|
|||||||
| هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 28، 29]. 1- تحريم اتخاذ الكافرين أولياء ومناصرتهم، والانتصار بهم، ووجوب معاداتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]. فلا تجوز موالاة الكافرين ومناصرتهم على أحد من المؤمنين بحال من الأحوال، ولا تجوز مناصرتهم على أحد من الكافرين، إلا إذا كان في مناصرتهم على الكافرين مثلهم مصلحة ظاهرة للمسلمين، كأن يناصر المسلمون الكفار على كفار يخشى المسلمون منهم، فتكون مناصرتهم، لا لمصلحة الكفار، ولكن لمصلحة المسلمين أنفسهم، ولهذا فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس؛ لشدة عداوة الفرس للمسلمين وتربصهم بهم، وتمزيق مَلِكهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إليه، بخلاف ملك الروم[1]. قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1 - 5]. كما لا يجوز الانتصار بالكافرين والاستعانة بهم على غيرهم من الكافرين، وهذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لكافر تبعه يوم أحد: «ارجع فلن استعين بمشرك»[2]. لكن إن احتاج المسلمون إلى الانتصار بهم، وكان في ذلك مصلحة ظاهرة للمسلمين فقد أجاز ذلك بعض أهل العلم بشرط أن يكون ذلك عند الضرورة، وبقدر الحاجة، ودفع الضرر عن المسلمين، من غير مداهنة للكافرين على حساب الدين والأخلاق، ولا مذلة على المؤمنين. وقد استدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار يوم خيبر أدرعًا من صفوان بن أمية، وكان يومئذٍ مشركًا، فقال: «أغصبًا يا محمد؟» فقال: «بل عارية مضمونة»[3]. وقد شهد صفوان حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يسلم بعد[4]. وحالف صلى الله عليه وسلم خزاعة[5]. 1- أن الإيمان الحقيقي يمنع من اتخاذ الكافرين أولياء، ويوجب عداوتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ﴾، فعلق الحكم بالمؤمنين، وبوصف الإيمان، فمن والى الكافرين فإيمانه ناقص، ويخشى عليه ما هو أعظم من ذلك. 2- وجوب الموالاة بين المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]. 3- براءة الله - عز وجل - ممن اتخذ الكافرين أولياء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ ومن برئ الله منه تولاه الشيطان. 4- أن اتخاذ الكافرين أولياء من كبائر الذنوب؛ لأن الله رتب عليه براءته من فاعله، وما رُتب عليه براءة الله، أو براءة رسوله من فاعله فهو من الكبائر. 5- لا يجوز أن يكون لأحد من الكفار ولاية على أحد من المسلمين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]. 6- في براءة الله - عز وجل - ممن يوالي الكافرين من دون المؤمنين إثبات ولايته عز وجل للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]. 7- تقدير الدين الإسلامي لكل حال ولكل ظرف قدره، ورفع الحرج عن الأمة في اتخاذ التقاة من الكفار ومداراتهم عند الضرورة؛ لاتقاء شرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾. 8- تحريم الركون إلى الكفار ومداهنتهم على حساب ديننا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾؛ أي: لاتقاء شرهم، دون الرضا بما هم عليه؛ ولهذا قال بعده: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾. 9- التحذير من نقمة الله وعقابه، وأليم عذابه، لمن اتخذ الكافرين أولياء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ وفي هذا من الوعيد ما لا يخفى. 10- جواز إضافة لفظ «نفس» إليه - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾. 11- أن مصير جميع الأمور والأحكام والخلائق إلى الله - عز وجل - وحده، لا إلى غيره في الدنيا والآخرة، وسيحاسب العباد على أعمالهم، ويجازيهم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ وفي هذا وعيد لمن خالف أمر الله، ووعد لمن أطاع الله. 12- أن القرآن الكريم كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقوَّله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ قلْ ﴾ وفي هذا رد على من زعموا أنه اختلقه وافتراه؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الطور: 33]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ [يونس: 38]. 13- الأمر بإبلاغ الناس بعلم الله - عز وجل - بما يخفون في صدورهم، وبما يبدون؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، وذلك ليحاسب المرء نفسه على ما يخفي وما يعلن، قبل محاسبته على ذلك. 14- إحاطة علم الله - عز وجل - بما يخفي الناس في صدورهم وبما يبدونه؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، ومقتضى علمه - عز وجل - محاسبتهم على ذلك، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]. 15- التحذير من أن يخفي الإنسان في نفسه ما لا يرضي الله - عز وجل - من موالاة الكافرين، أو غير ذلك. 16- إثبات الاختيار للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾، وفي هذا رد على الجبرية. 17- كما أن في الآية وعيدًا وتحذيرًا ظاهرًا لمن أخفى الشر أو أبداه، ففيها في المقابل وعد لمن عمل الخير أو نواه. 18- سعة علم الله - عز وجل - وإحاطته بما في السموات وما في الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾. 19- عموم قدرة الله - عز وجل - وتمامها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. [1] أخرج قصة تمزيق كسرى لكتابه صلى الله عليه وسلم، أحمد (3/ 441-442)، من حديث التنوخي رسول هرقل. وأخرج قصة ملك الروم «هرقل» وإكرامه لمن وفد عليه من الصحابة- أخرجه من حديث ابن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنهما البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد والسير (1773). [2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1817)، وأبو داود في الجهاد (2732)، والترمذي في السير (1558)، وابن ماجه في الجهاد (2832)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [3] أخرجه أبوداود في البيوع، تضمين العارية (3562)، وأحمد (3/ 401)، من حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه. [4] انظر: «فتح الباري» (6/ 179). [5] أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (13/ 340) حديث (5996)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وله شاهد من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أخرجه البخاري في الشروط (2731، 2732). وانظر: «السيرة النبوية» (3/ 321-326)، «فتح الباري» (5/ 337-338).
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 33 - 37]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ﴾: «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ اصْطَفَى ﴾: الاصطفاء الاختيار والاجتباء، وصفوة الشيء خياره وأفضله، واصطفى الشيء أخذ صفوته. أي: إن الله اجتبى آدم عليه السلام واختارة نبيًّا وفضَّلهُ، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجَد له ملائكته، وأسكَنه الجنة، ثم أهبَطه منها ليعود إليها أفضل مما كان عليه قبل ذلك، وأوحى إليه بشرع تَعَبَّد الله تعالى به، وبقي الناس عليه مدة لم يحصل بينهم اختلاف، فلما اختلفوا بعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 19]. ﴿ ونوحًا ﴾؛أي: واصطفى نوحًا عليه السلام، واختاره نبيًّا رسولًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1]. وجعله أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشرك الناس وعبدوا مع الله غيره؛ كما جاء في حديث الشفاعة أن آدم عندما يعتذر عن الشفاعة يقول: «ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»[1]. ونجَّاه ومن اتَّبعه في السفينة، وأغرق من عصاه، وجعل النبيين بعده من ذريته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26]. وذكر الله - عز وجل - نوحًا بعد آدم؛ لأنه النبي الثاني، والأب الثاني للبشرية بعد آدم؛ لأن البشر كلهم بعده يرجعون إلى أبنائه الثلاثة: (سام، وحام، ويافث)؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]. ﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل إبراهيم) واختارهم واجتباهم وفضَّلهم، (وآل إبراهيم) هم: ذريته وعشيرته وقرابته، فاختار إبراهيم نبيًّا رسولًا، واتخذه خليلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]. وجعل النبوة بعده في عقبه وذريته، ونصَّ على آله - والله أعلم - مع أنه يدخل فيهم من باب الأولى لكثرة الرسل فيهم، ولأن فيهم أفضل الرسل وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 86]. ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل عمران) واختارهم، و(عمران): هو والد مريم أم عيسى عليهما السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، ويدل على هذا قوله بعده: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35]. و(آل عمران): هم أهل بيته امرأته التي أثنى الله تعالى عليها بقوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35]. و«مريم» ابنتها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]. وعيسى ابن مريم؛ كما قال تعالى: ﴿ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: 253]. فهم مصطفى من مصطفى، من مصطفى من مصطفى. فاصطفى الله آدم، واصطفى من ذريته نوحًا، واصطفى من ذرية نوح آل إبراهيم، واصطفى من آل إبراهيم آل عمران. ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾: «العالمين» جمع «عالَم» بفتح اللام، وهو كل من سوى الله تعالى. والمعنى: اصطفينا هؤلاء المذكورين، واخترناهم، وفضَّلنا كلًّا منهم على عالم زمانه، ومنهم من اصطُفِيَ وفُضِّلَ على جميع الخلق، فالرسلُ والأنبياء أفضل الخلق كلهم، وأفضلهم أولوا العزم من الرسل، وأفضل أُولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح وعيسى على اختلاف بين أهل العلم أيهما أفضل. ويدخل في اصطفاء وتفضيل المذكورين من تبعهم من المؤمنين والصالحين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما «قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، قال: «هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد؛ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وهم المؤمنون»[2]. قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:34]. قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: منصوب بدلًا من ﴿ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾، أو حال من آل إبراهيم وآل عمران. و﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: مأخوذ من (ذرأ) بمعنى: خلق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، أي: يخلقكم فيه، والمعنى على هذا أن هؤلاء الأصناف الأربعة (ذرية)؛ أي نسلًا. ﴿ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾: فكلهم أولاد آدم، ومتوالد بعضهم من بعض، وبعضهم من بعض في جنس الخلقة، وفي الدين، والأخلاق والآداب، وفي التسلسل في الاصطفاء، وعلى هذا تكون الذرية شاملة للأصول والفروع. ويُحتمل أن ﴿ ذرية ﴾ مأخوذ من (وذر) بمعنى: ترك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خيرًا من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»[3]. وعلى هذا يكون المراد بالذرية: الفروع، أي: الأولاد الذين خلفهم وتركهم الإنسان بعده. ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ أي: ذو سمعٍ واسع يسع جميع الأصوات والأقوال ويجيب الدعوات. ﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: ذو علمٍ واسع يسع كلَّ شيء، يَصطفي ويُفضِّل مَنْ هو أهل لذلك بعلمه وحكمته؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] وقال تعالى ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:90، 91]. فاصطفاؤه لمن اصطفاه من عباده عن سمعٍ منه - عز وجل - لأقوالهم، وعِلم منه بضمائرهم وأفعالهم، وأحوالهم. قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾. تقرير لاصطفاء الله - عز وجل - آل عمران، وبيان له. وقد فصَّل عز وجل في هذه الآية وما بعدها قصة أم عمران وزكريا ومريم وعيسى؛ لأن أول هذه السورة نزل في وفد نجران، وهم من النصارى الذين جاؤوا لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم أعلم منهم بما جرى لأسلافهم. قوله ﴿ إِذْ قَالَتِ ﴾«إذ»: طرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾: أي: حين قالت امرأة عمران - وقد مات زوجها عمران وهي حبلى، وهي أم مريم، أي: جدة عيسى ابن مريم عليهما السلام. ﴿ رَبِّ ﴾؛ أي: (يا رب) حُذِفت منه ياء النداء اختصارًا؛ لكثرة الاستعمال، وحُذِفَ منه ضمير المتكلم الياء؛ تخفيفيًا، وأصله: (يا ربي). ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ ﴾ (النذر): أن يُلزِم المرء نفسه بشيءٍ لله لم يكن واجبًا عليه في الأصل. ﴿ مَا فِي بَطْنِي ﴾ «ما»: موصولة، أي: الذي في بطني من الحمل، ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو أكثر. ﴿ مُحَرَّرًا ﴾؛ أي: مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس. والمعنى: إني التزمت أن يكون الذي في بطني محررًا من خدمتي، مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس، وكان من عادتهم أن يفعلوا ذلك تعظيمًا لبيت المقدس. ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾: (التقبُّل): أخذ الشيء على وجه الرضا؛ أي: فتقبل مني هذا النذر وهذا العمل بجعله خالصًا لوجهك وفق شرعك، وأثِبْنِي عليه. ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾: هذه الجملة استئنافية للتعليل؛ أي: لأنك أنت السميع العليم. و﴿ السَّمِيعُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو السمع الذي وسع جميع الأصوات والأقوال، يسمع الدعاء سمع إدراك، وسمع إجابة، كما في قول المصلي: «سمع الله لمن حمده»، أي: استجاب. ﴿ الْعَلِيمُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو العلم الواسع الذي وسع كل شيء، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]. والمعنى: لأنك أنت السميع للدعاء، المستجيب له، العليم بنيتي وبالحال وبالأصلح وبكل شيء، وقد أكدت هذا بــ «إنَّ» وبضمير الفصل «أنت». قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾. قوله: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾؛ أي: فلما ولدتها، وأنَّث الضمير مراعاة لمعنى «ما» في قولها: ﴿ ما في بطني ﴾؛ لأنها وضعت أنثى. ﴿ قالت ربِّ ﴾؛ أي: يا رب. ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ «أنثى» حال؛ أي: إني ولدتها حال كونها أنثى، وقيل: بدل من «ها» بدل كل من كل؛ أي: إني وضعت أنثى. وكأنها بهذا تعتذر أو تتحسر؛ لأنها كانت ترجو أن يكون ما في بطنها ذكرًا، وإنما قالت هذا؛ لأنها جهلت قدر هذه المولودة، وما سيكون لها من شأن عظيم. ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾: الجملة اعتراضية بين قولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ وقوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾. قرأ ابن عامر ويعقوب وأبو بكر عن عاصم: «وضعْتُ» بإسكان العين وضم التاء، فيكون هذا من كلام امرأة عمران، احتراسًا منها؛ أي: ولست أُخبِر الله بما وضعت، فهو أعلم بذلك. وقرأ الباقون: ﴿ وَضَعَتْ ﴾ بفتح العين وإسكان الياء، فيكون هذا من كلام الله تعالى. وفي هذا الاعتراض مع بيان علمه - عز وجل - بما وضعت فائدتان: الأولى: دفع ما قد يتوهم من أنها قصدت إعلام الله تعالى بقولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾، وهي لم تقصد ذلك قطعًا؛ لعلمها أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والثانية: الإشارة إلى أنه سيكون لها شأن عظيم، مما لم تعلمه أمها ولا غيرها. وقوله ﴿ أَعْلَمُ ﴾: اسم تفضيل؛ أي: إنه - عز وجل - أعلم منها ومن كل أحد بما وضعت. ﴿ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ «ما»: موصولة، والعائد ضمير في محل نصب مفعول به؛ أي: بالذي وضعته في كونه أنثى، وفيما سيكون لهذه الأنثى من شأنٍ عظيم، خير من مطلق الذكر. ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران. وقيل: يُحتمل أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ من كلام الله – قُصد به التماس العذر لها في التحسُّر والتحزُّن ببيان فضل الذكر على الأنثى؛ ولهذا جُبِلت النفوس على الرغبة فيه. والظاهر أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ كالذي بعده من كلام امرأة عمران على القراءتين معًا، وهو أظهر على قراءة من قرأ: (والله أعلم بما وضَعْتُ) بضم التاء، ويدل عليه قوله: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾. كما يدل عليه السياق السابق. والمعنى: فإن امرأة عمران كانت تأمل أن يكون ما في بطنها ذكرًا فتجعله مخلصًا لعبادة لله تعالى وخدمة بيت المقدس، فلما كان أنثى قالت هذه المقالة: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ اعتذارًا منها وتحسُّرًا وانكسارًا؛ أي: وليس الذكر في الخدمة لبيت المقدس والعبادة فيه كالأنثى، بل هو أقوى وأقدر، وخدمته أتم وأكمل وأدوم، بخلاف الأنثى؛ فهي أضعف، وخدمتها أقل لخروجها من المسجد اضطرارًا حال الحيض والنفاس. وحقًّا، فالذكر ليس كالأنثى، والأنثى ليست كالذكر، فلا مساواة بينهما، فلكل منهما ميزاته وخصائصه وقدراته العقلية والبدنية وغير ذلك، فالذكر من حيث العموم أكمل عقلًا، وأقوى بدنًا، وأقدر على تحمُّل المشاق، كما أن الرجل من حيث العموم أفضل من المرأة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]. وهذا لا يمنع أن يكون من النساء من هي خير من كثير من الرجال في كمال عقلها، وقوة بدنها، وتحمُّلها، ويكفي النساء فخرًا أن منهن فاطمة سيدة نساء العالمين، ومنهن أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - خديجة، وعائشة، وحفصة، وبقية أمهات المؤمنين، ومنهن مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.. وغيرهن كثيرٌ. وقدَّم «الذكر» في قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾؛ لأنه هو المأمول، فهو أسبق إلى لفظ المتكلم، ولم يقُل: (وليس الأنثى كالذكر)؛ لدفع ما يشعر بنقص الأنثى مع أن المؤدى واحد، كما في قوله تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، دون أن يقول: «للأنثى نصف ميراث الرجل»؛ لئلا يشعر ذلك بنقص ميراث الأنثى مع أن المؤدى واحد؛ وفي هذا ما لا يخفى من مراعاة الشعور وحسن التعبير. و( أل ) في الذكر والأنثى للجنس، وقيل: للعهد؛ أي: ليس الذكر الذي طلَبَتْ، كالأنثى التي وُهِبَتْ لها. قال السعدي[4] في كلامه على قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْوَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: «كأن في هذا الكلام نوع تضرُّع منها، وانكسار نفس؛ حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرًا، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها، وتقبَّل نذرها وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد أعظم مما يحصل بالذكر». ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران؛ أي: وإني اخترت لها اسم (مريم)، والاسم مأخوذ من السمو، وهو العلو؛ لأن صاحبه يسمو ويرتفع به، ومن السمة، وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة على صاحبه يتميز بها. ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: وإني أُجيرها بك يا رب. ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾؛ أي: وأُجير ذريتها بك، ولم يكن لمريم ذرية إلا ابنها عيسى عليه السلام. ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾؛ أي: من إبليس وذريته وجنوده وأعوانه من شياطين الجن والإنس.. وغيرهم. و﴿ الشَّيْطَانِ ﴾ مشتق من «شطن» بمعنى «بعد»؛ لأنه بَعُدَ عن رحمة الله تعالى، وعن الجنة، وعن كل خير. وهو في الشرع: كل متمرد، عاتٍ، خارج عن طاعة الله تعالى من الإنس والجن والحيوان، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]، وفي الحديث: «الكلب الأسود شيطان»[5]. وقد استجاب الله دعاء امرأة عمران، فأعاذ مريم وذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليهما سبيلًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان حين يولَد، فيستهل صارخًا من مسه إيَّاه إلا مريم وابنها»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾[6]. ﴿ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: المرجوم فهو «فعيل» بمعنى: «مفعول» أي: مرجوم حسًّا، ومعنىً بإهباطه من الجنة، ورميه بالشُّهُب، وطرده عن رحمة الله وعن كل خير. قوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران:37]. قوله ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا ﴾: الفاء: للتعقيب والتفريع؛ وهذا مُؤذِن بسرعة إجابة دعائها، وضمير «الهاء» يعود إلى مريم؛ أي: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس وعبادة الله - عز وجل - فيه. قال ابن كثير[7]: «تقبلها من أمها نذيرة». و(تقبَّل) أبلغ من (قبل)؛ لأن زيادة المبنى تدل غالبًا على زيادة المعنى. وفي إضافة اسم الرب إلى ضميرها تكريم وتشريف لها بربوبية الله - عز وجل - لها ربوبية خاصة. ﴿ بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ الباء: للتأكيد، و(قبول): اسم مصدر؛ أي: قبولًا حسنًا، فقبِل من أمها نذرها إيَّاها وآجرها فيها، ويسَّرها لليُسرى، وسهَّل أمرها. ﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾؛ أي: أنشأها إنشاءً صالحًا، جسديًا وعقليًا وروحيًا فَنَمَّى جسمها، وأتم عقلها، وأكمل خُلُقها وأخلاقها دينًا وعفة وأدبًا وقنوتًا وطاعة لله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91]. وفي الحديث: «كملَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[8]. ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾: قرأ حمزة والكسائي وعاصم: ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ بتشديد الفاء، فيكون «زكريا» على هذا مفعولًا ثانيًا لــ«كفل» ومفعولها الأول (الهاء)؛ أي: كفَّل الله مريم زكريا؛ أي: جعل الله زكريا كافلًا لها. وقرأ الباقون «فكفلها» بالتخفيف، فيكون «زكريا» على هذا فاعل؛ أي: صار زكريا كافلًا لها، أي: تولى كفالتها، وزكريا زوج خالتها، ويُقال: زوج أُختها. كما قرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف ﴿ زكريَّا ﴾ بالقصر من غير همز في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالمد والهمز «زكرياء»، وهما لغتان. كفلها زكريا بعد أن تنازع في كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل، واقترعوا في ذلك أيهم يكفلها؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، فصارت من نصيب زكريا زوج خالتها فكفلها، وكان كل واحد منهم حريصًا على كفالتها لمكانة أبيها عمران. ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾: «كلما» تفيد التكرار، وهي مركبة من «كل» التي تفيد العموم، و«ما» الظرفية، والتقدير: كل وقت يدخل عليها زكريا المحراب يجد عندها رزقًا، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]. ﴿ المحراب ﴾: مكان العبادة والصلاة، وفي هذا دلالة على ملازمتها الصلاة والعبادة. وفي قصة داود عليه السلام: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21]؛ أي: مكان تعبُّده. وقيل: سُمِّيَ مكان العبادة بــ«المحراب»؛ لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه. ويُحتمل أن المراد بـ(المحراب) هنا محراب بيت المقدس بعد أن دخلت فيه لنذر أمِّها، أو محراب خاص بها في منزلها. ﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾: عطاء من الله تعالى لها بلا كد ولا تعب، تأكل منه، ويقوم به بدنها ويحفظ حياتها. قال جمع من المفسرين: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف[9]، كرامة من الله تعالى أكرمها بها، كما أكرمها بقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]. ومثل هذا ما وُجِدَ عند خبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - الذي استشهد بمكة على أيدي المشركين حيث وُجِدَ عنده قطف عنب[10]. ﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؛ أي: من أين لكِ هذا الرزق؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: أن الله هو الذي رزقها إياه، وساقه إليها، وأعطاها إياه. وهذا يذكرني بقصة عمي عبد الرحمن العبد الله مع محمد المطوع - رحمهما الله - وكان محمد رجلًا كفيفًا مقعدًا بسبب المرض، فكان عمي - رحمه الله - يأتي إلى منزل هذا الرجل ويملأ الثلاجة بالفواكه والخضروات، وكان هذا الرجل لا يعلم من الذي يفعل ذلك، وتمر الأيام ويموت عمي - رحمه الله - وتبدو الثلاجة فارغة لا شيء فيها، فيتفطن ذلك الرجل المقعد ويقول: والله ما علمت أن الذي يفعل ذلك هو عبد الرحمن العبدالله حتى فرغت الثلاجة بعد وفاته، فعلمت أنه الذي كان يفعل ذلك، رحم الله الرجلين معًا، وأسكنهما فسيح جناته، ولا أزكي على الله أحدًا. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾: الجملة اسئنافية تعليلية، و«من»: موصولة؛ أي: لأن الله يعطي الذي يشاء من خلقه عطاءً دنيويًّا؛ وهذا لا يختص بطائفة دون أخرى، وعطاءً دنيويًّا وأُخرويًّا، وهذا للمؤمنين خاصة. ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي: بلا حصر ولا حدَّ لما يعطيه، وبغير استحقاق، بل تفضلًا منه. [1] أخرجه البخاري في «الأنبياء»، قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1]، (3340)، ومسلم في «الإيمان» أول أهل الجنة منزلة فيها (19)، وابن ماجه في «الزهد» (4312)، من حديث أنس رضي الله عنه. [2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 328)، وابن حبان في «تفسيره» (2/ 635). [3] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي (3626)، والترمذي في الوصايا (2116)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [4] في «تيسير الرحمن الكريم» (1/ 376). [5] أخرجه مسلم في الصلاة (510)، وأبو داود في الصلاة (702)، والنسائي في القبلة (750)، والترمذي في الصلاة (338)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3431)، ومسلم في الفضائل (2366). [7] في «تفسيره» (2/ 28). [8] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3411)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (2431)، والترمذي في الأطعمة (1834)، وابن ماجه في الأطعمة (3280)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه. [9] انظر: «جامع البيان» (3535). [10] أخرجه البخاري في الجهاد هل يستأسر الرجل (3045)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ... ﴾ قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾[آل عمران: 38 - 41]. قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾. لما رأى زكريا عليه السلام هذه الحال، والبر واللطف من الله تعالى بمريم عليها السلام، ذكَّره ذلك أن يسأل الله تعالى حصول الولد على حين اليأس منه، فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]. لِـمَـا رأى من قدرة الله تعالى في جلب رزق مريم مع أنها متفرغة للعبادة، بل في رزقها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف طمع حينئذٍ في الولد، مع أنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وامرأته كبيرة عاقر، فدعا ربه أن يهبه ذريةً طيبةً. قوله ﴿ هُنَالِكَ س ﴾: «هنا» اسم إشارة إلى المكان، واللام للبعد، والكاف للخطاب، أي: في ذلك المكان وهو محراب مريم. ويُحتمل أن تكون الإشارة للزمان، أي: في ذلك الزمان، كما في قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 11]. ويُحتمل أن تكون لهما معًا، أي: في ذلك الزمان والمكان عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله. ﴿ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ ﴾؛ أي: نادى زكريا ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾. ﴿ رَبِّ هَبْ ﴾؛ أي: يا رب أعطني، و(الهبة) العطية بلا عوض. ﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾؛ أي: من عندك لا من عند غيرك؛ لأنك أنت الكريم وعطاءك أجزل وأعظم، وكما جاء في الدعاء: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني»[1]. ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾؛ أي: طيبة في خلْقها وخُلُقِها، في أبدانها وأخلاقها وأقوالها وأفعالها، والذرية هم الأولاد وأولاد الأبناء وإن نزلوا بمحض الذكور، ولا يدخل معهم أولاد البنات، كما قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ![]() بنوهن أبناء الرجال الأباعد[2] ![]() ![]() ![]() ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾: جملة استئنافية تعليلية، أي: لأنك سميع الدعاء، أي: تسمع دعاء الداعي وتجيبه، كما قال تعالى: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]. قوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. قوله ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾: الفاء: للتفريع والتعقيب، أي: فنادته الملائكة استجابةً من الله تعالى لدعائه. قرأ حمزة والكسائي وخلف «فناداه» بألف بعد الدال، وقرأ الباقون ﴿ فَنَادَتْهُ ﴾ بتاء ساكنة بعد الدال، أي: فكلمته وخاطبته الملائكة شفاهةً. و﴿ الملَائِكَةُ ﴾: عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾: الجملة في محل نصب على الحال، أي: حال كونه يصلي في المحراب، والصلاة تُطلق ويُراد بها الدعاء؛ كما في قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. وتُطلق ويُراد بها الصلاة ذات القيام والركوع والسجود، وهي المرادة هنا، بدليل قوله: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ﴾ و﴿ الْمِحْرَابِ ﴾: مكان العبادة والصلاة والمناجاة والخلوة، ومقتضى قوله: ﴿ هنالك ﴾ والتفريع عليه بقوله: ﴿ فنادته ﴾ أن المحراب محراب مريم. ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾: قرأ حمزة وابن عامر بكسر الهمزة: «إنَّ»، فالجملة في محل نصب مقول القول؛ لأن النداء قول، ومقول القول إذا صدر بــ«إنَّ» وجب فيه كسر الهمزة. كما قال ابن مالك[3]: واكسر في الابتدا وفي بدء صلةْ ![]() وحيثُ «إن» ليمينٍ مكملةْ ![]() أوحُكِيتْ بالقول أوحَلَّتْ محلّ ![]() حال كزرته وإني ذو أملْ ![]() وقرأ الباقون ﴿ أنَّ ﴾ بفتح الهمزة على تقدير حرف جر، أي: بأن الله يبشرك. ﴿ يُبشِّرك ﴾: قرأ حمزة والكسائي: (يَبْشُرُك) بفتح الياء، وسكون الباء، وتخفيف الشين وضمها، وقرأ الباقون: ﴿ يُبشِّرك ﴾ بضم الياء، وفتح الباء، وتشديد الشين وكسرها. والبشارة: الإخبار بأمر سار، مأخوذة من البشرة؛ لأن الإنسان إذا أُخبِر بما يَسُرُه استنار وجهه، واتسعت بشرته، وفي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر»[4]. ﴿ بِيَحْيَى ﴾: أي بولد لك من صلبك اسمه يحيى، وسمَّاه الله يحيى إشارة إلى أنه سيحيا حياة بدنية، أي: يبقى، وحياة قلبية بالنبوة والإيمان، وهو أول من سُمِّيَ بهذا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7]، وهو ابن خالة عيسى، وهو أكبر من عيسى، وأول من صدَّق به[5]، ولهذا قال: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾، ﴿ مُصَدِّقًا ﴾: حال من (يحيى)، أي: حال كونه ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾، أي: مصدقًا بعيسى ابن مريم عليه السلام، وعلى سنته ومنهاجه، وأنه كلمة من الله، وكلمته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]. وسُمِّيَ عيسى عليه السلام (كلمة من الله)، و(كلمته)؛ لأنه خُلِقَ بكلمة من الله تعالى، أي بقوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾ ولم يكن من أب؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. وذلك من باب إطلاق السبب على المسبب. ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾: «من»: للابتداء، أي: مبدؤها ومنشؤها من الله، تكلم بها، وهي قوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾. ﴿ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: منصوب على الحال عطفًا على ﴿ مُصَدِّقًا ﴾. ﴿ وَسَيِّدًا ﴾: السيد «فيعل» من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال. والسؤدد عند العرب يعتمد كفاية مهمات القبيلة، والبذل لها، وإتعاب النفس لراحة الناس. قال الهذلي[6]: وإن سيادة الأقوام فاعلم ![]() لها صعداء مطلبها طويل ![]() أترجو أن تسود ولن تُعنَّى ![]() وكيف يسود ذو الدعة البخيل ![]() وملاك السؤدد عندهم بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال العظائم، وأصالة الرأي، وفصاحة اللسان. والسيد في الشرع أعم من ذلك، فهو من يفوق غيره في محامد الخصال، والسعي في إصلاح الناس في دنياهم وأخراهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»[7]. وقال صلى الله عليه وسلم في الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيُصلِح الله به بين طائفتين من المسلمين»[8]. والمعنى: أن يحيى عليه السلام قد فاق قومه دينًا وتقىً وورعًا وحكمةً وعلمًا وأدبًا وخُلُقًا وشرفًا وكرمًا.. وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 12 - 15]. ﴿ وَحَصُورًا ﴾ أي: «فعول» بمعنى «فاعل»، أي: حاصرًا نفسه، والحصر بمعنى المنع، أي: حصينًا مانعًا نفسه من الشهوات والمعاصي ومساوئ الأخلاق، فجمع الله له بين كونه «سيدًا» موصوفًا بأكمل الصفات، وبين كونه «حصورًا» سالمًا مبرأ من سيئ الصفات. وقيل معنى (حصورًا)؛ أي: لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، وقيل: ممنوعًا من إتيان النساء؛ أي: لا يستطيع إتيان النساء؛ وهذا لا يناسب المقام؛ لأن المقام مقام مدح وثناء، وهذا الآخر يُعد نقصًا وعيبًا. ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: وصف الله - عز وجل - يحيى عليه السلام أولًا بكونه مصدقًا بعيسى ابن مريم، ثم بكونه «سيدًا»، ثم بكونه «حصورًا»، ثم وصفه بما هو أفضل وأعظم من ذلك وهو كونه (نبيًّا من الصالحين)، فنفى الله عنه عليه السلام صفات النقص، وأثبت له صفات الكمال، وأعظمها النبوة والصديقية لعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. وقوله: ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾؛ أي: من جملة الصالحين، بل من الذين بلغوا في الصلاح ذِروته؛ إخلاصًا لله تعالى، ومتابعة لشرعه، فصلحت سرائرهم وعلانيتهم باطنهم وظاهرهم، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾. لما تحقق لزكريا عليه السلام هذه البشارة؛ أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر وامرأته عاقر، ليتثبت ويتأكد من ذلك. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ أي: قال زكريا: (يا رب). ﴿ أَنَّى ﴾: استفهام تعجب، أي: كيف أو من أين يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر؟، أي: والحال أنه قد بلغني الكبر وامرأتي عاقر، كما قال تعالى عنه في سورة مريم: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. وهذان سببان لعدم وجود الولد، وهذا منه من باب التثبت والتأكد، وليس من باب الاستبعاد والاستنكار أو الشك؛ لأنه قد آمن بما بشره الله به، كما قال إبراهيم: ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾: الجملة حالية، أي: والحال أنه قد بلغني الكبر، أي: قد وصلني الكبر وأصابني وتمكن مني كما وصلت إليه وبلغته ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. فمن بلغه الكبر، فقد بلغ هو الكبر، ومن بلغ الكبر فقد بلغه الكبر، على نحو قول الشاعر: فهن المنايا أي وادٍ سلكته ![]() عليها طريقي أو على طريقها[9] ![]() ![]() ![]() والمعنى: كيف يوجد لي غلام وقد أصابني الكبر بينما لم يولد لي لما كنت شابًّا؟! والعادة أن الإنجاب والإخصاب إنما يكون غالبًا في سن الشباب بالنسبة للرجال والنساء. ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾؛ أي: وزوجتي ﴿ عَاقِرٌ ﴾، أي: عقيم لا تحمل. يُقال: رجل عاقر، وامرأة عاقر، لمن لا يولد له. فكل من زكريا وامرأته في الغالب والعادة لا يولد لمثله؛ فهو كبير السن قد بلغ الغاية في الكبر، وهي عاقر لا يولد لها، ولكن الله جلَّت قدرته إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. وفي هذا التعجب من زكريا عليه السلام كناية عن الشكر لله عز وجل. ﴿ قَالَ ﴾ أي: قال الملك، أو قال الله. ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾: الكاف: للتشبيه، وهي في محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي: مثل ذلك الفعل العجيب- وهو حصول الولد بين رجل كبير وامرأة عاقر، وقيل: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. والمعنى: أنه سيكون لك غلام ولو بلغك الكبر وامرأتك عاقر؛ لأن الله يفعل ما يشاء، فكما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة غالبًا، فإنه قد يخرق ذلك؛ لأنه الفعال لما يشاء ويريد، الذي تنقاد جميع الأشياء لقدرته فلا يتعاصى على قدرته شيءٍ منها. قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾. ﴿ قَالَ ﴾ أي: قال زكريا لما تيقن بأن الله سيهب له الولد. ﴿ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾؛ أي: يا رب صَيِّر لي علامة أعرف بها وقت حصول هذا الحمل؛ قال هذا زكريا عليه السلام لزيادة الطمأنينة فيما بشره الله به؛ كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾؛ أي: قال الله له: ﴿ آيَتُكَ ﴾؛ أي: الآية والعلامة التي أجعلها لك، وأضافها إلى زكريا؛ لأن الله تعالى جعلها علامة له. ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾: «ألا»: مكونة من «أن» التي هي حرف مصدري ونصب، و«لا»: النافية؛ أي: ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليها؛ لقوله تعالى في سورة مريم: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ [مريم: 10]. ﴿ إِلَّا رَمْزًا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من الكلام، أي: لكن ترمز إليهم رمزًا، أي: إشارة وإيماءً باليد أو بالرأس أو بالشفتين، أو الحاجبين أو العينين.. ونحو ذلك، ويجوز كون الاستثناء متصلًا باعتبار المعنى؛ لأن «الرمز» تعبير عما في النفس كالكلام، والمعنى واحد، أي: وآيتك أن لا تستطيع تكليم الناس نطقًا بلسانك ثلاثة أيام بلياليهن إلا إشارة مع أنك سويٌّ صحيح، فمتى تمت الثلاثة أيام كان ذلك علامة على ابتداء الحمل. ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: أعظم بهذا من آية يعجز عن تكليم الناس بلسانه، بينما لسانه طلق بذكر الله تعالى، وفي هذا بشارة لزكريا وامتنان عليه، وأمر له بذكر الله وتسبيحه، وفي سورة مريم: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]. ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا ﴾، أي: واذكر ربك بقلبك ولسانك وجوارحك ذِكرًا كثيرًا، شكرًا لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، وزمانًا كثيرًا، أي: في جميع الأوقات، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه[10]. ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: (التسبيح) تنزيه الله عن النقائص والعيوب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]. وعن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]. ويُطلق على ما هو أعم من ذلك، وهو التعبُّد لله تعالى بأنواع العبادة كلها؛ من الصلاة، والتهليل، والتكبير، والتحميد، وقراءة القرآن.. وغير ذلك. والتعبُّد لله تعالى هو تسبيح لله تعالى وإن لم يكن بكلمة «سبحان»؛ لأن التعبُّد له يستلزم تعظيمه والإقرار له بالكمال ونفي النقص عنه. وحيث قُرِنَ التسبيح بالذِّكر قد يُحمل الذِّكر على التعبُّد لله بأنواع العبادة، ويُحمل التسبيح على التنزيه جمعًا بين الإثبات والنفي. وقد يُحمل التسبيح على ما يعُم ذلك كله، فيكون الأمر به بعد الأمر بالذِّكر أشبه بعطف العام على الخاص، فيشمل التنزيه لله تعالى والتعبُّد له بأنواع العبادة. ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ «العشيّ»: آخر النهار، ما بعد الزوال، وهو: الأصيل والرواح. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ»[11]، يعني: صلاة الظهر أو العصر، ويُقال: (العشيّ) ما بعد صلاة العصر. ﴿ وَالْإِبْكَارِ ﴾: «الإبكار» أول النهار إلى الزوال، وهو: الغدو والإشراق. وقد عظَّم الله تعالى هذين الوقتين، وأمر بالتسبيح والذِّكر والصلاة فيهما، وشرع فيهما أعظم الصلوات صلاة الفجر وصلاة العصر، كما قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55]، وقال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 18]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴾ [ق: 39]. بل إن الأمر بالتسبيح والذِّكر في الصلاة فيهما قد يشمل جميع الصلوات الخمس، ويشمل التسبيح والذِّكر في جميع الأوقات، كما قال تعالى عن أهل الجنة: ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62]؛ أي: في جميع الأوقات؛ لأن رزق أهل الجنة لا ينقطع، بل هو على الدوام. [1] أخرجه البخاري في الأذان، الدعاء قبل السلام (834)، ومسلم في الذكر والدعاء، استحباب خفض الصوت بالذكر (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835)، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. [2] البيت للفرزدق. انظر: «ديوانه» (ص217). [3] في «ألفيته» (ص21). [4] أخرجه البخاري في المناقب (3556)، ومسلم في التوبة (2769)، والترمذي في التفسير (3102)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. [5] انظر: «جامع البيان» (5/ 372). [6] انظر: «البيان والتبيين» (1 / 275). [7] أخرجه مسلم في الفضائل (2278)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه البخاري في الصلح (2704)، وأبو داود في السنة (2662)، والنسائي في الجمعة (1410)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. [9] البيت بلا نسبة. انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 215)، و«بدائع الفوائد» (1/ 11)، و«مدارج السالكين» (1/ 15). [10] أخرجه مسلم في الحيض (373)، وأبو داود في الطهارة (18)، والترمذي في الدعوات (3384)، وابن ماجه في الطهارة (302)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [11] أخرجه البخاري في الصلاة تشبيك الأصابع في المسجد (482)، ومسلم في المساجد، في الصلاة والسجود له (573)، وأبو داود في الصلاة (1008)، والنسائي في السهو (1224)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1214)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ...ِ ﴾ قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 38 - 41]. 1- دعاء زكريا ربه بأن يهبه من لدنه ذرية طيبة، وتوسله إليه بربوبيته له؛ لقوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾. كما قال تعالى عنه في سورة (الأنبياء) أنه قال: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]. وقال عنه في سورة (مريم): ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]. 2- في إضافة الهبة إلى الله في قوله: ﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾ إشارة إلى كرم الله - عز وجل - وعظيم هِباته، وإلى الاستغناء به - عز وجل - عن خلقه. 3- حاجة الخلق كلهم وافتقارهم إلى الله تعالى حتى الأنبياء؛ لقوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾ الآية. 4- أن من أعظم ما ينبغي أن يسأل المسلم ربه من أمور الدنيا الذرية الصالحة، والصالحة فقط، وما عدا الذرية الصالحة فلا غبطة فيهم، بل هم عبء وثِقَل وشر على والديهم وعلى الأمة، فعلى من طلب الذرية مراعاة هذا المعنى. 5- الدعاء بصلاح الأولاد؛ لقوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ؤ، كما جاء في سورة «الأحقاف»: ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15]. 6- إثبات السمع لله - عز وجل - وكرمه وقدرته، وأنه سميع قريب مجيب الدعاء، والثناء على الله - عز وجل - بذلك، والتوسل به؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾، وكما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39]؛ فهو - عز وجل - سميع مجيب الدعاء. فإما إن يُعَجِّل للسائل ويُعطيه سؤله في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من الشر بسبب سؤاله. ما لم يكن هناك مانع من الإجابة، كالدعاء مع سهو القلب وغفلته ولهوه، وأكل الحرام.. ونحو ذلك. 7- أن على من حُرِم الذرية أن يلجأ إلى الله - عز وجل - وحده ويسأله، كما قال زكريا عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، وقال: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]، مع الأخذ بالأسباب المادية. وقد دعا زكريا عليه السلام بهذه الدعوات فأجاب الله دعاءه، ورزقه يحيى عليهما السلام. وقد ذُكِرَ عن بعضهم أنه لازم في سجوده الدعاء بقوله: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]، فرزقه الله الذرية، كما ذكر بعضهم أنه دعا بهذه الدعوات في الملتزم بين الحجر وباب الكعبة، فاستجاب الله دعاءه. 8- إثبات وجود الملائكة، والإيمان بذلك؛ وهو ركن من أركان الإيمان الستة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾. 9- أن الملائكة تتكلم بصوت مسموع وتخاطب البشر، لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾. 10- جواز تكليم المصلِّي؛ لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾، وخصوصًا فيما تدعو الحاجة إليه، كالسلام.. ونحو ذلك، فقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يُسلِّمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويرد عليهم بالإشارة[1]. 11- لزوم زكريا العبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾. 12- جواز اتخاذ أماكن خاصة بالصلاة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾. 13- بشارة الله تعالى لزكريا بيحيى استجابةً منه - عز وجل - لدعائه أن يهبه من لدنه ذرية طيبة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾. 14- استحباب البشارة بما يسر، فهي منهج شرعي؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾، كما قال تعالى في إبراهيم: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101]، هذا في البشارة بإسماعيل، وقال تعالى في البشارة بإسحاق ﴿ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الحجر: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]، وقال تعالى في بشارة زوجه: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223]. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: «وبشرا ولا تنفرا»[2]. 15- مشروعية تسمية المولود، وجواز تهيئة الاسم قبل ولادته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا ﴾. 16- أن عيسى ابن مريم «كلمة من الله»؛ لقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ خلقه الله تعالى بكلمته، أي: بقوله: ﴿ كن ﴾؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. 17- الثناء على يحيى عليه السلام وامتداحه بهذه الصفات العظيمة، وهي تصديقه بعيسى ابن مريم، وكونه سيدًا وحصورًا، وإثبات نبوته، وأنه من الصالحين؛ لقوله تعالى: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. 18- الجمع ليحيى عليه السلام بين صفات الكمال، وأعظم ذلك صفة النبوة، وبين كونه مانعًا نفسه من الشهوات وسيء الصفات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَحَصُورًا ﴾. 19- أن الصلاح وصف عظيم عام لكل من أخلص لله تعالى، واتبع شرعه من الأنبياء والرسل ومن دونهم؛ ولهذا وصف الله به أنبياءه ورسله كما وصف الله به غيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. 20- في تعجب زكريا بقوله: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ طلب التثبُّت والتأكد مما بشره الله به من الولد، وخاصة أنه على خلاف ما جرت به العادة؛ فهو كبير وامرأته عاقر. 21- أن زكريا عليه السلام قد بلغه الكبر دون أن يولد له ولد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾، وقوله في سورة (مريم): ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. 22- أن من أسباب عدم الإنجاب الكبر والعقر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾. 23- جواز الوصف بالعقر لمن كان كذلك للبيان، لا على سبيل التنقص؛ لقوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾. 24- إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾. 25- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية المتعلِّقة بالحكمة. 26- طلب زكريا عليه السلام من ربه علامة على حصول هذه البشارة لزيادة الاطمئنان، واستعجالًا منه لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾. 27- قدرة الله تعالى التامة على كل شيء، ولو كان على خلاف العادة، كحصول الولد للكبير والعاقر، وجعل الإنسان لا يستطيع أن يكلم الناس مع كون لسانه طلقًا بذكر الله وتسبيحه؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾، وقوله: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾، كما قال تعالى في سورة (مريم): ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]. 28- أن الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عن النطق بالكلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾. 29- الحث على ذكر الله كثيرًا، وتسبيحه في العشيّ والإبكار وفي جميع الأوقات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ جمعًا بين ذِكر الله تعالى والثناء عليه، وتنزيهه عن النقائص والعيوب. 30- فضل هذين الوقتين (العشيّ والإبكار)، والتسبيح فيهما، بتخصيصهما بالذِّكر من بين الأوقات. 31- فضل زكريا عليه السلام ومكانته عند الله؛ حيث استجاب الله دعاءه، وبشره بيحيى ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، وخاطبه، وجعل له آية على حصول هذا الولد. [1] أخرجه أبو داود في الصلاة (925)، والنسائي في السهو (1186)، والترمذي في الصلاة (367)، من حديث صُهيب رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الأشربة (1733)، وأبو داود في الأدب (4835)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ...﴾ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 42 - 44]. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾. في هذه الآية وما بعدها تفصيلٌ لما أُجمِل من اصطفاء الله تعالى لآل عمران في قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]؛ لأن مريم من آل عمران، فهو انتقال من ذكر أم مريم إلى ذكر مريم. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ ﴾ الواو: استئنافية، و«إذ» ظرف زمان بمعنى «حين» متعلق بمحذوف؛ أي: واذكر حين قالت الملائكة، والمراد جنس الملائكة وليس كلهم، والمراد بذلك - والله أعلم - جبريل. ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾ نادَوها بهذا شفاهًا، وباسمها مريم الذي هو علم عليها تكريمًا لها. ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾: «اصطفى» أصلها (اصتفى)، فقُلِبت التاء «طاء» لعلة تصريفية، والمعنى: أن الله اصطفاك اصطفاءً ذاتيًّا عامًّا، واختارك واجتباك لطاعته، وجعلك من صفوة خلقه، فهي من بيت آل عمران الذين اصطفاهم الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. ونذرتها أمُّها لله وخدمة بيت المقدس، وتقبَّلها ربُّها بقَبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنًا، وكفَّلها زكريا، ورزقها من عنده بغير حساب، ووفَّقها للتصديق بكلماته وكُتبه، ودوام الطاعة له. ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ أي: وطهرك باطنًا وظاهرًا من الكفر والمعاصي والفواحش بالإيمان، والطاعة والعفاف، والأخلاق الفاضلة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91]. وفي هذا ردٌّ على اليهود أخزاهم الله، وقبَّحهم في اتهامهم مريم بأنها بَغِيٌّ، وأن ابنها عيسى ولد زنا؛ كما قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27، 28]. ﴿ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾: هذا معطوف على ما قبله، أي: واصطفاكِ اصطفاءً خاصًّا، ففضَّلك ﴿ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: على نساء عالم زمانها، أو على نساء العالمين كلهم باعتبار أنها ممن كمُل من النساء؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمُل من الرجال كثير، ولم يكمُل من النساء إلا مريم، وآسية، وامرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»[1]. قوله تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾. أخبرت الملائكة مريم باصطفاء الله تعالى لها، ثم أمرتها بالقنوت لربها، والسجود والركوع له شكرًا لله تعالى على ذلك، ولتتهيَّأ لما أراد الله لها من الابتلاء بسبب هذا؛ حيث خلق الله بقدرته العظيمة منها ولدًا من غير أب، وقال فيها الأفَّاكون ما قالوه رِفعة من الله تعالى لها في الدارين. قوله: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾: «القنوت»: دوام الطاعة والخضوع والخشوع له، قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]. ﴿ لِرَبِّكِ ﴾: «اللام»: للاختصاص؛ أي: قنوتًا خالصًا لربك، تعظيمًا له، وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير «مريم» تشريف وتكريم لها، وبيان ربوبية الله تعالى لها ربوبية خاصة. ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾: هذا معطوف على قوله: ﴿ اقْنُتِي ﴾ من عطف الخاص على العام، فهو أمر بالسجود والركوع مع الراكعين؛ أي: أمر بالصلاة بعد الأمر بالقنوت والطاعة. والمراد بالسجود: السجود المعروف على الأعضاء السبعة؛ كما في الحديث: «وأُمِرنا أن نسجد على سبعة أعظم»[2]. ﴿ وَارْكَعِي ﴾ «الواو»: عاطفة، وعطف بها الركوع على السجود، مع أن «السجود» قبل «الركوع»؛ لأن الواو لمجرد الجمع والتشريك، ولا تقتضي الترتيب. و«الركوع»: الانحناء للتعظيم، والمراد: صلي مع المصلين؛ أي: كوني من جملة أهل الصلاة، وليس المراد الصلاة مع الجماعة؛ لأنه ليس على النساء صلاة جماعة. وعَطْفُ الأمر بالسجود والركوع على الأمر بالقنوت دليلٌ على فضل الصلاة، وعِظَم مكانتها بين الطاعات والعبادات، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام الذي يدور عليها رحاه. كما أن تخصيص السجود والركوع بالذِّكر دليلٌ على عِظَم السجود والركوع، وأنهما من أعظم أركان الصلاة وأعمالها. وقُدِّم السجود؛ لأن هيئته - والله أعلم - أفضلُ وأبلغ في الخضوع، ولأنه أدخل في الشكر، والمقام مقامُ شكرٍ. ولا يدل ذلك على أنه أفضل من الركوع مطلقًا؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنما هي في الأصل لمطلق الجمع والتشريك، ما لم يدل دليل أن المراد بها الترتيب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أبدأ بما بدأ الله به»[3]، فدل هذا على البداءة بالصفا، كما بدأ الله به في الآية. قال ابن القيم[4]: «الذي يظهر في الآية - والله أعلم بمراده من كلامه - أنها اشتملت على مطلق العبادة، وتفضيلها، فذكر الأعم، ثم ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص، فذكر القنوت أولًا وهو الطاعة الدائمة، فيدخل فيه القيام والذِّكر والدعاء وأنواع الطاعة، ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يُشرَع وحده؛ كسجود الشكر والتلاوة، ويُشرع في الصلاة، فهو أخص من مطلق القنوت. ثم ذُكر الركوع الذي لا يُشرع إلا في الصلاة، فلا يُسن الإتيان به منفردًا، فهو أخص مما قبله، ففائدة الترتيب: النزول من الأعم إلى الأخص، إلى أخص منه، وهما طريقتان معروفتان في الكلام: النزول من الأعم إلى الاخص، وعكسها، وهو: الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه إلى ما هو أعم، ونظيرها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]. فذكر أربعة أشياء أخصها الركوع، ثم السجود أعم منه، ثم العبادة أعم من السجود، ثم فِعل الخير العام المتضمن لذلك كله». ﴿ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾؛ أي: في جملة أهل الركوع وأهل الصلاة من الرجال والنساء، وغلَّب هنا الذكور على الإناث. قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾. قوله ﴿ ذَلِكَ ﴾: الإشارة إلى ما أخبر الله تعالى به من القصص من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، الآية عن امرأة عمران، وابنتها مريم، وزكريا، وابنه يحيى. ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾: «أنباء» جمع «نبأ» وهو الخبر الهام؛ كما قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2]؛ أي: ذلك من أخبار الغيب العظيمة. ﴿ الغيب ﴾: ما غاب عن الحواس فلا تُدركه، والمراد: أن ما ذكره الله تعالى في هذه القصص مما غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يدركه ولم يعلمه لا هو ولا قومه؛ لأنهم كانوا أُميين لا يعلمون شيئًا عن الأمم السابقة؛ كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]. ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: نَقُصُّه عليك، ونُخبرك به، والوحي في اللغة: الإعلام الخفي السريع، وهو في الشرع: كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ «الواو»: عاطفة، وضمير الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الغائب لزكريا وقومه؛ أي: وما كنت يا محمد عند زكريا وقومه في ذلك الوقت، فتُخبر عنهم بما جرى، بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضرٌ وشاهدٌ. ﴿ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ﴾ «إذ»: ظرف بمعنى حين؛ أي: حين يُلقون أقلامهم، وهي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، كانوا يقترعون بها عند الحاجة إلى القُرعة، فيكتبون عليها أسماء المقترعين، أو أسماء الأشياء المقترع عليها، أي: حين يضعون أقلامهم التي يكتبون بها للاقتراع. ﴿ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾؛ أي: أيهم الذي يكون كافلًا لمريم؛ تنافسًا منهم لمكانة أبيها عمران، فهو سيدهم وإمامهم، لهذا تشاحَّ عليها بنو إسرائيل وتنافسوا في كفالتها. قيل: إنهم دخلوا نهر الأردن، واقترعوا هناك على أن يُلقوا أقلامهم، وأيهم ثبت قلمه في مجرى الماء، فهو كافلُها، فوضعوا أقلامهم، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، وكان كبيرهم وسيدهم وعالِمهم، وإمامهم ونبيهم، فكفَلها. وقيل المراد بأقلامهم: سهامهم التي تكون في النصل يرمون بها، سُمِّيت أقلامًا لشبهها بالأقلام في الاستطالة ودقة الرأس، فخرجت القرعة لزكريا، فضمها إليه وكفَلها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ [آل عمران: 37]؛ مِنةً من الله تعالى، ورحمة به وبها. ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ «الواو»: عاطفة؛ أي: وما كنتَ يا محمد عندهم أيضًا حين اختصامهم وتنازُعهم أيهم يكفل مريم، كلٌّ منهم يريد أن يحظى ويَشرُف بكفالتها، ويرى أنه أحقُّ بها وأَولى بكفالتها؛ حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن يَقترعوا. [1] أخرجه البخاري ومسلم. [2] أخرجه البخاري في الأذان، السجود على سبعة أعظم (809-810)، ومسلم في الصلاة أعضاء السجود (490)، والنسائي في التطبيق (1093)، والترمذي في الصلاة (273)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (883)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [3] سبق تخريجه. [4] انظر: بدائع التفسير (1/ 498-499).
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾[آل عمران: 42 - 44]. 1- التذكير بقصة مريم عليها السلام تعظيمًا لشأنها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ الآية. 2- مخاطبة الملائكة عليهم السلام لمريم عليها السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ الآية؛ مما يدل على فضلها وشرفها وكرامتها. وليس في هذا دلالة على نبوتها، فالنبوة خاصة في الرجال؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: 109]، و«إلا» تفيد الحصر، أي: إلا رجالًا فقط. 3- اصطفاء الله تعالى لمريم عليها السلام اصطفاءً ذاتيًّا عامًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾؛ أي: حباكِ من صفوة خلقه وخيارهم. 4- تطهير الله - عز وجل - لمريم بالتصديق والإيمان، وحفظه لها من الفواحش والمعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾. 5- الرد على اليهود في اتهامهم مريم أنها بغيٌّ، وأن ابنها عيسى ولد زنا - أخزاهم الله وقبَّحهم - لقوله تعالى: ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾. 6- تفضيل الله تعالى لمريم عليها السلام، واصطفاؤه لها اصطفاءً خاصًّا على نساء العالمين؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾، فهي أفضل نساء عالم زمانها، وهي من أفضل وخير نساء العالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد»[1]؛ أي: خير نساء الجنة. وقال صلى الله عليه وسلم: «حسبُك من نساء العالمين مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون»[2]. وسبق في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أنها ممن كمُل من النساء، بل قيل: إنها أفضل نساء العالمين مطلقًا، ويَرُد هذا ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير نساء ركبنَ الإبل نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على بعلٍ في ذات يده، ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرًا ما فضلت عليها أحدًا»[3]. 7- تأكيد فضيلة مريم عليها السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ لتكرار قوله: ﴿ اصْطَفَاكِ ﴾. 8- أمر الله - عز وجل - مريم عليها السلام بالقنوت والسجود والركوع مع الراكعين، شكرًا لله تعالى، وتنبيهًا لما يريد الله بها من أمر قدَّرهُ وقضاه مما فيه محنة لها ورِفعة في الدارين بما أظهره لله تعالى فيها من قدرته العظيمة؛ حيث خلق منها ولدًا من غير أبٍ. 9- وجوب شكر نعمة الله تعالى، وأنه كلما كانت النعمة والمنة أعظمَ، كان الشكر لله أوجبَ وأعظم؛ لقوله تعالى لمريم بعد أن بيَّن فضلها واصطفاءه لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ الآية. 10- الترغيب بالقنوت لله تعالى، ودوام الطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾. 11- فضل الصلاة، وأنها من أعظم العبادات في جميع الشرائع السماوية، وأنها في كل الشرائع ذات ركوع وسجود؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾. 12- أن من أعظم أركان الصلاة وأعمالها: الركوع والسجود، وقدَّم السجود في الآية مع أن الركوع قبله في الترتيب؛ لأن السجود - والله أعلم - أفضل من حيث الهيئة، وأبلغ في الخضوع، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأما الركوع فعَظِّموا فيه الرب - عز وجل - وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»[4]، وعن أبي هريرة رضي لله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»[5]. 13- وجوب الإخلاص لله تعالى وحده في العبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ لربِّك ﴾. 14- ربوبية الله - عز وجل - لمريم ربوبية خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ لربِّك ﴾. 15- تعظيم ما حصل في القصص المذكور؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾؛ فأشار إليها بإشارة البعيد وسمَّاها «أنبـاء» تعظيمًا لها. 16- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾. 17- إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى أوحى إليه الرد على المكذبين لرسالته من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ الآية. 18- تنافس الملأ من بني إسرائيل واقتراعهم بأقلامهم أيهم يَكفُل مريم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾. 19- تخاصم بني إسرائيل في كفالة مريم، فكل منهم يريد أن يكفلها وفاءً لحق عمران والدها، وكان من أكبر أحبارهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾؛ حتى صارت القرعة من نصيب زكريا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ [آل عمران: 37]. 20- تأكيد أن ما ذكر الله في هذه القصص مما غاب عنه صلى الله عليه وسلم، ومما أوحاه الله إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾. وفي هذا تأكيد إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وتعريض بأهل الكتاب، كيف يكذبونه مع ما جاءهم من هذه الأخبار التي يعلمون صدقَها مما لم يشهده صلى الله عليه وسلم، ولا عَلِمهُ من ذي قبل، وإنما أوحاه الله تعالى إليه، فصار إخبارهم بهذا من طريق ما أوحاه الله إليه، كأنه شاهد معهم؟! 21- مشروعية القرعة عند الحاجة لها؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ﴾؛ أي: للاقتراع، وكما قال تعالى في قصة يونس: ﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ [الصافات: 141]. 22- المنافسة في عمل الخير، فإن بني إسرائيل تنافسوا أيهم يكفل مريم عليها السلام، وكلهم يقول: أنا أَولى بكفالتها طلبًا للأجر والثواب؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران عليه السلام. 23- عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، وحفظهم، بسبب صلاحهم وصلاح آبائهم، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]. [1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3432)، ومسلم في الفضائل (2430)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [2] أخرجه الترمذي في المناقب (3878)، من حديث أنس - رضي الله عنه - وصحَّحه. [3] أخرجه البخاري في النكاح (5082)، ومسلم في فضائل الصحابة (2527). [4] أخرجه مسلم في الصلاة (479)، وأبو داود في الصلاة (876)، والنسائي في التطبيق (876). [5] أخرجه مسلم في الصلاة (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137).
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
«عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾[آل عمران: 45 - 51]. قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾. قوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ أي: اذكر حين قالت الملائكة: «يا مريم». ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ﴾: «البشارة»: الإخبار بما يسر. ﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾ أي: بولد يكون وجوده بكلمة منه - عز وجل - أي: بقوله تعالى: ﴿ كُن ﴾ فيكون من غير أب، و«من» في قوله: ﴿ مِنْهُ ﴾ ابتدائية أو بيانية، أي: خلقه - عز وجل - بكلمة صادرة منه سبحانه وتعالى، وهي قوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾. ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ «اسم»: مبتدأ، وضمير «الهـاء» مضاف إليه راجع إلى «كلمة»، وذُكِّر مراعاة للمعنى؛ لأن المراد منها مذكَّر، و﴿ الْمَسِيحُ ﴾: خبر أول، و﴿ عيسى﴾: بدل منه أو عطف بيان أو خبر ثانٍ أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عيسى، ﴿ ابن مريم ﴾: صفة له؛ أي: اسمه الذي يميز به لقبًا «المسيح»، وعَلَمًا «عيسى»، وكُنية «ابن مريم». ﴿ الْمَسِيحُ ﴾: «فعيل» بمعنى (فاعل)، وسُمِّيَ عيسى عليه السلام ولُقِّب بــ«المسيح»؛ لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا برأ بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾ [المائدة: 110]، وقيل: لمسحه الأرض، أي: كثرة سياحته فيها، وقيل: هو «فعيل» بمعنى (مفعول)؛ لأنه مسح بالبركة واليمن، أو لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، والأقرب القول الأول. ﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾: نسبة إلى أمه مريم؛ لأنه لا أب له. ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ «وجيهًا»: حال، أي: حال كونه وجيهًا في الدنيا والآخرة، أي: ذا وجاهة وجاه عظيم عند الله في الدنيا والآخرة، كغيره من أولي العزم من الرسل، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]. و«الوجيه»: ذو الجاه، أي: ذو الشرف والقدر والمكانة، مأخوذ من الوجه الذي هو أفضل الأعضاء. ﴿ فِي الدُّنْيَا﴾: بالنبوة، وإنزال الكتاب عليه، وإيتائه الآيات الشرعية والآيات الكونية الخارقة، وقبول دعائه، وجعله من أفضل الرسل وهم أولوا العزم؛ كما قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]. ﴿ والآخرة ﴾ أي: ووحيها في الآخرة بقبول شفاعته، وعلو مقامه عند الله بأعلى درجات الجنة مع أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام. ﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾: معطوف على ﴿ وجيهًا﴾ في محل نصب على الحال عطفًا على «وجيهًا»، أي: وحال كونه من المقربين عند الله تعالى، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [الواقعة: 10، 11]، وهذه أعظم البشارات. قوله تعالى: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ «الواو»: عاطفة، فالجملة في محل نصب عطفًا على الحال السابقة، أي: ويكلم الناس حال كونه في المهد. و«المهد»: الفراش الذي يوطَّأ للصبي؛ لينام فيه، والمعنى: أنه عليه السلام يكلم الناس وهو صبي في الفراش. وهذه آية عظيمة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وعلى صدق عيسى، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة، ورحمةً بهما وبالخلق. ﴿ وَكَهْلًا ﴾ «الواو»: عاطفة، و- كهلًا- حال معطوفة على ما قبلها، و«الكهل» من بلغ سن الكهولة وهي من إحدى وثلاثين، أو ثلاث وثلاثين فما بعدها إلى أربعين، وقيل: إلى الستين، أي: ويكلم الناس حال كهولته تكليم النبوة والدعوة إلى الله بعد بعثته، وكان عيسى عليه السلام بُعِثَ وهو ابن نيِّف وثلاثين سنة. وخصَّ حال كونه في المهد، وحال كونه كهلًا؛ لأن الكلام في الحال الأولى آية على صدقه، وإرهاصًا لنبوته، وفي الحال الثانية بعثته ودعوته إلى الله تعال. وفي عطف «كهلًا» على قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ مع أن (الكهل) ليس مستغربًا أن يتكلم؛ دلالة على أن كلامه في المهد فصاحة وبلاغة وبيانًا مثل كلامه كهلًا بعد مبعثه، كما قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 27 - 33]. ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: معطوف على الأحوال السابقة، أي: والحال أنه من الصالحين، أي: من جملة الصالحين الذين بلغوا الغاية في الصلاح باطنًا وظاهرًا، إخلاصًا لله تعالى في قلوبهم، ومتابعة لشرعه في أقوالهم وأعمالهم. قوله تعالى: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة مريم: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 20، 21]. قوله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ ﴾ أي: قالت مريم: «يا رب». ﴿ أَنَّى ﴾: الاستفهام للتعجب، أي: من أين، أو كيف يكون لي ولد؟! كقول زكريا: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]، ليس للاستبعاد أو الاستنكار أو الشك، وإنما هو للتثبت وزيادة الطمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، وإلا فمريم عليها السلام مصدقة ببشارة الله تعالى لها بالولد. ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ «الواو»: حالية، أي: والحال أنه لم يمسسني بشر، أي: لم يجامعني بشر، أي: لم أكن ذات زوج، و«المس» يُطلق في القرآن الكريم على الجماع ويُكنى به عنه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]؛ أي: ما لم تجامِعوهنَّ، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43]، أي: أو جامعتُم النساء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «(المس): الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء»[1]. و﴿ بشرٌ ﴾: يُطلق على الواحد والجمع، والتنكير للعموم، و«البشر» هم بنو آدم. ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]؛ أي: مثل ذلك الخلق العجيب. وهو حصول الولد لك دون أن يمسسك بشر، يخلق الله ما يشاء، فـ«الكاف» على هذا في محل نصب صفة لمصدر محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. والمعنى: أنه سيكون لك ولد ولو لم يمسسك بشر. ﴿ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾: قدَّم اسم الجلالة على الفعل في قوله: ﴿ اللَّهُ يَخْلُقُ﴾ لتقوية الحكم، وتحقيق الخبر. وعبر هنا في قصة مريم وعيسى بقوله: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾، وفي قصة زكريا ويحيى عبر بقوله: ﴿ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]، والحكمة- والله أعلم- أن عيسى عليه السلام خُلِقَ من غير ما جرت به العادة، فناسب التعبير بقوله: «يخلق» الدال على الإبداع، وهذه حكمة كونية، وأيضًا في قوله: «يخلق» إبطال لقول النصارى: إن عيسى هو الله، وأن الله ثالث ثلاثة؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73]، وهذه حكمة شرعية. ومعنى ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ أي: يُوجِد الذي يريد من المخلوقات على أي كيفية ونوعية وكمية شاء، سواء كان ذلك وفق الأسباب المعتادة المعلومة، أو على خلاف ذلك. فخلق عز وجل عيسى عليه السلام من أم بلا أب على خلاف العادة، كما خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، كما خلق عز وجل حواء زوج آدم منه، أي: من أب بلا أم، كما خلق سائر الخلق من أب وأم. ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ «إذا»: ظرفية شرطية، ﴿ قَضَى ﴾ أي: قضى كونًا، ﴿ أَمْرًا ﴾ مفرد، جمعه «أمور» لا (أوامر)، أي: إذا قضى شأنًا من الشؤون، وشيئًا من الأشياء؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، والقضاء له معنيان: كوني، وشرعي. والقضاء الكوني كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 4]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14]، وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 2]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، والقضاء الشرعي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، والفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي: أن القضاء الكوني لابد من وقوعه، ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله تعالى، مثل: الإرادة الكونية، والأمر الكوني، والحكم الكوني.. ونحو ذلك. وأما القضاء الشرعي، فإنه لا يلزم وقوعه لكن لابد أن يكون محبوبًا لله تعالى، مثل: الإرادة الشرعية، والأمر الشرعي، والحكم الشرعي.. ونحو ذلك. ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ «الفاء» في قوله: ﴿ فَإِنَّمَا ﴾: رابطة لجواب الشرط، و«إنما»: أداة حصر، ﴿ فَيَكُونُ ﴾: «الفاء» عاطفة سببية، أي: فبمجرد أن يقول له: ﴿ كُنْ ﴾ يكون كما أمر الله تعالى وأراد، دون تأخر؛ كما قال تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون ﴾ [غافر: 68]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 35]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 50]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعات: 13، 14]. فكل شيء مُنقاد لأمره الكوني ولا يستعصي عليه شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]. قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران:48]. قرأ نافع وأبو جعفر وعاصم ﴿ وَيُعَلِّمُهُ ﴾بالياء، وقرأ الباقون: «ونعلمه» بالنون. والجملة معطوفة على قوله: ﴿ يُبَشِّرُكِ﴾أو على قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾، والضمير في قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ ﴾يعود على عيسى عليه السلام، أي: ويعلِّمه الله عز وجل الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. و﴿ الْكِتَابَ ﴾: بمعنى المكتوب؛ أي: يعلِّمه الكتابة وحسن الخط، ويعلِّمه الكتب السابقة، وعلى هذا فتكون ( ال ) في ﴿ الْكِتَابَ﴾ للجنس. ﴿ وَالْحِكْمَةَ﴾معطوفة على ﴿ الْكِتَابَ﴾، و( أل ) في «الحكمة» للعهد الذهني، أي: الحكمة التي آتاها الله عيسى، وهي الشريعة التي شرعها الله تعالى له، وسُمِّيت الشريعة بالحكمة؛ لأن كل ما شرعه الله تعالى متضمن للحكمة. والحكمة أيضًا علم أسرار التشريع، وهذا كما قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113]. ﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾: معطوف على ما قبله، وخص بالذِّكر التوراة والإنجيل لفضلهما، ولأن عيسى عليه السلام مُرسل بالحكم والعمل بهما. و«التوراة»: الكتاب الذي أنزل الله تعالى على موسى، كتبها الله تعالى بيده، وأنزلها بألواح؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]. وقال صلى الله عليه وسلم: «قال آدم لموسى: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده»[2]. يتبع
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |