|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (40) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فقد انتهينا من مرحلة النشأة لمحمود شاكر، الذي لَم يكن عَلَمًا على شخص، وإنَّما كان علمًا على ثروةٍ ضخمةٍ من فنون اللسان العربي، تجمعت بالحفظ والدرس والتحصيل والتمحيص والدأب والصبر والإيمان في ثمانٍ وثمانين سنةً من يوم مولده إلى يوم وفاته. فنشأته في هذا البيت وهذه البيئة: غرست في ذهنِه البكرِ أصولَ العلوم، ومِن هذا الجذر الغليظ العميق مِن فنون العلم تفرَّعت شجرة المعرفة في ذهنه، وبهذه الحصيلة الأولية القوية من المحفوظ، مع الملكات الموهوبة، والمُعلِّمين المُتميِّزين، نمت في ذهنه تلك البذور، وانشعبت من أصلها هذه الفروع، فأصبح بين أقرانه ورفاقه الغصنَ الذي يطول والزهرةَ التي تعد. وبينَّا كيف شغلته قضية "المنهج"، والتي كانت من أهم أسباب خلافه الأول مع الدكتور طه، فقال في كتابه "أباطيل وأسمار" (ص: 19): (زادتني معالجة نقده -أي: طه حسين- يقينًا في أنَّ الغموض إذا أحاط بلفظ "المنهج"، أدَّى إلى خلطٍ كثيرٍ في فهم الآداب، وفي تفسيرها، وفي شرحها، ثم في تصوير أحداث العصر وأفكاره ورجالاته وأحواله، بوجهٍ عام). وقال أيضًا في "أباطيل وأسمار" (ص: 18)، في بيان حال الغموض الذي أحاط بقضية "المنهج" عند لويس عوض، وسيأتي هذا بالتفصيل -إن شاء الله-: (حتى عجبتُ وتخوَّفتُ إذا كانت كلمة "المنهج" لَم تزل محفوفةً بكل هذا القدر العجيب من الغموض والظلمة في عينَي الدكتور لويس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي). وبينَّا النَّهْجَ الذي سلكه في قراءةِ الشِّعْرِ وغيره، وأنَّه كان قائمًا على مسألة "التَّذوق"، وأنَّه قد صرَّح بهذا كثيرًا في مقالاته وكتبه، وذكرنا نصوصًا من كلامه، مثل قوله في مُقدِّمته الجديدة على كتابه "المُتنبِّي" (ص: 11، 12): (وبهذا التَّذوق المُتَتابع الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذَاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه). وبينَّا مدى أهمية كتاب "دلائل الإعجاز" في صناعة خيال محمود شاكر، وبناء فكره في منهج التَّذوق، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، وبذلك اكتَشفْنا مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استعملها العُقابُ في قراءةِ الشِّعْرِ في سنواتِ العُزْلَة. ومِن ذلك قولُه في مُقدِّمة عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى). ومع مرحلةٍ أخرى مِن حياةِ أبي فهر في المقالات القادمة -إن شاء الله-. واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (22) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإن كُنّا لا نَنسى لِمحمود شاكر صنائعَ مَعرُوفِه في تاريخِ أُمَّتِنَا الثَّقافِيّ، فإنّنا كذلك لا نَنسى لِعبدِ القاهر الجرجانيّ أياديَه البِيضَ على محمود شاكر؛ إذ قد بَلَغَ به أعلى درجاتِ التَّذَوُّقِ في قراءةِ الشِّعْرِ وغَيْرِه، فكان هذا التَّذَوُّقُ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ في تاريخِنا الثَّقافِيّ. فتَأمَّلْ ذَوْقَ عبدِ القاهر المُرْهَفَ لمّا يَصِلُ به في بيانِه إلى درجةٍ مِن التَّذَوُّقِ تُضَاهِي تَذَوُّقَ الشَّاعِرِ، إن لَم تَفُقْهُ أحيانًا! قال عبدُ القاهر الجرجانيّ في "دلائل الإعجاز" (ج 1/ ص 162، 163) (القول في الحذف / القول في حذف المفعول به): (قول البُحتُريّ: إِذَا بَعُدَتْ أَبْلَتْ، وإِنْ قَرُبَتْ شَفَتْ.. فَهِجْرَانُهَا يُبْلِي، ولُقْيَانُهَا يَشْفِي. قد عُلِمَ أنَّ المَعنَى: إذا بَعُدَتْ عَنِّي أَبْلَتْنِي، وإنْ قَرُبَتْ مِنِّي شَفَتْنِي؛ إلَّا أَنَّكَ تَجِدُ الشِّعْرَ يَأبَى ذِكْرَ ذلك، ويُوجِبُ اطِّرَاحَه، وذاك لأَنَّه أراد أن يَجْعلَ البِلَى كأنّه واجِبٌ في بِعادِها أن يُوجِبَه ويَجْلِبَه، وكأنّه كالطَّبيعةِ فيه، وكذلك حالُ الشِّفَاءِ مع القُرْبِ، حتَّى كأنّه قال: أَتَدْرِي ما بِعادُها؟ هو الدَّاءُ المُضْنِي، وما قُرْبُها؟ هو الشِّفَاءُ والبُرْءُ مِن كُلِّ داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللَّطِيفَةِ وهذه النُّكْتَةِ، إلا بحذفِ المفعولِ البَتَّة، فاعْرفْه. وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ -أَعْنِي حَذْفَ المَفعُولِ- نهايةٌ، فإنّه طريقٌ إلى ضُرُوبٍ مِن الصَّنْعَةِ، وإلى لَطَائِفَ لا تُحصَى) (انتهى). فتَأمَّلْ -عزيزيَ المُتَذَوِّقَ- قولَ الجرجانيّ: (إلَّا أَنَّكَ تَجِدُ الشِّعْرَ يَأبَى ذِكْرَ ذلك، ويُوجِبُ اطِّرَاحَه)؛ فلَم يَقُلْ: (الشَّاعِرُ يَأبَى ذِكْرَ ذلك)، بل قال: (الشِّعْرُ يَأبَى ذِكْرَ ذلك)، وكأنّ الذي يَضَعُ أحكامَ الشِّعْرِ ويُعَلِّمُ تَذَوُّقَ بيانِه هو الشِّعْرُ نَفْسُه! والبُحتُري قال: (إِذَا بَعُدَتْ أَبْلَتْ، وإِنْ قَرُبَتْ شَفَتْ)، ولَم يَقُلْ: (إِذَا بَعُدَتْ عَنِّي أَبْلَتْنِي، وإِنْ قَرُبَتْ مِنِّي شَفَتْنِي)؛ فقد حَذَفَ المَفعُولَ لِتَحْصُلَ اللَّطائِفُ التي ذَكَرَهَا لك الجرجانيّ، والتي لا سبيلَ إليها إلا بحذفِ هذا المَفعُولِ، وكأنّ الشِّعْرَ يَستَغِيثُ بك ألَّا تُقَدِّرَ المَحذُوفَ فَتَظْلِمَهُ وتُفْسِدَه! وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّة الأستاذ محمود محمد شاكر) (23) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا نَزَالُ -عزيزيَ القارئَ- في مَعِيَّةِ التَّذَوُّقِ الذي يَحُضُّنَا عليه عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ فَرْدًا فَرْدًا؛ لأنَّها خَاصِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بك أنت، وسِرٌّ مِن أسرارِ اللهِ فيك، ولا يَستطِيعُ عبدُ القاهرِ أو غَيْرُهُ أن يُوجِدَهُ فيك، ولكن هو يُعطِيكَ مَفاتِحَه، ويَتْرُكُ لك التَّأمُّلَ واستخراجَ الكُنُوزِ والأسرار. ومِن الذين نَجَحُوا في استِخْراجِ هذه الكُنُوزِ والأسرارِ العُقَابُ محمود شاكر، بعد رحلةٍ طويلةٍ مع عبدِ القاهرِ وغَيْرِه، استطاع أن يَتَعَلَّمَ فيها صَنْعَةَ التَّذَوُّقِ، بل اهتدى إلى طريقِ الوُصُولِ إلى الدَّرَجةِ العُليا، وهو كيفيَّةُ صِنَاعَةِ هذه الصَّنْعَة. فقد ذَكَرْنَا قَوْلَهُ في "دلائل الإعجاز" (1/ 163) (القول في الحذف / القول في حذف المفعول به): (وليس لِنَتائجِ هذا الحَذْفِ -أَعْنِي حَذْفَ المَفعُولِ- نهايةٌ، فإنّه طَرِيقٌ إلى ضُرُوبٍ مِن الصَّنْعَةِ، وإلى لَطَائِفَ لا تُحصَى)، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا (1/ 163، 164): (نَوْعٌ آخَر، وهو: الإضمارُ على شَريطةِ التَّفسير... وهذا نَوْعٌ منه آخَر: اعْلَمْ أنّ ههنا بابًا مِن الإضمارِ والحذفِ يُسمَّى "الإضمار على شريطةِ التَّفسير... فمِن لَطِيفِ ذلك ونَادِرِهِ قَوْلُ البُحتُريّ: لَوْ شِئْتَ لَمْ تُفْسِدْ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ كـَرَمـًا وَلَـمْ تَـهْـدِمْ مَـآثِـرَ خَـالِدِ الأصلُ لا محالةَ: لو شِئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها، ثُمَّ حُذِفَ ذلك مِن الأوَّلِ استِغناءً بدلالتِه في الثّاني عليه، ثُمَّ هو على ما تَرَاهُ وتَعْلَمُه مِن الحُسْنِ والغَرَابَةِ، وهو على ما ذَكَرْتُ لك مِن أنّ الواجبَ في حُكْمِ البلاغةِ أن لا يُنْطَقَ بالمَحذُوفِ ولا يظهرَ إلى اللَّفظِ. فليس يَخفَى أنّك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أَصْلُهُ فقُلْتَ: "لو شِئتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها"، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، وإلى شيءٍ يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وتَعَافُهُ النَّفْسُ. وذلك أنّ في البَيانِ إذا وَرَدَ بعد الإبهامِ وبعد التَّحريكِ له أبدًا لُطْفًا ونُبْلًا لا يَكُونُ إذا لَم يَتَقَدَّمْ ما يُحَرّكُ. وأنت إذا قُلْتَ: "لو شِئتَ"، عَلِمَ السَّامِعُ أنّك قد عَلَّقْتَ هذه المَشِيئةَ في المَعْنَى بشيءٍ، فهو يَضَعُ في نَفْسِهِ أنّ ههنا شيئًا تَقْتَضِي مَشِيئتُه له أن يَكُونَ أو أن لا يَكُونَ؛ فإذا قُلْتَ: "لَم تُفْسِدْ سماحةَ حاتمٍ"، عَرَفَ ذلك الشَّيءَ. ومَجِيءُ "المَشِيئةِ" بعد "لو" وبعد حُرُوفِ الجَزاءِ هكذا موقوفةً غَيْرَ مُعَدَّاةٍ إلى شيءٍ، كثيرٌ شائعٌ، كقولِه -تعالى-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: ?)، والتَّقْدِيرُ في ذلك كُلِّهِ على ما ذَكَرْتُ. فَالْأَصْلُ: لو شاء اللهُ أن يَجْمَعَهُمْ على الهُدَى ولو شاء أن يَهْدِيَكُمْ أجمعينَ لَهَدَاكُمْ، إلّا أنّ البلاغةَ في أن يُجَاءَ به كذلك مَحْذُوفًا) (انتهى). وكأنّ عبدَ القاهرِ يَقُولُ لنا في هذا البابِ: إنّ هناك فارقًا كبيرًا بين معرفةِ المعرفةِ وتَذَوُّقِ المعرفةِ؛ فأمّا معرفةُ المعرفةِ فهي المعرفةُ الظَّاهِرَةُ، والتي تَحْصُلُ بقراءةِ كلامِ أهلِ البيانِ الذي كَتَبُوه، وأمّا تَذَوُّقُ المعرفةِ فهو المعرفةُ البَاطِنَةُ، وهذا شأنٌ آخَر، لأنّه لا يُكْتَسَبُ إلا بمعرفةِ كلامِ أهلِ البيانِ المُضْمَرِ (المَحْذُوف)، وفَهْمِهِ، وتَدَبُّرِهِ، ومعرفةِ عِلَّةِ حَذْفِه. واللهُ المُستَعان.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (24) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال العُقابُ في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى). ومِن هُنَا نَتَبيَّنُ مدى أهمِّيَّةِ كتابِ "دلائل الإعجاز" في صناعةِ خَيَالِ محمود شاكر، وبناءِ فِكْرِهِ في منهجِ التَّذَوُّقِ، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، ونستطيعُ بذلك أنْ نَكتشِفَ مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استَعمَلَها العُقابُ وهو يَقرأُ الشِّعْرَ في فترةِ العُزْلَة. ومِن هذا البيانِ السَّاحرِ الذي استعان به عبدُ القاهرِ في صناعةِ الذَّوْقِ: قولُ الشَّاعرِ -واسْمُه غيرُ معروفٍ-: قَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ لَمْ تَكَلَّمِ! وقد ذكره لِيستَشهِدَ به في مَواضِعِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِير. وإنْ كان عبدُ القاهرِ استَشْهدَ به في بابِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، لِبيانِ أَثَرِهِ في صناعةِ الذَّوْقِ، وهو ما سيأتي بيانُه في أَوَانِه -إن شاء الله-، فإنّه لا يَجُوزُ لِصاحبِ الذَّوْقِ العالِي أيضًا أن يَغُضَّ الطَّرْفَ عن كلماتِ هذا الشَّاعرِ، المجهولِ العينِ، المعروفِ الحالِ، إذْ إنَّ بيانَه يُنْبِئُكَ حالَه، ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ عند تَباشِيرِ الصَّباحِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا أو أَعْشَاشِهَا، فلَم تَتَكلَّمْ بَعْدُ؛ فكيف لِهذا الشَّاعرِ البارعِ أن يَجعلَ شَقْشَقَةَ العَصَافِيرِ في الصَّباحِ ككلامِ الإنسانِ؟! حقًّا إنَّه قِمَّةُ التَّذَوُّق. وكأنَّ قولَ الشَّاعرِ هذا مَأْخُوذٌ مِن قولِ امرئِ القيسِ في مُعَلَّقَتِه، وهو يَصِفُ فَرَسَهُ الذي يَرْكَبُهُ لِلصَّيدِ في البُكُورِ: وَقَـــدْ أَغْتَدِي والطَّـيْـرُ فِي وُكُـنَاتِهَا بِـمُـنْـجـَرِدٍ قـَيـْـدِ الأَوَابِــدِ هَـــيْـكــَلِ مـِـكـــَرٍّ مـِفـَرٍّ مـُقـْبـِـلٍ مـُدْبــِرٍ مَـعـًا كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ فَالشَّاهِدُ هُنَا قَوْلُهُ: وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ إلى الصَّيْدِ في البُكُورِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا. فما أَجْمَلَ بيانَ امرئِ القيسِ لمّا قال: والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا! فقد بَلَغَ بِالذَّوْقِ مَدَاه. فقد أعطيتُك المِفْتاحَ، فَهَيَّا.. إِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ؛ فَالأدَبُ -نَظْمُهُ ونَثْرُهُ- كما يَتَمَيَّزُ بالخُصُوصِيَّةِ في الفِكْرَةِ والعِبَارَةِ، فإنَّه يَحتاجُ أيضًا إلى خُصُوصِيَّةٍ في الاسْتِعْدَادِ والاسْتِقْبَالِ. ولَا تـَقُـلْ قــَدْ ذَهَـبـَــتْ أَرْبَـابـُهُ كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (28) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فنُواصِلُ المَسِيرَةَ مع العُقابِ، الذي ارْتَوَتْ مِن فَيْضِ أُسْلُوبِهِ عُقُولٌ، وأَيْنَعَتْ مِن عِلْمِهِ نُفُوسٌ، وتَغَذَّتْ مِن ذِهْنِهِ أَفْكَارٌ وسَمَقَتْ؛ فَيُكْمِلُ العُقابُ كلامَه قائلًا: (وهذا الذي وجدتُه فيه فاستولى عليَّ، كان يومئذٍ شيئًا لا أملكُ التَّعبيرَ عنه ولا أُحسِنُه، لِأنَّه كان شيئًا غامضًا مُستبهمًا يَجُولُ في نَفْسِي لا أكاد أَتَبيَّنُ مَعالِمَه؛ فلذلك صار أمرُ التَّعبيرِ عنه تعبيرًا واضحًا مُتعذِّرًا عليَّ كُلَّ التَّعَذُّرِ، وقلتُ أَصِفُ ذلك: "فما هو إلا "التَّذَوُّقُ" المَحْضُ والإحساسُ المُجَرَّدُ. وبهذا "التَّذَوُّقِ" المُتتابِعِ الذي أَلِفْتُهُ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذَاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورَائِحَةٌ، وصار مذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه ورائحتُه بَيِّنًا عندي، بل صار يَتَمَيَّزُ بعضُه مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه. (المتنبي 1/ 15). وأنا عند هذا المَوضعِ أَتَلَفَّتُ إلى الماضي التِفاتةً لا بُدَّ منها؛ حَقٌّ لَازِمٌ في عُنُقِي أنْ أُفْرِدَ الفضلَ كُلَّه في تَنَبُّهِي إلى أَوَّلِ الطَّريقِ، إلى شيخِي سيِّدِ بن عليٍّ المَرْصَفِي، فإنَّه -بعد اللهِ سبحانه- هو الذي هداني وسدَّد خُطايَ على أَوَّلِ الطَّريقِ؛ كانت لِلشَّيخِ -رحمه اللهُ، وأثابه- عند قراءةِ الشِّعْرِ وَقَفَاتٌ، يَقِفُ على الكلمةِ، أو على البيتِ، أو على الأبياتِ، يُعِيدُهَا ويُرَدِّدُهَا، ويُشِيرُ بِيدَيهِ، وتَبْرُقُ عَيْنَاهُ، وتُضِيءُ مَعَارِفُ وَجْهِهِ، ويَهْتَزُّ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ويَرْفَعُ مِن قَامَتِهِ مادًّا ذِراعَيهِ، مُلَوِّحًا بهما يَهُمُّ أن يَطِيرَ، وتَرَى شَفَتَيْهِ والكلماتُ تَخْرُجُ مِن بينهما، تَرَاهُ كأنَّه يَجِدُ لِلْكلماتِ في فَمِهِ مِن اللَّذَّةِ والنَّشْوَةِ والحَلَاوَةِ ما يَفُوقُ كُلَّ تَصَوُّرٍ. كنتُ أُنْصِتُ وأُصْغِي وأَنْظُرُ إليه لا يُفَارِقُهُ نظري، ويَأْخُذُنِي عند ذلك ما يَأْخُذُنِي وأُطِيلُ النَّظرَ إليه كالمَبهُوتِ، لا تكاد عيني تَطْرُفُ وصوتُه يَتَحَدَّرُ في أقصى أعماقِ نَفْسِي كأنَّه وابلٌ مُنْهَمِرٌ تَستطِيرُ في نواحيه شَقائِقُ بَرْقٍ يُومِضُ إيماضًا سريعًا خفيفًا ثاقِبًا؛ أيَّامٌ لَم يَبْقَ منها إلا هذه الذِّكْرَى الخَافِتَةُ! فإذا كَفَّ عن الإنشادِ والتَّرَنُّمِ أَقْبَلَ يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، ولَكِنَّ شَرْحَهُ وتَبْيِينَهُ لهذا الذي حَرَّكَهُ كُلَّ هذا التَّحريكِ، كان دون ما أُحِسُّهُ وأَفْهَمُهُ ويَتَغَلْغَلُ في أقاصي نَفْسِي مِن هيئتِه وملامحِه وهو يَتَرَنَّمُ بِالشِّعْرِ أو يُرَدِّدُ، كان دون ذلك بكثير، وكنتُ أُحِسُّ أحيانًا بِالْحَيْرَةِ والْحَسْرَةِ تَتَرَقْرَقُ في ألفاظِه وهو يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، كأنَّه كان هو أيضًا يُحِسُّ بأنَّه لَم يَبْلُغْ مَبْلَغًا يَرْضَاهُ في الإبانةِ عن أسرارِ هذه الكلماتِ والأبياتِ؛ هكذا كان شَأْنُ الشَّيخِ -رحمه الله-، أيّ علَّامةٍ ذوَّاقةٍ كان! هكذا حالُ الشَّيخِ كان في بيتِه، وأنا أَقْرَأُ عليه الأدبَ والشِّعْرَ يومئذٍ وَحْدِي. أمَّا حالُه وهو يُلْقِي دُرُوسَهُ العامَّةَ التي يَحْضُرُهَا الجَمْعُ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ، والتي كان يَحْضُرُ أمثالَها مِن قَبْلِنَا الدُّكتورُ طه قديمًا فِيمَنْ يَحْضُرُ دُرُوسَهُ في الأزهرِ، فكان مُخْتَلِفًا كُلَّ الاختلافِ؛ كان مُلْتَزِمًا بِالْجَدِّ والْوَقَارِ يَتَخَلَّلُهُمَا دَوْرٌ قَلِيلٌ مِن مُزَاحٍ لَاذِعٍ جَارِحٍ أحيانًا، ولَكِنَّهُ كان لا يُقَصِّرُ في الإبانةِ والشَّرْحِ، ولا في التَّوَقُّفِ عند الأبياتِ أو الكلماتِ الجِيَادِ الحِسَانِ المُحْكَمَةِ، فهذا مَوْضِعُ الفَرْقِ بين الذي أخذتُه أنا عن الشَّيخِ، والذي أخذه عنه الدُّكتورُ طه، وما كان على كُلِّ حالٍ بِقَادِرٍ أنْ يَأْخُذَ عنه ما أَخَذْتُ، فإنَّ الذي أخذتُه عنه وأَحْدَثَ في نَفْسِي ما أَحْدَثَ، لا يبلغُ السَّمَاعُ بالإذنِ منه شيئًا، لِأَنَّه وَلِيدُ المُشاهَدةِ والعَيَانِ، لا وَلِيدُ الألفاظِ والكلماتِ! ما علينا أيُّها العزيزُ) (انتهى). ونُكْمِلُ كلامَ العُقابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ-. واللهُ المُوَفِّقُ.