شرح كتاب الحج من صحيح مسلم - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 824 - عددالزوار : 118271 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40046 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366597 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 18-05-2025, 11:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ حَلَقَ قَبلَ النّحْر أو نَحَرَ قبلَ الرَّمْي


  • أفعال رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تكون للإيجَاب وقد تكون للاسْتِحباب
عن عبداللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ، فَيَقُولُ القَائِلُ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ؟ فَنَحَرْتُ قَبْلَ الرَّمْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «فَارْمِ ولَا حَرَجَ» قَال: وطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ، أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الحَلْقِ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ فَيَقُولُ: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ»، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ، مِمَّا يَنْسَى المَرْءُ، ويَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ، وأَشْبَاهِهَا، إِلَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ»، وعَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ، وهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَقَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» وأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، وأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا قَالَ: «افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ».
الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/948- 949) باب: مَنْ حلقَ قبل النّحر، أو نَحرَ قبل الرّمي.
يقول عبداللَّهِ بْنَ عَمْرِو -رضي الله عنهما-: وَقَف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع، بمنى يوم النّحر على ناقته -صلى الله عليه وسلم -، عند جَمْرة العَقبة بعد الزّوال لتعليم الناس بقيّة مناسك الحَجّ.
جَوَاز القُعُودِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلحَاجَةِ
وقَوله: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ» هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ القُعُودِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلحَاجَةِ، قَالَ القَاضِي: «ويُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُما: وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ الجَمْرَةِ، ولَمْ يَقُلْ في هَذَا: خَطَبَ، وإِنَّما فِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ وسُئِلَ، والثَّانِي: بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَفَ لِلْخُطْبَةِ فَخَطَبَ، وهِيَ إِحْدَى خُطَبِ الحَجِّ المَشْرُوعَة، يُعَلِّمُهُمْ فيها ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ المَنَاسِكِ.
قال النووي: هذَا كَلَامُ القاضِي، وهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وخُطَبُ الحَجِّ المَشْرُوعَةُ عِنْدَنَا أَرْبَعٌ: أَوَّلُهَا: بِمَكَّةَ عِندَ الكَعْبَةِ في اليَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الحَجَّةِ، والثَّانِيَةُ: بِنَمِرَةَ يَومَ عَرَفَةَ، والثَّالِثَةُ: بِمِنًى يَومَ النَّحْرِ، والرَّابِعَةُ: بِمِنًى فِي الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وكُلُّهَا خُطْبَةٌ فَرْدَةٌ، وبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِلَّا التِي بِنَمِرَةَ فَإِنَّها خُطْبَتَانِ، وقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وبَعْدَ الزَّوَالِ، وقَدْ ذَكَرْتُ أَدِلَّتَهَا كُلَّها مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ).
قوله: «فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ»
أي: جَعل الحجّاج يسألونه، أي: يَستفتونه في تقديم بعض الأعْمال يوم النّحر على بعض، أو أخّروا بعض الأعْمال على بعض، فَيَقُولُ القَائِلُ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ؟ لمْ أكنْ أشعر، أي: لمْ أفطن، ولمْ أعلم أنّ ذبح الهَدي يكون قبل الحَلْق، فَقالُ له - صلى الله عليه وسلم -: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ» أي: اذْبح ولا حَرج، أي: لا إثمَ عليك، في تأخير الذّبح عن الحَلْق، فإذا ذبَحتَ بعد الحَلق، فعملك صَحيح.
قوله: «وطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ» أي: فجاء رجلٌ آخر يسألُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، «يقول: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ، أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الحَلْقِ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟» يقول: لمْ أشعر، أي: لم أفطنْ ولمْ أعلم، أنّ الرّمي قبل النّحر.
قوله: «فنَحرتُ قبل أنْ أرمي» أي: ذبحتُ الهدي قبل أنْ أرمي جمرة العقبة، فَقالُ له - صلى الله عليه وسلم -: «إرم ولا حرج» أي: إرم جَمرة العقبة، ولا إثمَ عليك في تقديم. الذّبح على الرّمي.
«افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ»
قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ، مِمَّا يَنْسَى المَرْءُ، ويَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ، وأَشْبَاهِهَا، إِلَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ»، وفي الحديث الثاني: «فما سُئل يومئذ» أي: فما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفه في ذلك اليوم. «عن شَيءٍ قدّم ولا أخّر» أي: عن عَملٍ مِنْ أعمال الحج في يوم النحر، قُدّم على غيره منْ هذه الأعمال، ولا عن عمل أخّر على غيره من هذه الأعمال الأَرْبَعَة، «إلا قال: افعلْ ولا حرج» أي: إلا أجاز التقديم أو التأخير، وأنّه لا إثم على فاعله.
وقَوْلُه في الحديث الثاني: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ». وفي رِوَايَةٍ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ- وَفِي رِوَايَةٍ- وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ وفي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الجَمْرَةِ» قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُم: الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، ومَعْنَى خَطَبَ: عَلَّمَهُمْ.
ما يُفيده الحديثان
1- أن السُّنّة تقديم الرّمي، ثمّ النّحر، ممّن عليه هَدْي، ثمّ الحَلْق، ثُمّ طَواف الإفاضة.
2- وأنّه يجوزُ تقديمُ بعض هذه الأعْمال على بعض.
3- وأنّه لا يلزم منْ قدّم بعض هذه الأعْمال على بعض شيء، لا فِدية عليه ولا شيء.
4- وأنّ أفعالَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للإيجَاب، وقد تكون للاسْتِحباب.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 25-05-2025, 03:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: تَقليدُ الهدي وإشعاره عند الإحرام


  • النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حجَّ مرَّةً واحدةً فنقَلَ عنهُ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم تَفاصيلَ تلكَ الحَجَّةِ كي نتعلَّمَ كَيفيَّةَ الحجِّ الَّذي أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به
  • في الحديث اسْتحباب الرُّكوب في الحج وهو مِنْ هدي النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأنّه أفضلُ مِنَ الحج ماشيًا
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، أَهَلَّ بِالْحَجِّ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/912) باب: تقليد الهَدي وإشْعاره عند الإحرام.
يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ وهو خارجٌ إلى الحجِّ بذي الحُلَيْفةِ، وقد صلاها قَصراً، يَعني ركعتَينِ، وذلك لأنَّه كانَ مُسافِراً إلى مكَّةَ، وذو الحُلَيفةِ قَريةٌ بينَها وبينَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبعةٌ، أي: حَوالَيْ (10 كم)، وعن مكَّةَ حَوالَيْ 420 كيلومترًا، وتُسمَّى اليومَ عندَ العامَّةِ: أبيارَ عليٍّ أو آبارَ عليٍّ، وهي مِيقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن مرَّ بها.
ثمَّ دَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- «بناقتِه» الَّتي هي من جُملةِ الهَديِ الَّذي سيُذبَحُ في الحرَمِ، «فأشَعرَها في صَفْحةِ» أي: في جانِبِ «سَنامِها الأَيمنِ» وهو أَعْلى ظَهرِ البَعيرِ، وإشْعارُ البَدنةِ هو أنْ يُشَقَّ أحدُ جانِبَيْ سَنامِها حتَّى يَسيلَ دَمُها، ويُجعَلَ ذلك علامةً لها تُعرَفُ بها أنَّها هَديٌ للبيت الحرام، فلا يُتَعرَّضُ لها، وإذا ضلَّتْ رُدَّتْ، وإنِ اختلَطَتْ بغيرِها تميَّزَتْ.
قوله: «ثُمَّ سلَتَ الدَّمَ»
قوله: «ثُمَّ سلَتَ الدَّمَ» أي: مسَحَه وأزالَهُ عنها، «وقلَّدَها» التَّقليدُ هو تَعْليقُ القَلائدِ، أوِ النَّعْلِ، ونَحوِ ذلك في عُنُقِ الهَديِ، ليَكونَ علامةً أُخْرى يُعلَمَ بها أنَّها هَديٌ.
قال النووي: «وأمّا تقليدُ الغنم، فهو مذهبنا ومذهب العُلماء كافة مِنَ السّلف والخلف إلا مالكا، فإنّه لا يقول بتقليدها. قال القاضي عياض: ولعلّه لمْ يبلغه الحديث الثابت في ذلك. قلت: قد جاءتْ أحاديث كثيرة صحيحة بالتّقليد، فهي حُجّةٌ صَريحة في الرّد على من خالفها. واتفقوا على أنّ الغَنَم لا تشعر لضَعْفها عن الجرح، ولأنّه يَسْتَتر بالصُّوف.
وأمّا البقرة فيستحب عند الشافعي وموافقيه الجمع فيها بين الإشعار والتقليد كالإبل. قال: وفي هذا الحديث: استحباب تقليد الإبل بنعلين، وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافّة، فإنْ قلّدَها بغير ذلك مِنْ جُلُود أو خُيُوط مَفْتولة ونحوها، فلا بأس». انتهى.
قوله: «ثمَّ ركِبَ راحلتَهُ»
قوله: «ثمَّ ركِبَ راحلتَهُ» وهي الدَّابَّةُ المُعَدَّةُ للسَّفرِ، وكانتْ حينَئذٍ ناقةً تُسَمَّى القَصْواءَ، «فلمَّا استَوتْ به الرَّاحِلةُ» يَعني: لمَّا ارتَفَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُستَوياً على ظَهرِ الرَّاحِلةِ في مِنطَقةِ «البَيداءِ» وهوَ مَوضِعٌ مُلاصِقٌ لذي الحُلَيفةِ، وهو الميقاتُ المَكانيُّ لأهلِ المدينةِ، والبَيداءُ في اللُّغةِ: هي الصَّحْراءُ التي لا شَيءَ فيها، والمقصودُ بها هنا: اسمُ المَوضِعٍ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، وهو مَكانٌ فوقَ عَلَمَيْ ذي الحُلَيفةِ إذا صُعِدَ مِنَ الوادي، وفي أوَّلِ البَيداءِ بِئرُ ماءٍ.
فلمَّا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في البَيداءِ، «أهلَّ بالحَجِّ» يَعني: أحرَمَ بالحجِّ، ورفَعَ صوتَهُ بتَلبيةِ الحَجِّ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عَنهُما-: «ما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - إلَّا مِن عِندِ المَسجِدِ، يَعْني مَسجِدَ ذِي الحُلَيْفةِ».
سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ
ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضيَ اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجًّا، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّت به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهم كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعُوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ استَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حِينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنْهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخلافَ وقَعَ في ابتِداءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ.
ويجمعها: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- قال: «وايمُ اللهِ، لقد أوجَبَ في مُصَلَّاه، وأهَلَّ حينَ استقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شرَفِ البَيْداءِ».
فوائد الحديث
  • بيان اسْتحباب إشْعار الهدي، وفائدة الإشعار الإعْلام بأنّها صارت هديًا، ليتّبعها مَنْ يحتاج إلى ذلك، وحتّى لو اختلطت بغيرها تميّزت، أو ضلّت عُرِفت، أو عَطِبت عَرَفها المساكين بالعلامة فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شِعار الشّرع، وحث الآخر عليه.
  • وفيه: استحبابُ سوق الهدي مِنَ الميقات.
  • وفيه: اسْتحباب الرُّكوب في الحج، وهو مِنْ هدي النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -، وأنّه أفضلُ مِنَ الحج ماشياً.
  • وفيه: الإهْلالُ والإحْرامُ بالنُّسُكِ عِندَ المِيقاتِ المَكانيِّ.
  • النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- حجَّ مرَّةً واحدةً، فنقَلَ عنهُ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- تَفاصيلَ تلكَ الحَجَّةِ؛ كي نتعلَّمَ كَيفيَّةَ الحجِّ الَّذي أمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- به، وهوَ أحدُ أَرْكانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بها عبادَهُ، يَفعلُها المُستطيعُ بدنياً ومادِّيًّا.
الوصية بالتقوى
لقد أكثر الله -عزَّ وجلَّ- في آيات الحجِّ -على قلَّتها- من الوصيَّة بالتقوى؛ لأنَّه يحصل في الحجِّ من أسباب التقوى ما لا يحصل في غيره، وذلك مع الوعي الصحيح لحقيقة الحج ومغزاه، وقد تكرَّرت الوصيَّة بتقوى الله في سياق آيات الحجِّ من سورة البقرة، ففي الآية الأولى من هذه الآيات قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وفي أثناء هذه الآيات قال -سبحانه-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، وختم -جلَّ وعلا- آيات الحجِّ بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
والتقوى هي أعظمُ وصيَّة وخيرُ زاد ليوم المعاد، وهي وصيَّة الله للأوَّلين والآخرين من خلقه، كما قال -سبحانه-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، وهي وصيَّة النَّبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سريَّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمَن معه من المسلمين خيراً، وكان كثيرَ الوصيَّة بها في خُطبه، ولَمَّا خطب الناسَ في حجَّة الوداع يوم النحر وصَّى الناسَ بتقوى الله، ولم يزل السَّلف الصالح يتواصون بها؛ وذلك لأنَّها خيرُ زاد يبلغ إلى رضوان الله، ولَمَّا قال رجل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اتَّق الله، أجابه عمرُ بقوله: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها»، والنقول عن السلف في هذا كثيرة.
وللتقوى على أهلها منافعُ عظيمةٌ وثمارٌ كريمةٌ وفوائدُ جَمَّةٌ في الدنيا والآخرة، فمن ثمارها حصولُ العلم النافع، قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، وقال -تعالى-: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، ومن ثمارها الخروج من المحن وتحصيل الرّزق الطيِّب وتيسُّر الأمور، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، وقال -سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، ومن ثمارها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، و{أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ومن ثمارها نيلُ الفلاح والفوزُ بالمغفرة، قال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومن ثمارها حصولُ الرِّفعة في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وحصولُ العاقبة الحميدة، قال الله -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن أجَلِّ ثمارها دخولُ الجنَّة والتشرُّف برؤية الله -تبارك وتعالى-، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وقوله -سبحانه-: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وثمارُ التقوى لا تُحصَى، وفضائلُها لا تُستقصى، وأكرمُ الناس عند الله أعظمهم تقوىً له -سبحانه-، قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 04-06-2025, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: البَعثُ بالهَدْي وتَقْليدها وهُو حلال


  • حرَصَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم كلَّ الحرصِ على مُوافَقةِ هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أقوالِه وأفعالِه
  • الأصل التأسّي بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم كافة حتى تثبت الخُصُوصيّة
عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبدالرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا، حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الحَاجِّ، حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي، فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ. قَالَتْ عَمْرَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ. وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا.. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/959) باب: استحباب بعث الهدي إلى الحَرَم لمن لا يُريد الذهاب بنفسه، واسْتحباب تقليده وفتل القلائد، وأنّ باعثه لا يصير مُحْرماً، ولا يَحرم عليه شيء بذلك، ورواه البخاري في الحج (1700) باب: مَنْ قلّد القَلائد بيده.
  • قوله: ابْن زِيَاد، صوابه: زياد، وهو ابن أبي سفيان، وكان يُلقَّبُ: زِيادَ بنَ أبيهِ، وهكذا وقع على الصّواب في صحيح البخاري، والموطأ وسنن أبي داود، كما نبّه عليه أبو علي النسائي والمازري والقاضي عياض وغيرهم، ولأنّ ابن زياد لمْ يُدرك عائشة -رضي الله عنها-.
فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
وفي هذا الحديثِ: أخبَرَتْ عَمْرةُ بِنتُ عبدالرَّحمنِ أنَّ زِيادَ بنَ أبي سُفيانَ كَتَبَ إلى عائِشةَ -رضي الله عنها-: إنَّ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- كان يُفتي: بأنَّ مَن أَهْدى هدْيًا- مِن الإبلِ أو البَقرِ، أو الغنَمِ أو المَعْزِ- للبيتِ الحَرامِ، فبَعَثَ به لِيُذبَحَ في الحجِّ، ولكنَّه لم يَتلبَّسْ بالنُّسُكِ، ولم يُسافِرْ للحجِّ، بلْ بقِيَ في مَوطنِه، فإنَّه يَحرُمُ عليه ما يَحرُمُ على الحاجِّ؟ فلا يَقرَبُ الطِّيبَ ولا النِّساءَ، ولا غيرَ ذلك مِن مَحظوراتِ الإحرامِ، ويَظَلُّ على ذلك حتَّى يُنْحَرَ هَدْيُه.
فلمَّا سَمِعَتْ أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، ردَّتْ هذه الفتْوى بأنَّها مُخالِفةٌ لِما فَعَلَه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فقدْ كانتْ تَصنَعُ القلائدَ- وهي الأطواقُ- الَّتي كانت تُوضَعُ في رِقابِ هدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي كان سيُرسِلُها، وهو غيرُ حاجٍّ وغيرُ مُتلبِّسٍ بالنُّسكِ، ثُمَّ وضَعَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بيَدِه الشَّريفةِ على الهدْيِ، وبعَثَ بها مع أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - إلى الحجِّ، سَنةَ تِسعٍ مِن الهِجرةِ لَمَّا حَجَّ بالناسِ، ولمْ يَلتزِمِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بما يَلتزِمْ به المُحرِمُ، ولم يَحرُمْ عليه شَيءٌ أحلَّه اللهُ لغيرِ المُحرِمِ بحَجٍّ أو عُمرةٍ.
«ثمّ بعَثَ بها معَ أبي»
وفي رواية البخاري قالت: «ثمّ بعَثَ بها معَ أبي» تُريد بذلك أباها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، واستفيد من ذلك: وقت البَعث، وأنّه كان في سنة تسع عام حجّ أبي بكر بالناس، وروى مالك في «الموطأ»: عن ربيعة بن عبدالله بن الهدير: أنّه رأى رجُلاً مُتجرّداً بالعراق، فسأل عنه، فقالوا: إنّه أمر بهديه أنْ يقلّد، قال ربيعة: فلقيت عبدالله بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: «بِدْعةٌ وربّ الكعبة». ورواه ابن أبي شيبة.
قال ابن التين: خالفَ ابنُ عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما روته في ذلك يَجبُ أنْ ُيصار إليه، ولعلّ ابن عباس رَجَع عنه، فتعقّبه الحافظ بقوله: وفيه قصورٌ شديدٌ، فإنّ ابن عباس لمْ ينفرد بذلك، بل ثبتَ ذلك عن جماعةٍ مِنَ الصحابة.
وقال ابن المنذر: قال عمر، وعلي، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عباس، والنخعي، وعطاء، وابن سيرين وآخرون: مَنْ أرسلَ الهدي وأقام، حَرُم عليه ما يحرم على المُحْرم، وقال ابن مسعود وعائشة وأنس، وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك مُحْرماً، وإلى ذلك صار فقهاء الأمْصَار.
اسْتقرّار الأمر على خلاف ما قال ابن عباس
وجاء عن الزهري ما يدلّ على أن الأمر اسْتقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي البيهقي: عنه قال: أول مَنْ كشَفَ العَمَى عن الناس، وبيّنَ لهم السُّنّة في ذلك عائشة. فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة، أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس، وبه قال الجمهور: لا يصير بتقليد الهَدي وإهْدائه مُحْرماً، ولا يجبُ عليه شيء.
قال الحافظ ابن حجر: وله حالان: إمّا أنْ يَسوقَ الهَدْي، ويَقصد النُّسك، فإنّما يُقلّدها ويُشْعرها عند إحْرامه، وإمّا أنْ يَسوقه ويُقيم، فيُقلّدها مِنْ مكانه. وهو مقتضى حديث الباب. انتهى.
وقال ابن التين: يحتمل أنْ يكونَ قولُ عائشة: «ثُمّ قلّدها بيدِه» بَياناً لحِفظها للأمر ومعرفتها به، ويحتمل أنْ تكونَ أرادتْ أنّه - صلى الله عليه وسلم - تَناولَ ذلك بنفسِه، وعَلمَ وقتَ التّقليد، ومع ذلك فلمْ يَمتنع مِنْ شَيءٍ يَمتنع منه المُحْرِم، لئلا يَظنّ أحَدٌ أنه اسْتباح ذلك قبل أنْ يعلم بتقليد الهدي.
الحديث الثاني
عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا.
في هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها-: «أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أهْدَى مرَّةً غَنمًا» أي: في مَرَّة مِن مرَّاتِ إرْسالِه - صلى الله عليه وسلم - للهَديِ إلى الحرم، كانتْ غَنماً، وهو يدلُّ على جواز إهداء الغَنم إلى الحرم، ولا يلزم أنْ تكون مِنَ الإبل.
وما أهداه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليس هو هدْيَ الإحْرَام، ولهذا أقام حلالًا بعدَ إرسالِه، ولم يُنقَلْ أنّه أهدَى غنماً في إحْرامِه، ولا مانع مِن إهداء مَنْ أحرمَ بالغنمِ. قولها: «وقلَّدها» أي: جَعَل في عُنُقِها قِلادةً، يُستدلُّ بها على أنَّها مِن ذَبائحِ الهَديِ.
من فوائد الحديثين
  • الهَديُ اسمٌ لما يُهدى ويُذبَحُ في الحَرمِ، مِنَ الإبلِ والبقرِ والغَنمِ والمَعِزِ، وهو مِن الشَّعائرِ المُعظَّمةِ، وقد وضَّح النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - أحكامَها، ونقَلَ الصَّحابةُ الكِرامُ سُنَّتَه في ذلك.
  • مَشروعيَّةُ إرسالِ الهدْيِ إلى الحرَمِ ممَّن لم يَذهَبْ لأداءِ الحجِّ أو العُمرةِ.
  • تناول الكبير الشيء بنفسِه، وإنْ كان له مَنْ يكفيه، إذا كان ممّا يهتم به، ولا سيما ما كان مِنْ إقامة الشّرائع وأمور الديانة.
  • وفيه تعقب العُلماء على بعضهم، ورد الاجتهاد بالنّص.
  • وأنّ الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التأسّي به، حتى تثبت الخُصُوصيّة.
  • حرَصَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- كلَّ الحرصِ، على مُوافَقةِ هَدْيِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - في جَميعِ أقوالِه وأفعالِه، وكان يُراجِعُ بعضُهم بَعضاً في ذلك.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 04-06-2025, 11:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: ركوب البدنة


  • أرسلَ الله تعالى نبيَّه مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم رَحمةً للعالَمينَ وجعَل في امتِثالِ أمْرِه واجْتِنابِ نَهْيِه النَّجاةَ والصلاح واليُسر في الدُّنيا والآخِرةِ
  • في الحديث التَّرغيبُ في بَعثِ الهَدايا إلى مكَّةَ والتَّوكيلُ فيها إنْ لم يَذهَبْ بنفْسِه
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: «ارْكَبْهَا»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّها بَدَنَةٌ؟ فَقَالَ: «ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ»، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما-: سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ؛ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْها، حَتَّى تَجِدَ ظَهْراً». الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/960-961) باب: جواز ركوب البدنة المُهداة لمن احتاج إليها.
الحديث الأول
في الحديثِ الأول: يَرْوي أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- رَأى رجُلًا ماشياً على قَدمَيه، ويَسوقُ أمامَه بَدَنةً، قدْ أهْداها إلى البَيتِ الحرامِ، يَتقرَّبُ بها إلى اللهِ -تعالى-، والبَدَنةُ: تكونُ مِنَ الإبلِ خاصَّةً، وقيل: البُدْنُ تُطلَقُ على الإبلِ والبقَرِ، فأمَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرُكوبِها؛ ليَستريحَ ولا تحَصَلَ له مَشقَّةِ المَشْيِ ولا التّعب، فأخْبَرَه الرَّجُلُ أنَّها بَدَنةٌ مُهداةٌ إلى الكَعبةِ، فكيف يَركَبُها؟
فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المرَّةِ الثانيةِ أو الثالثةِ: «ارْكَبْها، وَيلَكَ!» وأصلُ الوَيلِ: العذابُ الشَّديدُ، وهو غيرُ مَقصودٍ هنا، وإنَّما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَغلُظَ له في القَولِ لِيركَبَها.
وفيه: مَشروعيَّةُ رُكوبِ الهَدْيِ لمَن احتاج إليها، حتّى يجدَ ظهراً.
وهو مذهبُ الشافعي في رُكوب الهَدي؛ إذْ يقول: إنّه يَرْكبُها إذا احْتاج، ولا يَرْكبها مِنْ غيرِ حاجة، ويَركبُها بالمَعروف مِنْ غَيرِ إضْرار بها، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة، وهو رواية عن مالك.
وقال عروة بن الزبير ومالك في الرواية الأخرى وأحمد وإسحاق: له رُكوبها مِنْ غير حاجةٍ، بحيث لا يضرّها، وبه قال أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة: لا يَركبها إلا أنْ لا يجدَ منْه بُدّاً. وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه أوْجبَ رُكوبها المُطلق؛ للأمْر بذلك، ولمُخَالفة ما كانت الجَاهلية عليه مِنْ إكرام البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وإهْمَالها بلا رُكوب.
ودليل مَن منعَ منْ غير حاجة: أنّ الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهْدَى ولمْ يَرْكب هديه، ولمْ يأمر الناسَ برُكوب الهَدَايا، ودليلنا على عروة وموافقيه رواية جابر المذكورة. والله أعلم. «انظر: شرح النووي».
فوائد الحديث
  • جواز رُكوبِ الهَدْيِ، خصوصا لمَن لم يجد الظهر.
  • وفيه: النَّدْبُ إلى المُبادَرةِ إلى امتثالِ أمْرِ اللهِ -تعالى- ورَسولِه -صلى الله عليه وسلم -، وزجْرُ مَنْ لم يُبادِرْ إلى ذلك، وتَوبيخُه.
  • إنّ الله -تعالى- أرسلَ نبيَّه مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - رَحمةً للعالَمينَ، وجعَل في امتِثالِ أمْرِه واجْتِنابِ نَهْيِه النَّجاةَ الصلاح واليُسر في الدُّنيا والآخِرةِ، وكانتْ طَريقتُه التَّيسيرَ على الناسِ في عِباداتِهم وحَياتِهم.
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما-: سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ؛ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْها، حَتَّى تَجِدَ ظَهْراً».
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ أبو الزُّبيرِ محمَّدُ بنُ مُسلِمٍ الأسدي مولاهم، أنَّ جابرَ بنَ عبداللهِ -رضي الله عنهما- سُئلَ عنْ رُكوبِ الهَديِ، وهو كلُّ ما يُهْدَى إلى البَيتِ منَ الأنْعامِ؛ قُربةً إلى اللهِ، فذكَرَ جابرٌ - رضي الله عنه - قَولَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «اركَبْها بالمَعروفِ»، أي: بِوَجهٍ لا يَلحَقُها ضَررٌ، «إذا أُلْجِئْتَ» يعني: إذا اضطُررْتَ إلى رُكوبِها، «حتَّى تَجِدَ ظَهراً» أي: حتّى تجدَ مَركوباً آخَرَ منَ الدَّوابِّ غيرِ الهَديِ.
باب: ما عَطِبَ مِنَ الهَدْي قبل محله
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ؛ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتاً فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ». الحديث رواه مسلم في الحج (2/963) باب: ما يفعلُ بالهَدْي إذا عَطِب في الطّريق.
في هذا الحَديثِ يَرْوي أبو قَبيصةَ ذُؤيبُ بنُ حَلْحَلةَ الخُزاعيُّ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - كان يَبعَثُ مَعه بالبُدْنِ- وهي الأنعامُ الَّتي تُهْدى إلى بيتِ اللهِ الحرامِ- ثُمَّ يقولُ لَه: «إنْ عَطِبَ مِنها شَيءٌ» أي: أصابه أمرٌ يمنعها من السّير، مِن كسرٍ أو مرَضٍ أو تعَبٍ يَغلِبُ معه هَلاكُها وموتُها قبْلَ وُصولِها إلى مَوضعِ الذَّبحِ.
قوله: «فانْحَرْها» واذْبَحْها في مَكانِها، «ثُمَّ اغمِسْ نَعْلَها» المُقلَّدَةَ بها في دَمِها، «ثُمَّ اضرِبْ» بهذا النَّعلِ المُلطَّخِ بالدَّمِ على صَفحتِها، أي: اجعَلِ النَّعلينِ على جانبِ سَنامِ البُدنِ؛ ليكونَ ذلك عَلامةً مَعروفةً؛ لكيْ يَعرِفَها مَن يمُرُّ بها، فمَن جاء بعْدَهم يَنظُرُ إليها ويَعرِفُ أنَّها هدْيٌ، وقد عَطِب، فيَأكُلُ منها دونَ حرَجٍ، فلا يَحسَبُها مَيتةً؛ وذلك أنَّ الطُّرقَ الَّتي يَسلُكُها النَّاسُ في أسفارِهم كانت مَعروفةً مِن قِبَلِ غيرِهم.
وأيضا: فإنَّ العادةَ الغالبةَ أنَّ ساكِنِي الصَّحراءِ -البَدْو- وغيرَهم، يَتَّتبعون مَنازلَ الحجيجِ لالتقاطِ ما خلَّفوه في أماكنِ راحتِهم.
قوله: «وَلا تَطعَمْها أنت ولا أَحدٌ مِن أهلِ رُفْقتِك» أي: لا يَأكُلْ منها الوكيل ولا أحدٌ ممّن معه، سَواءٌ كان فَقيراً أم غَنيّاً، وفي هذا قطْعُ الذَّريعةِ؛ لئلَّا يَتوصَّلَ بعضُ النَّاس إلى نحْرِ الهدْيِ، أو تَعييبِه قبْلَ أوانِه.
من فوائد الحديث
  • التَّرغيبُ في بَعثِ الهَدايا إلى مكَّةَ، والتَّوكيلُ فيها إنْ لم يَذهَبْ بنفْسِه.
  • والهَدْيُ: اسمٌ لِما يُهدى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.
  • جواز توكيل مَنْ يَقومُ بذبح بدنه.
  • إنّ مَنْ بعثَ هدياً إلى الحرم، فعطب في الطريق قبل بلوغ محله، فلينحره ثم يصبغ نعله في دمه، ويضرب بالنّعل المصبوغ بالدم صفحة سَنامها؛ ليعلم من مرَّ بها أنّها هدي، فينتفع بها.
  • عدمُ جَوازُ أكْلها للوكيل، ولا أحد مِنْ أهل رفقته، وجوازُ أكلها لسائر الناس إذا كانوا بصفة الاستحقاق.
الافتقار إلى الله -تعالى-
إن من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله -تعالى-، فهـو «حقيقـة العبـودية ولبُّها»، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «يخبر -تعالى- بغناه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أي: محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات وهو -تعالى- الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال -عز وجل-: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه».
وقال -تعالى- فـي قصة موسى -عليه الصلاة والسلام-: {فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(القصص: 24)، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 6).
عرَّف الإمام ابن القيم -رحمه الله- الافتقار إلى الله بقوله: «حقيقة الفقر: ألا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملْك واستغناء مناف للفقر». ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقـة تامـة إلى الله -تعالى- من كل وجه».
فالافتقار إلى الله -تعالى- أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه -عـز وجل- متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام).
والمتأمل في أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هو الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله، يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله -تعالى- وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب. وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه؛ ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله -تعالى-، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «فأما الركوع فعظّموا فيه الرب -عز وجل-، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم»؛ ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي».



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 25-06-2025, 01:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الاشْتَراكُ في الهَدْي


  • الهَدْيُ والنَّحْرُ مِنْ شَعائرِ الحَجِّ وفيه قُربَةٌ للهِ وإطعامٌ للفُقَراء والمساكين وقدْ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحكامَه وأنَّه يَصِحُّ أنْ يَشتَرِكَ سَبْعَةُ أشخاصٍ في بَدَنَةٍ واحدةٍ وتُجزِئُ عنْهم
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ والبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/955) باب: الاشْتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة.
في هذا الحديثِ يُخبِرُ جابِرُ بنُ عبداللهِ -رَضِي اللهُ عنهما- أنَّهم عِندما كانوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ، أَمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يشْتركَ في الإبِلِ والبَقَرِ، كلُّ سَبعةٍ منْهم في بَدَنةٍ، وهذا يَعني: أنَّ الهَدْيَ إذا كان جَمَلًا أو بَقرةً، أجْزَأَ فيه أن يَشترِكَ فيها سَبعةٌ، وفي رِواية أُخرى عندَ مُسلمٍ: «اشتَرَك كلُّ سَبْعةٍ منْهم في بَدَنَةٍ». والبَدَنةُ: تكونُ مِن الإبلِ خاصَّةً، وقيل: البُدْنُ تُطلَقُ على الإبلِ والبقَرِ.
وفي رواية له: فقال رجُلٌ لجابرٍ: «أَيُشْتَرَكُ في البَدنةِ، ما يُشتَرَكُ في الجَزُورِ؟» والجَزُورُ: هو الصَّغِيرُ مِن الجِمَالِ، وقيل: إنَّ البَدَنةَ هي الَّتي تُهدَى للبيتِ قبْلَ الإحرامِ بالنُّسُكِ، وأمَّا الجَزورُ فهو ما اشْتُرِيَ مِن الإبِلِ وأُهدِيَ للبيتِ بعْدَ الإحرامِ، ولذلك سَألَ الرَّجلُ عنها: وهلْ يَجوزُ الاشْتراكُ فيها أيضًا؟ فقال له جابرٌ: «ما هي إلَّا مِن البُدْنِ» أي: إنَّ الجَزُورَ لَمَّا اشتُرِيَت للنُّسُكِ صار حُكمُها كالبُدْنِ.
حضور جابر - رضي الله عنه - الحديبية
وأخبَرَ أبو الزُّبيرِ- وهو راوي الحديثِ عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ جابرًا قد حضَر الحُدَيْبِيَةَ، وهي الواقعةُ الَّتي مُنِع فيها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلِمون مِن دُخولِ مَكَّةَ لأداءِ العُمرةِ، فحَلَّ ونَحَر الهَدْيَ في مكانِه الَّذي أُحصِرَ فيه، وكانت في السَّنةِ السَّادسةِ مِن الهجرةِ، والحُدَيبيَةُ اسمٌ لبِئرٍ يقَعُ بالقُربِ مِن مكَّةَ على بُعدِ حوالَيْ 20 كم على طَريقِ جُدَّةَ القَديمِ.
وأخبَرَ جابرٌ - رضي الله عنه - أنَّهم نَحَروا يومئذٍ سَبعينَ بَدَنةً، اشترَكَ كلُّ سَبعةٍ في بَدَنةٍ، وفي رِوايةٍ: «فأَمَرَنا» أي: النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «إذا أَحْلَلْنا أنْ نُهدِيَ، ويَجتمِعَ النَّفَرُ منَّا في الهَدِيَّةِ» أي: يَشترِكَ الجماعةُ إلى السَّبعةِ في البَدَنةِ الواحدةِ، «وذلك حينَ أمَرَهم أنْ يَحِلُّوا مِن حَجِّهم» أمَّا الحجُّ فأراد به حَجَّةَ الوداعِ، وأمَّا العمرةُ فأراد بها عُمرةَ الحُدَيبيةِ، كما يُشيرُ إليه قولُه: «وحضَرَ جابرٌ الحُدَيبيةَ».
فوائد الحديث
  • مَشروعيَّةُ اشتراكِ السَّبعةِ في البَدَنة الواحدةِ، لإهْدائِها للحجِّ.
  • أنّ الهَدْيُ والنَّحْرُ مِنْ شَعائرِ الحَجِّ، وفيه قُربَةٌ للهِ، وإطعامٌ للفُقَراء والمساكين، وقدْ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحكامَه، وأنَّه يَصِحُّ أنْ يَشتَرِكَ سَبْعَةُ أشخاصٍ في بَدَنَةٍ واحدةٍ وتُجزِئُ عنْهم.
باب: الهَدْي مِنَ البَقَر
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/956) الباب السابق، ورواه البخاري في كتاب الحَج (1709): باب ذَبحُ الرجلِ البَقر عن نِسَائه منْ غيرِ أمْرهنّ.
رواه عن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- تقول: خرجنا مع رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة لا نَرَى إلا الحجّ، فلمّا دَنَونا مِنْ مكّة، أمَرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لمْ يكنْ مَعَه هَدْيٌ، إذا طَافَ وسَعَى بينَ الصّفَا والمَرْوة أنْ يُحلّ. قالت: فدُخلَ علينا يومَ النّحر بلَحْمِ بَقَر، فقلتُ: ما هذا؟ قال: نَحَرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - عن أزْواجه.
قال الحافظ: قوله: باب: ذَبْح الرّجل البَقَر عن نِسائه مِنْ غيرِ أمْرِهنّ، أمّا التّعبير بالذّبح مع أنّ حديث الباب بلفظ النّحر، فإشارةٌ إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ «الذّبح»، ونَحْرُ البقر جائزٌ عند العلماء، إلا أنّ الذّبحَ مُسْتحبٌ عندهم، لقوله -تعالى-: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67). وخالف الحسن بن صالح فاستحبّ نَحْرها.
قوله: «مِنْ غيرِ أمْرهِنّ»
وأما قوله: «مِنْ غيرِ أمْرهِنّ» فأخَذه منْ اسْتفهام عائشة عن اللّحم، لمّا دَخَل به عليها، ولو كان ذَبَحه بِعِلْمها، لمْ تَحتَج إلى الاسْتفهام، لكنْ ليسَ ذلك دافعاً للاحتمال، فيجوز أنْ يكونَ علمُها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك.
قولها: «فدُخلَ علينا»
وقولها: «فدُخلَ علينا» بضم الدال على البناء للمَجْهول. «بلَحْم بَقر» قال ابنُ بطّال: أخذ بظاهره جَماعة، فأجازُوا الاشْتراك في الهَدْي والأضْحية، ولا حُجّة فيه؛ لأنّه يحتمل أنْ يكون عن كلّ واحدةٍ بَقرة، وأمّا رواية يونس، عن الزهري عن عمرة عن عائشة: أنّ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة واحدة. فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك وقد خالفه غيره اهـ.
فتعقّبه الحافظ بقوله: رواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، ويونس ثقةٌ حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضاً، ولفظه أصْرح من لفظ يونس، قال: ما ذبح عن آل مُحمّد في حجّة الوداع إلا بقرة. وروى النسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: ذَبَحَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّن اعْتَمرَ مِنْ نِسائه في حَجّة الوداع بقرة بينهن. صحّحه الحاكم، وهو شاهدٌ قويٌ لرواية الزهري.
قال: واستدلّ به على أنّ الإنْسان قد يلحقه مِنْ عَملِ غيرِه، ما عَمِله عنه بِغيرِ أمْره، ولا عِلْمه، وتُعقّب باحْتِمال الاسْتئذان كما تقدم في الكلام على التّرجمة.
وفيه: جَوازُ الأكل مِنَ الهَدْي والأضْحية، وسيأتي نقلُ الخِلاف فيه. انتهى مختصراً.
وقيل: فيه إشْكال أنّ زوجات النّبي - صلى الله عليه وسلم - كنّ تسعة، والبَقَرة لا تجزئ إلا عن سبعة، لكن قد يقال: إنّ الثّنتين الباقيتين ذبح عنهنّ شاة شاة، والله أعلم.
تعظيم الله -عزّوجل-
من عظم الله -سبحانه- وقدره حق قدره، تحقق فلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه، بل إنَّ تعظيمه -سبحانه- أساس الفلاح، وكيف يفلح ويسعد قلب لا يعظم ربه وخالقه وسيده ومولاه؟! ومن عظم الله عرف أحقية الله -عزّ وجل- بالذل والخضوع والخشوع والانكسار له، وعظّم شرعه، وعظّم دينه، وعرف مكانة رسله.
وهذا التعظيم لله -سبحانه- يعد أساسا متينا يقوم عليه دين الإسلام، بل إن روح العبادة في الإسلام هو التعظيم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - (سيد ولد آدم إمام الأولين والآخرين وقدوة الخلائق أجمعين وأتقى الناس لرب العالمين) أنه -صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -: «سُبْحَانَ ذِى الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم -: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ -عزّ وجل-»، وكان -صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ»، ويقول في سجوده: «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى»، ويقول -صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، ومن أسماء ربنا وخالقنا ومولانا الحسنى «العظيم»، وهو -جل وعلا- عظيم في أسمائه، وعظيم في صفاته ، وعظيم في أفعاله، وعظيم في كلامه، وعظيم في وحيه وشرعه وتنزيله، بل لا يستحقّ أحدٌ التّعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيجب على العباد أن يعظّموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبّته والذّل له والخوف منه، ومن تعظيمه -سبحانه- أن يطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ومن تعظيمه وإجلاله أن يخضع لأوامره وشرعه وحكمه، وألا يُعترض على شيء من شرعه، وهو -جل وعلا- عظيم مستحق من عباده أن يعظموه حق التعظيم ، وأن يقدروه حق قدره ، قال الله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك؛ فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لقول الحبر! ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 10-07-2025, 12:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم



شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: نَحرُ البُدْن قِيَامًا مُقَيَّدَةً


  • أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدم إعطاء الجَزّار من الهدي لأنّ عطيّته كانت عِوضَاً عن عَمله فيكون في معنى بيع جزءٍ منْها وذلك لا يجوز
  • قولَ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّةِ كذا يأخُذُ حُكمَ الرَّفْعِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو كذلك عند الشيخين
عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَتَى عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً؛ فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم في الحج (2/956) باب: نحر البُدن قياماً مقيدة، ورواه البخاري في كتاب الحج (1713) باب: نحر الإبل مقيدة. في هذا الحَديثِ يَروي التابعيُّ زِيادُ بنُ جُبَيْرٍ: أنَّه رَأى عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وقدْ مرَّ على رجُلٍ، لم يُذكر اسمه، «وهو ينحر بدَنتَه باركة» زاد أحمد: «ليَنْحرَها بمنَى»؛ أي: قد أقعدها ليَنحرها وهي باركة على الأرض، والبَدَنةُ: تكونُ مِن الإبلِ خاصَّةً.
«ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً»
فَقَالَ: «ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً» «ابعثها» أي: أثِرْها وأقمها، يقال: بَعثتُ الناقة أثرتها، قوله: «قِيَاماً مُقيّدة» أي: معقولة الرجل، قائمة على ما بقي من قوائمها، ولأبي داود: من حديث جابر: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابه كانوا يَنْحرُون البدنة، مَعْقولة اليُسْرى، قائمةً على ما بَقِي منْ قوائمها. وروى سعيد بن منصور: عن سعيد بن جبير: رأيتُ ابنَ عُمر يَنْحرُ بدنته، وهي معقولة إحدى يديها، فأمَرَه ابنُ عُمَرَ وأرْشَدَه أنْ يَجعَلَها واقفةً مُقيَّدةً مَربوطةَ اليَدِ اليُسرى، ثمَّ يَنحَرَها قائِمةً، وبيَّن له أنَّ ذلك هو سُنَّةُ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: «سنّة محمد» بنصب سنة بعامل مضمر، كالاختصاص، أو التقدير: مُتّبعاً سُنّة محمد. ونحْرُ الإبلِ: هو أنْ يَضرِبَها بحَربةٍ أو سكين في الوَهْدةِ التي بيْن أصلِ عُنُقِها وصَدْرِها. وقيل: إنَّ الحِكمةَ في تَخْصيصِ الإبِلِ بالنَّحْرِ قائمةً، هو طُولُ العُنُقِ؛ إذْ لو ذُبِحَت قريبًا مِن الرَّأسِ، لكان مَجرَى الدَّمِ مِنَ القَلبِ إلى محَلِّ الذَّبحِ بعيدًا، فلا يُساعِدُ على إخراجِ جَميعِ الدَّمِ بيُسرٍ، بخلافِ النَّحْرِ في آخِرِ العُنقِ، فإنَّه يُقَرِّبُ المسافةَ ويُساعِدُ القَلبَ على دَفْعِ الدَّمِ كُلِّه، أمَّا البقرُ والغَنَمُ فالذَّبحُ مُناسِبُ لهما.
فوائد الحديث
  • استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة وعن الحنفية يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة.
  • تَعليمُ الجاهِلِ، وعدَمُ السُّكوتِ على مُخالَفةِ السُّنَّةِ وإنْ كان مُباحًا.
  • وفيه: أنَّ قولَ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّةِ كذا، يأخُذُ حُكمَ الرَّفْعِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند الشيخين كذلك، لاحْتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما.
باب: الصّدقة بلُحُوم الهَدْي وجِلالها وجُلُودها
عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وجُلُودِهَا وأَجِلَّتِهَا، وأَنْ لَا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا. قَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا». رواه مسلم في الحج (2/954) وبوب عليه النووي، بمثل ما بوّب المنذري.
في هذا الحَديثِ يروي علِيُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَه وهو في الحجِّ، لِيَتولِّي أمْرَ البُدْنِ الَّتي جَعَلَها هَدْياً، في ذَبْحِها وتَفرِقتها على الفُقراءِ. وفي رِوايةٍ للبُخاريِّ: «أهْدى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِئةَ بَدَنةٍ». وفي صَحيحِ مُسلمٍ: مِن حَديثِ جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نحَرَ ثَلاثًا وسِتِّينَ بيَدِه، ثمَّ أعْطى علِيًّا، فنَحَرَ ما غَبَرَ-أي: ما بَقِيَ-، وأشْرَكَه في هَدْيِه إلى المنحَرِ». والبُدْنُ: جمْعُ بَدَنةٍ، وهي بَهيمةُ الأنعامِ التي تُهْدى إلى البيتِ الحرامِ للتَّقرُّبِ بها إلى اللهِ -تعالى-، وتكونُ مِن الإبلِ خاصَّةً، وقيل: البُدْنُ تُطلَقُ على الإبلِ والبقَرِ. وأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقسِمَ لُحومَها في المساكِينِ فقَسَمَها، ثمَّ أمَرَه أنْ يَقسِمَ جِلالَها وجُلودَها فقَسَمَهما، والجِلالُ: ما تَلبَسُه الدَّابَّةُ مِن كِساءٍ وقِلادةٍ ونحْوِها، وذلك لئلَّا يَعودَ إليه منها شَيءٌ؛ لأنَّه أخْرَجَها للهِ.
التجليل سُنّة
قال القاضي: التجليل سُنّة، وهو عند العلماء مُختصٌّ بالإبل، وهو ممّا اشْتُهر من عمل السلف، قال: وممّن رآه مالك والشافعي وأبوثور وإسحاق. قالوا: ويكون بعد الإشعار لئلا يتلطخ بالدم، قالوا: ويُستحبّ أنْ تكون قيمتها ونفاستها بحسَب حال المُهدي، وكان بعض السلف يُجلّل بالوشي، وبعضهم بالحبرة، وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر، قال مالك: وتشق على الأسنمة إنْ كانت قليلة الثمن، لئلا تسقط، قال مالك: وما علمت مَنْ تَرَك ذلك إلا ابن عمر، اسْتبقاء للثياب، لأنّه كان يُجلّل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر. قال القاضي: وفي شقّ الجِلال على الأسنمة فائدة أخرى، وهي إظْهار الإشْعار لئلا يَسْتتر تحتها. انتهى. وكذلِك أمَرَه ألَّا يُعْطي الجَزَّارَ شَيئاً منْها أجرةً على عَمَلِه فيها، فإعطاءُ الجَزَّارِ شَيئاً منها عِوَضًا مِن فِعلِه وذَبْحِه بَيعٌ، ولا يَجوزُ بَيعُ شَيءٍ مِن لَحْمِها، وأمَّا إعطاؤه صَدَقةً، أو هَديةً، أو زِيادةً على حقِّه، فلا حَرَجَ فيه. قال النووي: ومذهبنا أنّه لا يجوزُ بَيعُ جلدِ الهَدْي ولا الأضْحية، ولا شيء مِنْ أجزائهما، لأنّها لا ينتفع بها في البيت ولا بغيره، سواءً كانا تطوعاً أو واجبتين، لكن إنْ كانا تطوعاً، فله الانتفاع بالجلد وغيره باللبس وغيره، ولا يجُوز إعْطاء الجزار منْها شيئاً بسببِ جزارته، هذا مذهبنا، وبه قال عطاء والنخعي ومالك وأحمد وإسحاق...
فوائد الحديث
  • جواز التَّوكيل في القِيامِ على الهَديِ والأضَاحي، مِنْ شرائه، وذَبْحِه، وقِسْمة لَحمِه، وغيرِ ذلك.
  • وفيه: جواز الاسْتِئجار على النّحر ونحوه.
  • وأنّه يتَصَدّق منْ لُحُومها وجلودها وجلالها.
  • وفيه: عدَمُ جواز بَيعِ ما أُخرِجَ للهِ -تعالى-، ولو جُزء منه.
  • فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه ألا يُعْطى الجَزّار منْها؛ لأنّ عطيّته كانت عِوضَاً عن عَمله، فيكون في معنى بيع جزءٍ منْها، وذلك لا يجوز.
  • وأنّها تجلّل، واسْتَحبوا أنْ يكونَ جَلالاً حَسَناً.
  • وفي الحديث: الصدقة بالجلال.
محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان
إن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أوثق عرى الإيمان، ومن أعظم درجات الدين، وهي دالة على صدق إيمان الإنسان، ولما كانت هذه المحبة أهم الحقوق الواجبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، جعلها الله فوق محبة الإنسان لنفسه، وأهله، وماله، والناس أجمعين كما قال الله -تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24) فهذه الآية دليل واضح على وجوب تقديم حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقه على كل حب وحق، وليت شعري أين نحن من هذه الآيـة؟! قال القاضي عياض: «كفى بهذه الآيـة حضا وتنبيهاً، ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قرع -تعالى- من كان ماله، وأهله، وولده، أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله -تعالى-: فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله». إن هذه الآية لم تجعل الواجب على الناس حب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط! بل ذهبت إلى ما هو أعلى من ذلك ألا وهو أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من الأموال، والأولاد، والإخوان، والأزواج! ويتطلب ذلك أن يقتدي الإنسان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في شؤون حياته، وهو متابعته، وعدم مخالفـة سنته كما قال -تعالى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31)، ومما يدل على أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان قوله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم اليوم, 10:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,200
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم



شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: طَوافُ الإفاضة يومَ النّحر


  • أجْمع العلماء على أنّ طواف الإفاضة ركنٌ مِنْ أرْكان الحج لا يصحّ الحج إلا به واتفقوا على أنّه يُستحب فعله يوم النّحر بعد الرّمي والنحر والحلق
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/950) باب: اسْتِحباب طواف الإفاضة يوم النّحر. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجليلُ عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - وهو في حَجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشِرةِ- «أَفاضَ يومَ النَّحرِ» أي: طافَ بالبيتِ الحرامِ طَوافَ الإفاضةِ، وهُوَ الطَّوافُ بالبيتِ الَّذِي يَعقُبُ الوُقوفَ بعَرَفةَ ورَمْيَ الجَمْرةِ الكُبرَى، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الحاجَّ يأتِي بَعدَ إفاضتِه مِن مِنًى إلى مَكَّةَ، ويومُ النَّحرِ هو العاشرُ مِن ذي الحِجَّةِ، وهو الموافقُ عيدَ الأضْحى، وسُمِّيَ بذلك؛ لِما يَجْري فيه مِن نَحْرِ الهَدْيِ والأضاحيِّ.
رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى منى
ويُخبِرُ ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رجَعَ بعدَ ذلك، فصلَّى الظُّهرَ بِمِنًى، وهي موضِعُ أداءِ شعائرِ الحجِّ ومَبيتُ الحجَّاجِ في يومِ التَّرويةِ، ويومِ النَّحرِ، وأيَّامِ التَّشريقِ، حيث إنَّ فيها موقِعَ رَميِ الجَمَراتِ، والَّتي تتمُّ بينَ شُروقِ وغُروبِ الشَّمسِ في تلك الأيَّامِ منَ الحجِّ، ويُذبَحُ فيها الهَديُ. وقيلَ: صَلاتُه - صلى الله عليه وسلم - الظُّهرَ كانتْ بمكَّةَ، كما في صَحيحِ مُسلمٍ: عن جابرٍ - رضي الله عنه -: «ثُمَّ ركِبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأفاضَ إلى البيتِ، فصلَّى بمكَّةَ الظُّهرَ». وقيلَ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - طافَ طوافَ الإفاضةِ، ثُمَّ دخَلَ وقتُ الظُّهرِ، فصلَّى الظُّهرَ بمكَّةَ في أوَّلِ وَقتِها، ثُمَّ رجَعَ إلى مِنًى، فوجَدَ النَّاسَ يَنتَظرونَه للصَّلاةِ معَه، فصلَّى بهم مرَّةً أُخرى، فبهذا تجتمِعُ الأحاديثُ دونَ حاجةٍ إلى تَرْجيحِ بعضِها على بعضٍ. وأخبَرَ نافعٌ- وهوَ مَوْلى ابنِ عُمرَ، والرَّاوي عنه هذا الحَديثَ- أنَّ ابنَ عُمرَ -رضي الله عنهما- كان يفعَلُ مثلَ ذلك، ويُخبرُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعَلَه؛ وذلك لأنَّ ابنَ عُمرَ -رضي الله عنهما- كان شديد الاتباع للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جَميعِ أعْمالِه، وفي السَّفَرِ والحضَرِ.
فوائد الحديث
  • إثباتُ طواف الإفاضة، وأنّه يُستحب فِعله يوم النّحر، وأول النهار.
  • وقد أجْمع العلماء على أنّ هذا الطواف وهو (طواف الإفاضة) ركنٌ مِنْ أرْكان الحج، لا يصحّ الحج إلا به، واتفقوا على أنّه يُستحب فعله يوم النّحر بعد الرّمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالإجماع، فإن أخره إلى ما بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عندنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال مالك وأبو حنيفة: إذا تطاول لزمه معه دم.
باب: من طاف بالبيت فقد حَلّ
عن ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ وَلَا غَيْرُ حَاجٍّ إِلَّا حَلَّ قُلْتُ لِعَطَاءٍ مِنْ أَيْنَ يَقُولُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 33). قَالَ قُلْتُ: فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ المُعَرَّفِ. فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ بَعْدَ المُعَرَّفِ وقَبْلَهُ، وكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. الأثر رواه مسلم في الحج (2/913) باب: تقليد الهَدى وإشْعاره عند الإحرام.
مَسألةِ وَقتِ التَّحلُّلِ مِن الإحْرامِ للحاجِّ
في هذا الأثر بَيانُ اجتَهَادِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- في مَسألةِ وَقتِ التَّحلُّلِ مِن الإحْرامِ للحاجِّ، فقد كان يُفْتي بأنَّ مَنْ لم يَسُقِ الهَديَ، وأهَلَّ بالحَجِّ؛ فإنَّه إذا طافَ طَوافَ القُدومِ؛ فله أنْ يَتحلَّلَ قبْلَ الوُقوفِ بعَرَفةَ، وقبْلَ إتْمامِ مَناسِكِ حَجِّه، ويَجعَلَها عُمْرةً، كما في رِوايةِ مُسلِمٍ. فقال ابنُ جُرَيجٍ لعَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ: مِن أينَ قال هذا ابنُ عَبَّاسٍ؟ أي: مِن أينَ استَدَلَّ على هذا الحُكمِ؟ فقال عَطاءٌ: مِن قَولِ اللهِ تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 33)، ومِن أَمْرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه الذين لم يَسُوقوا الهَدْيَ أنْ يَحِلُّوا في حَجَّةِ الوَداعِ، ويَجْعَلوها عُمْرةً، فقال ابنُ جُرَيجٍ: إنَّما كان ذلك بعْدَ المُعَرَّفِ، والمُعرَّفُ: هو الوُقوفُ بعَرَفةَ، قال عَطاءٌ: كان ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَرى ذلك قبْلَ الوُقوفِ بعَرَفةَ وبعْدَه.
مخالفة مذهب العلماء
واجتِهادُ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- مُخالِفٌ لمَذهَبِ العُلَماءِ كافَّةً؛ فإنَّ الحاجَّ لا يَتحلَّلُ بمُجَرَّدِ طَوافِ القُدومِ؛ بلْ لا يَتحلَّلُ حتَّى يَقِفَ بعَرَفاتٍ، ويَرْميَ، ويَحلِقَ، ويَطوفَ طَوافَ الزِّيارةِ، فحينَئذٍ يَحصُلُ التَّحَلُّلانِ، ويَحصُلُ الأوَّلُ باثنَيْنِ مِن هذه الثَّلاثةِ الَّتي هي: رَميُ جَمْرةِ العَقَبةِ، والحَلْقُ، والطَّوافُ. وأمَّا احْتِجاجُ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- بالآيةِ، فلا دَلالةَ له فيها؛ لأنَّ قَولَه -تعالى-: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 33)، مَعْناه: لا تُنحَرُ إلَّا في الحَرَمِ، وليس فيه تعَرُّضٌ للتَّحلُّلِ مِن الإحْرامِ. وأمَّا احْتِجاجُه بأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهم في حَجَّةِ الوَداعِ بأنْ يَحِلُّوا، فلا دَلالةَ فيه؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهم بفَسْخِ الحَجِّ إلى العُمْرةِ تَمتُّعاً في تلك السَّنةِ، فلا يكونُ دَليلًا لتَحلُّلِ مَن هو مُتَلبِّسٌ بإحْرامِ الحجِّ.
الفوائد الواردة في الأثر
  • أنّه إذا اجتَهَدَ المُجتَهِدُ فأصابَ فله أجْرانِ، وإنِ اجتَهَدَ فأخْطأَ فله أجْرٌ واحِدٌ.
  • وعبداللهِ بنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- كان مِن أئمَّةِ الصَّحابةِ المُجتَهِدينَ، دَعا له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالفِقْهِ في الدِّينِ، والعلُّمِ بالتَّأويلِ، فصَار مِن أَوْعيةِ العِلمِ والفَهمِ - رضي الله عنه -.
الحجُّ وزيادةُ الإيمان
إنَّ في الحجِّ مجالاً واسعاً لإصلاح النفوس وتهذيب القلوب وزيادة الإيمان، وكم في الحجِّ من الدروس الرائعة والعبر المؤثّرة في إقبال القلوب على الله، وشدّة رغبها ورهبها ورجائها وخوفها، وكثرة رجوعها وإنابتها، فكم من دمعة صادقة في الحجِّ أُريقت! وكم من توبة نصوح قُبلت! وكم من عثرة أُقيلت! وكم من خطيئةٍ حُطَّتْ! وكم من دعاء خاشع أجيب! وكم من رقبة من النار أُعتقت! وعندما نتأمَّل نصوصَ القرآن والسنَّة المتعلِّقة بالحجِّ نجدُ فيها من الضوابط العظيمة والتوجيهات الحكيمة التي تحقِّق للعبد صلاحاً وزكاءً في حجِّه، بل في حياته كلِّها، كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، فكم في هذه النواهي {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} من دعوة وتوجيه إلى كبح جماح النفس والحدِّ من ميلها إلى رغباتها وشهواتها! وكم في قوله -سبحانه-: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} من دعوة إلى المسارعة في فعل الخيرات والمسابقة لأداء الطاعات! وكم في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} من دعوة لأخذ الأُهبة والاستعداد بالتَّزوُّد ليوم المعاد! كشأن المسافر الذي يأخذ زاده معه في سفره، قال ابن القيم -رحمه الله-: «الناسُ منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلاَّ في الجنَّة أو النار، والعاقل يعلم أنَّ السفرَ مبنيٌّ على المشقَّة وركوب الأخطار، ومن المحال عادةً أن يطلب فيه نعيماً ولذَّةً وراحةً، إنّما ذلك بعد انتهاء السفر».


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 0 والزوار 15)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 140.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 136.18 كيلو بايت... تم توفير 4.47 كيلو بايت...بمعدل (3.18%)]