العدل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         عون المعبود شرح سنن أبي داود- الشيخ/ سعيد السواح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 499 - عددالزوار : 86368 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 372 - عددالزوار : 80581 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 48 - عددالزوار : 38406 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 31552 )           »          قصة الحروب الصليبية د .راغب السرجانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 31 - عددالزوار : 43210 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 176 - عددالزوار : 54141 )           »          فريضة تحيط بنا ونغفل عنها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          من وحي آيات الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          ثقّل ميزانك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          زيف الانشغال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-12-2020, 05:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,912
الدولة : Egypt
افتراضي العدل

العدل (1)


الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله السويدان



عناصر الخطبة

1/ أمْر الإسلام بالعدل في كل آنٍ وشأن 2/ العدل مع النفس 3/ العدل بين الأزواج 4/ من صور العدل التجاوز عن المسيء الذي أصلح من قبل


اقتباس

وأولُ عدل طالَبَ به الأنبياءُ واحداً تلو الآخر على مَرِّ العصور توحيدُ الله بالعبادة، وخلافُه الشركُ الذي هو أكبر ظلم؛ ولذلك جاء في القرآن كلام العبد الصالح لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ..










إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
ألا تحسون بمنهج العدل والوسط في ثنايا هذه الآية (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)؟ ألا تحسون بوضوح التحذير من الحيف والجور والظلم واتباع الهوى حين تتلونها أو تسمعونها؟ (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)؟.
إن الله -تعالى- هو الذي يحذر، يقول القرطبي في تفسيره للآية: "(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، أي العدل، عند شهادتكم ولو على أنفسكم، أي: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على والديكم أو أقربيكم فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ، ولا تميلوا فيها لغنيّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين الناس في الحكم".
قال: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، أي: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيها بالقسط.
قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم؛ بل استعملوا العدل في كل أحد، صديق كان او عدو؛ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)، أي: ولو كان الحق على مثل قرابتكم.
ويقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، هناك أوامر ربانية واضحة ومتكررة بالعدل والقسط، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف:29]، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].
بل الأمر بالعدل حتى في العقوبة، يقول -جل وعلا-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل:126]، يقول -سبحانه-: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء:33].
معاشر الإخوة: لو تأملنا فيما تقدم من آيات لوجدنا أن كلاً منها أمر بالعدل ونهى عن الحيف والجور، ولوجدنا أيضا -وهو موضوعنا اليوم- أن كل آية اختصت بمعنى ليس بالضرورة في الأخرى، فآية تنهى عن الجور في حق العدو، وأن عداوته أو بغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه شهادة أو حكماً؛ وأخرى تحذر من الميل مع القريب مما يكون سببا لعدم ثبوت الحق عليه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب تلك القرابة، وأخرى تحذر الوالي أو الخليفة من أثر الهوى والشهوة في حكمه بين الناس بالعدل.
وهكذا يستمر الأمر بالعدل في كل شأن؛ فإحقاق الحق، وإقامة العدل الذي يأمر به الإسلام يتخذ أشكالا متعددة في كل صورة من صور حياة البشر، الفردية الخاصة الصغيرة، والجمعية المشتركة الواسعة، والسياسية التشريعية، والاجتماعية المدنية، والاقتصادية المالية.
بل إن إحقاق الحق وإقامة العدل قائمان حتى في عالم الحيوانات والجمادات في هذه الخليقة بعضها ظاهر للعيان، وبعضها مستتر؛ ولذلك تتساءل الملائكة عن خلق قد يفسد هذا العدل المحكم في خلق الله، فقالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ َ) [البقرة:30]، فالحق والعدل والقسط هو ما قامت عليه السماوات والأرض بنص القرآن؛ يقول -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:35]، وقال -تعالى-: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف:3]، وقال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم:8]، وقال أيضا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38-39].
ولما خلق الله السماء بالحق ورفعها وضع الميزان، (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن:7]، قال مجاهد وقتادة والسدي "أي وضع العدل في الأرض كي يقام"، هذا خبر ثم ألحقه بالأوامر فقال: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:8-9].
ولا يقف الحد في تأكيد العدل والقسط على خلق السماوات والأرض، بل أتبع ذلك -سبحانه- بشهادته وشهادة الملائكة وأولي العلم بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط، فقال -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران:18].
فالقسط أو العدل أمر مؤكد في كتاب الله -تعالى- وما أوضحه في آيات الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].
فالعدل في الآية ذكر مرتين، والحق ذكر مرتين، ثم قال: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)؛ فلقسط والعدل والقوام هو العدل؛ بل إن القرآن يرشد للعدل في كل شيء.
يقول -سبحانه-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]؛ أقوم في ماذا؟ لم يفصح؛ بل أبهم؛ دلالة على الاستغراق في كل شيء، أي: أقوم في كل أمر؛ فهو يهدي للعدل في كل شيء.
وأول عدل طالب به الأنبياءُ واحداً تلو الآخر على مَرِّ العصور توحيدُ الله بالعبادة، وخلافُه الشركُ الذي هو أكبر ظلم؛ ولذلك جاء في القرآن كلام العبد الصالح لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13].
أيها الإخوة: قد ينصرف الذهن حين الكلام عن العدل إلى الوالي أو القاضي أو النظام، ولا بأس؛ لكن المحذور أن يقف عند هذه الأشياء ويختفي عن سائر الحياة؛ فالعدل -كما تقدم- مطلوب في كل شيء، بدءا بنفسك التي بين جنبيك، أن تعدل معها، فقد نهى الله عن ظلمها فقال -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36]، فالعدل مع النفس يقتضي تهذيبها ومنعها من المنكر، فمن لم ينهها عن الحرام والمنكر فقد ظلمها.
والعدل يكون مع الزوج ومع الزوجة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:228]، ولا مجال لسرد حقوق الزوجين، فالموضوع واسع يستدعي أن يفرد؛ لكن، أقول باختصار: يتقي اللهَ الرجلُ حينما يتعامل مع امرأته، ولتتقي الله المرأة حين تتعامل مع زوجها، وخيرهما الذي يحسن ويصفح ويحلم ويرحم ويعطي ويصبر.
فمن وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا قوله " استوصوا بالنساء خيرا " متفق عليه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" رواه ابن حبان.
فمن العدل أن يأمر الرجل امرأته بالمعروف وينهاها عن المنكر، فالرجل مسؤول عن امرأته وسوف يسأل عنها وعن حجابها وعن خروجها ودخولها، فلقد أمر الله -تعالى- كل ولي بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].
وقال -صلى الله عليه وسلم- "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته".
ومن العدل أن ينظر الزوج إلى زوجته كما يريده الله -تعالى-، على أنها سكن له تركن إليه نفسه؛ فهي ليست أداة للزينة، ولا مطية للشهوة، ولا غرضا للنسل فحسب؛ بل هي شريكة حياته، وأم أولاده، وحافظة سره؛ يقول -تعالى- (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21].
ومن العدل أن يقدر أنوثتها وعاطفتها، فهي امرأة وليست رجلا، في مسند الإمام بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، قال: أظنها عائشة -رضي الله- عنها، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، قال: فضربت الأخرى بيد الخادم فكسرت القصعة نصفين، قال: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "غارت أمكم، غارت أمكم"، قال: وأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام ثم قال: "كلوا"، فأكلوا، وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع إلى الرسول قصعة أخرى وترك المكسورة مكانها.
هكذا بكل هدوء راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- طبيعة المرأة في غيرتها فلم يقسُ عليها، وعدل في شأن القصعة.
أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا العدل في أمرنا كله.


الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى مَن سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فمِن العدل مع الزوجة؛ بل ومع الناس جميعا، ألا تنسى المحاسن والفضائل، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْركْ مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِه منها خُلُقًا، رَضِي منها خُلُقًا آخَرَ"، كأن تكون غضوبة لكنها ديِّنةً وعفيفة، أو تكون متسرعة لكنها رحيمة بك وبأولادك، وهكذا.
وعلى الزوجة مثل ذلك؛ فإن من أسوأ ما تقع فيه المرأة كفران العشير، ففي حديث ابن عباس في الموطأ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال بعد صلاة الخسوف يوماً ما: "إني رأيت الجنة ‏ -‏أو أُريتُ الجنة- ‏ ‏فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا؛ ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: لِمَهْ، يا رسول الله؟ قال "بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن ‏ ‏العشير، ‏ويكفرن الإحسان، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط‏."
كفران الجميل ونسيان الفضل من أسوأ البخس، ولما نادى نبي الله يونس -عليه السلام- ربه وهو في بطن الحوت استجاب له ربه، وهو مليم، أي: إنه من قبلُ قد أتى بما يُلَامُ عليه -عليه السلام-، قال -تعالى- (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143-144].
قال الربيع بن أنس: "لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالحٌ للبث في بطنه إلى يوم ببعثون"، وقال الحسن: "قدم عملاً صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء"، قال القرطبي: "ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر".
فالعدل يقتضي إحضار الفضائل وعدم نسيانها، أساءت إليك يوما ما فلا تنسى محاسنها في يوم قبل ذلك، أخطأ صديقك إليك اليوم فلا تنسى فضله عليك بالأمس القريب.
حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أخطأ خطأ شنيعا، فقبْل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة أرسل هذا الرجل رسالة مع امرأة ليبلغ قريشاً بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قادم إليهم، وفي ذلك كشْف لخطة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكشفه الله -تعالى- قبل أن تصل رسالته، فإذا به ماثلاً أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حمَلَكَ على هذا يا حاطب؟"، قال: يا رسول الله، أما والله إني لناصحٌ لله ولرسوله، ولكني كنت غريبا في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم وخشيت عليهم، فكتبت كتابا لا يضر اللهَ ورسولَه شيئا، وعسى أن يكون منفعة لأهلي، فقال عمر -رضي الله عنه-: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين! فدعني أضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تقتل رجلاً من أهل بدر؟ وما يدريك يا ابن الخطاب؟ لعل الله اطَّلَع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم". إنه العدل، والنظر إلى الفضائل والمحاسن!.
وللحديث بقية إن شاء الله…



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-12-2020, 06:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,912
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العدل

العدل (2)


الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله السويدان






عناصر الخطبة

1/ مجيء الشريعة بغاية العدل 2/ صورتان للظلم: التعميم والربا 3/ وجوب الاهتمام الجاد المتواصل بالعدل 4/ حرب المخدرات.


اقتباس

يجب أن نولي للعدل أكبر أهمية في حياتنا، وإن كان ذلك شاقا أحيانا في المتابعة؛ لأن العدل مسؤول عنه الجميع في كل نشاطات الحياة، العدل ليس فريضة بعينها يؤديها المسلم كالصلاة مثلا أو صوم رمضان ثم تنتهي، لا! العدل عقيدة وسلوك وميزان يضفيه المسلم على كل موقف يتخذه أن يكون موقفه موقفا عادلا، ويضفيه على كل حركة قام بها، وكل كلمة تلفظ بها قدر استطاعته طوال حياته ..









إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عدل الإسلام، كيف كان يوما ما سببا من أسباب هداية الناس؟ العدل له أثره، له قيمته، في مسند الإمام بسند صحيح، عن عبد الله بن عباس قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسًا، إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: "أَلَا تَجْلِسُ؟"، فَقَالَ: بَلَى، فَجَلَسَ إِلَيْهِ مُسْتَقْبِلَهُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَظَرَ سَاعَةً وَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَ عَلَى يَمِينِهِ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ تَحَرَّفَ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ، فَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقَالُ لَهُ -يحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل منصتا يحاول الفهم وابن مظعون ينظر- ثُمَّ شَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ.
وَأَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ كَجَلْسَتِهِ الأُولَى -التفت إلى عثمان من جديد- فَقَالَ عثمان: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَا كُنْتُ أُجَالِسُكُ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلَ فَعْلَتَكَ الْغَدَاةِ! قَالَ: "وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟" قَالَ: رَأَيْتُكَ شَخَصَ بَصَرُكَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعْتُهُ حَتَّى وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ، فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تَنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِه شَيْئًا يُقَالُ لَكَ.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَفَطِنْتَ إِلَى ذَلِكَ؟" قَالَ عُثْمَانَ: نَعَمْ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسَلَّمَ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ… قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: "قَالَ لِي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:9]".
في مكة يأمر الله -عز وجل- رسوله بالعدل، وينزل عليه آيات في العدل، إن الله يأمر أولا بالعدل، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم-، إن الله يأمر بالعدل، وبالعدل ينتشر الإسلام.
وقف ربعي بن عامر شامخا وقال: الله ابتعتنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبي قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما وموعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
فعدالة الإسلام عدالة ربانية محكمة لا تخضع لأهواء البشر، ولا تمالي أحدا، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومَن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق؛ تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها".
الشريعة؛ السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، ومَن له معرفة بمقاصدها ووضْعها وحسُن فهمُه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة؛ فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة, والشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
فإذا مكنك الله من رياسة أو استخدام لضعيف إيمان أو لأحد من غير المسلمين، عامل، سائق، فاحتسب الإنصاف، وادعُ إلى الله بالعدل، واعلم أن عدلك معه في التعامل أو في الوفاء بأجرته أو بأي حق من حقوقه هو في الحقيقة دعوة له للإسلام، أو زيادة لإيمانه إن كان محسنا.
أيها الإخوة: إن العدل يتخذ صوراً أخرى غير مُنتبَهٍ إليها، فإن من العادات السيئة التي تشيع بين الناس ما يسمى بالتعميم، فما إن يُتهم -مثَلا- متدينٌ في أمانته -بصرف النظر عن مدى صدق تدينه- إلا وشاع التعميم: كُلُّ متدينٍ محتال! وإنما يتظاهر بالتدين لتحقيق أغراضه، فيأخذون الجميع بجريرة واحد أو اثنين أو قلة قليلة فوق ذلك.
وقد صرح القرآن بأهمية العدل في هذا بقوله: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]، وقل مثل ذلك لو أخطأ رجل من جنسية معينة، ترى الذين يعممون فيجعلون من هذه الجنسية بالذات علامة ثابت لمثل ذلك الخطأ، فكل عراقي كذا… وكل مصري كذا… وكل فلسطيني كذا… فالتعميم ظاهرة ظالمة مخالفة للعدل.
استمعوا إلى القرآن كيف يعلمنا الإنصاف والعدل حتى مع ألد أعدائنا، قال تعالى في اليهود: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:162].
ما كلهم دون ذلك، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، أي من أولئك اليهود من آمن بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهم من بقي على كفره، فليس كل اليهود شيئا واحدًا.
وقال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:113-114].
ليسوا سواءً! لا تعميم، يريد الله إنصافهم، فمِن اليهود مَن كانوا موحِّدين قبل بعثة عيسى -عليه السلام-.
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في دعائه في القنوت: "اللهم اللعن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك"، فقيد الدعاء بمن كانت تلك أفعالهم من الكفار، "يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أوليائك"، فانتفى الدعاء عن غيرهم. فالتعميم الخطأ وجعْل الناس شيئا واحدا المخطئ منهم والمصيب ليس من العدل.
معاشر المسلمين: إن من الظلم والبخس المعلن "الربا"، الربا سبب المحق، الربا سبب الكراهية والحقد، والربا سبب رئيس من أسباب الانهيار الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي اليوم، لماذا؟ لأن الربا لا يقوم على العدل، وأي شيء لا يقوم على العدل فمآله المــَحْق والخسران، ولو بعد حين.
يقول الله تعالى مبينا ظلم الربا، وعلاج ذلك الظلم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة:278]، ثم قال تعالى في الآية التي بعدها: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة:279]. كُفَّ عن الظلم سواء كان منك أو إليك، لك رأس المال فقط أما الربح فليس لك.
إذاً؛ فالعدل مقصد من مقاصد الإسلام في كل شأن، ومع كل مخلوق، يقول الله تعالى آمراً رسوله أن يبلغ الناس: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15]، هذا أمر من الله تعالى؛ (وأُمرت)، أي: أمرني الله -عز وجل- لأنْ أعدل بينكم.
أيها الأخوة: يجب أن نولي للعدل أكبر أهمية في حياتنا، وإن كان ذلك شاقا أحيانا في المتابعة؛ لأن العدل مسؤول عنه الجميع في كل نشاطات الحياة، العدل ليس فريضة بعينها يؤديها المسلم كالصلاة مثلا أو صوم رمضان ثم تنتهي، لا! العدل عقيدة وسلوك وميزان يضفيه المسلم على كل موقف يتخذه أن يكون موقفه موقفا عادلا، ويضفيه على كل حركة قام بها، وكل كلمة تلفظ بها قدر استطاعته طوال حياته.
ومَن اعتنى بذلك بارك الله في حياته، ووفقه لأحسن حال؛ ولذا وفَّقَ اللهُ أصحمةَ نجاشيَّ الحبشةِ للإسلام، فعدلُهُ أنقذه من الشرك؛ أسأل الله تعالى أن ييسر لقصته موعدا…



الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء:7].
إن من تكريم الله لابن أدم امتيازه عن غيره بالعقل، فالعقل جوهرة ثمينة يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية، وإذا ما فقد الإنسان عقله لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات؛ بل ربما فاقه الحيوان بعلة الانتفاع، ومن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به؛ بل هو عالة على أهله ومجتمعه.
هذا العقل السليم الذي هو مناط التكليف يوجد في الناس من لا يعتني بأمره ولا يحفظه ولا يحميه، بل هناك من يضعه تحت قدميه من أجل شهوته، كل هذا يبدو ظاهرا جليلا في مثل كأس خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر يفقد الإنسان عقله فينسلخ من عالم الإنسانية والكرامة ليتقمص شخصية السفاهة والخبل، وأحيانا شخصية الإجرام والفاحشة؛ فالسكران ينسى ربه، ويظلم نفسه، ويفقد مروءته وكرامته، ويهيم على وجهه، وقد يجني على أهله إذا فقد عقله.
إن أمّة لا تحافظ على عقول أبنائها لَأمّة ضائعة، فماذا فعل السُكر -أيها الإخوة- بأهل الجاهلية؟ هل أعاد لهم مجدا تليدا، أو وطنا سليبا؟.
يقول -صلى الله عليه وسلم- في رحلة المعراج: "وأُتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربتُه، فقيل لي: هُدِيتَ للفطرة -أو أصبت الفطرة- لو أنك أخذت الخمر لغوت امتك"، الله أكبر!.
إن قول جبريل -عليه السلام- يؤكد أن الأمة المسلمة الحقة لا يمكن أن تتبع شارب الخمر حتى ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحاشاه عن ذلك! بأبي هو وأمي صلوات الله وسلمه عليه.
أيها المسلمون: لا ينفك أعداء الدين من دعاة الشر ومروجي الرذيلة لا ينفكون يطرقون إلى الفتنة كل باب، ويسلكون إلى الإفساد كل طريق، همُّهم تجريد الأمة من دينها، وإضعاف العقيدة في قلوب أبنائها، إنهم يسعون لإفساد سلوك أبنائها وتحطيم أخلاقهم وجعل المجتمع الإسلامي مسخا مشوها لا يكاد يمت لدينه الحنيف بصلة.
وبين فينة وأخرى نسمع بأنباء عن ضبط الأجهزة الأمنية لمهربين، والإيقاع بشبكة مروجين مفسدين كانوا يعدون عدتهم لدخول هذه البلاد بشر ما يجدون من أنواع المخدرات والمسكرات.
لقد أضحت حرب المخدرات من أخطر أنواع الحروب المعاصرة، يدرك ذلك من وقف في الميدان واقترب في المعترك، سواء من رجال الأمن ومكافحة المخدرات أو من العاملين في جمعيات المكافحة الخيرية وأطباء المستشفيات.
بل ويشعر بضراوة تلك الحرب وشراستها كل من يسمع بالكميات الهائلة والأنواع الكثيرة التي تحبط عمليات إدخالها إلى بلادنا، فضلا عن تلك التي تروج وتنتشر ويقع ضحية لها فئات من المجتمع.
وإنه، ومع ما سنَّتْهُ هذه البلاد من عقوبات رادعة، وجزاءات زاجرة، فإن هذا الطوفان المدمر ليسرع في زحفه إلى البيوت، ويقتحم المدارس والجامعات، وتشكو آثاره المصانع والمعامل، بل ولم تسلم منه حتى بعض الدوائر الحكومية والأجهزة الرسمية، مما يستدعي منا مواطنين ومسؤولين وأولياء ومربين أن نكون على وعي بحقائق الأمور، وإدراك لحجم هذا الخطر.
لابد من تنمية الرقابة الذاتية في قلوب الناس عامة، وغرسها في أفئدة الناشئة والشباب خاصة، وتسليحهم بالإيمان، الإيمان بالله والخوف منه -سبحانه-، وتقريرهم بنعمه ليحمدوه ويشكروه، لابد من تكثيف التوعية بخطر المسكرات والمخدرات على الدين والأخلاق، ونشر الوعي بأضرارها على العقول، وشدة فتكها بالأجساد.

لابد من ملء أوقات الشباب بما ينفعهم وينفع مجتمعهم؛ فإنه لا أفسد للعقول من الفراغ! والنفوس لابد أن تشغل بالحق، وإلا سد أهل الشر فراغها بباطلهم.
كيف تنام أعين بعض الآباء وترتاح قلوبهم وأبنائهم يقضون معظم أوقاتهم خارج البيوت بعيداً عن رقابتهم، ولا هم حتى يسألون ولا هم يراقبون؟!.

أيها الأخوة: إن أمانة التربية ثقيلة، وإن واجب الأبوة كبير، وإن الله سائل كلا عن أمانته ومحاسبه عن واجبه.
أسأل الله تعالى أن يحفظنا ويحفظ أبناءنا وبناتنا.
اللهم آمنا في أوطننا، وأصْلِحْ أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 82.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 80.23 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.59%)]