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الصَّالون الأدبي (مع عُقَاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (29) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيُكْمِلُ محمود شاكر حكايةَ خُطَّتِهِ التي سَلَكَهَا في تَذَوُّقِ الشِّعْرِ؛ فَيَقُولُ: "شَيْئًا فَشَيْئًا، منذ تلك الأيّامِ الغَوابِرِ، بدأتُ أُحِسُّ في الشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي غير الشِّعْرِ الجاهليِّ، شَيْئًا يَنبعِثُ منه، دبيبُ حركةٍ تَتركُ في نَفْسِي آثارًا خفيَّةً غريبةً، فإذا عُدتُ أستَبطِنُه مُترنِّمًا به، مُتأمِّلًا في طَوايَاهُ، عاد دبيبُ الحركةِ، حركةٌ لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلتُ إنّه كان مِن دَيْدَنِي بعد ذلك أن أُحَدِّثَ عنه أساتذتيَ الكِبارَ الذين خالَطتُهم وعرَفتُهم يومئذٍ وتَأخُذَني النَّشْوةُ وأنا أُفَاوِضُهُم فيما أُحِسُّ به، فكان يُعْرِضُ منهم عنِّي مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بِيَدٍ لطيفةٍ حانيةٍ، كما وصفتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي". ومِن أغربِ ما لَقِيتُ مِن الإعراضِ عمَّا أقولُ إعراضُ الشَّيخِ المَرْصَفِي نَفْسِهِ عن حديثي مرَّاتٍ، وهو نَفْسُهُ الذي أثارَني إلى هذا وحرَّكَني هو وَحْدَهُ دون سِوَاه! ولكنِّي لَم أَكُفَّ عن الإلحاحِ عليه، حتى كانت نهايةُ إعراضِه عنِّي، حين فَهِمَ عنِّي ما كان لساني يَعْجِزُ عن بيانِه وعن التَّعبيرِ عنه؛ فإذا هو بعد ذلك راضٍ عنِّي مُقْبِلٌ عليَّ، يُفِيدُنِيَ الفَوائِدَ، ويُسَدِّدُ لي خُطَايَ في هذا الطَّريقِ الوَعْرِ المَسَالِكِ والمَضَايِقِ، المُتَشَابِكِ المَنَاهِجِ والشِّعَابِ؛ كان هذا أَوَّلَ مُمَارَسَتِي لِلَّذِي سَمَّيْتُهُ فيما بعد "التَّذَوُّقَ"، مكانَ "الاسْتِبَانَةِ"، ولكنَّها على ذلك كُلِّهِ، كانت مُمارَسةً جَاهِلَةً جَافِيَةً غَامِضَةً بلا مَنْهَجٍ صحيحٍ آوي إليه وأستعينُ به؛ كان ذلك في سنة 1925، وما بَعْدَهَا. وبعد سَنَةٍ دخلتُ الجامعةَ، وكان مِن أَمْرِ الدُّكتورِ طه وأَمْرِي ما كان، حتَّى كان اليومُ الذي اضْطُرِرْتُ فيه اضْطِرَارًا أن أَقِفَ المَوْقِفَ الذي دُفِعْتُ إليه بَغْتَةً أُجَادِلُ الدُّكتورَ وأُنَاقِشُهُ في "مسألةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ"، صَارِفًا هَمِّيَ كُلَّهُ إلى موضوعِ "المَنْهَجِ" و"الشَّكِّ"، وإلى ضرورةِ قراءةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ والْأُمَوِيِّ والعبَّاسيِّ قراءةً "مُتَذَوِّقَةً" مُسْتَوْعِبَةً، لِنَسْتَبِينَ الفَرْقَ بين الشِّعْرِ الجاهليِّ والشِّعْرِ الإِسلاميِّ، قَبْلَ الحُكْمِ على الشِّعْرِ الجاهليِّ بأنَّه شِعْرٌ صَنَعَتْهُ الرُّوَاةُ المُسلِمُونَ في الإِسلامِ، كما بَيَّنْتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي: (1/ 23)"، ثُمَّ في مَقَالَتِيَ الْأُولَى هنا أيضًا. وفي غُضُونِ هذا المَوْقِفِ المُتَطَاوِلِ بيننا حتَّى فارَقتُ الجامعةَ كان اللَّفْظُ النَّاشِبُ في لِسَانِي وفي أَلْسِنَةِ الكُتَّابِ، وهو "التَّذَوُّقُ" بِمَعْنَاهُ المَشْهُورِ الغَامِضِ المُبْهَمِ الدَّلَالَةِ، القَابِلِ لِلتَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِ بِلَا شَيْءٍ يُعِينُ على تَمَيُّزِهِ وتَعَيُّنِهِ؛ كان هذا اللَّفْظُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبينه، كما كان مِن قَبْلُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبين أساتذتيَ الكِبَارِ، على رَأْسِهِمْ شَيْخِيَ المَرْصَفِي، فيُعْرِضُ عليَّ مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن يُرَبِّتُ، ولكنِّي كنتُ في خِلالِ مُفاوَضَتِي لِجميعِهم أُغْرِقُ هذا اللَّفْظَ إغراقًا في أشباهٍ أَقُولُهَا، هي "وَرَاءَ التَّذَوُّقِ"، بَيْدَ أنَّنِي كنتُ لا أُحْسِنُ العِبَارَةَ عنها إحسانًا يُعينُ علي" (انتهى). ونُكْمِلُ كلامَه في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-. وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عقاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (30) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فتمر الأيّامُ، ويتجدد اللِّقاءُ بالقُرّاءِ الأعِزّاءِ، وتستمر رحلتُنا مع عُقابِ العربيَّةِ، الذي كان أشبه ما يكون بالدِّيمةِ المُمطرةِ، التي أظلَّتْنا أكثرَ مِن ثمانينَ عامًا تُمِدُّنَا بالخير والعطاء، ثم اختفت من سمائنا، تاركةً آثارَها الطيِّبةَ، نتأمَّلُها ونفيدُ منها. فيواصلُ العُقابُ حكايتَه مع التَّذَوُّقِ قائلًا: (وقد حدَّثتُ الدُّكتور طه مِرارًا، وأنا أجادله يومئذٍ فأطيل، بالذي كنتُ أجده في نفسي ولا أحسن العبارةَ عنه؛ أي: بما هو "وراء التَّذَوُّق"، فكان يُصغي إليَّ أحيانًا كثيرة، ثم ينتهي إلى أن يُمصمِصَ بطرفِ لسانِه، وبزهوه وخيلائه وإفراطه في الإعجاب بنفسه، لا يكون ردُّه عليَّ إلَّا سُخريةً بي وبما أقول. كان زهوه يجعله لا يصبر، فلَم يفهم عنِّي مرَّةً واحدةً كُلَّ الفَهمِ أو بعضَ الفَهمِ. لَم أكن أبالي بسخريته، فقد أَلِفْتُهَا منذ قديم، وأَلِفْتُ استخفافَه بالنّاسِ جميعًا سوى نفسه، "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ" -كما يقال في المَثَل- (والشِّنْشِنَةُ: الخَلِيقةُ والسَّجِيَّةُ المَغروزةُ في الطَّبيعةِ). هذا، على أنَّه كان له يومئذٍ كُلُّ العُذرِ في خيلائه واستخفافه؛ لأنَّ ذُيوعَ صيتِه بفعل المُعارَضةِ التي لقيها كِتابُه: "في الشِّعر الجاهليّ"، بلغ مَبلغًا مُثيرًا، فهو طائرٌ مُحَلِّقٌ في جَوِّ السَّماء، كُلُّ شيءٍ يقع عليه بصرُه يتضاءل ويصغر، كُلَّما أمعن في العُلُوِّ والتَّصعيدِ، وهو معذورٌ أيضًا؛ لأنه كان يومئذٍ في الثَّامنةِ والثَّلاثينَ من عُمره، وكان يُحِسُّ أنَّه أصبح مشروعًا مُعَدًّا ناضجًا قابلًا لِلتَّنفيذِ؛ أي: هو في طريقِه إلى أن ينقلبَ أستاذًا كبيرًا، فلا بُدَّ له من التَّشَبُّعِ بسَننِ "الأساتذة الكبار" في الزَّهْوِ والعُجبِ والاستخفافِ. ومع "الزَّهْوِ والعُجبِ والخُيلاءِ" لَم أجد عنده صبرًا أو استجابةً أو مُحاوَلةً لِفَهْمِ ما أقول، كاستجابةِ المَرصَفي شيخي وشيخه هو أيضًا. ذهب كُلُّ كلامٍ بيني وبينه هَذَرًا باطلًا، هكذا ظننتُ يومئذٍ! ولكنِّي قد قصصتُ قِصَّةَ تَذكُّرِه لهذا الحديثِ البعيدِ وظهور أثره فيما كتبه في جريدةِ الجهادِ سنة 1935م، حين أَحَسَّ أنَّ العرشَ يَهْتَزُّ مِن تحته، قصصتُها في كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 41 - 47)، وفي مواضعَ أخرى. ثم ما فُوجِئَ به عند ظهور كتابي عن المُتَنبِّي سنة 1936م؛ حيث استبان له أنِّي طبَّقتُ في هذا الكتابِ منهجًا في "تَذَوُّقِ الشِّعر"، يُشبِه أن يكون قريبًا من شيءٍ سمعه قديمًا منِّي، ثم ذَهَلَ عنه في غَمرةِ الأحداثِ والأزمانِ. ويومئذٍ بدا له أن يفعلَ ما فعل، مِمَّا قصصتُه أيضًا في مُقدِّمة كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 147 - 158)، وفيه قِصَّةُ "السَّطْوِ" كاملةً على اختصارها، فإن شِئتَ فَأَعِدْ قراءتَها، فعسى أن تَجِدَ فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديثِ) (انتهى). وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-. وعلى الله قصدُ السَّبيل.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (32) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيُواصل العُقابُ حكايتَه مع التَّذوق بكلماتٍ تُبيِّن مدى أهمية الجُرجاني في صناعةِ خيال العُقاب، وبناءِ فكره في منهج "التَّذوق". قال -رحمه الله-: "وبدا لي يومئذٍ أن أُعِيدَ قراءةَ عبد القاهر الجُرجاني في كتابَيه: "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، أكببتُ على قراءةِ الكتابَين، وبَغتةً رأيتُ أو تبيَّنتُ أنّ عبد القاهر قد وقع في نَفْسِ ما وقعتُ فيه، رأيتُه قد وقع في الحَيْرَةِ من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظًا مُبهَمًا شكلًا ليس له بيانٌ، ولا حَدٌّ يُعِينُ على تصور "البلاغة" ما هي؟ فيومئذٍ انبعث انبعاثًا لِيكشفَ عن إبهام "البلاغة"، فألَّف كتابَه "أسرار البلاغة"، عَمَدَ فيه إلى تحليل الألفاظ المُتصرِّفة بأمر المعاني، مُبينًا عن وجوه حُسنها وقُبحها، وخطئها وصوابها، وسُموِّها وسُقوطها غير مقطوعةٍ عن أصلها في الكلام المُؤلَّف المُركَّب، ثُمَّ ألَّف أيضًا كتابَه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجُمل، أي الكلام المُركَّب الذي يحتمل تركيبُه آلافًا من الوجوه، فكان كِتَاباهُ هذَانِ أوَّلُ كتابَينِ في "تحليل اللُّغة" بلغ فيهما غاية قصر عنها كُلُّ مَن جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصلُ "علم البلاغة"، كما سمَّيْناه؛ وسترى ذلك مُبينًا في كتابي: "مداخل إعجاز القرآن" (تنبيه: نُشر هذا الكتابُ بعد وفاةِ العُقابِ -رحمه الله-، مطبعة المدني، القاهرة، سنة 2002 م). كان فضلُ عبد القاهر يومئذٍ عليَّ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّني حين فهمتُ حقيقةَ الدَّواعي التي حملتْه على وضع كتابَيه الجليلَين، أدركتُ مِن فوري أنّ مسألةَ "التَّذَوُّقِ" مُرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بمسألةِ "البلاغةِ" في الأمرَينِ جميعًا، في إبهامِهما، وفي أنّهما حقيقتانِ مُتعلِّقتانِ بمَداركِ الفِطْرةِ في الإنسان. ولمّا رأيتُه قد استطاع بتحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن يجعلَها تكشفُ اللِّثامَ عن أسرار المعاني القائمة في ضمير مُنشِئِها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننتُ أنّه مِن المُستطاعِ أيضًا بضُروبٍ أخرى مِن تحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن أصلَ إلى شيءٍ يَهديني إلى كشفِ اللِّثامِ عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير مُنشِئِها، فأزيل إبهام "التَّذوق". وإذا كان تحليلُه قد أفضى به أن يجعلَ نظم "الكلام" دالًّا على صُوَرٍ قائمةٍ في نفس صاحبها، فعسى أن أجدَ أيضًا في ضَربٍ أو ضُروبٍ مِن التَّحليل ما يُفضي بي إلى أن أجعلَ "الكلام" ونظمه جميعًا دالًّا على صُورةِ صاحبِها نَفْسِه. والتبست عليَّ الطُّرقُ مرَّةً، واستبانت مرَّةً، ثُمَّ بدأتْ بعد زمنٍ تتضح لي بعضُ المَعالِم، وكان ممّا أعانني على وضوح هذه المعالم، ما كنتُ دخلتُ فيه مِن قَبْلُ، مِن جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا، إلى آخِر ما وصفتُه آنفًا. وعلى الأيّامِ بزغ لي بعضُ الضِّياءِ، وأنارت بعضُ الشُّعَلِ، ووضعتُ لِنفسي منهجًا، انتهيتُ إلى أن سمَّيتُه "التَّذوق"، كما حدَّثْتُك آنفًا، وجعلتُ أُمَارِسُه في جميع ما أقرأُ مِن الكلامِ لا في الشِّعرِ وَحْدَه؛ والأمرُ يَطُولُ، ولكن هذه خُلاصتُه أكتبُها على مَشَقَّةٍ" (انتهى). وإلى اللقاء في المقال القادم -إن شاء الله-. فاللهمَّ يسِّر وأعِن.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (34) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيَتجدَّدُ اللِّقاءُ مع سيرةٍ حافلةٍ بصفحاتٍ ناصعةٍ، صاحبُها لنا -فِي محرابِ العِلْمِ- إشعاعٌ وإشراق، نَتحلَّقُ حول مُصنَّفاتِه، ونَختلِفُ إلى مجلسِ آثارِه، فنستمتعُ بعُمقِ فِكرِه، وأصالةِ عِلمِه، ورجاحةِ عقلِه. فيُكْمِلُ العُقابُ حكايتَه مع "تَذَوُّقِ الشِّعْرِ"، فيقول: "وأَظُنُّ -أيُّها العزيزُ- أنَّك مستطيعٌ أن تجدَ الفَرقَ بين هذَين النَّعتَين لِلشِّعْرِ الجاهليِّ ظاهرًا علانيةً، وأنّ أولهما عليه وسمٌ بادٍ يَلُوحُ، يَدُلُّ على أنّه نعتٌ مِن أثرِ "التَّذَوُّقِ المَحضِ والإحساسِ المُجرَّدِ" -كما قلتُ آنفًا-، وأنّ هذا "التَّذَوُّقَ" يومئذٍ كان تَذَوُّقًا ساذَجًا بلا منهجٍ، كالذي هو ناشبٌ في الألسنةِ وأقلامِ الكُتّابِ المُحدثين، وأنّ ثانيهما عليه سمةٌ واضحةٌ تَدُلُّ على أنّه نعتٌ مِن أثرِ "التَّذَوُّقِ" أيضًا، ولكنّه تَذَوُّقٌ له معنًى آخَرُ غير المعنى المألوف، وأنّه "تَذَوُّقٌ" قائمٌ على منهجٍ مَرسُومٍ، له أسلوبٌ آخَرُ في استبطانِ الأحرفِ والكلماتِ والجُملِ والتَّراكيبِ والمعاني، ثُمَّ في استِدراجِها ومُمازحتِها ومُلاطفتِها ومُداورتِها حتَّى تَبُوحَ لنا بدخائلِ مُنشِئِيها ومُخبَّآتِ صُدورِهم، بل حتَّى تَكشِفَ اللِّثامَ عن صُوَرِهم ومَلامحِهم ومَعارفِ وجوهِهم سافِرةً بلا نقابٍ؛ أَظُنُّهُ فَرقًا ظاهرًا بين نعتَين، في زمنَين مُتَباعِدَين، لِكُلِّ زمنٍ منهما طبيعةٌ تُمَيِّزُهُ عن الزَّمَنِ الآخَرِ؛ أليس كذلك؟! ولِمُجَرَّدِ الحذرِ ممّا يخاف على الحديث إذا هو اختلف سياقُه وتباعدت أطرافُه، فيصبح عندئذٍ مُهدّدًا بأن تخفي أسباب التَّشابك بين معانيه، أو مُتوعّدًا بأن تتهتّك أو تسقط بعض الرَّوابط الجامعة بين أوصالِه فيتفكّك أو ينتشر، أُحِبُّ أن أختصرَ لك مُجملَ حديثي في نظامٍ واحدٍ، مُتداني الأطرافِ محذوف الفُضُول. فهذه القُوَّةُ المُركَّبةُ الكامنةُ في بناءِ الإنسانِ -والتي سمَّيتُها "القُدرة على البيان"- مُندمجةٌ اندماجًا لا انفصامَ له في حلقةٍ مُفرغةٍ مُكوَّنة منها ومِن العقلِ والنَّفْسِ والقلبِ، ولها في هذه الحلقةِ عَملانِ مُتداخِلانِ لا ينفصلانِ، هما: "الإبانةُ" و"الاستبانةُ"؛ و"الإبانةُ" هي قُدرتُها على إنشاءِ "الكلامِ" وتركيبِه -بليغًا كان أو غيرَ بليغٍ-، و"الاستبانةُ" هي قُدرتُها على تفليةِ "الكلامِ" وجَسِّهِ والتَّدَسُّسِ في طواياه وحين تتلقّاه من خارج -بليغًا كان "الكلامُ" أو غيرَ بليغٍ-، وهذه "الاستبانةُ" بجُملتِها هي التي سمَّيتُها: (التَّذَوُّق)" (انتهى). ونُواصِلُ الحكايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-. وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (39) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيواصلُ العُقابُ كلامَه قائلًا: "أمّا الثّانية: فإنِّي وجدتُك في مواضعَ مُتفرِّقةٍ من كلامك في شأن كتابي وكتاب الدكتور طه عن المُتنبِّي تكثر من أن تتنصَّلَ من إرادة إغضابي أو إرادة إساءتي. فمَن الذي أنبأك -أيُّها العزيز الكريم- أنِّي أعد الذي يظهرني على أخطائي، أو الذي لا يعجبه ما أكتب، مُريدًا لإساءتي، مُثيرًا لغضبي، طالبًا لِلغضِّ منِّي أو من كتابي؟ مَن أنبأك هذا، حتى تُبالغَ في التنصل مِن اعتماده، وفي البراءة من إرادته؟ لقد قدَّمتُ بين يدي كتابي عن المُتنبِّي قِصَّةَ هذا الكتاب، وبيَّنتُ أنَّها "لمحةٌ مِن فساد حياتنا الأدبيَّة". فكان ممّا أشرتُ إليه أنَّه كان مِن عادة "الأساتذة الكبار"، وهي عادةٌ بثَّت في حياتنا الأدبيَّة إلى هذا اليوم فسادًا ساحقًا: أنَّهم كانوا يُخطِئون في العلن، ويَتبرَّأون من أخطائهم في السِّرّ، وأشرتُ أيضًا إلى أنَّهم كانوا لا يصبرون على مَن يَدلُّهم على الخطأ، ويستنكفون كِبرًا أن يؤوبوا إلى الصَّواب، ثم أزيدك الآن أيضًا: أنَّهم كانوا لا يَتورَّعون عن الإيقاع بمَن يَدلُّهم على الخطأ، ويَتعقَّبونه بالأذى مِن وراء حجاب، ومَن طلب الأمثلةَ على هذا وجدها على مَدِّ يده! بَيْدَ أنِّي، مِن يوم عقلتُ أمرَ نفسي، قد أنكرتُ جميع السنن التي سنَّها "الأساتذة الكبار"، أنكرتُها كفاحًا ومواجهةً وبلا مواربةٍ؛ فبئس المرء أنا إِذَنْ إذا أنا أنكرتُ سُنَّةً كريهةً ثم ركبتُها! كانوا -رحمهم الله جميعًا- لا يُحِبُّونَ إلا الثَّناءَ المَحضَ المُصفَّى الخالِصَ مِن كُلِّ شائبةٍ، فإذا جاءهم غيرُ ما يُحِبُّونَ تَنمَّروا لِمَن أتاهم به تَنمُّرَ من لا بيت على دِمْنَة (والدِّمْنَة: الحقد الدَّفين المُضمَر المُلتهِب بالغيظ" (انتهى). وإلى اللقاءِ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. ونَسألُ اللهَ التَّوفيق.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |