد أن صار الخبيث في علمه خبيثًا في الواقع قد فعله الناس، وصار الطيب في علمه طيبًا في الواقع قد فعله الناس، ثم يجعل الله هذا الابتلاء بقوة الكفار وإنفاقهم سببًا لجعل الخبيث يجتمع مع الخبيث حتى يكثر ويتراكم، وكلما ازدادت الفتنة زاد اجتماع الخبيث بعضه على بعض، حتى إذا جاء وقت بطلانه ومحقة بقدر الله؛ جعل الله هذا الركام الخبيث المجتمع كله في جهنم.
وهنا يظهر مَن الذي كسب ومن الذي خسر، ومن الذي انتصر ومن الذي انهزم، وهذا من أعظم ما يعين الله به المؤمنين على الثبات والصبر على البلايا العظيمة التي تفوق تحمُّل غيرهم من البشر، فما نراه في غزة يفوق طاقة البشر في حياتهم العادية، ولكن صبر المؤمنين والمؤمنات تراه في وجوههم، ونبرات ألسنتهم، وصفة حياتهم وتصرفاتهم؛ لأن هذا الإيمان بأن الله جعل ذلك الأمر، ثم ينتهي الباطل ويظهر الحق (‌وَقُلْ ‌جَاءَ ‌الْحَقُّ ‌وَزَهَقَ ‌الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81).
ومن هذه الأدلة على جعل الله -عز وجل- وخلقه لأفعال العباد: قوله -تعالى-: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ‌فَأَنْزَلَ ‌اللَّهُ ‌سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
وهذه الآية من أعظم المبشِّرات للمؤمنين؛ لأن (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) التي تتضمن الكفر والفسوق والعصيان تعلو فيما يبدو للناس في أزمنة كثيرة، وأمكنة كثيرة، وتنتشر في العالم وينتشر تشويه الإسلام بها ويضلون عن سبيل الله، لكنه -عز وجل- بعزته وحكمته كما نصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ومعه صاحبه رغم كل الأسباب التي تؤدي أن يمسك الكفار بهما ويفعلون بهما ما يريدون لإيقاف دعوة الحق، فإنه -عز وجل- ينصر الإسلام وأهله في كل زمان ومكان رغم وجود المحاولات الكثيرة المستمرة التي لا تتوقف بين الترغيب والترهيب، الترغيب في الباطل والترهيب من الحق، والتشوية والتلبيس، واستعمال البطش والتنكيل والقتل لإزهاق الحق وأهله.
ومع ذلك فالله يجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، فمن يتصور أن الكفار مسيطرون على العالم بأسلحتهم الفتاكة وجنودهم، ومَن والاهم، وبأجهزة مخابراتهم التي يحصون بها على الناس كلماتهم، هو مخطئ في تصوره، بل خاطئ؛ فالأمر يدبره الله؛ لأن كلمتهم لا بد أن تصير إلى السفل والمحق، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ لأن من صفات الله العزة والحكمة، والله عزيز حكيم، فيستحيل أن يسلط ويزيل الباطل إزالة كاملة على الحق، يزول معها الحق بالكلية، بل هو -سبحانه- يمتحن عباده المؤمنين، ويجعل ما يفعله الكفار سببًا ليقظة أمة الإسلام مما يؤول في النهاية إلى علو كلمة الله الشرعية، كما أن كلماته الكونية يستحيل أن تُعَارض، ولا أن تُمَانع: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ‌صِدْقًا ‌وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).
وهذا كله من أعظم ما يثبت الله به قلوب المؤمنين على الحق؛ لأنهم يعلمون أن هذا الذي يرونه في العالم من علو الباطل هو أمر في الظاهر، وهو مؤقت يوشك أن يزول، وأن تعلو كلمة الله -سبحانه وتعالى-، وأن تضمحل هذه الأباطيل، وهذا الكفر وهذا الصد عن سبيل الله، وهذا الظلم والعدوان؛ كل ذلك إلى اضمحلال -بإذن الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #168  
قديم 18-05-2025, 10:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (167) دعوة غيَّرت وجه الأرض (14)



كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الخامسة عشرة:

قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فيه خوف المؤمن ألا يتقبل الله دعاءه وعمله، فهو يدعو الله -عز وجل- أن يتقبَّل منه، وقد كَثُر ذلك في الأنبياء والصالحين؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127).

قال بعض السلف: "يبنيان بيتًا لله -عز وجل- ويخافان ألا يتقبل الله منهما"، ومثله قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 57-61)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: (هُوَ ‌الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني).

فالخوف من عدم القبول صفة الصالحين، فهم يجمعون بين الإحسان والإصلاح وبين خوف عدم القبول، مع أن رجاءهم في قبول بضاعتهم المزجاة وأعمالهم الناقصة التي يستغفرون الله -عز وجل- بعدها، فهم بين الخوف والإشفاق وبين الإحسان والرجاء، وهذا أمثل الأحوال، وأما الفاجر فهو يجمع إساءة وأمنًا ومنًّا على الله -عز وجل- بعمله، كما قال -سبحانه وتعالى-: (‌قَالَتِ ‌الْأَعْرَابُ ‌آمَنَّا ‌قُلْ ‌لَمْ ‌تُؤْمِنُوا ‌وَلَكِنْ ‌قُولُوا ‌أَسْلَمْنَا ‌وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 14-17).

فمع أن إيمان الأعراب مجهول وإٍسلامهم ناقص، ومع ذلك فهم يمنون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أسلموا، وقالوا: قاتلتك قبائل كذا وكذا... ولم نقاتلك! ولم يشعروا بمنة الله -عز وجل- عليهم بالهداية للإسلام؛ فلا شك أنهم جمعوا إساءة ونقصًا، وليس هذا حال المؤمنين الكُمَّل، وكلما عَظَّم الإنسان عملَه نقص، وكلما تنقصه ورأى ما فيه من عيوب تستحق الرد، فبادر إلى الاستغفار كان أقرب إلى القبول، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم من صلاته استغفر الله ثلاثًا! وكيف كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخشوع، وحضور القلب وتأثره بتلاوة القرآن؟! ومع ذلك يستغفر الله عقب هذه العبادة؛ فكيف بما نفعله نحن؟!

وقال الله -عز وجل-: (‌فَإِذَا ‌أَفَضْتُمْ ‌مِنْ ‌عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة: 198-200).

فهم بعد أشرف المواقف، بعد الوقوف بعرفة؛ الموقف الذي يباهي الله -عز وجل- بهم ملائكته ويدنوا -سبحانه وتعالى- عشية عرفة، ولم يرد دليل فيما نعلم على نزول الرب -عز وجل-، ودنوه من أهل الأرض نهارًا إلا في يوم عرفة، وإنما ثَبَت النزول الإلهي في أحاديث متواترة ومستفيضة في ثلث الليل الآخر، وفي بعضها في نصفه، يقول: (يَنْزِلُ رَبُّنَا -تبارك وتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ‌ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي ‌فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) (متفق عليه)، حتى يطلع الفجر، أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فالحُجَّاج بعد أن وقفوا بأشرف المواقف، وهو الوقوف بعرفة، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لحَجُّ ‌عَرَفَةُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، أُمِروا بالاستغفار، وهذا يدلنا على حال المؤمن على الدوام في عمله يرى أنه فيه نقص، ولو فتَّش لوجد النقص قطعًا؛ فلذلك يستغفر الله -سبحانه وتعالى-: (‌وَاسْتَغْفِرُوا ‌اللَّهَ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌غَفُورٌ ‌رَحِيمٌ) (البقرة: 199)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: (كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ‌خَطِيئَتِي، ‌وَجَهْلِي، ‌وَإِسْرَافِي ‌فِي ‌أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (متفق عليه).

فهذا دأب المؤمن، وأي كمال بشري بعد كمال الخليلين: محمد -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم -عليه السلام- وهما يدعوان الله بالقبول؟! فنحن أولى بأن نستغفر، وندعو الله أن يقبل أعمالنا الضعيفة التي لو حوسبنا عليها لاستحقت الرد، ولكن رجاؤنا في رحمته وفضله وعفوه، ورجاؤنا -سبحانه وتعالى- ألا يردنا خائبين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمن علينا بالقبول.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #169  
قديم 18-05-2025, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (168) دعوة غيَّرت وجه الأرض (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة السادسة عشرة:
قوله -تعالى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) فيه استغفار الإنسان لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا قيامًا بحقِّ الوالدين، وهذا من أعظم البر، وقد علَّمنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن ندعو لوالدينا وللمؤمنين؛ رغم أن أبا إبراهيم لم يكن مسلمًا، ولكن الظاهر أن إبراهيم دعا له قبل أن يموت على الكفر؛ للموعدة التي وعدها إياه، كما قال الله -عز وجل-: (‌قَالَ ‌سَلَامٌ ‌عَلَيْكَ ‌سَأَسْتَغْفِرُ ‌لَكَ ‌رَبِّي ‌إِنَّهُ ‌كَانَ ‌بِي ‌حَفِيًّا) (مريم: 47)، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113، 114).
وإبراهيم يتبرأ أيضًا من أبيه في القيامة، ويمسخ ضبعًا متلطخًا بعذرته فيلقى في النار؛ لأنه مات كافرًا -والعياذ بالله-، وأما أم إبراهيم فلم يرد لها ذكر في نصوص الكتاب والسنة؛ فلا ندري: هل كانت على ملة زوجها أو ماتت قبل ذلك، أو وافقت إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وإن لم تهاجر؟ فنحن لا ندري، والوقف واجب في ذلك، والله أعلى وأعلم؛ لأن ما لم يَرِد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع وجب فيه الوقف، والله أعلم.
وأما الدعاء للمؤمنين فهو بوجود هذه الرابطة العظيمة؛ رابطة الحب في الله، والنصح للمؤمنين، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، وثواب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عظيم جدًّا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنِ ‌اسْتَغْفَرَ ‌لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وفهم السلف -رضوان الله عليهم- لهذه الأدعية العظيمة أنها تشمل الأحياء منهم والأموات، ومن سيأتون بعد ذلك، فعن عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، ‌وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19)" (رواه مسلم).
مع أن الرجل لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن نوى حين يستغفر للمؤمنين والمؤمنات مَن مضى منهم، ومَن هم أحياء اليوم، ومَن يأتي مِن ذريات الموجودين أو من غيرهم، كان بذلك شفيقًا رحيمًا ناصحًا لعباد الله المؤمنين، وهذا يحبه الله -سبحانه وتعالى-، وهو يؤتي الحنان من شاء كما قال -سبحانه- عن يحيى -عليه وعلى نبينا السلام-: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 12، 13)، فالشفقة على المؤمنين ثمرة الحب في الله التي هي أوثق عرى الإيمان، ورحمتهم والسعي في نجاتهم في الدنيا والآخرة مِن أعظم أسباب توثيق وزيادة هذه العروة من عرى الإيمان.
وأما القسوة على المؤمنين فليست صفة أهل الإيمان، بل صفة هي صفة الكفرة وإن وجدت في بعض المسلمين، وإن لم يكفروا بذلك، لكنها صفة قبيحة؛ قد قال الله عن الكفار: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) (التوبة: 10)، فأما من يجعل همه الطعن في أهل الإيمان بأدنى ذلة أو حتى بمخالفة في مسألة اجتهادية، بل أحيانًا يكون المهاجم الجارح الغالي في التجريح، هو المخطئ بلا شك، بل هو المبتدع، ومع ذلك تجده يطعن ويضلل، ويفسق ويبدع، وأحيانًا يكفر بلا علم، كما تجد بعض هؤلاء في زماننا؛ همه في الحياة أن يضلل أبا حنيفة -رضي الله عنه- أو يكفِّره! ولا يعرف له فضله ومنزلته، وأن الناس تعلموا منه الفقه، ومن تلامذته؛ حتى الأئمة الكبار كالشافعي -رحمه الله-.
ويجعل أحدهم همه تكفير النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما، ممَّن أخطأ في مسألة كان يظن فيها أن لأهل السنة قولان؛ لانتشار القول المخالف للحق في زمنه على أنه قول مقبول، ولم يشفع عنده الحسنات العظيمة في نصرة الدين ونصرة السنة، وشرح أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الزهد والعبادة؛ لم يشفع ذلك عندهم حتى تغمر الحسنات هذه السيئة، والله -عز وجل- أعلم: هل كان مجتهدًا فيها مخطئًا أم لم يكن؟ ولكن على أي حال لا نثبت العصمة، ولكننا في نفس الوقت نرحم الخلق، ونعلم قدر مَن سبقت له حسنات عظيمة، ولا نجعله كمن ترأسوا في البدع وأظهروها، وعاشوا عمرهم من أجلها، فمن عاش من أجل نصرة الدين ثم وقعت منه مخالفة كان ذلك عندنا لا نقبل هذه المخالفة، ولكن ما سبق له من الخير كان ذلك غامرًا لهذه السيئة، وحسابه على الله.
وفي دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالمغفرة يوم يقوم الحساب، تأكيد على كمال الشفقة، وعلى الإيمان باليوم الآخر، ونسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بإبراهيم -عليه السلام-، وأن يجعلنا في الرفيق الأعلى.
انتهت مقالات دعوة غيَّرت وجه الأرض.
نسأل الله التمام والقبول.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #170  
قديم 18-05-2025, 11:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (169) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??).
إن من وجوه إعجاز القرآن تكرر القصص في مواطن مختلفة، ومع وحدة الموضوع تجد أنواعًا من الفوائد الغالية، تختلف عن الفوائد التي في المواضع الأخرى، وبجمعها يكتمل المشهد الذي ينتفع به المؤمن، كل في موضعه ثم بشهود مجموع الآيات التي تتناول الموضوع الواحد، ومن هذا الأمر قصة أضياف إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الملائكة الكرام الذين مروا عليه في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، وبشارتهم له ولسارة -زوجته الحبيبة- التي وقفت معه من أول دعوته حين لم يسلم من قومها إلا هي وابن أخيه لوط -عليه الصلاة والسلام-، وصبرت الصبر العظيم، وضحَّت مع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في سفره وإقامته.
فكانت المكافأة لها بعد العمر الطويل، واستبعاد الأسباب بوجود الولد منها؛ بسبب كبر سنها وعقمها، وهذا الولد المبارك الذي يكون من نسله أكثر الأنبياء.
تأتي البشارة لإبراهيم بما يسره أعظم السرور؛ لأن الولد نعمة، ولكنه نعمة أعظم إذا كان من الزوجة التي يحبها؛ التي وفَّت وضحَّت، وأحسنت عشرته، وتأتي رحمة من الله لهما على كبرهما، ونعمة يظل بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- شاكرًا داعيًا، شاهدًا لفضل الله ورحمته، بعيدًا عن سبيل الضالين الذين لا يفهمون سنة الله في خلقه، وحكمته في إكرامه لأنبيائه وأوليائه بعد طول البلاء، فله الحمد كما يقول، وخيرًا مما يقول عباده، لا نحصي ولا يحصي أحدٌ ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "يقول -تعالى-: وخبرهم يا محمد عن قصة ضيف إبراهيم، والضيف يطلق على الواحد والجمع: كالزور والسفر، وكيف دخلوا عليه (فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، أي: خائفون. وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قرَّبه لهم الضيافة، وهو: العجل السمين الحنيذ. (قَالُوا لَا تَوْجَلْ) أي: لا تخف، وبشروه بغلامٍ عليمٍ أي: إسحاق -عليه السلام، كما تقدَّم في سورة هود-.
ثم قال متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارةً بعد بشارةٍ: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، وقرأ بعضهم: "القنطين"، فأجابهم بأنه ليس بقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته، فإنه يعلم مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ.
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم -عليه السلام- لما ذهب عنه الرَّوْعُ وجاءته البشرى، إنه شرع يسألهم عما جاؤوا له، فقالوا له: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سَيُنَجُّونَ آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين؛ ولهذا قالوا: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين المهلكين" (تفسير ابن كثير).
في الآيات فوائد:
الفائدة الأولى:
بعد أن أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الآيات السابقة، أن ينبئ العباد أن الله هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، وعطف عليه بأمره أن ينبئهم عن ضيف إبراهيم، وقصة ضيف إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أولها رحمة الله بإبراهيم، وبشارته له بالغلام العليم، وخاتمتها بذكر عذاب الله لقوم لوط عذابًا أليمًا؛ فهذا التناسب الجميل كأنه بيان في واقع الحياة لمغفرة الله ورحمته بعباده الصالحين، وشدة عقابه للكفار والعصاة المجرمين؛ فليعتبر أولو الألباب بذلك، وليشهدوا آثار أسماء الله وصفاته في الكون، وذلك من أعظم ما يزيد إيمانهم، ويحققه لهم كلما شاهدوا آثار الأسماء والصفات بالكون، بل هذا هو الفرق بين أهل الإيمان والذِّكْر وبين أهل الغفلة والبُعد، فإن المؤمنين يشاهدون في كل حدث يقع أمامهم من آثار أسماء الله وصفاته ما يزدادون به يقينًا وإيمانًا وعلمًا في كمال الله -عز وجل- في أسمائه وصفاته وأفعاله.
الفائدة الثانية:
في هذه الآيات التصريح بأن إبراهيم قال لأضيافه: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي المواضع الأخرى ذكر أنه أوجس منهم خيفة دون أن يقول لهم: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي بعضها قال: (‌سَلَامٌ ‌قَوْمٌ ‌مُنْكَرُونَ) (الذاريات: 25)، وأما في هذا الموضع؛ فهو الموضع الذي ذكر فيه إبراهيم له وجلهم، وهذا دليل لوقوع الخوف الجبلي الطبيعي من الأنبياء، والأولياء من باب أولى، وجواز التصريح بوجود هذا الخوف والوجل.
والوجل: خوفٌ فيه اضطراب القلب لما يتوقع أو يُعلَم ضرره، وقد نَهَى الملائكة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عن استمرار هذا الخوف، بعد أن أعلموه أن الضرر لا يُتوقع به، بل هم قد أتوا لبشارته بالغلام العليم إسحاق -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
الفائدة الثالثة:
في الآية فضيلة عظيمة لإسحاق -عليه السلام- لوصفه بالعلم، وفيه فضيلة العلم بالله وأسمائه وصفاته، وآياته، وأمره ونهيه؛ إذ ما يُمدح به الأنبياء يكون فضله عظيمًا لكلِّ مَن اتصف به، ولو لم يكن من الأنبياء.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 150.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 145.04 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (3.87%)]