|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وقفة مع النفس السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين...جعل الإنسان في هذه الدنيا أمانة مستودعة وعارية مستردة يدعها إلى حين ثم يقبضها بعد حين، وهو ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت وهو الحي الذي لا يموت وهو الذي قهر العباد بكأس الموت فقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. خلق الخلق، فأحصاهم عددا وجعل مرجعهم ومآلهم إليه حيث توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون فقال تعالى ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]. وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.... أعلم الناس بربه عز وجل وأتقاهم لله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده أني أتقاكم لله وأعلمكم به) متفق عليه. فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.. أما بعـد... فيا أيها المؤمنون.... فمع طغيان المادية، والذي أدى إلى إصابة الأمة أفرادا ومجتمعات بمرض ضعف الإيمان، كان لابد لنا من علاج لهذه الداء العضال، والمرض الخطير الذي أنهكنا حتى تمكن منا عدونا فأصابنا في مقتل، ولأن الإيمان هو الكنز المفقود في حياتنا فكان لابد من وقفة مع النفس نصحح فيها أوضاعنا، ونجدد فيها إيماننا كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الإيمان ليخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم). رواه الطبراني والحاكم. لذلك كان حديثنا ( وقفة مع النفس ) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية: 1- أحوال النفس في القرآن الكريم. 2- ضرورة تزكية النفس. 3- وسائل تزكية النفس. 4- الخاتمة. العنصر الأول: أحوال النفس في القرآن الكريم: لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالنفس الإنسانية لأنها أعظم ما خلق وأبدع، وجعل قَسَمَه بها سابع قسم شمل خلق السموات والأرض. فقال تعالى ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 7] ثم بيّن الله تعالى أنّه ألهم نفوسنا دوافع الخير ونوازع الشر قال تعالى﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8]، ولكنّ هذا الخير وهذا الشر ليسا قدراً مسيطراً على شخصية الإنسان لا مندوحة عنه، بل بإمكان الإنسان أن يزكو بنفسه ويرقى بها، وبإمكانه أن ينحطّ بها ويتدهور بشأنها ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]. لذا كان النبي يُكثر من هذا الدعاء: "اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها". أمّا أحوال النفس التي عرضها القرآن الكريم فهي: 1- النّفس الأمّارة بالسّوء: وهي النفس التي تأمر الإنسان بفعل السيّئات والتي أخبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]. فهي تأمر صاحبها بفعل كل رذيلة، تسيطر عليها الدوافع الغريزية، وتتمثل فيها الصفات الحيوانية، وتبرز فيها الدوافع الشريرة، فهي توجّه صاحبها بما تهواه من شهوات. وأخبر سبحانه وتعالى عن تلك النفس أنها أمّارة بصيغة المبالغة، وليست آمرة لكثرة ما تأمر بالسوء، ولأنّ ميلها للشهوات والمطامع صار عادة فيها إلاّ إنْ رحمها الله عز وجل وهداها رشدها. 2- النفس اللوّامة: هي التي أقسم بها الله تعالى في القرآن الكريم فقال تعالى ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]. فاللوامة نفس متيقّظة تقيّة خائفة متوجّسة، تندم بعد ارتكاب المعاصي والذنوب فتلوم نفسها، تبرز فيها قوة الضمير فتحاسب نفسها أولاً بأوّل، وهذه كريمة على الله، لذلك أقسم بها في القرآن. ومن أحسن الأقوال عن النفس اللوامة قول إمام التابعين الحسن البصري رضي الله عنه: "إنّ المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه؛ ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُماً ما يعاتب نفسه". 3- النفس المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى خالقها، واطمأنت في بسط الرزق وقبضه وفي المنع والعطاء. وهي النفس المؤمنة التي استوعبت قدرة الله، وتبلور فيها الإيمان العميق والثقة بالغيب، لا يستفزها خوف ولا حزن، لأنها سكنت إلى الله واطمأنّت بذكره وأَنِسَت بقربه فهي آمنة مطمئنّة، تحسّ بالاستقرار النفسي والصحة النفسية، والشعور الإيجابي بالسعادة، رضيتْ بما أوتيتْ ورضي الله عنها فَحُق لها أن يخاطبها رب العالمين بقوله تعالى ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]. نفسٌ تمسّكت بالحق وسارت عليه هدىً ونبراساً لها في شؤون الحياة على الأرض. ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وذكره كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]. فإنّ طمأنينة القلب سكينة واستقرار بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتّى بشيء سوى بالله تعالى وذكره. العنصر الثاني: ضرورة تزكية النفس: النفس البشرية كائن حيّ يتطور ويتغيّر، ولذلك يجب أن نغيّره باتجاه الأفضل، وينبغي أن نعلم أن التغيير يبدأ من الداخل، وعلينا أن نحفظ القانون الإلهي في التغيير والمتمثل في قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]. فالنفس قد تكون تارة أمّارة وتارة لوّامة وتارة مطمئنّة في اليوم الواحد، بل في الساعة الواحدة يحصل لها هذا وذاك. لذلك كانت تزكية النفس وتنميتها من أهم الضرورات لأن بتزكيتها يكون الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وبإهمال التزكية تكون الخيبة والخسارة،فقال تعالى ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10] الشمس. وقال تعالى ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14، 15]. لذا كانت إحدى المهـام التي بعث الله عزَّ وجلَّ الرسل من أجلها.. فكانت دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]. وقد استجاب الله عزَّ وجلَّ لدعوته فبعث لنا حبيبنا محمد ليقوم بهذه المهمة.. ولكنه سبحانه قدَّم التزكية على العلم، كما جاء في كتابه الكريم.. قال تعالى ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].. ثمَّ قال تعالى ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].. وقال عزَّ وجلَّ ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. فالتزكية قبل العلم.. لأن التزكية تُطهِّر القلب حتى يكون مؤهلاً لتقبُل العلم والعمل به، وحينها لن يحول بينه وبين الهداية قواطع وموانع.. وآفات النفوس كالكبر والعُجب تقطع على المرء طريقه إلى الهداية، مما يؤدي إلى اعوجاجه وتوقفه عن العمل.. ولكن التزكية تُحرر النفس من تلك الآفات وتجعله ينتفع بما يتعلَّم.. فلا ينبغي أن تُقدِم شيئًا على تزكية نفسك ومعرفة عيوبها والشروع في إصلاحها. وبالتزكية يتحقق القلب بالتوحيد والإخلاص.. ويصل للمنازل العالية من الصبر والشكر والخوف والرجاء والمحبة لله سبحانه وتعالى والصدق مع الله، ويتخلى عن الرياء والعجب والغرور والغضب وغيرها من آفات النفوس.. ولقد كان السلف الصالح يولون أمر تزكية النفس وتطهير القلب اهتماما بالغًا، ويقدمونها على سائر الأمور.. فكيف نزكي أنفسنا؟؟؟ العنصر الثالث: من وسائل تزكية النفس: 1- اليقين بالموت. 2- تذكر الخاتمة. 3- معايشة يوم الحساب وما فيه من أهوال. 1- اليقين بالموت وما بعده: لَقَد كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَينَا مَهمَا فَرَرنَا وَتَوَقَّينَا أَن نَصِيرَ إِلَيهِ قال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8]. وقال تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 61، 62]. وقال تعالى ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 4]. وقال تعالى ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 39 - 42]. إِنَّهُ يَومٌ مَشهُودٌ وَلِقَاءٌ مَوعُودٌ، بَعدَ لَحظَةٍ حَاسِمَةٍ قَاصِمَةٍ، تَنقُلُ أَحَدَنَا مِن دَارِ العُبُورِ وَالغُرُورِ، إِلى دَارِ السُّرُورِ أَوِ الشُّرُورِ، لَحظَةٌ تُلقَى فِيهَا آخِرُ النَّظَرَاتِ عَلَى الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَيُوَدَّعُ فِيهَا الإِخوَانُ وَالأَخوَاتُ، وَتَبدُو عَلَى الوَجهِ فِيهَا مَعَالِمُ السَّكَرَاتِ، وَتَخرُجُ مِن صَمِيمِ القَلبِ الزَّفَرَاتُ وَتَغرَقُ العَينُ بِالعَبَرَاتِ، لَحظَةٌ يُؤمِنُ فِيهَا المُلحِدُ وَالكَافِرُ، وَيُوقِنُ عِندَهَا الفَاسِقُ وَالفَاجِرُ، وَتَظهَرُ حَقَارَةُ الدُّنيَا وَقِصَرُهَا وَهَوَانُ أَمرِهَا، وَيُحِسُّ مُلاقِيهَا أَنَّهُ فَرَّطَ في جَنبِ اللهِ كَثِيرًا، فَيُنَادِي بِلِسَانِ النَّادِمِ المُتَحَسِّرِ كما قال تعالى ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. وقال تعالى ﴿ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10]. هُنَالِكَ يَدنُو مَلَكُ المَوتِ فَيُنَادِي ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27، 28]. أَو يَقُولُ وَهُوَ يَنزِعُ الرُّوحَ نَزعًا: "يَا أَيَّتُهَا النَّفسُ الخَبِيثَةُ، اُخرُجِي إِلى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ. وَحِينَئِذٍ تَبرُدُ الأَعضَاءُ، وَيَسكُنُ القَلبُ وَالأَحشَاءُ ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 29، 30]. ثم تُرفَعُ الرُّوحُ والصَّحَائِفُ بِالحَسَنَاتِ في أَعلَى عِلِّيِّينَ، أَو تُطرَحَانِ بِالسَّيِّئَاتِ في أَسفَلَ سَافِلِينَ، وَيَصِيرُ العَبدُ في عِدَادِ الأَموَاتِ، كَأَن لم يَكُنْ عَاشَ في الدُّنيَا وَلا دَرَجَ، وَلا دَخَلَ يَومًا فيها وَلا خَرَجَ، وَكَأَنَّهُ لم يَرَ بِعَينٍ وَلم يَسمَعْ بِأُذُنٍ. وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت، فقال صلى الله عليه وسلم ( أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه) رواه البيهقي وحسنه الألباني. وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: أَكْثَرَهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ. رواه ابن ماجه، والطبراني في الصغير. وقال القرطبي رحمه الله في كتابه التذكرة: قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها. انتهى. وقال القرطبي في التذكرة أيضا: قال الدقاق: من أكثر من ذلك الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضي بالكفاف، والتكاسل في العبادة. 2- تذكر الخاتمة: يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في "الثبات عند الممات": "قد خُذِل خلقٌ كثير عند الموت، فمنهم مَن أتاه الخِذلانُ في أول مرضِه، فلم يستدرك قبيحًا مضى، وربما أضاف إليه جورًا في وصيتِه، ومنهم مَن فاجأه الخِذلانُ في ساعةِ اشتداد الأمر، فمنهم مَن كفر، ومنهم مَن اعترض وتسخَّط، نعوذ بالله من الخِذلان، وهذا معنى سوء الخاتمة؛ وهو أن يغلب على القلب عند الموت الشك أو الجحود، فتُقبَض النفس على تلك الحالة، ودون ذلك أن يتسخَّط الأقدار". انتهي كلام ابن الجوزي. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في "صحيح البخاري: ((إنما الأعمال بالخواتيم))، ويكمن خطر هذه الكلمة في أن العبدَ عند الموت يكون في غاية الضعف؛ فهو يعاني من ألم النزع، والخوف من خطر ما هو مُقبِل عليه عند الموت، وكذا هجوم إبليس عليه بخَيْله ورَجله، ويقول إبليس لأعوانه: دونكم هذا الرجل، إن أفلت منكم اليوم لا تدركونه. فهذه فتنة عظيمة لا يَثبُت فيها إلا المؤمن الصادق، الذي استقام على دين الله - تعالى - قال تعالى ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]. ففي هذه الفتنة يُثبِّت الله قلوبَ المؤمنين الصادقين، وتنتكسُ فيها قلوبُ المنافقين والمفرِّطين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بعد التشهُّد الأخير في الصلاة من أربعٍ، فيقول (اللهم إني أعوذُ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وشر فتنة المسيح الدجال) (رواه البخاري) . وفتنة المحيا: هي التي يتعرَّض لها العبد في هذه الحياة الدنيا، وهي فتنة متنوعة. وفتنة الممات: هي الفتنة التي تنزل بالمرء عند السكرات والكُرُبات، والإقبال على ربِّ الأرض والسموات، نسأل الله الثبات عند الممات. وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الخاتمة فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (....فوالذي لا إلهَ غيره، إن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل النار فيدخلُها، وإن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبقُ عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل الجنة فيدخلها)؛ (رواه مسلم). وفي "صحيح البخاري" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون، وفي أصحابه رجلٌ لا يدع شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتَّبعها يضربُها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو من أهل النار)، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فاتَّبعه، فجُرِح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابَه بين ثَدْيَيه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسَه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، وقصَّ عليه القصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (إن الرجل ليعملُ بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعملُ بعملِ أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، إنما الأعمال بالخواتيم). عليه وسلم قال (لا تعجبوا بعملِ عاملٍ حتى تنظروا بم يُختَم له) ومن هنا كان خوف العارفين، وقد كان أكثر دعاء النبي الأمين صلى الله عليه وسلم (يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)، فقال له أنس بن مالك رضي الله عنه:يا نبي الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: (نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقلِّبُها كيف يشاء). كلماتٌ قطَّعت قلوبَ الصالحين، وأطارت النوم من أعينِهم، وحُقَّ لهم ذلك، فكم سمعنا عمَّن آمَن ثم كفر، وكم رأينا مَن استقام ثم انحرف، وكم مَن شارف مركبُه ساحلَ النجاة، فلما هَمَّ أن يرتقي لَعِب به الموج فغَرِق. فالحذر الحذر من السهو والغفلة من الخاتمة لأن بها يحدد مصير الإنسان،قال تعالى ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 74 - 76]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |