الوسطية بين الحقيقة والادعاء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أحكام شهر ذي القعدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من صيام التطوع: صوم يوم العيدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من كتاب "إتمام الرصف بذكر ما حوته سورةالصف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          تفسير سورة الكوثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرحمن، والرحيم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          من مائدة العقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 1239 )           »          فضل الذكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          آية المحنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-09-2023, 03:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,136
الدولة : Egypt
افتراضي الوسطية بين الحقيقة والادعاء

الوسطية بين الحقيقة والادعاء
الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم


المقدمة.
الوصية بالتقوى.


عباد الله:
إننا نعيش في زمن تعمل فيه الدعايات والشعارات عملها الكبير، بل الخطير في صياغة وعي الأمم، وتشكيل عقولها، وصياغتها حسب القوالب التي يريدها من يقف خلف تلك الدعايات والشعارات.


ولذلك استغلت المصطلحات الصحيحة الْمُحبَّبة إلى النفوس، فوُضعت في غير مواضعها، ونُسب إليها ما ليس منها، أو أُخرج عنها بعض أسسها وأركانها، ثم سُوِّقت تلك المصطلحات مشوَّهة غير صادقة على ما وُضعت له؛ ليُخدَع بها الناس، ويعتقدون فيها ما هي بريئة منه، ومن أشهر تلك المصطلحات التي تسوَّق اليوم، ويدَّعيها مَن ليس مِن أهلها مصطلح "الوسطية"، فالعلماني الملحد يتشدق بالوسطية، ويزعم أنه من أهلها، وعميل المخابرات الأجنبية من شرقية وغربية ويهودية يصرخ بأعلى صوته: لا حلَّ لنزاعات العالم، وإزالة الكراهية من أوساط الناس، والقضاء على الحروب الطاحنة في كل مكان إلا بانتهاج الوسطية، ويزعم أنه ومن على شاكلته هم الأمة الوسط، والعقلاني المبهور بالحضارة الغربية وقِيَمِها الزائغة، الساعي لتطويع الأمة لمفاهيمها، يعقد المؤتمرات ويقيم الندوات باسم الوسطية؛ لتمرير مبادئه ومبادئ أسياده باسمها.


والساعي وراء السراب الذي يهوِّن من شأن الباطل، ويقلل من شأن البدع وأهلها، ويُعْلِي من شأن التشيع والرفض ينادي باسم الوسطية، وبأنه لا بد من تنازلات وحلول وسطية لنجمع الأمة عليها، والرافضيُّ الغالي الذي يعتقد تحريف القرآن وكفر الصحابة، ويلعنهم صباحَ مساءَ يزعم أن لا وسطية إلا ما هو عليه، والصوفي المبتدع الغالي في الشطح والشعوذة يحتكر الوسطية له ولإخوانه، ويصر أن من أنكر شطحه، وكذَّب دَجَلَهُ، وضلَّل عقائده المنحرفة أنه قد جانَبَ الوسطية، وامتطى صهوة الوهابية الخارجية، وأنه مكفِّر مستبيح لأنفس مخالفيه المعصومة، ويأتي وراء ذلك مَن يعُدُّ الوسطية الغلو في التكفير، واستباحة الأنفس والدماء المعصومة، وتبنِّي العنف والإفساد طريقًا للتغيير وإقامة للجهاد الذي هو ذروة سَنام الإسلام.


كل هذه الفرق وغيرها تمجِّد الوسطية، وتزعم أنها خير من يمثِّلها، وأن من يتمسك بالإسلام الحق الذي قرره الكتاب والسنة، وسار عليه الصحابة والقرون المفضَّلة والأئمة المتبوعون، أن ذلك غالٍ خارجٌ عن الوسطية.


عباد الله:
إن المسلم البسيط الباحث عن الحق، المحب لِما يحبه الله ورسوله، الساعي لِما فيه نجاته في الدنيا من الضلال، وفي الآخرة من النَّكَالِ، يقف حائرًا مبهوتًا لا يدري أين الحقيقة، وقد أرشدنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأحوال إلى الحل الصحيح، وإلى الميزان الذي نَزِنُ به تلك الدعاوى، والحكم الفصل بين أصحابها.


قال الله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى: 10]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... فإنه مَن يعِــشْ منكم فسيرى اخـتـلافًـا كثيرًا، فعـليكم بسُنَّتي وسُنة الخفاء الراشدين المهديين، عَـضُّوا عـليها بالـنـواجـذ، وإياكم ومـحدَثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة))؛ [رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وقال: حديث حسن صحيح].


وعندما نستجيب لأمر ربِّنا، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نجد أن الوسطية التي امتدحها الله تعالى في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143] قد فُسِّرت في القرآن والسُّنَّة، وفسرها السلف الصالح، وقد تواطأت عبارات المفسرين بأن المقصود بالوسط هنا هم "الخيار العدول الثابتون على الحق بين باطلَي الغلو والجفاء"، وهم الصحابة الكرام قطعًا والتابعون لهم بإحسان، ومن تبِعَهم من أئمة المسلمين وعلمائهم وسائر من سار على منهجهم من المؤمنين.


وقد فسَّر القرآن هذه الوسطيةَ في آيات أُخَرَ؛ فكون هذه الأمة خيارًا يدل عليه قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، وكونها عدولًا فسَّرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، بعد أن ذكر حديث الشهادة على الأمم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]؛ قال: عدولًا، ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ [رواه البخاري]، وأما تفسيرها بالثبات على الحق بين باطلي الغلو والجفاء؛ ففي قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]؛ قال الإمام الطبري إمام مفسري أهل السنة: "وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلوُّ النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقِيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها"[1].


والصحابة الذين هم الأمة الوسط بدون نزاع من أحد ممن ينتسب إلى العلم، لهم منهجٌ واضح، وعقائدُ ثابتة معروفة، وعبادات تعلموها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلوك وأخلاق، فمن نهج منهجهم، واعتقد عقائدهم كما ثبت عنهم، لم يزِدْ عليها ولم ينقص منها ولم ينحرف عنها، ولم يستحسن خلافها أو يتأولها بالتأويلات التي لا دليل عليها، وتعبَّد الله بعباداتهم، ولم يخترع لنفسه عبادات وشعائرَ لم يتعبدوا بها، ولم يتخذوها قربة، وتخلق بأخلاقهم وسلك سلوكهم، وفهِم مراد الله ومراد رسوله كما فهموا - فهو من أهل الوسطية ومن أهل الاعتدال، ومن انحرف عن شيء من ذلك في منهج أو عقيدة أو عبادة أو سلوك، فقد خرج عن الوسطية بمقدار انحرافه، وصار إما إلى طائفة أهل الغلو، أو طائفة أهل الجفاء:
وخير الأمور السالفات على الهدى
وشر الأمور المحدثات البدائعُ




قال الحسن البصري رحمه الله: "السُّنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقِيَ، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا"[2].


وقال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير الأمة الوسط: "هم الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم))[3].


والطائفة المنصورة فسَّرها الإمام أحمد وغيره: بأنها أهل الحديث، فثبت بذلك كله أن الأمة الوسط في هذه الأيام من سلك مسلك الصحابة والسلف الصالح من جميع الوجوه، والوسطية هي الحق بين باطلي الإفراط والتفريط، وليست الوسطية الوسط بين الحق والباطل؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].


عباد الله:
ليست الوسطية التوسط بين السنة والبدعة؛ ((فكلُّ مُحْدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، وليست الوسطية التوسط بين السنة والشيعة، فكل من خرج عن طريق أهل السنة، خرج عن الصراط المستقيم، وضلَّ الضلال المبين، وليست الوسطية التوسط بين الإسلام وبقية الأديان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وليست الوسطية هي الحداثة والتنوير الذي مرتكزه تطويع الإسلام وأصوله ومفاهيمه لمفاهيم الأعداء؛ الذين يقول الله فيهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].


أيها الإخوة المؤمنون:
إن الوسطية الحق يجمع أصولها وفروعها، ويضبط مفاهيمها ومصطلحاتها ما تضمنته النصوص الآتية:
قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].


وقوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 8 - 10].


وقوله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].


وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا، فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ تَلا: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾ [الأنعام: 153] إِلَى آخِرِ الآيَة))[4].


فالوسطية ما تضمنته هذه النصوص من أصول ومعانٍ ومفاهيم، والوسطيُّ مَن فهِم تلك النصوص حقَّ فهمها، وعمِل بمقتضاها.


أسأل الله أن يهديَنا وجميع أمة محمد إلى ذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد والثناء.
الوصية بالتقوى.


عباد الله:
لقد ساغ لجميع المذاهب والمشارب والتوجهات الإسلامية وغير الإسلامية ممن يهمهم أمر الإسلام، ويخيفهم مظاهر التجديد والنهوض والصحوة التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، وبشَّرت بقرب تحقيق قول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33] – أقول: لقد ساغ لأولئك جميعًا مصطلح الوسطية، وطمع كل طرف أن يُسوِّقه على وَفق توجهه ومراده، أو قُلْ في بعض الأحيان على وفق هواه وغاياته.


لذلك عُقدت الندوات، وأُقيمت المؤتمرات، وكُتبت الأبحاث، وتنوعت الخطب والمحاضرات والبرامج الإعلامية حول هذا المصطلح، وخرجت النتائج، وصدرت البيانات، وأُعِدت القرارات والتوصيات المتضاربة المتناقضة؛ لأن كل فريق يريد أن يحمل الناس على مفهومه الخاص للوسطية، وظن كثير منهم أن ذلك سيكون مقبولًا عند الله، وحائزًا على رضا الجماهير، ومسخِّرًا العقول لتحقيق ما يريد، ويأبى الله ذلك؛ فلن يحق إلا الحق، ولن يُقبَل القبول العام لدى الأمة إلا ما كان موافقًا لفطرتها، منبثقًا من مصدر هدايتها، ومشكاة نورها؛ من كتاب ربها وسنة نبيها وهدي سلفها الصالح.


لن يصدق الناس من يدَّعي الوسطية منتهجًا نهج الخوارج في التكفير، ولا نهج المعتزلة في سلب اسم الإيمان عن عصاة الأمة، وحمل سيوف البغي بدل النصيحة لإصلاح الأوضاع.


ولا نهج المنافقين الذين ﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة: 67]، والذين وصفهم الله بقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].


ولا نهج المتاجرين بالولاية كما يصفهم ابن عبيدالله رحمه الله، الذين يتربَّعون على قمة الغلو حينًا في أنفسهم؛ حيث يقول قائلهم حين سُئل عما ظهر له من الكرامات قال: "ظهر لي ثلاث خصال: أحيي وأميت بإذن الله تعالى، وأقول للشيء: كن فيكون بإذن الله، وأعرف الشقي من السعيد بإذن الله، فقال الشيخ عبدالله: وعاد نحن نرجو فيك أكثر من هذا!"[5].


ويقول الآخر عن نفسه:
صفت لي حميا خلي
وأسقيت من صافيها
ومن ذا شربها مثلي
أنا قبل لا يصفيها
أنا قبل قبل القبل
وبديت على هاليها
أنا حتف لأهل العذل
ونار الجحيم أطفيها
أنا أعزل أنا للي ولي
وأنا شيخها قاضيها
وعين الحقيقة عيني
وأشرب من ساقيها
أنا عرشها والكرسي
أنا للسما بانيها[6]


ويقول لمريده: "يا يوسف، أنا أبو الأرواح، وأما والدك فهو أبو الأشباح، والله إني نظرتك في صلب والدك عابدًا، وحضرت على ولادتك"[7].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-09-2023, 03:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,136
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوسطية بين الحقيقة والادعاء




ويقول أحدهم عن أحد مقدسيهم: "وكان علوي بن محمد بن علي في صغره معروفًا بكرامات كثيرة وفراسات خارقة منها:
أنه يعرف الشقي من السعيد، وشهد له أهل الكشف والفراسة والنور والفتح المشكور أنه ممن يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمة والأبرص بإذن الله، وأنه ممن أُذِن له في كمال التصريف المطلق بإذن الله، وكان من الأقطاب المتمكنين في الكشف والفراسة والمشاهدة"[8].


ويقول غيره عن ولده حينما تعسرت ولادة أمه: "هذا ولدي ما بيخرج حتى يقرأ اللوح المحفوظ باقي معه أسطر بايتمها وبايخرج"[9].


بل بلغ بهم الغلو حتى في الحيوانات المنسوبة إلى مقدسيهم فهذا يقول: "دابة الفقيه المقدم تعرف طرق السماء كما تعرف طرق الأرض"[10].


وأرض تريم يغلون فيها قريبًا من غلو الرافضة في كربلاء؛ كما ورد في تحفة الأحباب قوله: "بأنها تريد أدبًا جمًّا، وهي مثل مكة والمدينة؛ واستدل بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]، قال: ولا تقيسون تريم بغيرها من البلدان، وزاد في موضع بأن فيها أشياء ما هي في مكة ولا في المدينة، وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم له نظر إلى هذه البلاد بنظر خاص، وفيه أيضًا أن تريم مثل مكة والمدينة من ابتدع فيها شيئًا مخالفًا لِما عليه السلف لازم ما تنفيه إن طال الزمن أو قصر"[11].


وينادي أحد مشاهير علمائهم وأدبائهم الميت عمر المحضار بقوله:
أدرِك حماك مدينة الأجداد من
مرض سرى في الدار والديارِ
قم يا شجاع الدين واجبر صدعها
عار عليك وقوعها في العارِ
حرمتها وضمنت أمن ربوعها
يا كعبة الحجاج والزوارِ
فرض حمايتها عليك كما وعدت
وأنت سلطان الحماة الجارِ



والعجيب أنه مع هذا الغلو وهذه النصوص التي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من أقوالهم الغالية في أنفسهم ومقدسيهم، وما يُنسَب إليهم من أرض وحيوان، وهي محفوظة موثَّقة في كتب هي عندهم من المراجع التي لا يخالجهم شكٌّ في صحتها واعتمادها، وولاية مؤلفيها، وكمال علمهم، أقول مع كل هذا الغلو يريدون أن يقنعوا الناس بأنهم هم الأمة الوسط، هم أهل الوسطية والاعتدال الواعي، يدَّعون هذه الدعاوى، وهم يستميتون في الدفاع عن دعاء الأموات من دون الله، والاستغاثة بهم، ويجمعون الشبهات على ذلك، واصفين من أنكر ذلك، وعدَّه شركًا أنه خارجي مكفر للمسلمين، رغم أن إمامَين من أئمتهم المعتمدين لديهم قد نقلا الإجماع على أن ذلك شرك؛ وهما ابن حجر الهيتمي، ومحمد بن سليمان الكردي.


ومن كان هذا منهجه، وهذا تعامله مع مخالفيه، كيف بالله عليكم يصدق الناس أنه هو وأهل مدرسته أهل وسطية واعتدال؟ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، وقال سبحانه: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وقال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقة
وإن خالها تخفي على الناس تُعْلَمِ




[1] تفسير الطبري (3/ 626-627).
[2] رواه الدارمي (1 /63) رقم (222) المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي بإسناد صحيح.
[3] خلق أفعال العباد (60).
[4] رواه أحمد، والنسائي، والدارمي، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم 166.
[5] الجوهر الشفاف الحكاية الثانية والستون.
[6] ديوان أبي بكر بن سالم (مخطوط).
[7] النهر المورود.
[8] البراقة المشيقة، ص 141.
[9] فيض الأسرار 2 /190، كنوز السعادة ص 170.
[10] الجوهر الشفاف الحكاية الثامنة والثلاثون – شرح العينية 138.
[11] تحفة الأحباب، ص 165، 257، 372.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.44 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]