المسيح ابن مريم عليه السلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1059 - عددالزوار : 125803 )           »          طريقة عمل ساندوتش دجاج سبايسى.. ينفع للأطفال وللشغل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وصفات طبيعية للتخلص من حب الشباب بخطوات بسيطة.. من العسل لخل التفاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          طريقة عمل لفائف الكوسة بالجبنة فى الفرن.. وجبة خفيفة وصحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          وصفات طبيعية لتقشير البشرة.. تخلصى من الجلد الميت بسهولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          هل تظل بشرتك جافة حتى بعد الترطيب؟.. اعرفى السبب وطرق العلاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          استعد لدخول الحضانة.. 6 نصائح يجب تنفيذها قبل إلحاق طفلك بروضة الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          سنة أولى جواز.. 5 نصائح للتفاهم وتجنب المشاكل والخلافات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          طريقة عمل العاشوراء بخطوات بسيطة.. زى المحلات بالظبط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          طريقة عمل لفائف البطاطس المحشوة بالدجاج والجبنة.. أكلة سهلة وسريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-07-2025, 12:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

نتحدَّثُ إليكم عن عبدِ اللهِ ونبيِّه ورسوله، وأحد أولي العزم من المرسلين، المسيح عيسى ابن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، العبد المنعم عليه، المجعول مثلًا لبني إسرائيل، المخلوق من غير أب، الآية ابن الآية عليه الصلاة والسلام، ولما كانت اليهود والنصارى قد ضَلُّوا في المسيح ضلالًا كبيرًا، فادَّعت اليهود أنه ولد زنا، وأن أمَّه زانية، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، كما أن النصارى أفرطوا فيه فجعلوه ابنًا لله، واتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله، وجاؤوا بقولٍ ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 90 - 93]؛ لذلك بسط الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم قصَّةَ ولادة أمه مريم العذراء البتول، الطيبة الطاهرة، سيدة نساء العالمين، فذكر ما كان من أمها عندما حملت بها، وأنها نذرت لله ما في بطنها محرَّرًا، أي: خالصًا مفرغًا للعبادة وخدمة بيت المقدس، وقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فلما ولدت، ورأت أن مولودَها أنثى توجَّعتْ لفواتِ مقصودها؛ حيث إن الأنثى لم تجرِ العادة عندهم أن تتفرَّغ لخدمة بيت المقدس، فأظهرت ضراعتها لله، وقالت: رب إني وضعتها أنثى، والأنثى ليست كالذكر في خدمة بيت المقدس، مع يقينها أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم ما وضعت، وقد سمَّتْها مريم، وطلبت من الله أن يعصمها ويحرسها ويحفظها ويصونها هي وذريتها من الشيطان الرجيم، وقد تقبل الله تبارك وتعالى من أم مريم بقبول حسن كريم وأنبت مريم نباتًا حسنًا كريمًا.

وقد كان عمرانُ والد مريم الذي سمِّيتْ سورة من القرآن العظيم باسم آله، وهي سورة آل عمران، وليس له من آلٍ سوى مريم وابنها المسيح عليه السلام - قد كان عمران هذا موصوفًا بالتقوى في بني إسرائيل، ومحبوبًا لدى كبرائهم، كما كانت زوجته أم مريم كذلك، وقد أشاد الله تعالى بذكرهم في الصالحين حيث قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]، ونظرًا لموت عمران هذا وحاجة مريم إلى من يقوم بكفالتها بعد أبيها، وقد ألقى الله محبَّتها في قلب كلِّ من رآها، فرغب كلُّ واحد من كبراء بني إسرائيل في القيام بكفالتها، وتنازعوا في ذلك حتى اقترعوا أيُّهم يكفل مريم، وكفلها الله تبارك وتعالى نبي بني إسرائيل وقتئذٍ وهو زكريا عليه السلام، وكان زوجًا لأختها أو خالتها؛ فخرج السهم في الاقتراع له، فأمسكها في قصره، وجعلها تحت عنايته ورعايته، وقد لاحظ زكريا عليه السلام أنه كلما دخل عليها القصر وجد عندها ألوانًا من الرزق لم يجلبها لها، ولا علم له بمصدرها، فاستغرب ذلك وخاطبها قائلًا: ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؟ أي: من أين جاءك هذا الرزق؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما اكتملت أنوثة مريم في طهارة وعفاف، وعبادة واستقامة، خاطبتها الملائكة لتثبيتها على أعلى درجات السلوك، وقالت لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ [آل عمران: 42، 43]؛ أي: أديمي الخشوعَ له، واثبتي على طاعته، واسجدي واركعي له لتندرجي في سلك عبادِه الصالحين القانتين الراكعين الساجدين.

وقد ذكرتُ في الفصل الرابع والأربعين من هذا الكتاب أنه لا يلزم من مجيء الملك لعبدٍ من عباد الله الصالحين أن يكون نبيًّا أو رسولًا، عند الكلام على معنى الوحي في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، وضربْتُ لذلك مثلًا بما ورد في الحديث المتفق عليه عند الشيخين البخاري ومسلم في قصة الأعمى والأقرع والأبرص ومجيء الملك إلى كلِّ واحدٍ منهم، كما سُقت الحديثَ الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي زار أخًا له في الله، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا... إلخ الحديث.

وبيَّنْتُ أن من هذا النوع مخاطبة الملائكة لمريم أم المسيح عليه السلام، وفي قصة ميلاد مريم ونشأتها يقول الله تبارك وتعالى:
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 35 - 37].

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 42 - 44].

وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها))، ثم يقول أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]"، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا نَخَسَه الشيطان فيستهلُّ صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾"، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ بني آدم يمسُّه الشيطان يومَ ولدته أمه إلا مريم وابنها)).

وقد وَصَفَ الله تبارك وتعالى مريمَ بنت عمران بأنها صِدِّيقَة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]، وفي قوله تعالى: ﴿ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ إشارة إلى بشريتهما وأنهما ليسا إلهين؛ فالذي يأكل الطعام من شأنه أن يبول ويتغوط، ومن كانت هذه حاله لا يليق بعاقل أن يجعله إلهًا، وقد جمع الله تبارك وتعالى في هذه الجملة الكريمة أشرف ما لعيسى وأمه من نعوتِ الكمال البشري؛ إذ أثبت لعيسى الرسالة ولأمِّه الصِّدِّيقيَّة، ثم ذكر الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفراد البشر من أنهما يأكلان الطعام.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-07-2025, 12:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

أكَّد الله تبارك وتعالى اصطفاءَ مريمَ حيث قال: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42] ومعنى قوله: ﴿ اصْطَفَاكِ ﴾؛ أي: اختاركِ واجتباك وفضلك، وهذا يحتمل أن تكون أفضل نساء زمانها، كقوله تعالى في بني إسرائيل: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47]، وكما قال عز وجل في بني إسرائيل: ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الدخان: 32]، ويُحتمل أن تكون أفضل نساء العالمين قاطبة، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد))، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلُ عائشةَ على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائر الطعام، كمل من الرجال كثيرٌ ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون)).

كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نساء قريش خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبلَ، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده))، يقول أبو هريرة على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قطُّ، وهذا يشعر أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة وبين ما يقتضي تفضيلَ مريم على عموم نساء العالمين؛ فحديث أبي هريرة يفيد تفضيل نساء قريش على من ركب الإبل من النساء، ومريم لم تركب الإبل قطُّ، فلا تكون نساء قريش أفضل منها، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشعر بتفضيل مريم على خديجة رضي الله عنه بقرينة تقديم مريم عليها في الذكر، وإن كانت الواو العاطفة لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا كما هو مقرر في أصول الفقه، وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يَحْصُر كاملات النساء في مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، ويشعر بتقديم مريم على آسية رضي الله عنها، والعلم عند الله عز وجل.

وكما بَسَطَ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم قصة ولادة مريم وتنشئتها كما ذكرت في الفصل السابق فقد بسط الله تبارك وتعالى قصة حمل مريم بالمسيح عليه السلام في غير موضع من كتابه الكريم؛ فذَكَرَ بشارة الملائكة لمريم بالمسيح عليه السلام، وأنه كلمة من الله؛ أي: تَحْبَلُ به من غير أب، بل بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون؛ ليكون آية على أن الله لا يعجزه شيء، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، وقد يقترن أمر الله الكوني بسبب من الأسباب كحمل جميع النساء المعتاد، وقد لا يقترن بالسبب كخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وكخلق حواء من ضلع آدم بلا أم؛ ولذلك قال في عيسى عليه السلام: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].

وذكرت الملائكة لمريم في بشارتها بالولد أن اسمَه المسيح عيسى ابن مريم، فيُنسب إلى أمه؛ لأنه لا أب له، وأنه روح من الله، أي: من الأرواح التي ابتدأ الله تعالى خلقها كما يشاء، وأنه يكون وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين، ويكلم الناس في المهد وكهلًا ومن الصالحين، أي: يكون المسيح عليه السلام له مكانة ووجاهة عند الله، وعند الناس في الدنيا والآخرة، ويكون من الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته وحده لا شريك له، وقربه وأعلى منزلته، ويتكلم وهو في المهد؛ أي: في فراش ولادته، فيقرُّ بطهارة أمه وعفافها وأنه عبدُ اللهِ، وأن الله قدر إيتاءه الإنجيل، وقدر نبوَّته وجعله مباركًا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام في دار التكليف، وأنه يكون بارًّا بوالدته ولن يكون جبارًا شقيًّا، وأن السلام عليه يوم ولادته ويوم موته ويوم يبعث حيًّا، كما أنه يدعو بني إسرائيل إلى وجوبِ إخلاص العبادة لله وحده في وقت كهولته، وريعان شبابه، واكتمال قوته.

كما وصف الله تبارك وتعالى مجيء جبريل إلى مريم بالبشارة بهذا الولد، وأنها كانت وقتها قد انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا؛ أي: انفردت وحدَها شرقي المسجد الأقصى أو شرقي منزل أهلها لقضاء حاجة من حوائجها الخاصة بها التي لا تحب أن يراها عليها أحد من خلق الله، فجاءها الروح الأمين جبريل عليه السلام في صورة رجل صبيح جميل مكتمل، فلما رأته مقبلًا عليها وهي على هذه الحالة قالت له: إني أعوذ بالله وأستجير به وألتجئ إليه من أن ينالَني منك أذى، إذا كان عندك خوف من الله فاطر السماوات والأرض المنعم المتفضل على عباده فلا تقترب مني، ولا يحفظني ويعصمني منك إلا أرحم الراحمين، فأخبرها جبريل أنه رسول ربِّكِ وسيِّدِكِ ومالكِكِ مصلح ما في السماوات وما في الأرض فلا تخافي مني، ولست بشرًا، وإنما أنا ملَك بعثني الله إليك لأنفخ فيك لتلِدِي غلامًا زكيًّا، قالت: كيف يكون لي غلامٌ أو يوجد لي ولد وأنا لست متزوجة ولا منحرفة؟ فأجابها جبريل عليه السلام عن تعجبها من وجود ولد منها وهي على هذه الحالة فقال لها: كذلك قال ربك؛ أي: قدر أنه سيكون منك غلام، ولست بذات بعلٍ ولا منحرفة، وأن هذا هَيِّنٌ على الله وسهل عليه ويسير لديه؛ فهو على كل شيء قدير، وليكون ولدك آية للناس ودليلًا جليًّا وبرهانًا قاطعًا على كمال قدرة الله على كلِّ شيء، وأنه آية من آيات الله على إقامة الخلائق وبعثهم يوم القيامة، وهو علم للساعة، كما أنه رحمة من الله يرحم بها العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره وطفوليَّته وكهوليَّته، ويدلهم على مراسيم سعادتهم في الدنيا والآخرة والعاجلة والآجلة، حتى ينزِّهوه عن اتخاذِ الصاحبة والولد والشريك والندِّ والضدِّ والنظير، وكان أمرُ الله مقضيًّا، وحتمًا كائنًا لا محالة.

فنفخ جبريل نفخةً دخلت في فرجها، فحملت بالمسيح عليه السلام، غير أنَّها لما حملت بدأت تضيق ذرعًا؛ لعلمها أن الناس سيتَّهمونها بالانحراف، ويقعون في عِرضها، ولا يصدقونها فيما تخبرهم به من واقع الحال، ولما جاء وقت ولادتها أجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة؛ أي: ألجأها واضطرها الطَّلْق ووجع الولادة إلى أن تجيء إلى جذع النخلة؛ لتستترَ به ولتحتضنه لتقوى على الوضع، وقالت وهي في كربها: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، وليس هذا جزعًا من قضاء الله، ولكنها كربة النفاس مع كربة ما تعرفه من سفاهة المكذبين بآيات الله، وماذا سيقولون عنها، والوقوع في الأعراض الكريمة أشدُّ عليها من الموت، وقد قرئ: (نِسْيًا منسيًّا)، وقرئ نَسْيًا منسيًّا، وهما بمعنى واحد كالوِتر والوَتر، والنِّسْيُ المنسي هو ما يُرمى به من خرق الحيض وقطع الحبل ونحوهما مما يُترك ولا يلتفت إليه لحقارته، وعندما وضعت مريم المسيح عليه السلام ناداها مِن تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتكِ سريًّا.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16-07-2025, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد






ذكرتُ في ختامِ الفصل السابق أن مريم عندما وضعت المسيح عليه السلام ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًّا، وقد قرئ في السبعة بفتح الميم (مَنْ) وكسرها، أي قرئ: (فناداها مَن تَحتَهَا)، وقرئ: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 24 - 26]، والذي نادى مريم هو جبريلُ عليه السلام، وكان في مكانٍ أسفل منها، وقيل: هو عيسى عليه السلام، والأول أظهر، والسَّرِي هو النهر، قال في المصباح: السري: الجدول؛ وهو النهر الصغير، وقال في الصحاح في السَّري: نهر صغير كالجدول، وقال في القاموس المحيط: وكغني، نهر صغير يجري إلى النخل، قيل: وسمي النهر سريًّا؛ لأن الماء يسري فيه، وقيل: المراد بالسري هنا هو السيد الشريف، والمراد به عيسى عليه السلام، قال ابن كثير رحمه الله: والصحيح الأول؛ لقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، فذكر الطعام والشراب؛ ولهذا قال: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾؛ اهـ.

وفي قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان الصالح أن يأخذ بالأسباب مع توكُّلِه على الله ولا يتواكل، وقد أُمِرت مريم بهزِّ جذع النخلة مع ما هي فيه من حالة النفاس والولادة؛ لما يجلبه لها ذلك من نسيان أحزانها وآلامها التي تتوقعها من ملاقاة قومها؛ علمًا بأن الله كان يسوق لها الرزق في أوَّلِ حياتها من غير سبب، كما أن قدرتها على هزِّ الجذع محدودة، فعليها أن تهزَّ الجذع وعلى الله إسقاط الرطب.

ومعنى قوله: ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: طيبي نفسًا، فلا تجعلي للحزن إلى نفسك سبيلًا، وأمرها كذلك أنها إذا رأت بشرًا تمتنع عن الكلام وتفهمه بالإشارة أو نحوها أنها نذرت للرحمن صومًا؛ أي: إمساكًا عن الكلام، فلن تكلم اليوم إنسيًّا، فاطمأنَّ خاطرُها، وأكلت مِن الرطب الجني، وشربت من السري، وقرَّت عينها بمولودها، فجاءت به إلى قومها وهي تحمله، فلما رأوها تحمله وعليها آثار وضعه قالوا: يا مريم، لقد ارتكبت أمرًا منكرًا فظيعًا، وفعلتِ فاحشة بشعة، كيف ترتكبين جريمة الزنا يا أخت هارون، وأنت ابنة عمران الصالح، وأمك كانت من الصالحات؟! وقولهم لها: يا أخت هارون، يحتمل أنه كان رجلًا صالحًا في زمانها من أهلها، وكانت تُشبَّه به في الصلاح والعبادة قبل مجيئها بعيسى، أو أنه كان رجلًا فاسدًا معروفًا لديهم بالانحراف فشبهوها به، والظاهر الأول؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون؟ يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فَرُحْتُ فَذَكَرْتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟))، وهذه الشبهة الداحضة التي أثارها بعضُ نصارى نجران ونسب إلى محمد بن كعب القرظي الإسرائيلي أنه زعم أنَّ مريم أم المسيح هي أخت موسى وهارون عليه السلام، وهذا مِن أفحش الخطأ الذي نسب إلى محمد بن كعب القرظي، ولا يزال يشبه بها بعض أعداء الإسلام على بعض الأغرار في بعض البلدان المحاربة للإسلام إلى اليوم.

ولما أشارت مريم إلى طفلها المسيحِ عليه السلام ازدادوا استغرابًا واستنكارًا، وقالوا لمريم: كيف نكلِّمُ مَن كان في المهدِ صبيًّا؟ فنطق عيسى عليه السلام وتكلَّم بما يقطع ألسنة أعداء الله وأعداء المرسلين، وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: 30]؛ أي: قضى وحكم بأن ينزل عليَّ الإنجيل ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33].

فَأَقَرَّ بالعبوديَّة لله وحدَه ونزَّه جنابَ الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته البتول الطيبة الطاهرة، وبرَّأ أمه مما نسبها إليه الحاقدون والجاهلون وقذفوها به؛ إذ كان نطقُه وجوابُه تبرئة لها من كلِّ بهتان.

وفي قصة حمل مريم بالمسيح عليه السلام وولادته يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [آل عمران: 45 - 49].

وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 16 - 33].

ويقول تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].

ويقول تعالى في سورة التحريم: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16-07-2025, 08:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





أشارَ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى أن الملائكةَ عندما بشَّرت مريم بولدٍ ذَكَرتْ لها أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وبهذا الاسم يتميز مسيح الهدى عن مسيح الضَّلالة الدجال، ولفظ المسيح قيل: هو عبراني ومعناه: المبارك، وقيل: إنما سُمي مَسيحًا؛ لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ بإذن الله، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين؛ أي: لا أخمص لهما، وقيل: لأن الله مسحه، أي: خلقه خلقًا مباركًا حسنًا، وقيل: هو مأخوذ من السياحة وهي الذهاب في الأرض والتنقل فيها للدعوة، قال في القاموس المحيط في مادة ساح: والسياحة بالكسر والسُّيُوح والسيحان والسيحُ: الذهاب في الأرض للعبادة، ومنه المسيح ابن مريم، وقد ذكرت في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي لصحيح البخاري وغيره؛ اهـ.

وقال في مادة مسح: والمسيح عيسى صلى الله عليه وسلم لبركته، وذكرت في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي لمشارق الأنوار وغيره؛ اهـ.

وقال ابن منظور في لسان العرب: قال ابن سِيده: والمسيح عيسى ابن مريم صلى الله على نبيِّنا وعليهما، قيل: سُمِّي بذلك لصدقِه، وقيل: سُمي به؛ لأنه كان سائحًا في الأرض لا يستقر؛ اهـ.

وقيل: سمي المسيح مسيحًا؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، كما سمي الدجال مسيحًا؛ لأنه كان ممسوح العين.

وسيقتل مسيحُ الهدى عيسى ابن مريم مسيحَ الضَّلالةِ الدَّجَّالَ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ينزل في آخر الزمان، أما عيسى عليه السلام فقيل: هو اسم غير مشتق، وهو اسم عبراني أو سرياني، وقد حرَّفه المحرفون وقلبوه وقالوا: يسوع، وقيل: هو مشتق من العيس؛ وهو بياض تعلوه حمرة، وتسمى الإبل البيض التي يخالط بياضها شقرة عيسًا.

وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنه هيَّأ لعيسى عليه السلام وأمه ربوة ذات قرار ومَعين، فنزلاها وسكنا فيها، والربوة المكان المرتفع، ومعنى كونها ذات قرار، أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمَعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون، ولم يرد في خبر صحيح تحديدُ مكان هذه الربوة، وبعض الناس يقول: إنَّها بيت المقدس، وبعضهم يقول: إنها غوطة دمشق وما حولها، وبعضهم يقول: إنها فلسطين، وبعضهم يقول: إنها أرض الفيوم في مصر، والعلم في ذلك عند الله عز وجل، والمقصود أن الله تبارك وتعالى يسَّر لهما الإقامة الآمنة والمَنْزِل الصالح، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50].

وقد أشارَ الله تبارك وتعالى إلى أن عيسى عليه السلام تعلَّم الكتابة ومنحه الله عز وجل الحكمةَ والفقه في التوراة، وعندما بلغ أشدَّه بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل، فيه هدًى ونورٌ وموعظة للمتقين، وبشارة بسيد المرسلين، وقد أمره الله عز وجل أن يطلب من بني إسرائيل أن يحكموا بالإنجيل، وقد أيَّد الله تبارك وتعالى عيسى بالمعجزات الحسيَّة الباهرة، والآيات الظاهرة القاهرة، الشاهدة بأنه رسول مِن رب العالمين، فجاء عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأخبرهم أنه رسول الله وأنه عبده، وقد آتاه الإنجيل، وأنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه، وأعلمهم أنه قد جاءهم بآياتٍ من ربهم تتمثَّل في خمس آيات حسيَّة، وهي:
أنه يَخلق من الطِّين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله؛ أي: يصوِّرُ من الطين شكلَ طيرٍ، ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله، وهم ينظرون إليه ويشاهدونه بأعينهم، وقد أَذِنَ عز وجل لعيسى عليه السلام في تصوير صورة الطير من الطين والنفخ فيه ليطير بإذن الله؛ لتكون هذه المعجزة آية ظاهرة على أنه رسول من رب العالمين.

أما الآية الثانية: فهي أنه يُبرئ الأكمه بإذن الله؛ والأكمه هو من ولد ممسوح العينين لا حدقة لعينه، وإبراؤه ليبصر لا طاقةَ لأحد من الأطباء قديمًا وحديثًا عليه، فهي من أظهر المعجزات الحسيَّة التي لا قدرة للبشر عليها.

والآية الثالثة: هي إبراءُ الأبرص وشفاؤه بإذن الله، والبرص داء معروف؛ وهو بياض يعتري جلد الإنسان يعجز نُطسُ الأطباء عن علاجه قديمًا وحديثًا.

والآية الرابعة: هي إحياء الموتى بإذن الله.

وهذه الآيات الأربع لا قدرةَ لأحدٍ من البشر عليها في قديم الزمان وحديثه، وقد أشرت في الفصل الحادي والخمسين من هذا الكتاب عند الحديث عن معجزات موسى عليه السلام بأنه قد جَرَتِ السُّنة الإلهية في أن يبعث الله كلَّ نبيٍّ بمعجزة تفوق أعلى درجات العلم الذي برع فيه قومه؛ ليكون أظهر للحق، وليعرفوا أنه من عند الله، وأنه لا يقدر على مثله البشر؛ ولذلك أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن وجعله معجزته الكبرى؛ لأن قوم محمد صلى الله عليه وسلم قد برعوا في الفصاحة والبيان والبلاغة حتى أقاموا للخطباء والشعراء منابر في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز، وكما أرسل عيسى عليه السلام بإبراءِ الأَكْمَهِ والأَبْرَصِ وإحياء الموتى بإذن الله؛ لأن قومه قد بلغوا في الطبِّ شأوًا لم يسبقوا إليه.

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 48 - 51]، قال رحمه الله: قال كثير من العلماء: بعث الله كلَّ نبيٍّ من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالبُ على زمان موسى عليه السلام السحرَ وتعظيمَ السحرةِ، فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار وحيَّرت كلَّ سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار.

وأما عيسى عليه السلام فبُعثَ في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيَّدًا من الذي شرع الشريعة، فمِن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث مَن هو في قبره رهين إلى يوم التناد... إلخ.

أما الآية الخامسة من الآيات الحِسيَّة التي أيَّدَ الله تعالى بها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، فهي أنه يخبرهم بما يأكلون وبما يدَّخرون في بيوتهم، أي: يقول لأحدهم: أنت أكلتَ اليوم كذا، وتدَّخِر في بيتك لغدك كذا، مما يقطعون بأنه لا علم لغيرهم به، وقد أخبرهم عيسى عليه السلام بأن هذه آية من الله ينتفع بها مَن يشرح الله صدره للإيمان، وأن عيسى عليه السلام يؤمن بما سبقه من الكتب السماوية، ويصدق ما في التوراة، وأن شرعه يُحلُّ لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم في شريعة موسى عليه السلام، وأنه يشرح لهم الوجهَ الصحيحَ فيما يختلفون فيه من المسائلِ ويبيِّن لهم الحقَّ والصوابَ فيما اختلفوا فيه، وأنه مؤيَّد من الله، ثم جَرَّد لهم ما يدعوهم إليه وهو إخلاص العبادة لله وحده وامتثال ما يشرعه الله لهم على لسانه عليه السلام، وطالبهم بتقوى الله فقال لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 50، 51].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17-07-2025, 07:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (5)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



أشرتُ في الفصل السابق إلى أن الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وآتاه الإنجيلَ، وأيَّده بخمسِ معجزات حسيَّة ظاهرة قاهرة، وأن عيسى عليه السلام طلبَ من بني إسرائيل أن يعبدوا الله وحدَه لا شريك له ويتَّقُوه ويطيعوا عيسى صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنه مصدِّقٌ لما بين يديه من التوراة، وأنه يُحِلُّ لبني إسرائيل بعضَ ما حرِّم عليهم، وأنه يبين وجهَ الصواب فيما يختلفون فيه، وقد أرشدهم إلى أن هذا هو الصراط المستقيم، فمن سلكه فاز في الدنيا والآخرة، ومن كذب به خسر الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة آل عمران عن عيسى عليه السلام، بعدما ذَكَرَ أنه يعلِّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، قال:
﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 49 - 51].

ويقول عز وجل في سورة المائدة: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110].

وفي قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾ صريحٌ في أن الله تعالى أَذِنَ لعيسى عليه السلام في تصوير صورة الطيور من الطين، كما أنَّ نفخه فيها لتحلها الحياة وتطير إنما كان بإذن الله كذلك، تأييدًا لعيسى وتصديقًا له صلى الله عليه وسلم، والله يفعل ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وفي ذلك كله إشارة إلى أن عيسى عبدٌ من عبيدِ الله، يأتمرُ بأمر الله وينتهي بنهيه، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل، وقد أنذر عيسى عليه السلام قومه من الشرك بالله وخوَّفَهم من عقوبته، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].

ويقول تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الزخرف: 63، 64].

كما أشار الله تبارك وتعالى إلى أن عيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل في غير موضع من كتابه الكريم؛ حيث ذكر أنه قفَّى بعيسى عليه السلام على آثار الأنبياء؛ أي: أتبعهم بعيسى عليه السلام، وجعله تابعًا لهم؛ أي: متأخرًا عنهم في الزمان؛ حيث يقول عز وجل في سورة الحديد: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 25 - 27].

وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 46، 47].

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَوْلَى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه ليس بينه وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيٌّ؛ فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا أَوْلَى الناسِ بابن مريمَ، والأنبياءُ أولادُ عَلَّات، ليسَ بيني وبينه نبيٌّ))، كما روى البخاري في صحيحه من طريق عبدالرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))، كما روى مسلم في صحيحه من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة)) قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد؛ فليس بيننا نبي))، وفي لفظ لمسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علَّات، وليس بيني وبين عيسى نبي))، ومعنى قوله في الحديث: ((أولاد علَّات)) أو ((إخوة من علَّات)) هم الإخوة لأب من أمهاتٍ شتَّى، أما الإخوة الأشقاء، أي: من الأبوين، فيقال لهم: أولاد الأعيان أو الإخوة الأعيان، ومعنى أن الأنبياء أولاد علات أو إخوة من علات وأمهاتهم شتى أن دين جميع الأنبياء أصوله واحدة في التوحيد والرسالة والبعث بعد الموت، وسائر الوصايا العشر الواردة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153].

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: ((وأمهاتهم شتى)) إلى أن الله تبارك وتعالى شَرَعَ لكلِّ أمة من أمم الأنبياءِ منهاجًا في الفروع يلائم زمانها ومكانها؛ على حد قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

ولذلك كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة إلا سيد المرسلين وإمام المتقين محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد بعثه الله إلى الناس كافة، بل عمَّ برسالته الإنس والجن، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال في سورة سبأ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقال في أول سورة الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

كما روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُعطيت خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي، وذكر فيهم: وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامة)).

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-07-2025, 07:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (6)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




بعث الله عز وجل عبدَه ونبيَّه ورسولَه عليه السلام بالإنجيل، وقد وصف الله تبارك وتعالى الإنجيل بأنه فيه هدًى ونورٌ، وأنه مصدِّقٌ لما بين يديه من التوراة، وأنه هدى وموعظة للمتقين، والإنجيل كلمة يونانية معناها البشارة، وقد أطلقه الله تبارك وتعالى على كتابه المنزل على عيسى عليه السلام، بيد أن هذا الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام لا وجود له عند النصارى، ولم يذكر أحد من علماء النصارى أو غيرهم أنه رأى نسخة كاملة منه، ويبدو أن عيسى عليه السلام لم يكتبْه وإنما كان يبشِّرُ به في بني إسرائيل، وقد ورد ذكره في الكتب التي أُلِّفت بعد رفع المسيح عليه السلام والتي سمَّاها أصحابها الأناجيل؛ فقد ذكره متَّى في إنجيله في الإصحاح الرابع منه، إذ يقول: "وكان يسوع يطوف كلَّ الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضعيفٍ في الشعب"، فكلمة بشارة الملكوت التي وردت في هذه الفقرة هي الإنجيل؛ إذ إن معنى الإنجيل هو البشارة، كما ذكره مرقص في إنجيله في الإصحاح الأوَّل منه إذ يقول: "وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرزُ ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".

وقد زعم بعضُ الناس أن الإنجيل كان مقتصرًا على البشارة خاليًا من الأحكام؛ مدَّعِيًا أن عيسى عليه السلام كان يقتصر على ما في التوراة من الأحكام؛ وهذا قول فاسد كاسد عاطل باطل، فقد نصَّ الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم بما يقضي أن الإنجيلَ كتاب أحكام، وإن كان يشتمل على البشارة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، بيدَ أنه لقربه من زمان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تجلَّت البشارة فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان كلُّ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى بشَّر أمته بمحمد صلوات الله وسلامه عليه للميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء بتأييد محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

وقد وصف الله تبارك وتعالى مقامًا من مقامات عيسى عليه السلام بما يُفيد أنه قام خطيبًا في بني إسرائيل يخبرهم أنه رسول من الله يبشِّرهم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].

ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم له أسماء، منها: محمد وأحمد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد، وقد سمَّاه الله رؤوفا رحيمًا))، وفي لفظ لمسلم من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يُمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عَقبي، وأنا العاقب؛ والعاقب الذي ليس بعده نبي...))، ولفظ محمد أو أحمد هو معنى المنحمنا أو الفارقليط الوارد في الكتب التي بيد النصارى في بشارة عيسى عليه السلام التي يُخبر فيها بأنه سيُقِيم حتى يأتي المنحمنا وفي بعض التراجم: "حتى يأتي الفارقليط"، والمنحمنا أو الفارقليط هو المحمود الحمد الكثير، وهو معنى أحمد أو محمد وهو إشارة إلى أن شريعة عيسى عليه السلام تستمر حتى تنسخها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا شكَّ في أن علماء أهل الكتاب عمومًا كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم بسبب بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم له لأممهم حتى يؤمنوا به إذا جاء، ومن صفاته عندهم أنه يُبعث بالحنيفيَّة دين إبراهيم عليه السلام، وأنه يخرج بأرض العرب، وأنه يهاجر إلى أرض سبخة ذات نخيل بين لابتين، وأنه يأكل الهديَّة ولا يأكل الصدقة، وأن في كتفه خاتم النبوَّة كزر الحجلة.

وفي التوراة: "سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلَك يا موسى، أنزل عليه توراة وأجعل كلامي على فيه".

ولم يأتِ أحدٌ من الرسل يذكر أن معجزته كلام الله غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعلَ الله معجزته الكبرى وآيته العظمى القرآن العظيم والذكر الحكيم، الباقي محفوظًا بحفظ الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والتوراة معناها الشريعة، كما جاء أيضًا في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: "تجلى الله أو جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى أو استعلن من جبال فاران"، وهو إشارة إلى دين موسى الذي أوحى الله إليه به في طور سيناء، وبشارة بعيسى عليه السلام الذي أنزل الله عليه الوحي في جبال ساعير من أرض الجليل بقرية تدعى الناصرة، ويقال لها أيضًا: نصرانة التي سُمي من ينتمي إلى المسيح عليه السلام بها، فيقال لهم: النصارى، وقوله: "واستعلى أو استعلن من جبال فاران أو من بريَّة فاران"، بشارة واضحة جليَّة بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل تعالى عليه الوحي ببرية أو جبال فاران وهي أرض مكة بلا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب.

وهذه البشارة الواردة في التوراة تطابق ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 - 3]، فالتين والزيتون جبلان بالأرض المقدسة من الشام، بعث الله تعالى عندهما عيسى عليه السلام، وطور سينين: هو الجبل الذي كلَّم الله موسى عنده وآتاه فيه التوراة، والبلد الأمين: هو مكة المكرمة قدسها الله، وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وجدت في التوراة في صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه: "يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأُمِّيِّينَ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكِّلَ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقِيمَ به الملَّة العوجاء، ويفتح عيونًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غُلفًا بأن يقولوا: لا إله إلا الله".

والمراد بالتوراة في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في هذا المقام هو بعض كتب العهد القديم؛ إذ يُطلِق بعض المسلمين اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم التي تشمل التوراة بأسفارها الخمسة، وتشمل كذلك نبوات بعض الأنبياء، كما أن النصارى يطلقون اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم وعلى الأناجيل أيضًا، وإن كان الأصل في كلمة التوراة أنها خاصة بكتاب الله تعالى المنزَّل على موسى عليه السلام الذي ألقاه الله إليه مكتوبًا في الألواح.

وفي تواتر صفات محمد صلى الله عليه وسلم عند علماء أهل الكتاب، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].

ويقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19-07-2025, 07:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (7)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد







عَرَض المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام دعوتَه المُشْرِقة على بني إسرائيل، وأظهرَ لهم من الآيات والمعجزات ما مثله آمن عليه البشر، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة))، وقد لَقِيَ المسيحُ عليه السلام من بني إسرائيل عنتًا وأذًى، بالرغم من علمهم بأن في وصايا أنبياء بني إسرائيل السابقين أنْ سيجيء لبني إسرائيل مسيح، غير أنهم كفروا بهذا المسيح الحق، وزعموا أنه ليس مسيحَهم المنتظر، فكفروا بعيسى عليه السلام، ولا شكَّ في أن المسيح الذي سيسارع اليهود إلى اتباعه هو مسيح الضلالة الدجال؛ ولذلك قضى الله عز وجل أن مسيح الهدى عيسى ابن مريم ينزل آخر الزمان عند ظهور مسيح الضلالة الدجَّال؛ فيقتله ويقتل أتباعَه من اليهود عليهم لعائن الله.

وقد آمن بعيسى عليه السلام طائفةٌ من بني إسرائيل وصار منهم حواريُّون للمسيح عليه السلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكلِّ نبيٍّ حَوَارِيَّ، وإن حواريَّ الزبيرُ بن العوام))، والحواري في الأصل: هو الوزير، أو مَن يصلح للخلافة، أو الناصر، أو الخالص، أو هو ناصر الأنبياء، أو القصَّار؛ لأنه يحوِّر الثياب، أي: يبيضها.

وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وسُمِّي الحواريون لبياض ثيابهم، وقيل: حواري الرجل خاصته، والمتبادر من القرآن العظيم يشعر أن الحواريين هم السابقون الأولون من أمة عيسى عليه السلام وكبار أصحابه رضي الله عنهم وخواصهم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الحواريين في محكم كتابه الكريم في مواضع، فذكر ما ألقى الله عز وجل في نفوسهم من المسارعة إلى الإيمان بعيسى عليه السلام ونصرته وتصديقه، فيما جاء به عن ربه عز وجل حيث يقول: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 111]، ومعنى ﴿ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ﴾ [المائدة: 111] في هذه الآية المباركة هو ما ألهمهم به وقذف في قلوبهم من تصديق عيسى عليه السلام ونصرته، ولا شكَّ في أن الحواريين ليسوا بأنبياء، وليسوا بمعصومين من الخطأ؛ ولذلك ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا لعيسى عليه السلام: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112]، فخوَّفهم عيسى عليه السلام من مغبَّةِ هذا السؤال، وأمرهم بتقوى الله، وأنه لا ينبغي لمسلمٍ أن يقترح على الله الإتيان بالآيات؛ لأن سنَّته جَرَتْ أن من اقترح على اللهِ آية ولم يؤمن بها إذا جاءت أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ونبَّه عيسى عليه السلام الحواريين إلى أن مقتضى إيمانهم ألا يتقدَّموا على الله باقتراح مثل هذه الآية، وأن يعلموا أن الله لا يُعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، غير أن الحواريين ذكروا لعيسى عليه السلام أنهم إنما طلبوا إنزال مائدة من السماء لأنهم يريدون أن يأكلوا منها وأن تطمئنَّ قلوبهم بزيادة الإيمان واليقين إذا رأوا هذه الآية الحسيَّة، ويزدادوا علمًا بأن عيسى عليه السلام قد صدقهم، ويكونوا عليها من الشاهدين، ولا شكَّ في أن سؤال الحواريين هذا أخفُّ من سؤال أصحاب موسى عليه السلام؛ إذ قال بعضهم لموسى عندما رأوا قومًا يعكفون على أصنام لهم: ﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، وأخف من قول أصحاب موسى لموسى: ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ [النساء: 153].

وقد رأى عيسى عليه السلام أن المصلحة تقتضي أن يتضرَّع إلى الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون عيدًا وفرحًا ومسرَّة للمؤمنين في عاجلتهم، وينتفع بالإيمان بها من بعدهم من المؤمنين، وتكون آية من الآيات الشاهدات على أن الله رب كل شيء وسيده ومليكه، وأن أمرَه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، فأخبر الله عيسى عليه السلام بأنه منزل عليهم هذه المائدة المطلوبة، وأنه مَن يكفر بالله بعد رؤيته لهذه الآية الباهرة والمعجزة القاهرة فإن الله سيعذِّبه عذابًا لم يعذِّب مثله في شدته أحدًا من العالَمين، والمائدة: هي الخُوَان عليه طعام، فإذا لم يكن على الخُوان طعام فإنه لا يسمى مائدة، والأصل في الخُوان أن يتخذ من الخشب وينصب على قوائم، فإذا كان الطعام على جلد أو فراش أو شيء بلا قوائم فإنه يقال له: سفرة، وقد أُثِرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكلْ على خوان قطُّ؛ وهي الشيء المرتفع عن الأرض بقوائمه، وإنما كان يأكل على السفرة صلى الله عليه وسلم؛ لأنها عادة العرب، كما أن الخوان من عادة العجم، وقد تسمى السفرةُ مائدةً.

وفي قصة المائدة يقول الله عز وجل: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 112 - 115]، وقد سمِّيَت السورة كلها باسم المائدة، وقد زعم بعض الناس أن المائدة لم تنزل؛ لأن الحواريين لما سمعوا الوعيدَ الشديد على من كفر بها بعد نزولها خافوا وأبوا أن تنزل عليهم، وصريح القرآن شاهد على نزولها لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ وهذا إخبار بنزولها، وتأكيد بأنه برهانٌ قاطعٌ على نزولها، والعيد يوم السرور الذي يتكرَّر وكلُّ يوم فيه جمع، قال ابن منظور في لسان العرب: قال ابن الأعرابي: سُمي العيد عيدًا لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد؛ اهـ.

هذا، وما نُقِلَ عن كثيرٍ من المفسرين في صفة المائدة المنزلة على عيسى عليه السلام والحواريين، وفيما احتوته هذه المائدة من ألوان الطعام وأسمائه لم يَثْبُتْ شيء منه بخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19-07-2025, 07:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (8)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرْتُ في الفصل السابق أن طائفة من بني إسرائيل آمنت بعيسى عليه السلام، وعلى رأس هؤلاء الحواريون رضي الله عنهم كما تقدَّمَ، وقد كفرت طائفة من بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، ووصفوه بأنه ساحر، وتعاونوا مع الرومان الوثنيين الذين كانوا يحكمون فلسطين وقتئذٍ ضد عيسى عليه السلام، فَلَقِيَ من عنتهم وأذاهم ومكرهم هو والذين آمنوا معه ما لا يعلمه إلا الله؛ مثل ما لقي إخوانُه من أولي العزم من المرسلين، وقد عدَّه الله تبارك وتعالى في شيوخ المرسلين الخمسة الكبار؛ وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ حيث يقول عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].

وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].

وقد اندهش بعض الناس من الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام؛ من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وجعل الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيطير، فحسبوا أن ذلك يُشعر أن عيسى فوق البشر وليس منهم، مع أنه كان ينبِّه عند هذه الآيات إلى أنها بإذن الله، وأنها معجزات من الله تعالى لتأييده، وقد أشار إلى ذلك برنابا في إنجيله الذي ألَّفه للرد على مَن حرَّف دين المسيح عليه السلام بعد رفع المسيح ابن مريم؛ إذ يقول برنابا في الإصحاح الثالث والتسعين من إنجيله: "أجاب الكاهن: إن اليهوديَّة قد اضطربت لآياتك وتعليمك، حتى إنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودس فنرجوك من كلِّ قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك؛ لأن فريقًا يقول: إنك الله، وآخر يقول: إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، أجاب يسوع: وأنت يا رئيس الكهنة، لماذا لم تُخمد الفتن؟ وهل جُننت أنت أيضًا؟ وهل أمست النبوَّات وشريعة الله نسيًا منسيًّا، أيتها اليهوديَّة الشقيَّة التي ضللها الشيطان؟ ولما قال يسوع هذا عاد فقال: إني أشهد أمام السماء وأُشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر؛ لأني بشر مولود من امرأة، وعُرضة لحكم الله أعيش كسائر البشر".

وبرنابا مؤلف هذا الإنجيل وصف في الإصحاح الرابع عشر منه بأنه أحد الحواريين الاثني عشر، كما وصف في رسالة منسوبة إلى لوقا أحد مؤلفي الأناجيل المسماة بأعمال الرسل بأنه من الرسل؛ أي: من المبعوثين الذين كان يبعثهم عيسى عليه السلام للدعوة في نواحي الجليل وغيرها، فـ"لوقا" يقول في هذه الرسالة: "يوسف الذي دُعي من الرسل برنابا الذي يترجم بابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنس؛ إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل".

وقد كان عيسى عليه السلام صبورًا على الأذى، حريصًا على هداية قومه، بشوشًا، شديد التعظيم لأمر الله عز وجل؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأى عيسى ابن مريم رجلًا يسرق فقال له: أسرقتَ؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله وكذبتُ عيني))، وقد ضاق به اليهود والرومان الوثنيون ذرعًا، وتمالؤوا عليه، فلما أحسَّ عيسى منهم الكفرَ واستشعر منهم التصميم على العناد والاستمرار على الضلال ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 52، 53]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

وقد همَّ اليهود والرومان بالفَتْكِ بالمسيح ابن مريم عليه السلام وعزموا على قتله، فلما أحاطوا بمنزلِه، وظنوا أنهم قد ظفروا به، نجَّاه الله تبارك وتعالى من شرِّهم وكيدِهم، فألقى شبهه على شخص من مُبْغضِيه، فحسبوه عيسى عليه السلام، فأخذُوه وقتلوه وصلبوه، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه وخيَّب مكرَ الماكرين، وردَّ كيد الكافرين، وفي ذلك يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 54 - 57].

وهكذا قضى الله عز وجل أن ينصرَ رسله والمؤمنين، وأن يُخزي أعداءَه الكافرين، وقد نصَّ الله عز وجل على أن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب، وإنما شُبِّه لليهود، وفي ذلك يقول: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 156 - 158].

وإن تعجب فعجبٌ أن يصدق النصارى اليهودَ في أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وبخاصة من انحرف عن الحقِّ، وزعم أن عيسى إله أو ابن إله، كيف يخطر على بال مَن به أدنى مسكة من عقل أن يعتقد أن الإله يصلبُ أو يقتلُ.

وقد جاء في إنجيلِ متَّى وإنجيل مرقص النصُّ على أن الذين أرادوا قتلَ المسيح وصلبه لم يكونوا يعرفونه؛ ففي الإصحاح السادس والعشرين من سفر متَّى في الفقرة السابعة والأربعين من هذا الإصحاح: "وفيما هو يتكلم إذ يهوذا واحدٌ من الاثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثيرٌ بسيوفٍ وعصيٍّ من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب"، وفي الفقرة الثامنة والأربعين: "والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو"، وفي إنجيل مرقص في الإصحاح الرابع عشر في الفقرة الثالثة والأربعين منه: "وللوقت فيما يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ"، وفي الفقرة الرابعة والأربعين: وكان مُسلِّمه قد أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو أمسكوه وامضوا به بحرصٍ".

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19-07-2025, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (9)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في ختام الفصل السابق أن الذين أرادوا قتلَ المسيح وصلبه ما كانوا يعرفونه، وسُقْتُ من إنجيل متَّى وإنجيل مرقص النصَّ على ذلك، وقد جاء كذلك في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن الله أوقع الشكَّ حتى في قلوب أصحاب عيسى عليه السلام في ذات المسيح، فصاروا يتردَّدون: هل هذا هو يسوع الذي أُخِذَ ليقتل ويصلب أو غيره؟! وقد كان بين المسيح عليه السلام وبين يهوذا الإسخريوطي الذي دخل على المسيح ليسلمه لليهود والرومان شَبَهٌ كبيرٌ؛ فصاروا لا يدرون عن الذي أُخِذَ؛ أهو المسيح أم يهوذا الإسخريوطي؟! وقد نَقلت الأناجيل الأربعة قولَ المسيح عليه السلام لأصحابه ليلةَ عَزْمِ أعدائِهِ على تبييتِه: "كلكم تشكون فـيَّ في هذه الليلة"، كما جاء في الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى في الفقرة الواحدة والثلاثين، وكما جاء في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل مرقص في الفقرة السابعة والعشرين، وقد جاء في إنجيل برنابا التصريح بأن الجنود أخذوا يهوذا الإسخريوطي نفسه ظنًّا أنه المسيح؛ لأنه أُلقي عليه شبهه، وقد ذكر (جورج سايل) الإنجليزي في ترجمته للقرآن في سورة آل عمران في الصفحة الثامنة والثلاثين أن يهوذا الإسخريوطي كان يُشبه المسيح في خلقه، وذكر عن فرقة من أقدم فرق النصارى وهم (السينثيون والكوبوكراتيون) أنهم أنكروا صلب المسيح، وصرحوا بأن الذي صُلب هو يهوذا الإسخريوطي الذي كان يشبهه شبهًا تامًّا؛ اهـ.

والنصارى مطبقون على أن يهوذا الإسخريوطي فُقِدَ بعد حادِثَةِ الصلب ولم يظهر في الوجود، وإن كان النصارى اختلفوا في قصة نهايته؛ ففي إنجيل متى في الإصحاح السابع والعشرين في الفقرة الرابعة منه عن يهوذا الإسخريوطي أنه مضى وخنق نفسه، وقد تناقضت رسالة أعمال الرسل مع إنجيل متَّى في نهاية يهوذا الإسخريوطي؛ فقد جاء في الإصحاح الأول في الفقرة الثامنة عشرة من رسالة أعمال الرسل التي ألَّفَها لوقا صاحب الإنجيل عن يهوذا: "فإن هذا اقْتنى حقلًا من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشقَّ من الوسط انسبكت أحشاؤه كلها".

وهذا التناقض بين إنجيل متَّى ورسالة أعمال الرسل (والنصارى يقدسون هذين الكتابين)، أقول: هذا التناقض دليل عدم معرفة مآل يهوذا الإسخريوطي، وهو برهان ساطع على أن المصلوبَ بيد اليهود والرومان لم تكن شخصيَّتُه معلومة علم اليقين عند هؤلاء، وقد أكَّدَ الله تبارك وتعالى هذا المعنى بقوله عز وجل: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158].

وقد التبس الأمرُ على اليهود والنصارى والرومان، ووقعوا في الشكِّ والحيرة والتردد: أكان المصلوب عيسى أم غيره؟! فبعضهم كان يقول: هو هو يسوع، وبعضهم يقول: إنه غيره؛ وذلك بسبب شبه يهوذا الإسخريوطي بعيسى عليه السلام، أضف إلى ذلك أنه كان معه شخص آخر هو باراباس، وقد جاء في إنجيل متَّى في الفقرة السابعة عشرة من الإصحاح السابع والعشرين: ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يُدْعَى المسيح؛ اهـ.

وقد رفع اللهُ تبارك وتعالى المسيحَ ابن مريم إليه وخلَّصَه من بني إسرائيل الكافرين الحاقدين الحاسدين، وفي ذلك يقول عز وجل في سورة آل عمران: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]، ويقول في سورة النساء: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 158].

وجمهورُ أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى رفع المسيح إليه بجسده وروحه، ويفسِّرون التَّوَفِّي في قوله تعالى: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ بأنه إلقاء النوم عليه إلى أن رفعه الله إلى السماء؛ على حد قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: 42]، وكقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60]؛ أي: ينيمكم بالليل، ويعلم ما اكتسبتم من أعمال بالنهار.

وخصَّ النومَ بالليل والاكتساب بالنهار؛ لأن ذلك هو الأصل الملائم لطبيعة الإنسان، وقد لا ينام الإنسان بالليل ولا يكتسب بالنهار، إلا أن ذلك مضرٌّ بفطرته وقوام نفسه، وقد ذهب عامةُ أهل السنة والجماعة إلى أن عيسى عليه السلام حيٌّ في السماء، وأنه ينزل في آخر الزمان عند ظهور المسيح الدجال فيقتله باللُّد من أرض فلسطين، ويقتل مَن معه من اليهود، ويريق الخمرَ ويكسر الصليبَ، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، وفي زمن نزوله يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، وأن عيسى عليه السلام يضرع إلى الله ويدعوه أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله له، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أن نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان من أمارات الساعة حيث يقول: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾ [الزخرف: 61] على قولٍ لأهل العلم من أهل التفسير والتأويل؛ أي: إن نزول المسيح عليه السلام علامة من علامات قرب الساعة، أو إن إيجاد عيسى عليه السلام من غير أب دليل على أن الله قادر على كلِّ شيء، وأنه برهان على قدرة الله على إحياء الموتى وبعث الناس يوم القيامة، كما ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن معنى قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: 159]، يعني: أن جميع الكفار من اليهود والنصارى عندما يأتيهم الموت وينقطعون عن الدنيا يعلمون أن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لم يُقتل ولم يُصلب، ويصدقون أن الله رفعه إليه وصانه من مكر اليهود وكيدِهم، وأنه ليس إلهًا ولا ابن إله كما يزعم النصارى عليهم وعلى اليهود لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

وهذا الإيمان عند معاينة الموت لا ينفعهم، وأكثر المفسِّرين أرجع الضميرَ في "موته" إلى عيسى عليه السلام، وأنه عند نزوله يؤمن به البر والفاجر، ويسارعون إلى تصديقه، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: 159] قد سيق في تقرير بطلان ما ادَّعتْه اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجاهلين أن عيسى قُتل وصُلب، فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس كذلك وإنما شُبِّه لهم فقَتَلوا الشبهَ وهم لا يتبيَّنُون ذلك، بل رفعه الله إليه وهو حي وأنه سينزل قبل القيامة.

ونزول المسيح عليه السلام آخر الزمان من عقائد أهل السنة والجماعة التي لا يزيغ عنها إلا ضال هالك؛ فقد روى البخاري ومسلم من عدة طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيرًا له من الدنيا وما فيها))، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليهلَّنَّ ابنُ مريمَ بفجِّ الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما))؛ أي: أو ليقرنَنَّ بينهما، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف بكُم إذا نزَل فيكم المسيحُ ابن مريم وإمامكم منكم))، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيشٌ من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نُخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقتل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يُفْتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمُون الغنائمَ قد علَّقوا سيوفَهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأَمَّهُم، فإذا رآه عدوُّ الله ذابَ كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانْذاب حتى يَهلك، ولكن يقتلُه اللهُ بيدِه، فيريهم دمه في حربته)).

وقوله: ((إن المسيح قد خلفكم))، يعني به: الدجَّال، وقوله: "فأَمَّهُم"، يعني: قصد المسلمين للاقتداء بإمامهم في الصلاة، أو قصد الدجال وعصابته لقتلهم وإهلاكهم، والأول أظهر؛ لقوله في رواية البخاري ومسلم المتقدمة: ((وإمامكم منكم))، كما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزالُ طائفة من أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة))، قال: ((فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضَكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة))؛ اهـ.

وهذا دليلٌ على أن الله يحفظ لهذه الأمة دينها من التبديل والتغيير إلى آخر الزمان، حتى ينزل المسيح ابن مريم فيَحْكُم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 154.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 149.41 كيلو بايت... تم توفير 5.36 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]