|
|||||||
| ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
استعلِ بدينك عراقي محمود حامد يقول تعالى في مُحكم التنزيل: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، ويقول: ﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]. قال أبو السعود: "أي: إنْ كنتم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا؛ فإنَّ الإيمانَ يُوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله - تعالى - وعدم المبالاة بأعدائه، أو إنْ كُنتم مؤمنين، فأنتم الأعلَوْن؛ فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ، أو إن كنتم مصدِّقين بوعد الله - تعالى - فأنتم الأعلَوْن"[1]. عزيزي القارئ: من المعروف تاريخيًّا أن العرب قبل الإسلام لَم يكونوا شيئًا يُذكر؛ إذ كانوا على هامش الحياة أضعف أُمَم الأرض، وأكثرها تخلفًا وتفرُّقًا وجهْلاً؛ وفي ذلك يقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - في حواره مع النجاشي: "كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبه، وصدقه وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله؛ لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجِوار، والكف عن المحارم والدِّماء، ونَهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذْف المحصنات، فصدَّقناه وآمنَّا به، واتبَعْناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحْدَه ولَم نُشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا..."[2]. فعندما اتَّبعوا دينَ الإسلام توحدوا بعد التفرُّق، واجتمعوا بعد التَّشرذُم، وتعلموا بعد الجهْل، حتى أصبحوا قادة الدُّنيا وسادتها، ومعلمي البشريَّة وساستها؛ بما تحقق لهم من موعود الله الصادق بالعزة والنَّصر والتمكين. وصاروا خير أمَّة أُخرجتْ للناس، مشاعل هداية للضالين، وحداة للحائرين، ودالين الخلق إلى ربِّ العالمين، ففتحوا - بفضل الله - الفتوحات، ومصَّروا - بقوته - الأمصار، ورحم الله الشاعر هاشم الرفاعي إذ قال: مَلَكْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا قُرُونًا ![]() وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا ![]() وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ ![]() فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلاَ نَسِينَا ![]() حَمَلْنَاهَا سُيُوفًا لاَمِعَاتٍ ![]() غَدَاةَ الرَّوْعِ تَأْبَى أَنْ تَلِينَا ![]() إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْأَغْمَادِ يَوْمًا ![]() رَأَيْتَ الْهَوْلَ وَالْفَتْحَ الْمُبِينَا ![]() وَكُنَّا حِينَ يَرْمِينَا أُنَاسٌ ![]() نُؤَدِّبُهُمْ أُبَاةً قَادِرِينَا ![]() وَكُنَّا حِينَ يَأْخُذُنَا وَلِيٌّ ![]() بِطُغْيَانٍ نَدُوسُ لَهُ الْجَبِينَا ![]() تَفِيضُ قُلُوبُنَا بِالْهَدْيِ بَأْسًا ![]() فَمَا نُغْضِي عَنِ الظُّلْمِ الْجُفُونَا ![]() وَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى ![]() مَضَى بِالْمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَا ![]() وَأَصْبَحَ لاَ يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي ![]() وَقَدْ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنِينَا ![]() وَآلَمَنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرٍّ ![]() سُؤَالُ الدَّهْرِ: أَيْنَ الْمُسْلِمُونَ؟ ![]() فالنَّاظر في واقع أمَّتنا المعاصر مُقلبًا نظره يَمينًا وشمالاً، متأمِّلاً حالَها وما وصلت إليه من تأخُّر حضاري مُزْرٍ، حتى إنَّه ليقول: إنَّ بيننا وبين الغرب الكافر والشرق الملحد مئات السنين، حتى نصلَ إلى ما وصلوا إليه، ويعجب أشدَّ العجب كيف سقطنا هذه السقطة المروعة في هذه الهوة السحيقة؟! أَمَا كنا سادة العالم يومًا ما، بل مئات من السنين؟! أين راحت حضارتنا؟! وأين غَارَ تراثنا العلمي الهائل في شتَّى فنون العلم؟! وأين أثرُه فينا الآن؟! أين بغداد حاضرة العالم؟! أين الأندلس جنَّة الله في أرضه؟! وأين جامعة قرطبة العريقة؟! أين القدس التي فتحها الفاروق، واستردَّها صلاح الدين؟! أين الممالك التي فتحها الأجداد حتى رويت الأرض بدمائهم الطاهرة الذكية؟! أين كنوز كسرى وقيصر وإمبراطوريتهما بعد أن سكبت تحت قدمي الفاروق؟! لماذا نهض أجدادنا وتخلفنا؟ لماذا انتصروا وهزمنا؟ لماذا عزُّوا وذللنا؟ ما من شك أننا مصدر حضارة الشرق والغرب بعد أنْ أخذوها منَّا على حين غفْلة، لا أشك أبدًا ولا أرتاب أنَّنا كنا نعيش أزهى عصور التقدُّم في كل مجالات الحياة، بينما كانتْ أوربا تخبط في ظلام الجهل، لن أكثر الحديث عن ماضينا التَّليد الذي يحق لنا أن نفخر به، لكن مسؤوليتنا عظيمة في العمل على استرداد كل هذا، أو على الأقل بعضه. وأرى أن من أهم أسباب انتصار آبائنا وأجدادنا من صحابة نبيِّنا والتابعين لهم بإحسان، ونهضتهم وتقدمهم وعزهم - هو: "الاستعلاء بالدِّين". فما من شك أبدًا أننا ندين بدين الحقِّ الذي مِنْ أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله أنزل الله الكُتُب وأرسل الرُّسل، ومن أجله سيكون الحساب والعرْض، ومِنْ أجله خلق الله الجنة والنار، وبه انقسم الناس فريقَيْن: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير. لذلك كانت نعمة الهداية للدين الحق أَجَلَّ نعَم الله عليك؛ إذ هو الدين الذي أنزله الله، وأكمله وارتضاه لعبيده؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]. إنه دين الإسلام؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وهو الدين الوحيد الذي أنزله الله - تعالى - وأرسل به الرُّسل؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأنبياءُ إخوة من عَلاَّتٍ، وأمهاتهم شتَّى، ودينُهم واحد))[3]. ولم يأتِ نبي إلا بالإسلام من لَدُن أبينا آدم إلى خاتم النبيِّين والمرسلين محمد الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانت أصولُ دعوة الرُّسل واحدة وعقيدتهم ثابتة، إلا أنَّ الشرائع قد تتفاوت بحسب الزَّمان والمكان، حتَّى جاء آخرهم وجودًا، ومقدمهم وإمامهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي قد بشروا به، وأخذ عليهم الميثاق أنْ يؤمنوا به، وأن ينصروه إن جاءهم، فنسخَ كل هذه الشرائع، وقال بصريح المقال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يَموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))[4]، ((وجعل الذُّل والصَّغار على مَن خالف أمري))[5]. ولم يلحق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالرفيق الأعلى إلا بعد أن أدَّى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. نماذج من زمان العزة والاستعلاء: لأجل هذا الحق وتلك الحقيقة استعلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الدِّين الذي أكرمه الله به، وعاش مجاهدًا في سبيل نشره، وقام به خير قيام منذ أنْ أمر بالبلاغ، واختار أنْ يعيش عيشة الكفاف حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير لأهله، وهذا من أقوى الأدلَّة على صدقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه لم يُرِد بهذا الأمر إلا وجه الله - تعالى - وتأدية لِما حمل من الرسالة. ومع أنه قد توالت عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المِحَن والشَّدائد، ثم الإغراءات والعروض لتُثنيه عن هذا الأمر إلا أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَابَل ذلك كله بلين الدعوة والحكمة، وأعلنها مرارًا كما أمره ربه؛ ﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]. ومن ذلك ما عَرَضه عتبة بن ربيعة؛ حيث قال يومًا وهو جالس في نادي قريش والنبي - عليه الصلاة والسلام - جالس في المسجد وحْدَه: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورًا؛ لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويَكُف عنَّا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحابَ رسول الله يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقُم إليه فكلِّمه. فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا ابنَ أخي، إنَّك منا حيث قد علمت من السَّعة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم؛ فاسمع منِّي أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك تقبل منَّا بعضها. فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قل يا أبا الوليد أسمع)). قال: يا ابن أخي، إنْ كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريدُ به شرفًا سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا في أموالنا حتى نُبرئك منه؛ فإنه ربَّما غلب التابع على الرجل حتى يُداوَى منه. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه، قال: أَقَدْ فَرَغْتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت: 1 - 4]، ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبةُ منه أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، ثم انتهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى السجدة منها فسجد. ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)). فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغَيْر الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: "ورائي أنِّي والله لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشِّعر ولا السِّحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله، ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْكُكُم وعزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به". قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم[6]. والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لو كان يُريد أن ينشر دينه بالسَّيف والمُلك، لذهب إلى النجاشي في الحبشة؛ إذ قد آمن به، واتَّبعه وصار رَهْن أمره، ثم مِن الحبشة؛ حيث المُلك والجُند ينشر دينه بالقُوَّة، ويرجع إلى من آذوه؛ ليُؤدبَهم، أو يرسل للنجاشي ليأتي بجيش يكسر به أنوف أهل مكة، ويستذلهم، ويفتحها عَنْوَةً، وينشر دينه بقوة الحديد والنَّار. أو يقبل أن يكون مَلِكًا على قريش، ثم يُرغمهم على الدُّخول في هذا الأمر، أو يَقبل ما يجمعون له من مال؛ ليستعين به على تأليف قلوبهم للدُّخول في هذا الدِّين، فإنْ أَبَوا غَدَرَ بهم وقاتلهم بمالهم. ولَم يفعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا من هذا، أولاً: لأنه رسول الله، ولا يفعل إلا ما يأمره به مولاه، فهذه ليست صفات أنبياء الله، ولا هي من سنن الله في نشر دينه، وثانيًا: لأنه يريد رجالاً يصدقون بموعود الله، ويوقنون بنصْره عن كمال محبة، وسماحة بذل، وقوة اقتناع، متحملين كلَّ ما يلاقونه في سبيل هذا الدِّين، باذلين المُهجَ رخيصة لرفعته، وليحملوا الراية من بعده، معتزِّين به، فاتحين به قلوب العباد. وقد ربَّى النبي صحابته على هذه العزة؛ لذلك لما وافق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على شروط صُلْحِ الحديبية، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألسنا على الحقِّ وهم على الباطل؟ قال: ((بلى)). فقال: أليس قتلانا في الجنَّة، وقتلاهم في النار؟ قال: ((بلى)). قال: فعلامَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؛ أنرجع ولما يَحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: ((يا ابن الخطاب، إنِّي رسول الله، ولن يُضيعني الله أبدًا...))[7]. والفاروق المُلهَم المُحدَّث - رضي الله عنه - الذي خرج يومًا إلى الشام ليَلْقى أبا عبيدة بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب يركبُ ناقته، وفي الطريق مرَّ على مخاضة، فأشفق على ناقته، فنزل مِن على ظهرها وجرَّها، وخلع نعليه، ووضعهما على عاتقه وأخذ بزمام النَّاقة، ونظر أبو عبيدة بن الجراح، فتعجَّب لحال عمر، وقال له: يا أمير المؤمنين، أأنت تصنع ذلك؟ والله، لا أحب أنَّ القوم قد استشرفوك وأنت على هذه الحالة، فقال عمر: "أَوَّهْ يا أبا عبيدة، لو قالها أحدٌ غيرك، لجعلته نكالاً لأُمَّة محمد"، ثم قال: "يا أبا عبيدة، والله، لقد كنَّا أذل قومٍ، فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العِزَّة في غيره أذلنا الله". • وكان بلال - رضي الله عنه - يأبى على مُعذِّبيه الذين فعلوا به الأفاعيل، حتى إنَّهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم ويقول: أحَدٌ، أحَدٌ، ويقول: والله، لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها، لقلتها. • وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذَّاب: أتشهد أنَّ محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا، وهو ثابت على ذلك. وعبدالله بن حُذَافة السهمي أحد أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما أسرته الرُّوم، جاؤوا به إلى ملكهم، فقال له: تنصَّر وأنا أُشْرِكُك في مُلكي، وأُزوِّجَك ابنتي، فقال له: "لو أعطيتني جميعَ ما تَملك، وجميع ما تَملكه العربُ على أنْ أرجعَ عن دين محمد طرفةَ عين - ما فعلت، فقال: إذًا أقتلك، قال: أنت وذاك، فأَمَر به فصُلِب، وأمر الرُّماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه، وهو يَعْرِض عليه دينَ النصرانية، فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بِقِدْر، وفي رواية: ببقرة من نحاس، فأُحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرُفِع في البَكَرَة ليُلقى فيها فبكى، فَطَمِع فيه ودعاه، فقال له: إني إنَّما بكيت لأن نفسي إنَّما هي نفس واحدة تُلْقى في هذه القِدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرة في جسدي نفسٌ تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الرِّوايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أيامًا، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يَقْربه، ثم استدعاه، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنَّه قد حل لي، ولكن لم أكن لأُشْمِتك فيَّ، فقال له الملك: فَقَبِّلْ رأسي وأنا أُطلقك، فقال: وتطلق معي جميعَ أُسَارَى المسلمين؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميعَ أُسَارى المسلمين عنده، فلما رجع، قال عمر بن الخطاب: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقبِّل رأس عبدالله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبّل رأسه. • ولله در الصحابي عاصم بن ثابت الذي أقسم ألاّ يَمسَّ مشركًا، ولا يَمسَّه مشركٌ، فأبرَّ الله قسمه حيًّا وميتًا بأن منع المشركين من مسِّه بالنَّحْل والسيل. ونحن إذا نظرنا إلى قضية الفارق الحضاري بين المسلمين وأعدائهم، نَجد أنه كان هائلاً جدًّا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفُرس ومع الرُّوم، ومع ذلك لم يكن عائقًا أبدًا في طريق دعوتهم، ولم يقيموا له أدنى اعتبار، واعتصموا بالله، واعتزُّوا بدينه. • وانظُر إلى رِبْعِيِّ بن عامر وهو يدخل بكلِّ عزة الإيمانِ على رُستم في أبَّهته وطنافسه وبذخه، فينظر إلى ذلك كله باحتقار بالغ، بل ويتعمَّد إعلانَ ازدرائه له وتحقيره، فيخزِّق بسن رمحه سجاجيدهم، ويربط حماره القصير الأرجل في بعض ما يعتزُّون به من فراشهم، ثم يقول لرستم حين سأله: ما الذي أتى بكم إلى بلادنا؟: "الله ابتعثنا؛ لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام". • وهذا خالد بن الوليد يقول لأعدائه، وقد تَحصَّنوا منه في حصون منيعة: "أين تذهبون منَّا؟ والله، لو كنتم في السحاب، لأصعدنا الله إليكم، أو لأمطركم علينا". وقد يقول قائل: كان هذا على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته، فلنأخذ نماذجَ من بعد عصر الصَّحابة: • كان الخليفة هارون الرشيد يَحج عامًا، ويغزو عامًا، ويخاطب السحابة، ويقول: سيري أينما شئت أن تسيري، فسيأتيني خراجك. يقول السيوطي: "وفي سنة سبع وثمانين ومائة أتاه - أي: الرشيد - كتاب من ملك الرُّوم "نقفور" بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة "إيريني" ملكة الروم. وصورة الكتاب: "من "نقفور" ملك الروم إلى "هارون" ملك العرب: أمَّا بعد، فإن الملكة التي قبلي كانت أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق[8]، فحملت إليك من أموالها أحمالاً، وذلك لضعفِ النِّساء وحُمقهن، فإذا قرأت كتابي، فارْدُد ما حصل قبلك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك". فلما قرأ الرشيد الكتاب، استشاط غضبًا حتى لم يتمكَّن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يُخاطبه، وتفرق جلساؤه من الخوف، واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدَوَاة وكتب على ظهر كتابه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرُّوم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه". ثم سار ليومه، فلم يزل حتى نازل مدينة هرقل، وكانت غزوةً مشهورةً وفتحًا مبينًا، فطلب "نقفور" الموادعة، والتزم بخراجٍ يَحمله كل سنة، فأجيب، فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلبُ العهد لإياسه من كرَّة الرشيد في البَرد، فلم يجترئ أحد أن يُبلِّغ الرشيدَ نقضه، بل قال عبدالله بن يوسف التيمي: نَقَضَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ نَقْفُورُ ![]() فَعَلَيْهِ دَائِرَةُ الْبَوَارِ تَدُورُ ![]() أَبْشِرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ ![]() غُنْمٌ أَتَاكَ بِهِ الْإِلَهُ كَبِيرُ ![]() وقال أبو العتاهية أبياتًا وعرضت على الرشيد، فقال: أَوَقَد فعلها؟ فكَرَّ راجعًا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى بلغ مُراده وحاز جهاده. يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |