تجويد المنشاوي (دراسة وتحليل) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 480 - عددالزوار : 165252 )           »          توحيد الأسماء والصفات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فضل الأذكار بعد الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          أنج بنفسك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          وصايا نبوية غالية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ذم الحسد وآثاره المهلكة في الفرد والمجتمع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          بر الوالدين: (وزنه، كيفية البر في الحياة وبعد الممات، أخطاء قاتلة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ألق بذر الكلمة؛ فربما أنبتت! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          بين النبع الصافي والمستنقع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          صحابة منسيون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 5181 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 11-02-2020, 01:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,047
الدولة : Egypt
افتراضي تجويد المنشاوي (دراسة وتحليل)

تجويد المنشاوي (دراسة وتحليل)


مرشد الحيالي





ملخص البحث
تناولت في هذا البحث سيرةَ المقرئ الشَّيخ محمَّد صدّيق المنشاوي وتلاوته لكتاب الله، ولم يكن القصد هو السَّرد التقليدي؛ بل لأجْل الاعتبار والتذْكِرة، وجعل الشيخ - رحمه الله - أنموذجًا للقارئ المثالي المرتِّل لكتاب الله حقَّ تلاوته، وقد تناولت ضِمْن البحث منهجَ الشيخ في تلاوته لكتاب الله - الترتيل والتجويد، والأداء والأسلوب - وتوسَّعت فيه؛ إذ كان هذا هو المقصود من هذا البحث، وقد قسمت البحث إلى أحدَ عشرَ فصلاً، تناولتُ في كلِّ فصلٍ موضوعًا مستقلاًّ، ومن ذلك: طريقة وأسلوب الشَّيخ في تلاوته للقرآن، وبعده عن أسلوب التِّلاوة عن طريق تعلُّم النَّغَم والموسيقى ممَّا لا يليق وعظمةَ كِتاب الله، وهو الفصْل السَّابع والثَّامن، وقبل ذلك تناولتُ بداية الشَّيخ ونبوغه، ثمَّ تربيته المثالية لأبنائِه، ثم أقاربه إلى العالم أجمع من خِلال تجويده للقرآن، وتناولت صبرَه على حسَّاده، ثمَّ صرامته في الحق، ثمَّ رحلته وتطْوافه في العالم الإسلامي، وهو الفصل التَّاسع، وختمت البحث بِجملة آداب ووصايا تنفع العالِم والمتعلِّم، إلى غير ذلك من المواضيع والفوائِد التي تخلَّلت البحث، أرجو من الله أن يتقبَّلها منِّي، ويجعلَها خالصةً لوجهِه الكريم، ولا يجعل لأحدٍ فيها شيئًا، وبالله التوفيق ومنْه نستمدُّ العوْن والمدَد.

المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتَم الأنبِياء والمرسلين محمَّد بن عبدالله، وعلى آله وصحْبِه إلى يوم الدّين.

وبعد:
كنتُ قدِ اقترحتُ على روَّاد أحد المنتديات الإسلاميَّة أن يتبنَّى أحدٌ منهم الكِتابةَ عن تُراث الشَّيخ المقرئ محمَّد صدِّيق المنشاوي - رحمه الله -وقبل ذلك أن يتبنَّى أحدٌ من طلاب الجامعات ممَّن له اهتِمام بعلوم القرآن والقراءات، أو علم التَّاريخ وما يتعلَّق به من تراجم لأعلامِ الفكر والأدَب والثَّقافة والدين - الكتابةَ عن حياة القرَّاء، أمثال المنشاوي والحصري[1] وغيرهما، على شكْل أطروحة أو رسالة، ووفق خطَّة واضحة المعايير، تتوفَّر فيها كلّ متطلَّبات الرَّسائل الجامعيَّة، فطال انتظاري ولم أرَ أيَّ إجابة!

بيْنما الأقلام تتبارى وتتنافس في الكتابة عن الفنَّانين والفنَّانات - أهل الطرَب والغناء - وتفاصيل حياتِهم، أقلُّ ما يقال فيها أنَّها تافهة، لاتُسمن ولا تغني من جوع، بل ضرُّها أكثر من نفعِها، ممَّن لا يستحقُّون أن يسطر فيهم قلم، أو يكتب لهم ترجمة على ورق، وهذا لعمري ممَّا يُدْمِي القلب ويُحْزِن النَّفس، وذلك ممَّا دفعني إلى خوْض هذا المضمار، والدُّخول في تلكم الحلبة، ومع ما في جعْبتي من معلومات عن الشَّيخ المنشاوي - رحمه الله- جمعتُها من محبِّيه، كنت قد دوَّنتُ بعضًا منها في مجموعة من المنتديات، يُضاف إلى ذلك حبِّي للشَّيخ منذ الصِّغَر، فعزمت على الشُّروع في المقصود، والدُّخول في التَّفاصيل تَحت عدَّة عناوين ومسمَّيات متنوِّعة، وبِما يتناسب مع الموضوع، مع جُملةٍ من الفوائد والفرائد تنفع العالم والمتعلِّم، كلّها أدخلْتُها تحت عنوان كبير أسميته "منهج المنشاوي في تلاوته للقُرآن - الأسلوب والأداء"، ليس المقصود منها السَّرد التاريخي التقليدي المجرَّد، بل لأجل العبرة والعِظة، ولم أتناول حياة مقرئٍ آخر لأن القصد جعل الشَّيخ المنشاوي - رحِمه الله - أنموذجًا للقارئ المثالي يُحتذى به، مع أنِّي متأكِّد أنَّ هناك قرَّاء مثل المنشاوي - كالبنَّا والحصري والبهتيمي وغيرهم- هم في مستواه أو دونه، وقد أدْرجت هذه الومضات ضمن فصول، كل فصل تناول موضوعًا مستقلاًّ، وقد تناولت في تلك الفصول: منهجَ الشَّيخ في تلاوته للقرآن، وطريقة أسلوبِه وأدائه في تلاوتِه لكتاب الله - التَّجويد والتَّرتيل[2] - وبُعْده عن أسلوب التلاوة عن طريق النغَم والموسيقى ممَّا لا يتَّفق مع عظمة كتاب الله وإجْلاله.

وقبل ذلك تناولتُ بداية الشيخ ونبوغه، ثم تربيته المثالية لأبناءِ أسرته ثم أقاربِه إلى العالم أجمع، وتناولت كذلِك صبرَه على حسَّاده ومُناوئيه، ثم صرامته في الحق، ثم رحلته وتطوافه إلى العالم الإسلامي، وشهرته وصيته، وأخيرًا آداب ووصايا لحمَلَة كتاب الله، ومن يتْلون كتاب الله ويرتِّلونه، إلى غير ذلك من المواضيع الهامَّة قد لا تَجِدها مدوَّنة في كتاب أو مجموعة في بَحث، وبالله التَّوفيق وأرجو أن يكون عملي ذلك خالصًا لله - تعالى سبحانه - وأن ينفع به مَن شاء من عباد الله، إنَّه وليُّ التَّوفيق.

الفصل الأوَّل
(التربية والنشأة)
تتَّفق المؤسَّسات التربوية على اختِلاف مناهجها وطرُقِها على أهميَّة دور الأسرة[3] في التَّربية وتنشئة الأجيال، فهي المحضن الأوَّل في تكْوين شخصيَّة الإنسان؛ ولذا أوْلى الإسلامُ عنايةً خاصَّة بتكوين الأُسرة على أساس معرِفة المبادئ الإسلاميَّة التي تكون الأسرة الصَّالِحة، ولا تُعَدُّ الأسرة مؤسَّسة تربويَّة إلاَّ إذا روعي في أبنائِها التَّوجيهات التِي حدَّدها الإسلام، ومن ضِمْنِها أن يكون نواة الأسرة وما يتفرَّع منهما - وهما الأب والأم -على المنهج القويم، والثاني: أن تكون الأسرة على معرِفة ودراية بالتَّربية الحقَّة، والتي من خلالها يُمكن صياغة المسلم الصَّالح؛ ولذا اهتمَّ دينُنا الحنيف بمراحل بناء الأسرة اهتِمامًا بالغًا؛ لأنَّها هي عماد المجتمع وأساس بنائه، ومن تَماسُكها يستمد المجتمع قوَّته، وفي ظلالها يتربَّى الفرد الصَّالح، وتنمو المَشاعر الصَّالحة، مشاعر الأبوَّة والأمومة والبنوَّة والأخوَّة، ويتعلَّم النَّاس التعاوُن على الخير وعلى البِرِّ.

وهذا ينطبق تمامًا على الشَّيخ محمَّد المنشاوي وأسرته، فهي ابتداءً أسرة تربَّت على رسالة الإسلام وتعاليمه وحدوده، وأخذت على عاتِقها حَمْلَ رسالة القرآن وتعاليمه إلى النَّاس كافَّة، فوالد الشَّيخ صدّيق المنشاوي[4] - رحمه الله - كان قارئًا ذاع صِيته في مصر معلِّمًا ومربِّيًا وموجِّهًا قبل أن يكون قارئًا، وأنت تقرأ سيرة العائِلة المباركة فلا تجِد أحدًا ممَّن له صلةٌ بهذه الشَّجرة إلاَّ وله نصيبٌ وحظٌّ من العلم والفقه والدين والتَّقوى، وفي هذا الجوِّ والمحيط خرجت تلكم النَّبتة المباركة، والَّتي أضحتْ فيما بعد لها الرِّيادة والدَّور البارز في تَخريج الأجْيال على هدي القرآن وتعاليمه، والتأثُّر بالقرآن الكريم من خلال الاستِماع إلى تلاوته وتجويده.

بداية نبوغ الشيخ:
تبدأ القصَّة من حين التِحاق الشيخ محمد صديق المنشاوي بكتَّاب القرية، والتي يتولاَّها عادة معلِّم يقوم بتعليم الصِّبْيان تعاليم الإسلام وتلْقينهم سور القرآن وآياته، ليتمكَّنوا بعدها من الالتِحاق بالمدارس الدينيَّة، والتي تعلِّمهم العلوم الإسلاميَّة المختلفة، كالفِقْه والنَّحْو وعلوم الحديث والقرآن، التحق الشَّيخ في سنٍّ مبكِّرة وعمره أرْبع سنين، فرأى شيخُه أبو مسلم[5] مَخايل الذَّكاء والموهبة من سُرْعة الحفظ، وحلاوة الصَّوت، والجدّ والمثابرة على حضور الدَّرس، فكان يقوم بتشْجيعه ويهتمُّ به كثيرًا، وهذا يذكِّرنا بالعلماء الربَّانين الَّذين شهِد لهم معلِّموهم بالذَّكاء والتفوُّق أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان أعجوبة زمانِه في الحفظ، وقد حُكِي أنَّ بعض مشايخ حلب قدِم دمشق لينظُر إلى حفظ الشَّيخ، فسأل عنه فقيل: الآن يَحضُر، فلمَّا حضر ذَكَرَ له أحاديثَ فحفِظَها من ساعتِه، ثمَّ أملى عليْه عدَّة أسانيد انتخَبَها ثمَّ قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أوَّل مرَّة، فقام الشَّيخ الحلبي وهو يقول: إن عاش هذا الفتى ليكوننَّ له شأن عظيم، فإنَّ هذا لم يُرَ مثله، وقال الشَّيخ شرف الدّين: أنا أرْجو بَرَكَتَه ودُعاه وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالى في تاريخه[6]، مع الفرْق بين العالِم والمقرئ.

والمنشاوي هو معلّم وموجّه لكن من خلال تلاوتِه لكتاب الله، والموهبة لا تقتصِر على نوع معيَّن من العلوم، بل تشمل التَّفكير والصَّوت والكلام، والمسائل المعنويَّة، من صبرٍ وحِلْمٍ وشجاعةٍ وأدبٍ وبيان وغير ذلك، والموْهِبة - كما يقولون - عبارةٌ عن: تفوُّق في قدُرات الشَّخص الذهنيَّة والعقليَّة.

لقد ظهرتْ مواهب جمَّة في الإسلام بفضْل تعاليم الإسلام وتوْجيهات الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-والَّذي كان يقوم بنفسِه باكتشاف المواهب ورعايتِها وتوجيهها، فقدِ اكتشف الرَّسولُ موْهِبة الأشعري في الصَّوت وهو يترنَّم بالقرآن ويتغنَّى به، وكان -صلى الله عليه وسلم- يُصْغي إليه بل ويشجِّعه، فقد روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنْه - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((لوْ رأيتَني وأنا أستمِع لقراءتِك البارحة، لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود))[7]،وينصت إلى قراءة أبي موسى؛ لأنَّه كان حسن الصَّوت، جيِّد التلاوة، وفي بعض الرِّوايات قال أبو موسى: "أما إنّي لو علِمت أنَّك تسمعني لحبَّرته لك تَحبيرًا"[8]؛ أي: لزدت في الإتْقان وفي حسن الصَّوت وجَمال التِّلاوة.

وما ذلك إلاَّ إقرارٌ من الرَّسول على أهميَّة موهبة الصَّوت في النفوس، وأنَّ لها تأثيرًا بالغًا ومؤثِّرًا في النَّفس.

لقد كان والِد الشَّيخ المنشاوي ومعلِّمه - الأسرة والمدرسة - لهما الأثر في رِعاية موهبة الشَّيخ الصَّوتيَّة، بل في التفوُّق والحفظ، حتَّى أتمَّ حِفْظ القرآن كاملاً وهو في سنّ الثَّامنة من عمرِه، وهذا يدلُّنا على أنَّ الأب والأسرة لهم القُدرة على تفجير الطَّاقة الكامنة في الطّفل، والموهبة كما يقولون[9] كالنبْتة والبرعم الصَّغير الذي يجب رعايتُه بحذَر مرَّة بالسقاية والرِّعاية، ومرَّة بِحفظه وحمايتِه من غوائل الرياح والآفات، وإلاَّ ذبلت تلْكم الأزْهار، ومن هُنا يَجب على الأسرة أن تتعرَّف على مواهب أبنائِها، ثمَّ دراستِها محاوِلةً توْجيهها وفهمها، ومن هُنا بدأَ والِد المنشاوي -رحمه الله - بعد أن عرف موهِبته يوجِّهه للسَّفر بصحبة عمِّه إلى القاهرة لاستِكْمال بقيَّة الدَّرب، من خلال تعلُّم العلوم والمعارف الإسلاميَّة، من فقهٍ وتفْسيرٍ ولغة، وغير ذلك.

الفصل الثاني
(الرحلة إلى الأزْهر لطلب العلم)
بعد أن أتمَّ الشَّيخ حفظ القرآن كاملاً، ذهب إلى الأزْهر بصحبة عمِّه[10] لينهل من القرآن وعلومه في باحات الأزْهر الذي كان بمثابة الجبَل الشَّامخ الذي تتطلَّع إليه أفئِدة المسلمين من شتَّى البقاع للتعلُّم والتفقُّه، وكان أمل الآباء والأمَّهات أن يكون لهم أبناء يدْرسون على يد المشايخ هناك، وكانت طبيعة الدِّراسة في الأزهر على الأسلوب القديم، وهو أن يَجلِس العالم إلى عمود ويتحلَّق حولَه التلاميذ في باحات الأزهر، وبالتَّأكيد أنَّ المنشاوي - رحِمه الله - كان من بين هؤلاء، ومن بيْن العلماء الذين تأثَّر بهم المنشاوي بخلُقه وسلوكه، بل وبعلمه- ليس هناك من المراجع الَّتي بين يديَّ ما يؤكِّد التِقاء الشَّيخ في صِغره بالشَّيخ عامر، ومؤكَّد جدًّا أنَّه التقى به كثيرًا بعد ذلك، ورأيتُ التِقاء الشَّيخ محمَّد مسعود بالشَّيخ المنشاوي والشَّيخ عامر كثيرًا جدًّا - الشيخ عامر السيّد عثمان (1900 - 1988)[11] وهو من أصْحاب الأصوات الندية الشجية، وحين يقرأ القرآن يتوقَّف الجميع عن العمل، وتدمع العيون وتَخشع القلوب، وقد تخرج على يديْه عددٌ من قرَّاء مصر، منهم البهتيمي[12] صاحب المنشاوي- رحمه الله -ورفيقه في الدرب، والحصري وكبارة ومحمود عمران وغيرهم كثير، وسبب ضياع شهْرته بالقراءة أنَّ صوته توقَّف فجأة في شبابِه، فعوّض عن ذلك بتعليم القرآن وتجويده والعمل في لجان تصْحيح المصاحف، والإشراف على تسجيلات القرَّاء في الإذاعة، وقد أشرف على تسجيل المنشاوي - رحمه الله -الترتيل والتَّجويد، وراجع تسْجيل الحذيفي[13] - مقرئ المسجد النبوي وإمامه– المرتَّل؛ فلقد كان للشَّيخ حسٌّ دقيق جدًّا في تقويم الأصوات والحكم عليها، ومن أعماله أنَّه قام بتحقيق العديد[14] من الكتب الأثرية مثل: كتاب "فتح القدير" وغيره، ومن تحقيقاتِه شرح منظومة السمنودي وغيرها، وهو كتاب نفيس تلقَّاه أهل الاختِصاص بالقبول والثناء؛ لما حوى من نفائِس المسائِل العلميَّة في القرآن، وممَّا يذكر عن الشيخ عامر عثمان - رحِمه الله - أنَّه في مرضه، في المستشفى كان يدَنْدِن بالقرآن مع أنَّه فاقد الحبال الصوتية، وفوجئ به الأطبَّاء وهو يتلو القُرآن بصوت جهْوري لمدَّة ثلاثة أيَّام، حتَّى ختم القرآن، ثمَّ أسلمت الروح إلى باريها[15].

ولاشكَّ أنَّ الشَّجر الطيِّب لا ينبت إلاَّ طيِّبًا، ومن هذه الشجرة الطيبة والتي شرب من رياضها القرَّاء والعلماء تخرَّج محمد صديق المنشاوي، والتي كان لها عظيم الأثر على المنشاوي في رحلتِه مع كتاب الله وترتيله، فاشتهر الشَّيخ وذاع صِيته في وقت مبكّر وهو بعدُ لم يتجاوز العشْرين من عمره، بل دعاه ذلك إلى إن يستقلَّ عن شيخه محمَّد سعودي الَّذي هو الآخَر كان له الأثر الواضح على الشَّيخ - رحِمه الله.

الفصل الثالث
(تربية المنشاوي الروحيَّة والعلميَّة)
بعد أن أتقنَ المنشاوي دراسة علْم القراءات، إضافةً إلى إتْقانه لمقامات القراءة دِراسة متْقنة -وعلم القراءات: علم بكيفيَّة أداء كلِمات القرآن، واختلافها معزوًّا لناقله[16] - انتقل إلى دراسة العلوم الإسلاميَّة مثل: الفقْه والتفْسير والنَّحو والصَّرف وغيرها (العلوم العقلية والنقلية)، وقد انبهر معلِّمُه ومدرِّسه السيّد أحمد مسعود من فرط ذكائه، وقوَّة حفظه وبيانه، وفي وقت مبكّر من عمره، ممَّا دعاه إلى المزيد من الاعتناء به والاهتمام بشخْصِه.

وهذه الدراسة للعلوم والفنون المختلفة وخاصَّة علم القراءات وما يتفرَّع منها، كان لها الأثر البالغ على الشَّيخ المنشاوي في تلاوتِه وأدائه المتميِّز الرائع، فأورثتْه الانفعال الصَّادق بألْفاظ القرآن وآياته -سيأتي توْضيح ذلك في تجويد المنشاوي دراسة وتحليل - وقد كانت طبيعة الدِّراسة عند القرَّاء أنَّها تشمل دراسة العلوم الإسلاميَّة إلى وقت قريب، ليتخرَّج القارئ وهو على دراية تامَّة بما يتْلوه، وما قرَّاء الأمصار السَّبعة[17] الذين اشتهروا بالعلم والفقْه والمعرفة إلاَّ دليلٌ واضحٌ على هذا المنهج السَّديد، فكان القارئ يَجمع بين الصوت والأداء المتقِن المتميز، مع دراسة العلوم الإسلاميَّة، وخاصَّة علوم التَّفسير، وممَّن اشتهر بالعِلْم إلى وقتٍ قريبٍ عالم القِراءات المقْرئ: عبدالفتَّاح المرْصفي[18] - رحمه الله - (1927 - 1989) حفظ أمَّهات المتون في القراءات والنحو الصرف وغيرها، قام بتحقيق العديد من كتب القراءات، مثل: "فتح القدير في شرح تنقيح التحرير"، و "شرح منظومة الإمام إبراهيم علي السمنودي"، و "لطائف الإشارات في شرح القراءات" للإمام القسْطلاني شارح البخاري، وقد توفِّي عندما كان بعْض تلامذته يقرأ عليه الختْمة، ومنهم القارئ محمود الحصري قارئ المقارئ المصريَّة سابقًا، له أكثرُ من عشر مؤلَّفات في علوم القُرآن[19]، وسجَّل كذلِك القرآن مرتَّلاً عشْر مرَّات وبروايات مختلِفة.

لقد كان المنشاوي على غرار مَن سبقوه في العلم والفقْه والدراية التامَّة، إلاَّ أنَّ المنشاوي لم يتفرَّغ للتَّأليف والكتابة[20] - وقد اطَّلعت له على رسالة بخطِّ يده تدلُّ على أسلوب رائق بديع، وقدرة فائقة على التَّصوير والتَّوضيح - ولكنَّه تفرَّغ طوال حياتِه إلى التَّربية والتوجيه لأفْراد أسرته ولمجتمعه ولمستمعيه، من خلال ترْتيله وتَجْويده الَّذي حظِي بالقبول من لدُن جَميع الشَّرائح.

الفصل الرابع
(مواقف إيمانية للشيخ المنشاوي، رحمه الله)
لقد ضرب الشَّيخ المنشاوي أمثلةً رائعة في الورع والزُّهد والصبر، سطرت بأحرُفٍ من نور، لتدلَّ دلالة واضحة على أنَّ الشَّيخ لم يكُن قارئًا للقُرآن في المحافل فحسب، بل كان مربِّيًا من الطراز الأوَّل، ترْجم ما يتْلوه إلى واقع عملي ملموس في الحياة - هذا هو المطْلوب ممَّن يتلو كتاب الله - ومن خلال مواقف عدَّة، وهذا يفسِّر لنا أنَّ تسجيلاتِه - التَّرتيل والتَّجويد - لاقتْ صدًى واسعًا من مختلف الشَّرائح، وقد شهد لصوتِه أنَّ له تأثيرًا في القلوب والنُّفوس علماءُ ربَّانيُّون وقرَّاء محترفون، وفقهاء شرعيُّون[21]، فضلاً عن عوامّ النَّاس والذين أقبلوا على الإسلام من خلال الاستِماع إلى ترتيله وتجويده، وسيأتي توضيح ذلك، ومن المواقف المؤثّرة للمنشاوي -رحمه الله- والَّتي تدلّ على عزَّة نفسه وتقْواه ما يلي:
أوَّلاً: في بداية نبوغِه وشهرته طلبت الإذاعة منْه، وهو في أحد المحافل أن يسجِّل ما يتلوه في الإذاعة، ولكن رفض؛ طلبًا للسَّلامة وبعدًا عن الشُّبهات، وابتعادًا عمَّا يَشين، كما فعل عمُّه[22] بالضَّبط؛ لأنَّ القرآن يبثُّ إلى عموم الأماكن والأجواء، فربَّما كان هناك مَن لا يصْغي إلى القرآن، وربَّما كان في دار الإذاعة من الأمور والمنكرات ما لا يُمكن إزالته، وقد ورِث المنشاوي - رحِمه الله - ذلك عن أسرته ومشايخِه، ولو كان المنشاوي يسْعى إلى الشُّهرة والمنصِب والمال أو إلى اعتباراتٍ دنيويَّة أخرى، لما كان لتلاوتِه ذلك التَّأثير الواضح على القلوب.

وقد سعتْ إدارة الإذاعة بِمهندسيها وكوادِرها إليه، فقال قولته المشْهورة: "لستُ بِحاجة إلى الشُّهْرة"[23] عبارة تدلُّ دلالة واضحة على الإخلاص، وأنَّه يقرأ لا لأجل أن يُطْرِب الجمهور ويبغي الشهرة، بل لأجل أن يوصّل صوت الحقّ إلى جميع النَّاس؛ عسى أن يوقظ بصوتِه وتلاوتِه النفوس الغافلة، ويُحيي بتلاوتِه القلوب الميِّتة، والجزاء من جنس العمل والله يُعامل عبده بمثل ما يعامله عبده، فقد كان هذا الرَّفض منه سببًا لشهرته في الآفاق والأمصار، وقد بدأت الإذاعة بعد ذلك تتنقَّل بكادِرِها الكامل لتسْجيل تلاوتِه الَّتي يمتع بها الحاضرين، وكثيرًا ما كنت وأنا أستمع إلى تلاوته الخارجيَّة بكاء الحاضرين، وعلى سبيل المثال تلاوتُه لقوله تعالى من سورة الإسراء[24]: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ﴾ [الإسراء: 12]، فإنَّك لوِ استمعت بشكل مركَّز، لسمِعْت بكاء الحاضرين، بل كان المنشاوي - رحِمه الله - نفسه يبكي في مواضع مؤثِّرة من تلاواتِه، وفي أجواء تصْفو فيها النفس، ويفتح فيها عليه من الفيوضات الربَّانية على قلب الشَّيخ، ومن ذلك قراءة نادِرة يقرأ فيها آياتٍ من سورة التوبة، وعندما يصِل إلى قوله تعالى: ﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] تخنقه العَبْرة فيجهش بالبكاء، ويتأثَّر بصوتِه السَّامعون.

الموقف الثاني: بعد أن علا نجم الشَّيخ وذاع صيته في الآفاق، وفي وقت مبكِّر أثار ذلك ضغينة بعض الحسَّاد، ومرْضى النفوس الذين اعتقدوا أنَّ التلاوة - تلاوة كتاب الله في المحافِل والمساجد - ما هي إلاَّ حلبة مصارعة وتنافُس على الشهرة والمنصب، ومحاولة لكسْب ودّ الجمهور؛ ولهذا تسبَّبوا له ببعْض المتاعب يودي بعضُها إلى الموت، لولا لطف الله بالشَّيخ، ودفاع الله عنه وحمايته له من كل ما يؤذيه؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج: 38]، ومن ذلك محاولة بعض القرَّاء من المتعصِّبين على الشَّيخ من محاولةٍ يائسةٍ من قتله، ومن خلال وضْع السّمّ في الطَّعام[25]، وكان يُفترض بالمقرئ أن يفرَح بِمن يذكِّر النَّاس بالله لا أن يسعى إلى مُحاربة مَن يتلو كتابَ الله من أجل مصالِح شخصيَّة، ولكنَّه الحسد الأعْمى، والقصَّة معروفة، وليس العجب مِن صفح الشَّيخ عن المذنب وحِلْمه عنه، بل الأعجب من ذلك كلّه هو أنَّ الشَّيخ ستر عليه ولم يفضحْه، بل لم يذكر أهل صاحب التَّرجمة اسم ذلك المقرِئ ولا حتَّى كنيته أو مكانه، إنَّها فعلاً أخلاق ورثة الأنبِياء وأهل القرآن حقًّا، والأعجب من ذلك والد الشيخ -صديق المنشاوي، رحمه الله -كان هو الآخَر يوجِّه الأسرة المثاليَّة نحو الصفح والعفو[26]، يُوصيهم بعدَم ذكر اسم الشَّخص حفاظًا على سمعتِه من الضياع، واكتفى بقولِه: كيف يصدر ذلك من مقرئ؟!

فعلاً كيف تصْدر مثل هذه الأخلاق الذَّميمة من محبٍّ للقرآن، وهو يتْلوه على الملأ؟! فحال الجُهلاء والعصاة ربَّما يكون أحسنَ حالاً منْه.

الموقف الثَّالث: الصَّبر على الأذى والحلم وكظْم الغيظ من صفات المؤمنين المخْلصين لهذا الدين، ولحمَلة القرآن، والله يَمتحِن عبده بأنواعٍ من الأذَى ليمتحِن عبوديَّته لله، فإن ترْجم ما يتْلوه إلى واقعٍ عملي - وإن لَم يرزقه الله جَمال الصَّوت وحسْنه -رفعَه الله إلى درجات عالية وفي المقام الأعْلى في الجنان، كما جاءت بذلِك النُّصوص الصَّحيحة[27]، وإن جعَلَه وراء ظهْرِه وابتغى منه الاعتِبارات الدنيويَّة والمصالح التَّافهة من عرَض الحياة الدنيا، وضَعه الله، وإن كان صوتُه جميلاً والأداء متْقنًا، بل وإن كان صوته من أجْمل أصوات العالمين، وإن جَمع بين الصَّوت الجميل والأخلاق السامية، وتحلَّى بفضائل وآداب القرآن، فلا تسألْ عن فضله، وعمَّا يفتح الله على يديه من الفتوحات الربانيَّة، والنعم العظيمة، كما فتح الله على قلوب الصَّحابة والتَّابعين، ومن بعدهم إلى يومِنا هذا، والخير ماضٍ إلى يوم القيامة.

لقد كان حال الشَّيخ المنشاوي - ولا نزكِّي على الله أحدًا - هو من ذلك الصِّنف الَّذين جَمعوا بين القوْل والعمل، بين التِّلاوة الجميلة والأخلاق السَّامية، والآداب الفاضلة، ومن ذلك أيضًا عندما قام أحد الحسَّاد أيضًا بعمل حيلةٍ في أحد المحافل، لما رأى من إقبال الجمهور للاستماع إلى تلاوته وهم ما يقرب من 10 آلاف مستمع، فأوصى صاحبَ الجهاز بتعطيل المايكروفون، والقصَّة معروفة[28] في ترجمة الشيخ، فما كان من الشَّيخ إلاَّ أن قام من أجْل الهدف الَّذي يبغي إليْه من إيصال صوْت الحقِّ إلى النَّاس كافَّة، فبدأ يقرأ وهو يَمشي بين الجمهور، حتَّى بهر الحضور بصوْتِه العذْب، وأدائه المتميِّز، فانصرف ذلك الحاسِد مغمومًا، وكان الأوْلى به أن يَجلس للاستماع إلى كلام الله الَّذي به شفاء القلوب والأرْواح، فكان صبر الشَّيخ وحِلْمه عنه وعدم الإفصاح عن اسْم الشَّخص من الأسباب التي رفعتِ اسم الشَّيخ عاليًا في سماء القرَّاء في العالم الإسلامي، وأسألُ الله أن يُسامح ذلك الحاسدَ لأنَّه حرمَنا نحن من الاستِماع إلى تلك التِّلاوة التي قيل عنها: من روائع تلاوات الشَّيخ[29] في تلك اللَّيلة.

الفصل الخامس
(الأسرة المثالية)
تتَّفق المؤسَّسات التَّربويَّة على اختِلاف مناهجِها ومذاهبها في أنَّ الأسرة هي الحصن الأوَّل للتَّربية والتَّعليم، وفي أنَّ صلاح المجتمع منوطٌ بِصلاحِها؛ لأنَّها تُعدُّ هي اللَّبنة الأولى في بناء المجتمعات، وأنَّ أيَّ خللٍ أو قصور في التَّربية يظهر أثرُه جليًّا وواضحًا على إفْراد المُجتمع الذي يَعيشون فيه؛ ولذا حثَّت تِلْكُم المؤسَّسات على الاهتِمام والعناية بالأُسْرة كلّ حسب منظورِه وتفكيره، والأمر في دينِنا الحنيف فاق كلَّ تلك الأيدلوجيات والنظم والدساتير الأرضيَّة، فقد اهتمَّ الإسلام بالأسرة اهتمامًا بالغًا، وتَجِد في كتُب الفُقَهاء وأئمَّة الهُدى أدقَّ التفاصيل مِمَّا يتعلَّق بشان الأسرة ابتداءً من اختِيار الزَّوجة، وانتهاءً بتربِية الأبناء إلى أمور يطول شرحها في هذه العجالة[30]، كلّ ذلك يدفع إلى اهتِمام المربِّي بالأسرة وتنشئتها على معاني الإسلام والأخلاق السَّامية، ونَجد بعض المربّين يقع في المغالطة حينما يوجِّه اهتمامه إلى تربية الأفراد خارج نطاق الأسرة على معالي الأمور -وهُو شيءٌ حسن- ويُهْمل أو يَتَناسى ترْبِية من يمتُّون إليْه بصِلة وهم أبناؤُه وأسرته، وهذا الصِّنف غالبًا ما يفشل في دعوته، ولا يكون لكلامه التأثير في مَن يدعوهم ويرشدهم.

لقد أثبتَ المنشاوي - رحِمه الله - ومن خلال تربيتِه لأسرته الحقَّة على معاني الإيمان والإسلام، أنَّه ليس مقرئًا فحسْب بل هو مربٍّ وموجِّه من الطِّراز الأمثل، لا أقول ذلك جُزافًا أو ادِّعاءً بل هو حقيقة، فقد كان تعامله وتربيته لأبنائِه وزوْجاته ثمَّ لأقْربائه، وانتقالاً إلى أبناء محلَّته، بل ومجتمعه، ومَن يتعاملون معه في أنَّه القمَّة في الآداب والأخلاق المرعيَّة الإسلاميَّة، التي إن دلَّت على شيء فإنَّها تدلُّ على أنَّ الرَّجل صاحب رسالة وهدف، يريد أن يُبين أنَّ حامل القرآن يجب أن يكون ذلك ديدنه وخلقه.

وإليك لمحاتٍ تربويَّةً نقلاً من كلام أبنائه:
ترْويض الأبناء على أداء الفرائض: يقول الشَّافعي محمَّد صديق، أكبر أولاد الشَّيخ: "كان أبي حريصًا على أن نؤدِّي الفرائض، وكثيرًا ما اصطحبَنا للمساجد التي يقرأ فيها القرآن، وكان ذلك فرصةً لي لزيارة مساجد مصر[31].

الاختِيار الأمثل للأصدقاء: لقد كان ذلك من أولويَّات اهتِمام الشيخ، وكان يقوم بمتابعة الأمر بنفسِه حفاظًا على أولاده من الضَّياع، يتابع الشَّافعي فيقول: كما كان - رحِمه الله - يُراقبنا ونحن نَختار الأصدقاء ويصرُّ على أن يكونوا من الأُسر الملتزمة خلقًا ودينًا"[32].

المشاركة الفعَّالة في اللهو المباح: "وكان – أي: الشَّيخ المنشاوي، رحمه الله - يشارك أبناءَه في المذاكرة ويساعدهم على أداء الواجِبات ويَحضر مجالس الآباء"[33].

العدْل بين الزَّوجات: لقد تزوَّج عام 1938م من ابنةِ عمِّه، وكان ذلك هو زواجَه الأوَّل، وأنْجب منها أربعة أولادٍ: ولدين وبنتين، ثمَّ تزوَّج الثَّانية، وكان عمرُه قد تجاوَز الأرْبعين، وكانت من مركز أحميم محافظة سوهاج، وأنْجب منها تِسعة أبناء: خَمسة ذكور وأرْبع إناث، وكانت زوْجتاه تعيشان معًا في مسكن واحد يَجمعهما الحبُّ والمودَّة، وكان يقول: النَّاس يحبُّونَني ويتمنَّون مصاهرتي، وقد توفيتْ زوجتُه الثَّانية أثناء تأدِيتها فريضة الحجّ قبل وفاتِه بعام واحد[34]، والعجيب أنَّ هذه الأسرة المكوَّنة من هذا العدد كانت تعيش في أجواءٍ مفْعَمة من الألفة والمحبَّة، قلَّ أن تَجِد لها نظيرًا حتَّى إنَّ أولاد الزَّوجة كانوا ينادُون الزَّوجة الثَّانية - التي تسمَّى بتعْبير العوامّ: الضرَّة - "ماما ماما!"؛ ليدل ذلك أنَّ الرَّجُل استطاع أن يَبني أُسرة متينة الأخْلاق محصَّنة من غوائل الفِتَن.

الاهتِمام بتحفيظ الأوْلاد كتاب الله:
يُضيف ابن الشَّيخ المنشاوي قائلاً: "وكلّ أولادِه يَحفظون القرآن - والحمدُ لله - كاملاً، ولكن لم يتمتَّع أحدٌ منَّا بِحلاوة الصَّوت باستثناء ولديْه صلاح وعمر، الأوَّل يعمل محاسبًا، والثَّاني معيدًا بِجامعة الأزْهر، وهُما دون الثَّلاثين من عمرِهِما، ويتميَّزان بصوتٍ طيّب جميل، وقد شهِد لهما الكثير من المتخصِّصين في علوم القراءات بالتفوُّق، وهُما يدرسان الآن علوم القراءات استعدادًا لاحتراف هذه المِهْنة - إن صحَّ التَّعبير -فيما بعد إن شاء الله.

والأمر لا يقتصِر على الأولاد فحسب، بل إنَّ بناتِه كنَّ من حفظة كِتاب الله، وقد أوصى الشَّيخ والده أن يقوم بالمهمَّة في حال إذا أصابه مكروه، وقد تمَّ له ما أراد[35].

علاقته بأهل بلدتِه وأقربائه: وهذا موقفٌ من المواقف التي تدلّ على تواضع الشَّيخ وعلاقته بأهل بلدته، فقد كانت علاقتُه بأهل بلدته لا تنقطِع، وهذه عادات أهْل الصَّعيد، فكان عطوفًا بهم محبًّا لفقرائِهم، وأذكُر أنَّه قال لنا - الكلام لابن الشَّيخ رحِمه الله - ذاتَ مرَّة: إنَّه يريد عمل وليمةٍ كبيرة لحضور بعض الوُزراء وكبار المسؤولين على العشاء، فتمَّ عمل اللّزوم ولكنَّنا فوجئْنا بأنَّ ضيوفه كانوا جميعًا من الفقراء والمساكين من أهل البلدة، وممَّن يعرِفُهم من فقراء الحيّ الذي كنَّا نعيش فيه[36].

بهذه التربية المثلى والأسلوب الأمثل استطاع الشَّيخ المنشاوي أن يدخُل إلى قلوب النَّاس، ومن أوسع الأبواب، ورزقه الله محبَّة النَّاس له، وأصبح بعدَها بحق رائدًا من أعْلام القراءة بِمصر بل والعالم الإسلامي كلّه.

الفصل السَّادس
(تلاوة الشَّيخ - الأداء والأسلوب - دراسة وتحليل)
هذا الفصل هو المقْصود من البحث، والمعقود من أجله؛ لأن الشَّيخ - رحِمه الله - إنَّما تَميَّز وعرف من خلال تلاوته وتَجويده، إنَّ قارئ القرآن هو من يذكِّرنا بالله، وإنَّ الإحساس بحلاوة كلام الله إنَّما يمرُّ عبر الحناجر الصوتيَّة التي وهبها الله لِمن شاء من خلقه وعباده، وإن الملاحظ من تلاوات الشَّيخ - رحمه الله - أنَّها تتضمَّن دروسا في التَّفسير، ودروسًا في التَّربية الإيمانية، ودروسًا في القراءات والوقْف والابتداء، ودرسًا في المقامات المتنوِّعة، بل ودروسًا في تصوير المعاني وإحالتها إلى مشاهد متحرّكة تلمس من خلالها عذوبة وحلاوة القرآن، ومنها تحسّ فعلاً بعظمة كلام الله وشرفه، وأنَّ القرآن هو دستور الحياة جاء لإسعاد البشريَّة جمعاء وإنقاذِهِم ممَّا هم فيه من حيرة وشكّ وقلَق، وإنَّك تلاحظ أنَّك حين الاستِماع إلى تلاوة المنشاوي من يشدُّك إلى الاستِماع إلى آخِر ما يتْلوه، وأنَّها لا تمس الأذُن فحسب، بل تدْخل إلى أعْماق القلْب مباشرة، لتورِثَه الخشوع والرَّهبة والمحبَّة لله الصَّادقة، وتدْفعه إلى بذْل المزيد من الاجتِهاد والعمل الصَّالح لله، بل إلى بذْل نفسه رخيصة في جنبِ الله، وتُلينه قسوة قلبه كما يلين الحديد.

لقد تميَّزت تلاوة المنشاوي - الخارجيَّة والمسجَّلة بالإذاعة - والَّتي بلغتْ 150 تسجيلاً[37] بِجملة ميزات جعلتْها القمَّة في المهابة والرَّوعة والتَّأثير[38]، مع اختلافٍ في الأداء بين محفل وآخر، والملاحظ هنا عدم وجود تلاوتين متشابهتين من كل وجه، من ناحية الأداء المتميِّز والجمال الصَّوتي، فتلاوتُه لسورة الزُّخْرف تَختلف عن تلاوتِه لسورة ق، وتلاوته لسورة التَّوبة تختلف عن الإسْراء، وكأنَّك تتنقل بين زهور ذات ألوان مختلفة، وروائح عطرة متباينة متناثرة في رياض حديقة جَميلة غنَّاء، والكلُّ ينبع من مشكاة واحدة.

إنَّ من الميزات العامَّة التي أعطت تلاوة المنشاوي هذه المهابة والرَّوعة ما يلي:
أوَّلاً: الإحساس اليقِظ بعلوم التَّجويد وما يتْبعه من علوم القراءات، والتي تَجعل من الآيات المتلوَّة سيمفونية - إن صحَّ التَّعبير - بيانيَّة، وتترْجِم المشاعر والحركات والأصْوات والشّخوص، وتُحيل المفردات والألفاظ إلى مشاهد وكائناتٍ متحرِّكة.

ثانيًا: تأثُّره البالغ بما يتلوه؛ لكونه عاملاً بالقُرآن - نَحسبه كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا -والتي كست الصَّوت خشوعًا وهدوءًا بالغ الرَّوعة، مما أثَّر ذلك في الأسماع بَلْهَ القلوب، إنَّ التَّرتيل ليس مجرَّد قواعد وأصول يتعلَّمها المقرئ ليصبح بعدها من القرَّاء المشْهورين، كما يتخيَّل البعض، بل هي عمليَّة بالغة التَّعقيد تحتاج إلى دراسة متْقنة في اللُّغة والقراءات، وعلْم الأصول والنَّغمات - لَم يتعلَّم المنشاوي النَّغم[39] والمقام من أحد وإنَّما هو موهبة من الله، ولما كان يتمتَّع به من حسٍّ مُرْهف، وإيمانٍ عميق وأُفُق واسع، وتربية صارمة على معاني الإيمان -وتَحتاج إلى صوت ذي طبيعة حساسية تُعْطي التّلاوة مهابة وخشوعًا، وفوق ذلك أن يكون لديْه هدف سامٍ يتجاوز المكان والزَّمان إلى أفق رحبة، بحيثُ يتعلَّق قلبُه بالله حبًّا ورجاءً وخوفًا، يتمثَّل ذلك في دعوة الخلْق، ومن خلال التِّلاوة إلى الطَّاعة لله، وقد لخَّصت السيّدة عائشة - رضِي الله عنها - دعْوة الرَّسول وما ينبغي أن يتحلَّى به المسلم[40] وبالأخصّ حامل القُرآن بقولها: "كان خلقه القرآن"، وبالجملة كما قال المقرئ الحصري[41]: "لا يُعْتَبر القارئ مجوِّدًا إلاَّ إذا علم القسمين - أي: التَّجويد العلمي والعمَلي - فعرف القواعد والضَّوابط، وأتقن النُّطْق بكلمات القرآن وحروفه".

وقدِ اعتمد المنشاوي - رحِمه الله - في ترْتيله للقُرآن على جُملة مؤثِّرات صوتيَّة ونفسيَّة، وهي:
أوَّلاً: التَّنويع في النغمات، وتوْظيف المقامات، وبما يُلائم ظِلال الآيات المتلوَّة بناء على ما يملكه من قدرات فائقة في التَّصوير والإيضاح،، ويفعل ذلك كلَّه في إطار خدمة المعنى، وإيصاله إلى أذْهان السَّامعين.

ما هي المقامات؟
المقام[42] عبارة عن: مَجموعة من الأصوات المتآلِفة مع بعضها البعض، لتشكّل في النهاية لوحةً فنّيَّة، تعبّر عن حالة فرَح أو حزن أو غضب أو حنين.. إلخ.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 258.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 257.05 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (0.65%)]