|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الخلال النبوية (1) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (أ) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمدلله؛ رحم هذه الأمة الخاتمة فأكرمها بأفضل خلقه، وبعث فيها خاتم رسله، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تعدد مننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ كان أرحم نبي لأمته، وأشدهم شفقة ونصحا، وأكثرهم عفوا وصفحا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فلا منجاة للعباد يوم القيامة إلا بها {وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون}. أيها الناس: رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، ومنته عليهم كبيرة، وهو عز وجل ذو الرحمة الكاملة التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، وليس العجز والضعف باعثا عليها بحال من الأحوال؛ وإنما هي رحمة الرحيم الرحمن، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمًا. وأعظم رحمة حظيت بها هذه الأمة من الرب جل جلاله: اختصاصها بنبي الرحمة، الذي ختم الله تعالى به النبوات، وأخرج العباد به من الظلمات، وأنزل ببركته أنواع الرحمات، فأهل الأرض يتراحمون بها إلى يوم القيامة، وصدق الله الكريم إذ يقول {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. فرسالته عليه الصلاة والسلام التي بلغها عن ربه جل في علاه قد أفاضت على العباد بأنواع الرحمات، وشملت الرحمة به عليه الصلاة والسلام الإنس والجن، والطير والحيوان، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، وما من أحد على الأرض منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة إلا أصابه شيء من تلك الرحمة التي جعلها الله تعالى واصلة للعالمين كلهم؛ ولذلك جاء في حديث مرسل أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة))؛ رواه الدارمي وصححه الحاكم. وأخص العالمين بتلك الرحمة، وأكثرهم حظا منها: من آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وفلاحهم يكون في الدنيا والآخرة، وكما جاء النص القرآني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء كذلك بالنص على أنه عليه الصلاة والسلام رحمة للمؤمنين في قوله تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم}. ومن رحمته عليه الصلاة والسلام لمن آمن به ، ودان بدينه : دعاؤه لهم؛ إذ كان يكثر من ذلك، ولا سيما إذا تذكر حال الأنبياء السابقين مع أممهم، فتغلبه رحمته لأمته فيدعو لهم؛ كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني}، وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله تعالى: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك))؛ رواه مسلم. وخطب عليه الصلاة والسلام يومًا فقال: ((أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبى، أو لعنته لعنة فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها صلاةً عليه يوم القيامة))؛ رواه أحمد. وبلغ من رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أنه قدمهم على نفسه في دعوة مجابة أعطاه الله تعالى إياها كما أعطى الأنبياء قبله، فلم يخصها لنفسه بل ادخرها لأمته؛ كما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة))؛ رواه الشيخان، وفي رواية لهما - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)). صلوات ربي وسلامه عليه، ما أعظم رحمته بنا، وما أشد حرصه علينا!! أَيُلَامُ المؤمنون به أن أحبوه وعزروه ونصروه، وقد آثرهم على نفسه، وخصهم بدعوته، في موقف يا له من موقف؟! والله لا يلومهم على ذلك إلا كافر لم يؤمن به، أو منافق يخفي كفره، أو جاهل لم يعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم. وما أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين إلا وقد شملت رحمته الكفار والمنافقين، وبيان ذلك أن المشركين دعوا على أنفسهم بالعذاب فقالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فرفعه الله تعالى عنهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فبالاستغفار الذي شرعه لهم، ودلهم عليه {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. ولما اشتد به أذى المشركين، وصدوا عن دعوته، وعذبوا أصحابه، ولحقه من الهم ما لحقه؛ استأذنه ملك الجبال أن يهلك المشركين، ويسحقهم بين جبلين عظيمين؛ فرحمهم عليه الصلاة والسلام رغم شدة أذاهم له، وأمهلهم مرة بعد مرة، ولم ينتصر لنفسه لما جاءه النصير، بل غلبت رحمته لقومه انتقامه لنفسه؛ فقال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال عليه السلام : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ متفق عليه. وسبب ذلك أنه ما أراد عذاب أمته، بل ابتغى أن يكون ذخرا لهم، وخيرا متقدما يجدونه أمامهم بعد وفاتهم؛ كما روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره))؛ رواه مسلم. ولما دعا على المشركين بالجوع فأصابهم شكوا إليه ما وجدوا فرحمهم عليه الصلاة والسلام فعاد يدعو لهم بالغيث فسقوا؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله؛ رواه الشيخان، وفي رواية للبيهقي: فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث. ولما قال له أحد أصحابه رضي الله عنهم : يا رسول، الله ادع على المشركين، قال: ((إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة))؛ رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام شديد الأسى، كثير الحزن على من لم يؤمن من قومه، لا يهنأ بعيش وهو يراهم على الكفر؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، فعاتبه الله تعالى في ذلك {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} أي: لعلك مهلك نفسك أو قاتلها أسفا عليهم إذ لم يؤمنوا، وفي الآية الأخرى {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}، واشتدت به الحسرة عليهم حتى خاطبه الله تعالى بقوله: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}، وسلَّاه ربه عز وجل في حزنه هذا بقوله تعالى {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. إنها - والله - لرحمة عجيبة منه عليه الصلاة والسلام لقومٍ كذبوه واستهزءوا به وبدينه، وآذوا أتباعه، واضطروه إلى الهجرة عن بلده، وقتلوا أصحابه، وحاولوا قتله غير مرة، وجمعوا الجموع لحربه، وجرحوه في أحد، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، ومع ذلك كله يرحمهم ويأسى عليهم، ويحزن لأجلهم، ويستغفر لهم قبل أن ينهى عن ذلك فيقول ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ولم يكن أشدَّ فرحا بشيء فرحه بواحد منهم يدخل في الإسلام. روى أنس رضي الله عنه فقال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))؛ رواه البخاري. إن الله تعالى قد رحم بالنبي صلى الله عليه وسلم المشركين فرفع عنهم العذاب بحلمه عليهم، وعفوه عنهم، وطلبه إمهالهم، واستسقائه لهم، ورحم به المنافقين بقبول معاذيرهم إذا اعتذروا، وتصديقهم إذا حلفوا، وحقن دمائهم، ومعاملتهم بظاهر حالهم، ورد سرائرهم إلى الله تعالى، واشتهر ذلك عنه عليه الصلاة والسلام حتى لمزه به المنافقون {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} أي: يستمع لنا، ويقبل أعذارنا، وسنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا، فكان رد الله تعالى عليهم {قل أذن خير لكم} يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم. وفي قول الله عز وجل {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. ومظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، بل حتى للحيوان لا يتسع هذا المقام لعدِّها كلها، فضلا عن عرضها بحوادثها وتفصيلاتها ... ومن المعجزات النبوية أن بعض الحيوان كان يحس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم فيلجأ إليه يشتكي رهق مالكه، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه)) أي: ترهقه في العمل. رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه. أيها الناس: كما حفظت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة أظهرت رحمته بالعالمين؛ فإنها حفظت كذلك مواقف أخرى أوقع فيها العقوبة الشديدة على من يستحقها، وليس ذلك مما يتعارض مع صفة الرحمة التي امتلأ قلبه بها، بل إن وضع الرحمة في غير موضعها مما يذم ولا يحمد؛ وذلك كتعطيل الحدود والتعزيرات رحمة بالمجرمين، ولازم ذلك سلب الرحمة عن عموم الناس لحساب أهل الفساد والإجرام. وكما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لبعض المشركين بالهداية، واستسقى لهم؛ دعا كذلك على آخرين بالعذاب والزلزلة والنار، فعلم أن الدعاء للمشركين بالهداية جائز كما أن الدعاء عليهم بالعذاب جائز كذلك. ولما عدا يهودي على جارية فأخذ ذهبها، ورضخ رأسها بالحجارة؛ رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين. وأسلم ناس من العرنيين فألحقهم عليه الصلاة والسلام بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويتداووا بأبوالها، فلما صحوا وتعافوا؛ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. وفي رواية: فأمر عليه الصلاة والسلام بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا. قال أنس رضي الله عنه: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت، وفي رواية قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيت أحدهم فاغرًا فاه يعضُّ الأرض ليجد من بردها مما يجد من الحر والشدة. وقصتهم مخرجة في الصحيحين. ونقض يهود قريظة العهد، وحكّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قضيت بحكم الله))، فخدت لهم خنادق في الأرض، وضربت أعناق رجالهم فيها، وكانوا يقاربون ست مئة رجل، وسبيت نساؤهم وذراريهم، وغنمت أموالهم. وكان هذا الجزاء العادل حكم الله تعالى فيمن نقضوا العهد، وأرادوا السوء بالمسلمين وقصتهم أيضا في الصحيحين. كل هذه الحوادث ومثيلاتها تشريع من رب العالمين، أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حكم النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المجرمين بما سمعتم، وأقرَّ الله تعالى حكمه، فكان ذلك تشريعا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فعلم أن هذه الأحكام منه صلى الله عليه وسلم - وإن بدت للبعض قاسية - حق لا باطل فيه أبدا. وإزاء هذه الحوادث ومثيلاتها في السيرة النبوية اختلفت مواقف الناس في هذا العصر. وضلَّ فيها طائفتان من الناس: فالكفار والمنافقون، ومن في قلوبهم حقد على الإسلام والمسلمين: أبرزوها كدليل على دموية المسلمين، والقدح بها في النبي صلى الله عليه وسلم، واختزلوا السيرة النبوية في ذلك، مع تعاميهم عن الجرم الذي ارتكبه من استحقوا تلك العقوبات، وإخفائهم للحوادث الكثيرة التي تدل على العفو والصفح والرحمة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. والطائفة الأخرى: قوم قابلوا هؤلاء، فجدَّوا واجتهدوا في الذب عن الإسلام، لكنهم أخطئوا الطريق، ولم يوفقوا في المعالجة؛ إذ حَرِجُوا من مثل تلك المواقف، فراح بعضهم ينكرها ولو كانت ثابتة، أو يتكلف في تأويلها بما يضعف حجته، وينقص عقله، وكثير ممن سلكوا تلك الطريق الوعرة هم ممن سلَّموا ببعض المبادئ الغربية الإلحادية، ويدعون إلى حرية الرأي وحرية التدين التي منها جواز تغيير الدين حسب المنهج الغربي، فيضطرون لأجل ذلك إلى إلغاء حدِّ الردة ... وإذا تحدثوا عن الإسلام اختزلوه في صور السماحة والعفو، ولا يعرضون العقوبات في الإسلام إلا على استحياء وبخفض صوت، ويعللونها بتعليلات سامجة باردة. وسبب ذلك: أن هؤلاء - هدانا الله وإياهم - قد بُهروا بما في القوانين الدولية من مواد حفظ حقوق الإنسان، وجعلوها حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم حاكموا شريعة الإسلام إليها، فما وافقها رفعوا عقيرتهم مثبتين أن الإسلام سبق إليها، وما خالفها أخفوه أو سكتوا عنه، فإن جوبهوا به من قبل الأعداء أنكروه، أو تأولوه، أو استخرجوا له مذهبا شاذا، أو قولا مهجورا ليس له من الدليل إلا أنه موافق للقانون الطاغوتي الوضعي، فهم قاسوا شريعة الله تعالى المحكمة بشرائع البشر الفاسدة، وحاكموها إلى ما يعارضها ويناقضها وهي الحاكمة، وهذا أُسُّ الخطأ، وسبب الضلال والانحراف. وما علم هؤلاء المفتونون أننا لسنا ملزمين بإقناع أعدائنا بأحكام ديننا، فإن آمنوا فلهم، وإن كفروا فعليهم. لكننا ملزمون بتعظيم شريعة ربنا، والأخذ بجميع أحكامها، وعدم الحرج من شيء منها، ولو كان يزعج الأعداء، ويخالف قوانينهم الوضعية. وليعلم كل من يزور شريعة الله تعالى لأجلهم أنهم لن يرضوا عنه حتى يخرج من دينه، ويتبعهم في إلحادهم؛ فأولى له سلامة دينه من مراعاة أعدائه، وشريعة الله تعالى فوق نقد الناقدين، ويجب ألا تُضاهى بتخبطات القانونيين، وهي شريعة خالدة باقية على رغم أنوف الحاقدين والكارهين من الكفار والمنافقين؛ فمن رضيها وسلَّم بها فهو ينفع نفسه، ومن ردها أو عارضها فهو يضر نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون}. وصلوا وسلموا على ربكم....
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الخلال النبوية (2) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (ب) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمدلله؛ كتب على نفسه الرحمة، وأتم على عباده النعمة، فبعث فيهم أرحم الخلق بهم، وأحرصهم عليهم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} أحمده سبحانه على نعمه المتواترة، وأشكره على مننه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رحم عباده بالدين والشرائع التي تدل على الخير والمصالح، وترفع الشر والمفاسد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه على العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم؛ فإن الله تعالى قد شرع لكم من الدين أحسنه، وفرض عليكم من الشريعة أكملها {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، ولا يرضى لكم ربكم إلا ما هو خير لكم في الدنيا والآخرة؛ فهو الرحيم بكم الذي وسعت رحمته كل شيء، فاقبلوا عن الله تعالى دينه، وافرحوا بشريعته، واحمدوه إذ هداكم وقد ضلَّ غيرُكم {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}. أيها الناس: الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، اتصف بها فهو الرحمن الرحيم، ومن رحمته بالبشر أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وما ذاك إلا رحمة بهم، وهداية لهم، وقد خاطب سبحانه خاتم رسله فقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والشريعة، وما اتصف به من الرأفة والرحمة ما هو إلا من رحمة الله تعالى الذي أرسله بها، وحضه عليها ؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة))؛ رواه مسلم. ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حفلت بها سيرته وامتلأت بها شريعته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجماد، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يوصل إلى رحمة الله تعالى إلا جلَّاه لأمته، وحضهم على سلوكه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله تعالى إلا زجرهم عنها، وحذرهم منها؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته: أن اختار لهم من الشريعة أيسرها وأكملها، ومن الأحكام أخفها وأحكمها، ووصفته عائشة رضي الله عنها وهي ألصق الناس به فقالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه؛ رواه الشيخان. وكان عليه الصلاة والسلام يترك العمل وهو يطيقه، ويود العمل به، ما يتركه إلا رحمة بأمته؛ خشية أن يفرض عليهم فلا يطيقه أكثرهم، ومن نظر في سنته عليه الصلاة والسلام تبين له ذلك، وكم من مرة قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا وكذا، أو لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بكذا، قالت عائشة رضي الله عنها: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم؛ رواه الشيخان. وفي قيام رمضان صلى بأصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد، فإنه لم يخف عليَّ مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها))؛ متفق عليه. وكان من رحمته بأمته: أنه يغضب من المسائل التي قد يترتب عليها تشريع يشق على الناس، وينكر على من يسأله مثل تلك الأسئلة؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))؛ رواه مسلم. وبلغ من شدته في ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته))؛ رواه الشيخان. وما كانت رحمته عليه الصلاة والسلام لأمته خاصة بالدنيا؛ بل شملتهم في الآخرة، فأجَّل دعوته المستجابة لأمته في الآخرة، ولم يعجلها لنفسه في الدنيا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة))؛ رواه الشيخان. قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخرَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم. كان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة بالأطفال، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رواه مسلم. ولما نازعت ابنه إبراهيم رضي الله عنه روحه جعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))؛ رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة))؛ رواه مسلم. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال: أنه يحملهم ويحنكهم، ويقبلهم ويداعبهم، ويضعهم في حجره، ولا يترفع عن شيء من ذلك، ولربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام فلوث ثيابه، فلم يغضب على من أتى به، ولم يتبرم من ذلك، بل يكتفي بنضح ثوبه بالماء. وكانت رحمته بالأطفال لا تفارقه حتى وهو في عبادته، ومناجاته لربه عز وجل، فصلى ذات مرة وهو حامل أمامة بنت زينب ابنته (فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها) متفق عليه. وروى شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال شداد: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال ![]() ومن رحمته بالنساء: أنه عليه الصلاة والسلام حرَّج على المسلمين حق الضعيفين: اليتيم والمرأة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))؛ رواه البخاري. وكان يرحم ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم. وشملت رحمته عليه الصلاة والسلام أهل الحرب من المشركين فأمر أصحابه رضي الله عنهم في مغازيهم ألَّا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا وليدا، وألا يعذبوا الأسرى بل يرفقوا بهم، ويحسنوا إليهم، وأن يحسنوا القتلة إذا قتلوا. ومن صور الرحمة التي طبقها الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو عبد الرحمن الحبلي رحمه الله تعالى فقال: (كنا في البحر وعلينا عبدالله بن قيس الفزاري ومعنا أبو أيوب الأنصاري فمرَّ بصاحب المقاسم وقد أقام السبي، فإذا امرأة تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب فقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة))؛ رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. وتعدت رحمته صلى الله عليه وسلم بني آدم إلى الحيوان فنهى عن تصبير البهائم، وهو أن تحبس وتتخذ هدفا يرمى إليه حتى تموت؛ ففيه تعذيب لها، وقال له رجل: (يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، قال: ((والشاة إن رحمتها رحمك الله))؛ رواه أحمد. ومرَّ عليه الصلاة والسلام بِحُمَّرةٍ قد أخذوا ولدها وهي تُفَرِّشُ بجناحيها في الأرض وَجْدَا عليه فقال عليه الصلاة والسلام ((من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم أن تتخذوا دوابكم منابركم)). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد: أنه كان يقوم يوم الجمعة إلى نخلة، فقال أحد الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: ((إن شئتم))، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسَكَّن، قال: ((كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)). وفي رواية: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت؛ رواه البخاري. وما نزول النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وإتيانه الجذع، وضمه ووضع يديه عليه حتى سكن إلا رحمة منه صلى الله عليه وسلم له. فشملت رحمته صلى الله عليه وسلم العالمين، فكان رحمة لهم على ما أخبر الله تعالى بقوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وعلى ما وصفه به سبحانه من أنه {بالمؤمنين رؤوف رحيم} فجزاه الله تعالى عن أمته خير ما جزى نبيا عن أمته، ونسأله سبحانه أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده، كما نسأله أن يجعلنا من أحبابه وأنصاره، وأن يحشرنا في زمرته، ويدخلنا الجنة معه، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى، ونشكره على ما هدى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المصطفى، والنبي المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمـالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}. أيها الناس: مع كون النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفًا رحيمًا، وقد جعله الله تعالى رحمةً للعالمين؛ فإنه كان يضع الرحمة في موضعها اللائق بها؛ لئلا تتحول إلى ضعف وعجز، أو يفهم من التخلق بها ذلك، فلقد قاتل عليه الصلاة والسلام من استحق القتال من اليهود والمشركين، وضرب بسيفه في سبيل الله تعالى، وقتل أُبَيَّ بن خلف بيده، وأمر بقتل جماعة من المشركين ومن اليهود، وأقام الحدود على من انتهكها؛ فرجم ماعزا والغامدية لما زنيا، وقطع السارق، وقتل المحاربين المرتدين بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الحدود إذا بلغت الإمام أو نائبه وجب إقامتها فقال عليه الصلاة والسلام: ((تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب)) رواه أبو داود ومعنى الحديث: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إليَّ فإني متى علمتها أقمتها. وروى صفوان بن أمية رضي الله عنه فقال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثَمَنِ ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل، فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُمر به ليقطع قال: فأتيته، فقلت: أتقطَعُهُ من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؛ رواه أبو داود. وجاء في القرآن في شأن جلد الزانيين: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. فعلم بهذه النصوص الكثيرة: أن الجهاد في سبيل الله تعالى، وما ينتج عنه من قتل المشركين ليس مما ينافي الرحمة، وأن إقامة الحدود لا تنافي الرحمة كذلك، بل هي من الرحمة لعموم البشر، وأما المناهج الوضعية الإلحادية التي سادت في هذا العصر فما هي إلا عقاب للضحايا والأبرياء، وعون للمجرمين على إجرامهم، ومكافأة للمفسدين على إفسادهم، وهي من أعظم أسباب الخوف والجوع. كما أن إقامة الحدود من أعظم أسباب الأمن والرخاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حدٌّ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا))، وفي رواية: ((إقامة حدٍّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحًا))؛ رواه ابن ماجه. ولا يجوز لمؤمن بالله تعالى أن يعارض شريعة الله تعالى، أو يدعو لتعطيل حدوده بدعوى أن الزمن تغير، أو أن ذلك مما يعارض حقوق الإنسان التي تواضع البشر عليها في هذا العصر، فكل هذه الدعاوى إثم وضلال توصل أصحابها إلى الكفر بالله تعالى؛ إذ فيها منازعة لله تعالى في الحكم والتشريع، والله تعالى له الخلق والأمر، وفيها مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قضى وحكم {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. وكيف يزعم زاعم أن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية لا تتناسب مع هذا العصر، وقد شرعها أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وقضى بها من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين {سبحانك هذا بهتان عظيم}. ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، واقبلوا عن الله تعالى شريعته، ولا تلتفتوا لأقوال الكافرين والمنافقين فيها، فهي الخير والصلاح للعباد في الدنيا والآخرة.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الخلال النبوية (2) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (ب) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمدلله؛ كتب على نفسه الرحمة، وأتم على عباده النعمة، فبعث فيهم أرحم الخلق بهم، وأحرصهم عليهم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} أحمده سبحانه على نعمه المتواترة، وأشكره على مننه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رحم عباده بالدين والشرائع التي تدل على الخير والمصالح، وترفع الشر والمفاسد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه على العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم؛ فإن الله تعالى قد شرع لكم من الدين أحسنه، وفرض عليكم من الشريعة أكملها {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، ولا يرضى لكم ربكم إلا ما هو خير لكم في الدنيا والآخرة؛ فهو الرحيم بكم الذي وسعت رحمته كل شيء، فاقبلوا عن الله تعالى دينه، وافرحوا بشريعته، واحمدوه إذ هداكم وقد ضلَّ غيرُكم {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}. أيها الناس: الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، اتصف بها فهو الرحمن الرحيم، ومن رحمته بالبشر أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وما ذاك إلا رحمة بهم، وهداية لهم، وقد خاطب سبحانه خاتم رسله فقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والشريعة، وما اتصف به من الرأفة والرحمة ما هو إلا من رحمة الله تعالى الذي أرسله بها، وحضه عليها ؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة))؛ رواه مسلم. ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حفلت بها سيرته وامتلأت بها شريعته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجماد، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يوصل إلى رحمة الله تعالى إلا جلَّاه لأمته، وحضهم على سلوكه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله تعالى إلا زجرهم عنها، وحذرهم منها؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته: أن اختار لهم من الشريعة أيسرها وأكملها، ومن الأحكام أخفها وأحكمها، ووصفته عائشة رضي الله عنها وهي ألصق الناس به فقالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه؛ رواه الشيخان. وكان عليه الصلاة والسلام يترك العمل وهو يطيقه، ويود العمل به، ما يتركه إلا رحمة بأمته؛ خشية أن يفرض عليهم فلا يطيقه أكثرهم، ومن نظر في سنته عليه الصلاة والسلام تبين له ذلك، وكم من مرة قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا وكذا، أو لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بكذا، قالت عائشة رضي الله عنها: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم؛ رواه الشيخان. وفي قيام رمضان صلى بأصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد، فإنه لم يخف عليَّ مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها))؛ متفق عليه. وكان من رحمته بأمته: أنه يغضب من المسائل التي قد يترتب عليها تشريع يشق على الناس، وينكر على من يسأله مثل تلك الأسئلة؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))؛ رواه مسلم. وبلغ من شدته في ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته))؛ رواه الشيخان. وما كانت رحمته عليه الصلاة والسلام لأمته خاصة بالدنيا؛ بل شملتهم في الآخرة، فأجَّل دعوته المستجابة لأمته في الآخرة، ولم يعجلها لنفسه في الدنيا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة))؛ رواه الشيخان. قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخرَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم. كان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة بالأطفال، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رواه مسلم. ولما نازعت ابنه إبراهيم رضي الله عنه روحه جعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))؛ رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة))؛ رواه مسلم. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال: أنه يحملهم ويحنكهم، ويقبلهم ويداعبهم، ويضعهم في حجره، ولا يترفع عن شيء من ذلك، ولربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام فلوث ثيابه، فلم يغضب على من أتى به، ولم يتبرم من ذلك، بل يكتفي بنضح ثوبه بالماء. وكانت رحمته بالأطفال لا تفارقه حتى وهو في عبادته، ومناجاته لربه عز وجل، فصلى ذات مرة وهو حامل أمامة بنت زينب ابنته (فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها) متفق عليه. وروى شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال شداد: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال ![]() ومن رحمته بالنساء: أنه عليه الصلاة والسلام حرَّج على المسلمين حق الضعيفين: اليتيم والمرأة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))؛ رواه البخاري. وكان يرحم ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم. وشملت رحمته عليه الصلاة والسلام أهل الحرب من المشركين فأمر أصحابه رضي الله عنهم في مغازيهم ألَّا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا وليدا، وألا يعذبوا الأسرى بل يرفقوا بهم، ويحسنوا إليهم، وأن يحسنوا القتلة إذا قتلوا. ومن صور الرحمة التي طبقها الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو عبد الرحمن الحبلي رحمه الله تعالى فقال: (كنا في البحر وعلينا عبدالله بن قيس الفزاري ومعنا أبو أيوب الأنصاري فمرَّ بصاحب المقاسم وقد أقام السبي، فإذا امرأة تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب فقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة))؛ رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. وتعدت رحمته صلى الله عليه وسلم بني آدم إلى الحيوان فنهى عن تصبير البهائم، وهو أن تحبس وتتخذ هدفا يرمى إليه حتى تموت؛ ففيه تعذيب لها، وقال له رجل: (يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، قال: ((والشاة إن رحمتها رحمك الله))؛ رواه أحمد. ومرَّ عليه الصلاة والسلام بِحُمَّرةٍ قد أخذوا ولدها وهي تُفَرِّشُ بجناحيها في الأرض وَجْدَا عليه فقال عليه الصلاة والسلام ((من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم أن تتخذوا دوابكم منابركم)). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد: أنه كان يقوم يوم الجمعة إلى نخلة، فقال أحد الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: ((إن شئتم))، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسَكَّن، قال: ((كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)). وفي رواية: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت؛ رواه البخاري. وما نزول النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وإتيانه الجذع، وضمه ووضع يديه عليه حتى سكن إلا رحمة منه صلى الله عليه وسلم له. فشملت رحمته صلى الله عليه وسلم العالمين، فكان رحمة لهم على ما أخبر الله تعالى بقوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وعلى ما وصفه به سبحانه من أنه {بالمؤمنين رؤوف رحيم} فجزاه الله تعالى عن أمته خير ما جزى نبيا عن أمته، ونسأله سبحانه أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده، كما نسأله أن يجعلنا من أحبابه وأنصاره، وأن يحشرنا في زمرته، ويدخلنا الجنة معه، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى، ونشكره على ما هدى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المصطفى، والنبي المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمـالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}. أيها الناس: مع كون النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفًا رحيمًا، وقد جعله الله تعالى رحمةً للعالمين؛ فإنه كان يضع الرحمة في موضعها اللائق بها؛ لئلا تتحول إلى ضعف وعجز، أو يفهم من التخلق بها ذلك، فلقد قاتل عليه الصلاة والسلام من استحق القتال من اليهود والمشركين، وضرب بسيفه في سبيل الله تعالى، وقتل أُبَيَّ بن خلف بيده، وأمر بقتل جماعة من المشركين ومن اليهود، وأقام الحدود على من انتهكها؛ فرجم ماعزا والغامدية لما زنيا، وقطع السارق، وقتل المحاربين المرتدين بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الحدود إذا بلغت الإمام أو نائبه وجب إقامتها فقال عليه الصلاة والسلام: ((تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب)) رواه أبو داود ومعنى الحديث: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إليَّ فإني متى علمتها أقمتها. وروى صفوان بن أمية رضي الله عنه فقال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثَمَنِ ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل، فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُمر به ليقطع قال: فأتيته، فقلت: أتقطَعُهُ من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؛ رواه أبو داود. وجاء في القرآن في شأن جلد الزانيين: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. فعلم بهذه النصوص الكثيرة: أن الجهاد في سبيل الله تعالى، وما ينتج عنه من قتل المشركين ليس مما ينافي الرحمة، وأن إقامة الحدود لا تنافي الرحمة كذلك، بل هي من الرحمة لعموم البشر، وأما المناهج الوضعية الإلحادية التي سادت في هذا العصر فما هي إلا عقاب للضحايا والأبرياء، وعون للمجرمين على إجرامهم، ومكافأة للمفسدين على إفسادهم، وهي من أعظم أسباب الخوف والجوع. كما أن إقامة الحدود من أعظم أسباب الأمن والرخاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حدٌّ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا))، وفي رواية: ((إقامة حدٍّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحًا))؛ رواه ابن ماجه. ولا يجوز لمؤمن بالله تعالى أن يعارض شريعة الله تعالى، أو يدعو لتعطيل حدوده بدعوى أن الزمن تغير، أو أن ذلك مما يعارض حقوق الإنسان التي تواضع البشر عليها في هذا العصر، فكل هذه الدعاوى إثم وضلال توصل أصحابها إلى الكفر بالله تعالى؛ إذ فيها منازعة لله تعالى في الحكم والتشريع، والله تعالى له الخلق والأمر، وفيها مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قضى وحكم {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. وكيف يزعم زاعم أن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية لا تتناسب مع هذا العصر، وقد شرعها أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وقضى بها من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين {سبحانك هذا بهتان عظيم}. ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، واقبلوا عن الله تعالى شريعته، ولا تلتفتوا لأقوال الكافرين والمنافقين فيها، فهي الخير والصلاح للعباد في الدنيا والآخرة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |