|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() 12-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي بعد أن زوَّد الله تعالى موسى عليه السلام بما يحتاجه من مفاهيم العقيدة الأساسيَّة لرسالته، ومن المؤيِّدات الماديَّة لها، أعلمه بأنه سيكون رسولاً إلى فرعون، وإلى بني إسرائيل. أما فرعون فهو طاغية الطغاة، وجبار الملوك، قال تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] {القصص:4} أي: إنَّ فرعون تجبَّر وتكبَّر في أرض «مصر»، وجاوَزَ الحدَّ في العدوان حتى ادَّعى الربوبيَّة، وجعل أهلها فِرَقاً مُتَخَالفةً مُتعاديةً، وأحزاباً متصارعةً متنافسةً فيما بينها، يستضعف طائفةً من بني إسرائيل، يأمر بتذبيح مواليدهم الذكور وهم في سنِّ الرضاع في بعض السنوات دون بعض؛ لئلا يكثُر رجال الإسرائيليين، ويترك المواليد الإناث أحياء؛ للانتفاع منهنّ بالخدمة والتسخير، إنَّه كان من المفسدين بالقتل والتجبُّر والطغيان في الأرض. وقال تعالى: [وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ(14)]. {الفجر} وألم تر كيف فَعَل ربُّك بفرعون ملك «مصر» ذي الجنود الكثيرة، والمباني العظيمة التي تشبه الجبال؟ هؤلاء الذين تَجَاوزوا الحدَّ في الظلم والتجبُّر في بلاد الله، فأكثروا فيها الفساد بظلمهم وعدوانهم وسيئات أعمالهم. فأنزل عليهم ـ ربُّك ـ باندفاع وسرعة عذاباً مُتَتَابعاً شديداً تمَّ به إهلاكهم، كضربات السياط المتواليات، بتتابع متلاحق دون فاصل زمنيٍّ بينها، حتى كأنها سَوْط واحد ذو أجزاء متتابعة، كلما أدى جزء منه وظيفته اختفى، وجاء الجزء الذي وراءه؛ إنَّ ربَّك ـ يا رسول الله ـ لبالمرصاد يراقب مراقبةً تامَّة كلَّ من يفعل مثل فعل هؤلاء المُهْلَكين، وسينزل عذابه على المجرمين اللاحقين. وموسى يعلم من هو فرعون حقَّ العلم، فلقد عاش في قصره، وتربى فيه فترة من عمره، وهو يعلم ظلمه وطغيانه وإفساده. وأما بنو إسرائيل: فليس الأمر معهم أخف وطأة ممَّا هو مع فرعون، فهم قوم قد استمرؤوا الذلَّ حتى أصبحوا لا يعرفون للحياة معنى بدونه، وهو مُرسَلٌ إلى قوم لهم عقيدة قديمة منحرفة فاسدة، ومعالجة مثل هذه النفوس شاقّ وعسير... إنَّه مرسل لإعادة بناء أمة، ولإنشائها من جديد على أساس الإيمان. دعاء ومناجاة: كل هذا جعل موسى عليه السلام يقف أمام هذا الأمر العظيم موقف التضرع واللجوء إلى الله، فوقف داعياً ربه ومناجياً إيَّاه بطلب المعونة والتأييد، وقد انصبَّ دعاؤه على أمرين: الأول: يتعلق به شخصياً ـ داخلي ـ، والثاني : خارجي عنه. الأمر الداخلي: كان في موسى عليه السلام صفات حسب أنها ستكون عائقاً في سبيل هذه الدعوة، فإنَّ في لسانه حبسة تمنعه من الإفصاح البليغ عن دعوته، وإن في صدره ضيقاً لا يتحمَّل الكذب على الله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي، وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ] {الشعراء:13} قال موسى عليه السلام: يا ربي إني أخشى أن يُنكروا رسالتي ويجحدوها، ويضيق صدري عن الاحتمال والصبر بتكذيبهم إيَّاي، ويحتبس لساني ويتلجلج فلا يفصح بالمقصود ولا ينطلق بالدعوة. خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. ولموسى عليه السلام تصرفات ماضية مع قوم فرعون حسب أنها ستكون عائقاً في طريق الدعوة:[وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {الشعراء:14}.أي: للأقباط عقوبة ذنب وتبعته. والذنب الذي قصده:[قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {القصص:33}. قال موسى عليه السلام: ربِّ إني قتلتُ من قوم فرعون نفساً، بقتل القِبْطي الذي وكزْتُه انتصاراً للإسرائيلي قبل خروجي من مصر فارّاً إلى «مدين»، فأخاف أن يقتلوني به عقاباً على قتلي له. الأمر الخارجي: وطلب معيناً له وردءاً يُصدِّقه، وهو أخوه هارون، لأنه أفصح لساناً، وأوسع صدراً، وأهدأ انفعالاً. قال الله تعالى:[وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ] {القصص:34}. أي: وأخي هارون هو أفصَحُ مني بياناً، فأرسله معي عَوْناً وناصراً يلخِّص الدلائل، ويجيبُ عن الشُّبهات، ويُجادل الكفار، إنِّي أخاف أن يُكذِّبني فرعون وقومه. هذا ما يطلبه لتمام التبليغ وبلوغ الدعوة . وسأل الله تعالى : [ فأرسل إلى هارون] {الشعراء:13}أي: فابعث جبريل إلى أخي بالوحي إلى هارون، فاجْعله نبياً ورسولاً معي؛ ليُؤَازِرَني ويُعينني على تبليغ الرسالة.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() 15-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي طمْأن الله موسى عليه السلام بأنهم لن يقتلوه، وأجاب دعاءه في أخيه هارون، وجعلَه رسولاً معه، وأمرهما أن يذهبا مَصْحُوبَيْن بالمعجزات الدالَّة على صِدْقهما، وهو سبحانه معهما بالعلم والحفظ والنُّصرة، وأن يبلغاه هذه الحقائق ، ويطلبا منه هذه المطالب: [فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] {الشعراء:16-17}. أي: فأْتِيَا فرعون، فقولا له: إنا رسولان، ولكننا بمثابة رسول واحد؛ لأننا متعاضدان، فما يقوله أحدنا يُعبّر عن قولنا مُجتمعَيْن، وإنَّ ربَّك هو ربُّ كلِّ موجود سواه تبارك وتعالى، فهو الذي خلق كلَّ الموجودات الكونيَّة، وأمدَّها بعطاءات ربوبيَّته؛ أنْ اترك بني إسرائيل، وأْذن لهم بالخروج معنا من مصر إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم. وقال تعالى:[قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى(47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48)]. {طه:42-48}. [قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)] قال موسى وهارون: ربَّنا إنَّنا نتوقع ونخشى أن يَعْجَلَ علينا بطردنا وعقوبتنا، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة، أو أن يُجاوز الحدَّ في الإساءة والظلم حتى القتل. [قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)] قال الله تعالى لموسى وهارون مُطمئناً لهما: لا تخشيا ما توهمتما من عقوبته وطغيانه وكُونا مطمئنَّين؛ إنَّني مَعَكما بعوني أسمعُ دعاءَكُما، وأرى ما يُراد بكما، لست بغافلٍ عنكما، وسأحميكما وأحفظكما إنْ أراد فرعون بكما سوءاً. [ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى(47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48)]{ طه }. فاذهبا إلى فرعون وصيرا إليه واحضرا مجلسه، وقولا له ستَّ مقولات: المقولة الأولى: إنَّا أرسلنا إليك ربُّك بالدعوة إلى توحيده والعمل بشريعته، وأنت مربوبٌ مملوك له. المقولة الثانية: فأرسل معنا بني إسرائيل وأطلق سراحهم من التحكُّم والقهر، ودعهم يذهبون ولا تمنعهم من الخروج إلى بيت المقدس. المقولة الثالثة: وخلِّ عنهم وأطلقهم من أعمالك الشَّاقَّة، وارفع عنهم عذابَ التَّسخير والإذلال والاستعباد. المقولة الرابعة: قد أتيناك بمعجزةٍ وبُرهانٍ من ربِّك يدلُّ على صدقنا في دعوتنا. المقولة الخامسة: والأمنُ والسَّلامةُ من عذاب الله تعالى لِمَنْ أسلم واتَّبع هُداه؛ إذ يُسلِّمه الله في الدنيا من عذابه، ويُسلِّمه في الآخرة بدخوله جنته دار السلام. المقولة السادسة: إنا قد أعلمنا الله وأمرنا بالتبليغ أنَّ التعذيب عقوبة ونكالاً في الدنيا والآخرة مُنْصَبٌّ على مَنْ أنكر وجحد ما جئنا به، وأدار ظهره، ولم يتَّبع هدى الله. أما مضمون الرسالة إلى فرعون فهي: 1 ـ الإيمان بالله تعالى. 2 ـ والإيمان بأن موسى وهارون نبيان مرسلان من الله تعالى. 3 ـ إرسال بني إسرائيل معهما ورفع العذاب عنهم. فكَّر فرعون في مضمون الرسالة وتدبَّره ملياً، وكأني به يقول: إذا كان هذا هو مضمون الرسالة فهي جد خطيرة؛ لأنها تعني التبعية لموسى عليه السلام لكونه رسولاً أرسل من الله، وهي تعني ذهاب إلهيتي، وضياع حكمي وسلطاني الذي بذلت في سبيله الجهد الجهيد... وهي تعني تجريدي من مصدر الخدمة الرخيص للدولة وهم بنو إسرائيل مع موسى... وتثور ثائرته على هذه الدعوة، ويبدأ الهجوم على موسى هجوماً يدل على خبث الطغاة، ومعرفتهم لأبعاد الدعوة... ولكن الكبرياء والهوى هو الذي صرفهم عن الاتباع...
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() 17-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي 2 ـ الطعن في المضمون: تهاوى سلاح فرعون الأول الذي شهره في وجه موسى، وهو سلاح تشويه السمعة. فانتقل إلى أسلوب آخر في هجومه على موسى عليه السلام، بعد طعنه في أهليته وأخلاقه ، وهو الطعن في مضمون الرسالة، فيسأله : [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى(51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى(52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى(54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)]. {طه}. وفي الحوار الثاني يسأله: [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] {الشعراء:23}، ويجيب موسى عليه السلام: [ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)]. {الشعراء}. سأل في المرة الأولى:[قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى] {طه:49}.فالسؤال (بمن) وهو عن الكيفيَّة، وفي سورة الشعراء: [وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ]. فالسؤال (بما) وهو عن الماهيَّة، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه لظهوره وجلائه، عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهيَّة، لعلمه بغاية ظهوره، ومشروع في المقام الصعب لأن العلم بماهيَّة الله تعالى غير حاصل للبشر. (التفسير الكبير للرازي 22/64)، (روح المعاني للآلوسي 19/71). وهذا أيضاً يدل على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره، وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. رد موسى عليه السلام على السؤال الأول: [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى] قال فرعون لهما: فَمَنْ ربُّكما الذي أرسلكما يا موسى؟ خصَّص النداء لموسى مع أن الخطاب إليهما؛ لأنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره. ثم إنَّ موسى عليه السلام حين عرف أبعاد سؤال فرعون وما يحمل في طيَّاته من إنكار لربوبيَّة الله تعالى لسواها، بدأ موسى قائلاً: (ربنا) بالجمع إشارة إلى ربوبيَّته للجميع وفرعون وملئه. [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] قال له موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ مُخطَّطَ صفاته الذاتيّة من ماديَّات ومعنويَّات ونفسيَّات، فهي كامنةٌ مُستقرَّة في أعماقه، ثم هدى كلَّ عنصر صغير أو كبير للنماء والتحرُّك على وَفق ما قدَّر الله له في خصائصه . فالرب الذي ربَّى عباده بنعمه هو الذي أعطى كلَّ شيء من الأنواع خلقه بصورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن، وأعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، فالذي خلق الخلق هو الله عزَّ وجل، وليس فرعون، وهو الذي فطر الخلائق، وألهمها ما يصلحها مما لا يقدر عليه فرعون ولا يستطيعه. كانت هذه الإجابة من موسى إجابة عميقة واضحة الدلالة على قدرة الله تعالى مما لا يستطيعه فرعون، ولا يملكه، مما جعل فرعون ينسحب من هذا المجال متَّجهاً إلى مجال آخر. الاستدراج إلى معارك جانبيَّة: فأراد أن يشغل موسى بشيء لا علاقة له برسالته، وأن يصرفه إلى لا شيء لايعنيه. [قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى] {طه:51}. قال فرعون: فما حال القرون الماضية والأمم الخالية، التي ماتت وتفتَّتت ذرَّات أجسادها في تراب الأرض؟ كأنَّ فرعون يقول له: فما شأن القرون الماضية لم تقر بما تدعو إليه من التوحيد والعبادة... يريد أن يستدرج موسى بعيداً عن هدفه الرئيسي الذي جاء من أجله. الرد: ولكن أنَّى لنبيٍّ أن يُستدرج وهو المؤيَّد بالوحي يُسدِّد خطاه ويحفظه!! [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى] {طه:52} قال موسى لفرعون: إنَّ علم القرون الأولى من البشر، وما يتعلَّق بإنشائها الأول، وما يتعلَّق بذواتها وصفاتها، وما قدَّمت من أعمال، مُسَجَّل مُدَوَّن عند ربّي في كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً، أحاط علمه بكلِّ ذلك، لا يتعرَّض علمه للضلال عن الواقع والبُعد عنه، ولا يتعرَّض لنسيان المعلومات كما تتعرَّض الخلائق لذلك، وهو محيطٌ بكلِّ شيءٍ علماً.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() 19-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون قبل الإتيان بالمعجزة اتهامه بالجنون: فبدأ الغيظ يفلت منه زمام تفكيره وهدوئه المصطنع، فالتفت إلى من حوله يؤلبهم ويحرضهم على موسى، قال: [قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] {الشعراء:27}. قال فرعون: إنَّ رسولكُم الذي يَدَّعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال، فَضْلاً عن أن يجيب عنه، ويتكلَّم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحَّته. وهو تحريض بكبرياء لأنه نسب الرسول إليهم [رسولكم الذي أرسل إليكم] نفياً منه أن يكون رسولاً إليه. ويستمرُّ موسى عليه السلام في تبيين المعتقد الإيماني: [قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] {الشعراء:28} قال موسى: الربُّ الذي أدعوكم إليه هو المُدبِّر بصفات ربوبيَّته لمكان شروق الشمس وغروبها، ولزمان الشروق والغروب، وهو ربُّ كلِّ ما بين المشرق والمغرب من ظلمة وضياء، وأحياء وبشر، ورياح وسُحُب، وغير ذلك؛ إنْ كنتم تدركون حقيقة ربوبيَّته للمشرق والمغرب وما بينهما، وحسبكم أن تدلكم الظواهر على صفاته. وما لكم وللبحث عن ذاته؟. حرَّض موسى عليه السلام من حول فرعون باستعمال عقله وبصيرته، فإنَّ من تدبَّر هذه الأمور سيصل إلى الإيمان لا محالة. ويحسُّ فرعون بهذا التحريض وهو يعلم ماذا يعني لو استجاب له الناس، إنه يعني اليقظة وصحوة القلوب التي طالما عمل على طمسها والتعمية عليها. والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب، ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة، ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية، ومن ثَمَّ ترى فرعون يهيج على موسى ويثور عندما يمس بقولته هذه أوتار القلوب، فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ، وبالبطش الصريح الذي يَعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين ـ (في ظلال القرآن 5/2593). [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] {الشعراء:29}قال فرعون حين لزمته الحجَّة، وانقطع عنه الجواب: أقسم لئن اتخذت – يا موسى – معبودا تعبده غيري لأجعلنَّك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، حيث كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا، عاد بهذه الكلمات إلى طبيعته التي أخفاها، لأنه لم يستطع أن يقابل موسى بالحُجَّة والبرهان، فلجأ إلى البطش والطغيان، والسجن أول درجاته لعله يرجع أو يتراجع، ولكن موسى لا يتراجع أبداً، بل يعرض عليه أن يريه المعجزة التي معه. بعد استعمال المعجزة: أحسَّ فرعون أنه قد خاب وفشل في الطعن في أهليَّة موسى وعقله، كما فشل في استدراجه إلى معارك جانبيَّة، فانتقل إلى التَّهديد بالسجن، وانتهاج طريق الطغيان والتعذيب. وكذلك أحسَّ موسى عليه السلام بأنَّ كل هذه البراهين الواضحة، والحجج الدامغة لم تُجْدِ مع فرعون فتيلاً، فقابل موسى عليه السلام تهديده ووعيده بسجنه: [قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ] {الشعراء:30}. أي: أتأمر بسجني، ولو جئتك – يا فرعون – بآية بيِّنة يتبيَّن فيها صدقي فيما دعوتك إليه؟!! [ قالَ: فأتِ به إن كنتَ من الصَّادقين ]{ الشعراء: 31}. قال فرعون: فَائْت بالذي يُبيِّن صدقك ، فإنا لن نسجنك حينئذ؛ إن كنت من الصادقين في أن لك بيِّنة. وقال الله تعالى في سورة الأعراف:[قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)] قال فرعون لموسى: إن كنت جئت من عند من أرسلك بمعجزة خارقة للعادة تدلُّ على صدقك، فائتني بها وأحضرها عندي؛ لتصحَّ دعواك ويثبت صدقك.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() 20-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون بعد الإتيان بالمعجزة -20- وخاب فرعون وفشل في الطعن في أهليَّة موسى وعقله، كما فشل في استدراجه إلى معارك جانبيَّة، فانتقل إلى التَّهديد بالسجن، وانتهاج طريق الطغيان والتعذيب. وكذلك أحسَّ موسى عليه السلام بأنَّ كل هذه البراهين الواضحة، والحجج الدامغة لم تُجْدِ مع فرعون فتيلاً، فقابل موسى عليه السلام تهديد فرعون ووعيده بسجنه: [قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ] {الشعراء:30} قال فرعون:[فأتِ به إن كنتَ من الصَّادقين ]{ الشعراء: 31}. وقال أيضا: [قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)]{ سورة الأعراف}. معجزة العصا واليد: [ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108)]. {الأعراف}. فأسرع موسى فألقى عصاهُ على الأرض، فإذا هي حيَّةٌ عظيمة ضخمة في الجثّة، ظاهر أمرها لا يُشكُّ فيها، تتميَّز عما عملته السَّحَرة من التمْويه والتخييل. وأسرع فأدخل يدَه السَّمْراء في جَيْب قميصه، فنزعها بشدَّة، فإذا هي قد فاجأتهم بأن تحوَّلت بيضاء بياضاً عجيباً خارقاً للعادة؛ إذ كان لها شعاعٌ يغلبُ ضوء الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم اللون، فإذا ردَّها عادت إلى لونها الأول، كسائر بدنه. حين ألقى موسى عليه السلام عصاه فتحوَّلت إلى ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي تشع بنور المعجزة بيضاء للناظرين، أذهل فرعون والملأ من حوله، وجعلهم يدركون أن أمر موسى عليه السلام جدٌّ لا هزل معه، وصدق لا كذب فيه، وحق لا يقوون على رده. وكأني بفرعون اللحظة، وقد تسارعت أنفاسه خوفاً من الثعبان المبين، وعميت بصيرته بعد أن رأى نور الحق يشع في يد موسى عليه السلام، وقد خرجت بيضاءَ من غير سوء، وبدلاً من الإيمان بالله واتباع رسوله لجأ إلى الاتهام بالسحر. الاتهام بالسحر: إن أحسن ما يقال ضد موسى عليه السلام بعدما تحولت عصاه ثعباناً، وخرجت يده تشع نوراً في نظر فرعون: إنه سحر وليس بمعجزة، تصدِّق نبوته، وهذا الاتهام بالسحر كان مادة الكذب الأوليَّة التي تسلَّح بها فرعون في هذه المرحلة. لقد ناظر موسى فرعون وناقشه، وأبطل حجته، ودحض مقولته، وأظهر له الآيات، وقذفه بالمعجزات، وأقام البراهين التي تقطع بصدقه، ولكن فرعون حين أسقط في يده، وظهرت معجزة موسى عليه السلام، وبان صدقه؛ أراد الخلوص من هذا الموقف فاتهم موسى بالسحر :﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] وذلك لينفي عنه ما أتى به من المعجزات؛ لأن السحرة أشرار، وهم محل ذم وتنقص عند الناس.. ثم أتبع فرعون اتهامه باتهام آخر: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء:35]. وردَّد الكبراء المستشارون من قوم فرعون الحاضرون في مجلسه حين أظهر موسى آيتَيه مقولة فرعون: [قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110)] {الأعراف } قالوا: إنَّ موسى كثير العلم بالسحر، يأخذ بأعين الناس، ويُري الشيء بخلاف ما هو عليه. يريد موسى أن يخرجكم – أيها القبط- من أرض مصر. قال فرعون : فأي شيء تشيرون أن نفعل به تجاه هذا الساحر العليم؟ أثر البطانة الفاسدة : وفي قصة موسى عليه السلام تجلى ما تفعله البطانة الفاسدة من تزيين سوء العمل لصاحبه؛ فإن موسى عليه السلام لما أتاهم بالبينات والبراهين عدُّوها سحرا، وذكر الله تعالى أن ملأ فرعون قالوا ذلك ﴿قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:109] وفي موضع آخر ذكر الله تعالى أن قائل ذلك هو فرعون: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] ومعنى ذلك أن الملأ من قوم فرعون علموا مراده، فلما استشارهم استبقوا إلى ما يريد ولم ينصحوا له، وهذه عادة الوصوليين والانتهازيين عند الكبراء المتنفذين، ولا سيما إذا كانوا طغاة ظالمين كما هو حال فرعون وأمثاله من الحكام الظلمة المجرمين. وهذا يدل على أن البطانة الفاسدة لا تمحض النصح لصاحبها، وإنما تجتهد في البحث عما في نفسه لتسبقه إليه، ويكون قربها من الطاغية بحسب القدرة على فهم مراده، واستجلاء ما في نفسه، وهذه هي العبودية التي تعطل العقول والمدارك، وتجعل الأعوان نسخاً مكرورة من الطاغية ذاته، وقطعاناً تستبق إلى التبعيَّة، وتمتهن الوصولية، وتتخلق بالانتهازية، فيسود الظلم، ويتلاشى العدل، وتفسد الأخلاق، ويتوقف العمران.. ولذا جاء في الحديث أن "المستشار مؤتمن"، وإذا كان المشير يبحث عما في نفس المستشير؛ لنيل حظوة عنده؛ كان ذلك من الخيانة في المشورة، وأخطر من ذلك وأعظم جرما أن يتخلق بهذا الفعل الدنيء من ينتسب للعلم فيطوِّع النصوص والأقوال؛ لمراد من استشاره دون مراد الله تعالى؛ فيكون سببا في ضلاله وإضلال غيره، ونشر الضلال في الناس، كما هو حال من يشترون بدين الله تعالى عرضا من الدنيا، وهم متوعدون بأشدِّ العذاب ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:77]. من مقال للأستاذ إراهيم الحقيل موقع الألوكة
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() 13-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي قال تعالى: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27) يَفْقَهُوا قَوْلِي(28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)]. {طه: 24-36}. ومعنى الآيات: اذْهَب ـ يا موسى ـ إلى فرعون ملك مصر إنَّه جاوز الحدَّ في العصيان والتَّمرُّد على ربِّه حتى ادَّعى الإلهيَّة. قال موسى: يا ربي وَسِّع لي صَدري؛ ليكون قادراً على تحمُّل المزعجات والمكاره، بصبر وحِلْم، دون اندفاع بغضب سريع. وشرح الصدر نورٌ في القلب، وقوة معنويَّة يَستعين بها نبي الله موسى على أداء تلك المهمَّة الكبرى، فإنَّه مدْعاة للصبر واحتمال المشاق والإقبال على الدعوة؛ حتى لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة. ثم طلب تيسير الأمر فيما كلفه به في تبليغ الرسالة إلى فرعون ، فإنَّ كل شيء في هذا الكون إذا لم يصاحبه تيسير الله وعونه لا يمكن أن يسير، ومَنْ ذا يملك تيسيره من بعد!. ثم طلب حلَّ عقدةِ لسانه، وهو ما كان في كلامه من حبسة كالتمتمة والتردُّد في النطق، أو أن يعجل بكلامه فلا يكاد يفهم (الفتح 6/425). والمعنى: وأزل وارفع عقدةً تحبس من نطقي، فإذا أزلتَها بقُدرتك وحِكمتك، صرتُ قادراً على إفهام الذين أبلِّغهم رسالاتك دقائق المعاني التي أقيم بها عليهم البراهين والحُجَج. وصيِّر لي مُعيناً من أهلي وأسرتي الأقربين، هارونَ أخي، قوِّ به ظهري، واجْعله شريكي في أمر النبوَّة وتبليغ الرسالة التي كلَّفتني بها. طلب موسى ثلاثة أمور خارجية: أن يكون له وزيراً، وأن يكون من أهله، واختصَّ أخاه هارون ليساعده في البيان والإفصاح، لما يعلمه من صفات أخيه فهو أفصح لساناً وأوسع صدراً وليس عليه ذنب عند القبط، مما يجعله قادراً على محاورة فرعون وقومه ـ لاسيما وأنَّه عايشهم أثناء تلك السنوات التي قَضَاها موسى في مَدْين. والهدف من الأدعية السابقة كلِّها: [كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا] {طه:33}أي: من أجل أن نَتَساعد ونتساند على تنـزيهك عمَّا لا يليق بجلالك وعظيم صفاتك، تنزيهاً كثيراً، ونذكرك ونُثني عليك ونستحضر عظمتك وعونك بما أَوْلَيْتَنَا من جميل نعمك، ذكراً كثيراً، إنَّك كنت وما زلت ولن تزال بنا بصيراً. والذكر والتَّسبيح يحيي القلوب، ويوثِّق الصلة بالله، والداعية إلى الله تعالى لابد أن يكثر من الدعاء إلى الله تعالى، بأن يُيسِّر أمره، ويشرح صدره، للقيام بالدعوة على أكمل وجه. استجابة الدعاء: لقد استجاب الله دعاءه عليه السلام كله حين قال له:[قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى] {طه:36}أي: قد أُعطيتَ جميعَ ما سألته ـ يا موسى . فكانت الإجابة شاملة من شرح للصدر، وتيسير للأمر، وحلٍّ لعقدة اللسان، بحيث يفهم عنه المخاطبون مُراده أوضح الفهم. أما عن الشق الثاني من الدعاء: فاستجاب الله تعالى له، فقال سبحانه: [وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا] {مريم:53} وأجَبْنا دعوته، وَوَهبنا لموسى من رحمتنا أخاه هارون نبياً، يُؤيِّده ويُؤَازره. وقال تعالى:[قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بآياتنا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ] {القصص:35}. قال الله تعالى لموسى عليه السلام: سَنُقَوِّيك بأخيك هارون ونُعينُك به، ونَجْعَل لكُما حُجَّةً وبُرهاناً، وقوة غيبيَّةً معنويَّةً تحجُزُ فرعونَ وجنوده عن أن يصلوا إليكما بما فيه ضرٌّ أو أذىً لكما، فلا يَصِلون إليكما وصولاً بشيءٍ يضرُّكُما أو يُؤذيكما؛ بسبب ما نعطيكما من المعجزات وما نريهم من الآيات التي تُخيفهم بها، فيحذرون أن يهلكوا إذا كادوكُما كَيْداً يُؤْذي أحداً منكما. أنتما ـ يا موسى وهارون ـ وَمَن اتَّبعكما واهتدى بكما واستجاب لدعوتكما الغالبون المُنْتَصرون على فرعون وقومه. وقد حقَّق الله عزَّ وجلّ هذا الوعد في نهاية مسيرتهما الدعويَّة، فأغرق فرعون وملأه وجنودهم في البحر، وكانوا عبرةً لمن يعتبر. إنَّها المنّة العظمى أن يتحقق المراد كله في لحظات النداء مُباركةً، ووحياً، ونبوة، وإجابة دعاء، ثم تتويج لهذا الأمر كله بقوله: [أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ] {القصص:35}.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() 14-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مشهد المحاورة: جُهِّز موسى عليه السلام بكلِّ ما يلزمه لمواجهة فرعون، فأُجيب إلى طلبه، ودُرِّب على استعمال المعجزة الماديَّة الداعمة له، ثم شرح الله له ماذا يقول لفرعون وكيف يقول؟ ولا بد لمواجهة فرعون من زاد وفير من الذكر والصلة الدائمة بالله : يقول الله تعالى: [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي] {طه:42} اذهب أنت ـ يا موسى ـ وأخوكَ هارون مَصْحُوبَيْن بآياتي البيانيَّة والإعجازيَّة والجزائيَّة، الدالَّة على ربوبيَّتي وإلهيَّتي، وكمال قدرتي، ولا تضْعُفَا، ولا تُقصِّرا في الدعوة إلى الإيمان بي، ولاَ تَفْتُرا أيضاً في ذكري في أنفسكما وقلوبكما وألسنتكما، وفي عبادتكما لي؛ لتكونا على صلةٍ دائمة بي. ولا بد له من اتباع أسلوب القول اللين مقرونا بالأمل والرجاء في تحقيق المقصد : قال تعالى:[اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44}أي: اذهبا معاً إلى فرعون؛ إنه جاوز الحدَّ في الكفر والظلم والفساد، فَدَارِيَاهُ وارفُقا به، ولا تُعنِّفاه في قولكما؛ حالة كونكما راجيَيْن وطامِعَيْن أنْ يتأثّر بدعوَتِكما، أو أنْ يخاف من عقاب الله وعذابه؛ إذ لو ذهبتما إليه وأنتما يائسان من استجابته، لم تندفع أنفسكما للقيام بمهمَّة رسالتكما على الوجْه الأمثل المطلوب منكم. فالله سبحانه أمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر أو يخشى." فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته، لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار" (الظلال 4/2336). وقال الله سبحانه مخاطبا موسى عليه السلام: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)]. {النَّازعات}أي: اذهب إلى فرعون؛ إنه علا وتكبَّر وتجاوز الحدَّ في كفره وفساده وظلمه وعدوانه، فقل لفرعون بغاية الرفق والتكريم : هل يطيب لك أن أدعُوَك إلى أن تَتَطهَّر من الشِّرك والكفر، وأُعرِّفك بصفاتِ ربِّك الجليلة، وأسمائه الحُسْنى، فإذا عرفت صفاته الجليلة، خشيتَ عقابه وانتقامه، فآمنت به رباً لا شريك له، وعبدته وحده، وأطعته طامعاً بثوابه الجزيل يوم الدين؟ إنَّ الأمر بالقول اللين، لفرعون الذي أُمر به موسى وهارون حتى لا يثيرا فيه حميَّة الطغيان بادئ ذي بدء، فيستكبر ويصدهما عن السبيل، وهذا القول اللين لا يعني المداهنة ولا النفاق... كما لا يعني الكذب أو المخادعة... ولكنه أسلوب العرض لهذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، إضافة إلى اللفظ الجميل والعبارة الواضحة. مثله كمثل الماء، فإنه على لطفه وليونته، إلا أنه متماسك عذب المشرب، يتغلغل في شعاب الأرض، كما يتغلغل في شعاب النفس، فيُحييها بعد موتها. وهو نفسه طوفان مُدمِّر لا يعرف المحاباة ولا التَّسيُّب أبداً، فيفتّت الصَّخر، ولا يتفتت، لأنه يستمد من الحق قوته وثباته و تماسكه، ولذا قال موسى عليه السلام: [حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ] {الأعراف:105}إنه الصدع بالحق مع لين الأسلوب؛ لأنَّ أداء الحق لا يعني خشونة اللفظ وقسوة الأداء. ومعنى الآية: إني رسولٌ من الله، مُلزمٌ إلزاماً لا خيار لي فيه، على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ في وصفه وتنزيهه، إذ أني معصوم بعصمة الله من أن أفتريَ عليه.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() 16-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون قبل الإتيان بالمعجزة -16- فكَّر فرعون في مضمون الرسالة وتدبَّره ملياً، وعلم أنها تعني ذهاب إلهيَّته، وضياع حكمه وسلطانه الذي بذل في سبيله الجهد الجهيد... وهي تعني أيضا تجريده من مصدر الخدمة الرخيص للدولة، وهم بنو إسرائيل مع موسى...وتثور ثائرته على هذه الدعوة، ويبدأ الهجوم على موسى هجوماً يدل على خبث الطغاة، ومعرفتهم لأبعاد الدعوة... ولكنَّ الكبرياء والهوى هو الذي صرفهم عن الاتباع...فبدأ بالطعن في أهليَّة موسى وأخلاقه، ثم طعن في مضمون رسالته ، وحاول استدراجه إلى معارك جانبيَّة، واتهمه بالجنون ، وهدده بالسجن. وكل ذلك وقع قبل إتيان موسى بالمعجزة . 1 ـ الطعن في أهليَّته وأخلاقه: قال تعالى حكاية عن فرعون: [قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرِينَ(19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ(21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)]. {الشعراء} قال فرعون لموسى: ألم نُرَبِّك ضمْن أسرتنا الملكيَّة كأحد أولادنا، منذ كنت وليداً حتى صرت رجلاً مكتملاً، أو لم تُقِمْ في رعايتنا سنين من عُمرك؟ أو لم ترتكب جريمة قتل المصريِّ انتصاراً لرجلٍ من قومك الإسرائيليين، وأنتَ من الجاحدينَ لنعمتي وحقِّ تربيتي؟! وفررت هارباً؟!، فكيف بمن لا يعرف الجميل لأهله ويقتل الناس أن يكون رسولاً أو صاحب رسالة. قال موسى عليه السلام رداً على اتهام فرعون له بقتل القبطي: أولاً: وَكَزْتُ القبْطي حينئذ، وأنا من الجاهلين بأنَّ ذلك يؤدِّي إلى قتله، لأنَّ فعل الوكزة كان على وَجْه التأديب لا على وجه القتل. فَهَرَبتُ منكم إلى «مَدْيَن» حين خِفْت أن تقتلوني بما فعلت من غير عَمْد، فأنا أعلم أنكم لا تحقون حقاً، ولا تقيمون عدلاً، وإلا فما بالكم ثارت ثائرتكم لقتلي فرداً واحد وكان قتله خطأ، وأنتم قد قتلتم المئات، بل كدتم أن تبيدوا شعباً كاملاً ذبحاً واستعباداً، ومع ذلك لم تتحرَّك فيكم عاطفة، ولم يتحرَّك فيكم عاقل أو شفيع يشفع لهم ويطالب بمعاقبة الجناة. ثانياً: إن صاحب الأمر والمحاسب هو الله تعالى، ولست أنت يا فرعون، وقد استغفرته، ودعوته فاستجاب لي، وقبل توبتي، فَوَهَب لي ربي العلم والفهم، وجعلني نبياً من المرسلين. فإرسال الرسل أمر خاص بالله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، وقد وهبني ذلك وجعلني من المرسلين، فالرسالة ليست مسألة اكتسابيَّة، ولكنها هبة من الله سبحانه يجعلها فيمن يشاء من عباده. ورداً على تربيتهم له صغيراً، وعلى استغرابهم على أن يكون رسولا ًوهو الذي عاش بينهم حتى بلغ أشدَّه قال: [وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)] أي: وتلك التربية في بيتك نعمةٌ تفضَّلت بها عليَّ، أنْ اتَّخذتَ بني إسرائيل لك عبيداً، فجعلتَ تقتل الأبناء من المواليد، وتسْتحيي البنات فلا تقتلهنَّ لتُسخِّرهُنَّ في الخدمة متى صِرْن نساءً قادرات على الخدمة، ولولا رغبة أهلك في أن أنفعهم أو أن يتَّخذوني ولداً لهم لذبحتموني مع سائر مَنْ ذبحتم من مواليد بني إسرائيل، أفهذه تصلح لأن تكون نعمةً تمُنُّها عليَّ؟!. فتربيتي عندك في الصغر لا تطعن في رسالتي، وليس هذا كفراناً لنعمتك عليَّ، فأنت ما أحسنت تربيتي بقدر ما أسأت إلى بني إسرائيل، أحسنت إلى رجل واحد، واستعبدت أمة كاملة. دُهش فرعون لفصاحة موسى عليه السلام، وحُسن بيانه، وقوَّة حجَّته في الردِّ على شبهاته، وأحسَّ أنه لن ينتصر على موسى... وبهذا تهاوى السلاح الأول الذي شهره فرعون في وجه موسى وهو سلاح تشويه السمعة.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() 18-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي كانت إجابة موسى تنمُّ عن حكمة وذكاء، وأمانة وصدق؛ لأن الخوض في القرون الأولى خوض فيما لا ينتهي أمره، وخوض في متاهة لا يعلمها إلا الله. وبهذا البيان أجاب موسى عليه السلام على السؤال، وبقي في حدود دعوته، وضيَّع الفرصة على فرعون. ويزيد موسى الأمر وضوحاً بما قال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى] {طه:53}. وربُّكم هو الذي جَعَل لكم الأرض بمثابة السرير المُمَهَّد المبسوط، صالحةً لتجدوا عليها راحتكم إقامةً، وجلوساً، واضطجاعاً، ومناماً، وجعل لكم في الأرض طرقاً صالحةً لأن تسلكوها في تنقُّلاتكم وأسفاركم، وبهذه السُّبل تُحقِّقون منافع كثيرةً لكم، وأنزل من السحاب ماءً، فأخرجنا بذلك الماء الذي أنزلناه من السحاب، أصنافاً كثيرةً من نباتٍ مختلف الألوان والطعوم والمنافع. كُلوا ـ يا أيها الناس ـ ممَّا أخرجنا لكم من الأرض، ممَّا هو صالحٌ لأنْ يُؤكل، واجْعَلوا أنعامَكم التي خلقناها لكم ترعى من نبات الأرض، إنَّ في ذلك الذي ذكر لآيات جليلات لذوي العقول الواعية الدرَّاكة، يدركون أنَّ ذلك الخلق العظيم والنظام البديع لا يكون إلا من ربٍّ قادر حكيم. هذه هي نعم ربي، فكيف تكفرونها؟ وتستكبرون عن طاعته؟ وهل نسيتم؟! إنكم مخلوقون من تراب فلم الشموخ؟ وأنتم إليها ستعودون ثم منها ستخرجون. [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] {طه:55}. من تراب الأرض ومائها خلقنا أجسادكم ـ أيُّها الناس ـ، وفيها نُعيدكم عند الموت والدَّفن، ومنها نُخرجكم مرةً أخرى يوم القيامة للبعث والحساب، وفصل القضاء، وتحقيق الجزاء. هذا هو ربي يا فرعون فهلا آمنت؟ لكن طبيعة فرعون العاتية ما زالت تؤمِّل في الانتصار على موسى أو أن تجد لها مخرجاً من هذا المأزق فتحافظ على مكاسبها وملكها. ولشدَّة خبث فرعون وذكائه، و لما رأى أنه لا يستطيع مجادلة موسى في باب الاستدلال على الخالق انتقل إلى السؤال عن ماهية الخالق التي يصعب الاستدلال عليها. [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] {الشعراء:23}. كأني بفرعون يقول إذا كان من سبق وصفه هو ربكما فما حقيقة ذات ربِّ العالمين الذي تزعم أنه غيري؟ وتزعم أنَّك رسوله؟ أعرض موسى عن إجابة فرعون عن حقيقة ذاته جلَّ جلاله، وسَمَتْ عن الإدراك ذاتُه؛ لأنَّ حقيقة ذاته لا يستطيع البشر إدراكها. [قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:24}. قال موسى: ربُّ العالمين هو خالقُ السموات والأرض وما بينهما، وممدُّها بعطاءات ربوبيَّته دواماً، إن كنتم مُسْتعدِّين لأن تفكِّروا بالحقائق التي أعرضها عليكم، فتُوقنوا بربِّ العالمين عن طريق البراهين والأدلة العقليَّة، فإذا كنتم غير مُستعدِّين لأن تفكِّروا فتوقنوا مُستقبلاً، فإنَّ بياني هذا لن يُغيِّر من جُحودكم لربِّكم شيئاً مهما قدَّمت لكم من أدلة. وعندما سمع فرعون هذه الإجابة الواسعة العميقة أدرك أنه لن يستطيع الإفلات، فأراد إشراك المستمعين معه في هذا الحوار، حتى لا يقع وحده: [قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ] {الشعراء:25}؟!! قال فرعون لِمَنْ حَوْلَه من أشراف قومه محرضاً لهم ومثيراً: ألا تستمعون لجوابه، إني أطلب منه الماهيَّة وهو يُجبيني بأفعاله وآثاره؟ إلا أن موسى يستمر في بيانه، شارحاً دعوته، ومبيناً أصول العقيدة: [قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] {الشعراء:26}. إنَّه خالقكم وخالقُ آبائكم الأوَّلين الذين ماتوا عند انتهاء آجالهم، فكيف تعبدون مَنْ هو مخلوقٌ مثلكم، وله آباء قد فَنَوا كآبائكم؟ هذه هي مكانة فرعون إنه إنسان من البشر وليس إلهاً كما يدَّعي، بل هو مربوب.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() 21-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي المباراة بين موسى والسحرة -21- استشارة فرعون كبراء قومه: لقد جدَّ الجد، وحاق الخطر بفرعون وممارساته، ووجد من يقف في وجهه يريد تقويض كبريائه؛ ولذا لجأ فرعون للاستشارة؛ لأنه محتاج إليها، فالأمر أخطر من أن يستبدَّ به وحده، فأشاروا عليه بأن يؤجِّل مناقشة موسى وجداله إلى وقت إحضار من يستطيع مقارعته وهم السحرة؛ لأنهم ظنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل السحر، ولا سيما أن السحر كان منتشرا في ممالكهم آنذاك ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف:111-112]. أي: اجعل لموسى وأخيه هارون أجلاً نقيم فيه مباراة بين موسى وبين سحَرة مصر، تشهدها الجماهير في مكان جامع، وأرسل في المدائن المصريَّة، يجمعون ويسوقون إليك من فيها من السَّحرة، يأتوك من أقاصي البلاد بكل ساحر ماهر بصناعة السحر. وهذا يدل على أنهم أهل سياسة ونظر، كما يدل على أن دعوة موسى قد ظهرت في الناس، وأن الإشارة بقتله أو سجنه بعد ظهور حجته ستضعف عبوديَّة الناس لفرعون، فلا بد من كسر الحجة قبل معاقبة صاحبها بالقتل أو السجن، وقد كانوا يظنون أن السَّحَرة لكثرتهم وبراعتهم واستباقهم للتقرب من فرعون قادرون على كسر حجة موسى عليه السلام، وإلا لما غامروا في هذا الشأن العظيم. وأخذ فرعون بمشورة ملئه، وقال فرعون لموسى مُهدِّداً ومتوعداً: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ [طه:57-58].أي :حدِّد بوعد منك مكان المباراة التي سنجريها بينك وبين سحَرتنا، وحدِّد زمانها، لا تجاوزه نحن ولا أنت، واختر مكانا عدلا في وسط المدينة، بحيث يستطيع جميع سكانها الحضور؛ ليعاينوا عن قرب نتائج هذا التحدي، ويكون فيه فريقا المباراة متعادليْن في كل شيء. زمان إجراء المباراة: وكان من إلهام الله تعالى لموسى عليه السلام أن واعدهم في يوم عيدهم حيث اجتماع الناس وكثرتهم؛ لتظهر حجته فيكون ذلك أدعى لإيمان الناس بربهم سبحانه وتعالى، ولا شك أن في هذا مخاطرة عظيمة من موسى عليه السلام سواء غلب هو السحرة أم غلبوه، فإن هم غلبوه حقت عليه العقوبة أمام هذا الجمع الكبير، والعقوبة أمام الناس أشد من ألم العقوبة ذاتها، وإن غلب هو السحرة فلا يأمن غضب فرعون وفتكه به، وهو الذي ألَّه نفسه، ولم يجد من يعارضه في كبريائه فضلا عن أن يهزمه ويدحض حجته أمام جموع كثيرة من الناس، ولكن الأنبياء عليهم السلام يضحون بكل غال ونفيس في ذات الله تعالى، ويحرصون على هداية الناس ولو كان في ذلك قتلهم، فسلام الله تعالى على موسى وسائر النبيين، وجزاهم عن عباده المؤمنين خير الجزاء :﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه:59]. وافق موسى على اقتراح فرعون، واتفق الطرفان على أن يكون موعد إجراء المباراة بينهما يوم العيد، الذي يخرجون فيه من مساكنهم متزيِّنين، ويلتقون في مكان واسع جامع حيث يكون الناس في فراغ من العمل، ويكون حضورهم أوفى وأيسر. وأن يجمع الناس في ذلك المكان وقت الضحوة نهارا جهارا.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |